د.محمود محمود النجيري
:: مشرف سابق ::
- انضم
- 19 مارس 2008
- المشاركات
- 1,064
- الكنية
- أبو مازن
- التخصص
- الفقه الإسلامي
- المدينة
- مصر
- المذهب الفقهي
- الحنبلي
الدش ضيف ثقيل
يقتحم بيوتنا
فكيف نُروِّضه؟
يقتحم بيوتنا
فكيف نُروِّضه؟
الدش، أو الطبق، هو جهاز يثبت أعلى العمائر السكنية؛ لكي يلتقط بث القنوات الفضائية المباشر حول العالم، غير مقتصر على حدود مكانية أو زمانية. حيث تسعى كل دولة في العالم الآن إلى أن يكون لها قناة فضائية أو أكثر. ونجد الدول الغربية، تبث كلٌّ منها عددًا كبيرًا من القنوات الفضائية، التي يتخصص بعضها في لون واحد من البث. كقناة الأفلام، وقناة الرياضة، وقناة الطفل، وقناة المرأة، وقناة الأسرة .... وهكذا.
ومما لا شك فيه: أن المجتمع المسلم مستهدف، وهو يتعرض لغارة كاسحة، يستخدم فيها أعداء الأمة أخطرَ الأسلحة، متمثلة في وسائل الإعلام المتطورة، التي تستغل تقنيات الفضاء، في نشر مظلة من الثقافة الغازية، تغطي أجواء فضائنا.
وقد انتشرت أجهزة الاستقبال هذه على أسطح المنازل، حتى صارت ظاهرة في بلادنا. ولم يعد من الممكن إلا أن نحاول البحث عن سبل للاستفادة منها في بناء الأسرة المسلمة، وتوجيه المجتمع، ومحاولة الحد من سلبيات البث المباشر ومخاطره على بيوتنا وأولادنا.
مخاطر البث المباشر على المجتمع المسلم
ولا ريب أن البث المباشر صار يقتحم كثيرًا من بيوتنا كالضيف الثقيل، ويقلق راحتها بما يبث من برامج ومواد إعلامية، وأفلام تؤثر على الأجيال الشابة وتجتاح الناشئة. ولا يمكن دائمًا فرض نظام يحول دون ذلك، أو يحد من مخاطره، كما لا يمكن لكل الآباء التحكم فيما يرى أبناؤهم، لأنه من المستحيل مراقبة ما يشاهد الأبناء في كل لحظة من ليل أو نهار. ولم يعد من الممكن وقف تغلغله في حياتنا، وتأثيره على ثقافتنا وسلوكنا.والواقع أنه لا يزال هناك فجوة كبيرة بين واقعنا، وما هو مطلوب في مجال الإعلام، حيث إننا ننفق بسخاء على اقتناء التقنيات الحديثة، وشراء الأقمار الصناعية، وإطلاقها في مداراتها في جوِّ السماء. إلا أننا نقتِّر تقتيرًا في الإنفاق لإنتاج مادة إعلامية، تنافس في عصر عولمة الإعلام. ونمسك عن توفير الكوادر البشرية المؤهلة لحمل هذه الرسالة! بل إن حال الإعلام العربي في جملته هو كالبث المباشر- إلى حد ما فيما ينتج من أفلام ومسرحيات وتمثيليات- لا تعبر عنا، بقد ما تتشبه بالغرب.
ومن هنا، تتعدد مخاطر البث المباشر على الأسرة والمجتمع المسلم. وأهمها ما يلي:
1. البرامج التي تبثها الأقمار الصناعية الغربية، تدعم هيمنة هذه الدول على بلادنا، وتعزز ثقافتها وعاداتها وتقاليدها، وتشكل غزوًا متجددًا، وتهديدًا لأمن بيوتنا، وسلامة مجتمعاتنا غير القادرة على مجابهة هذا الغزو. فالبث المباشر يحمل ثقافة تدعو إلى الانحلال الخلقي، وتشيع الفاحشة، وتنشر الإباحية، وتصدم العقائد، وتهدد بنيان المجتمع بالتصدع، بما تحمل من مضامين وافدة.
2. تشويه العلاقة بين الرجل والمرأة، حيث تصورها الأفلام الغربية علاقة صراع، تبحث المرأة فيها عن الحرية والحب المتحرر من كل قيد ديني واجتماعي.. وتتشبه الدراما العربية بذلك، وتصور المرأة مظلومة دائمًا، وتبرر وقوعها في الرذائل، وحبها لغير زوجها، وخيانتها له ولأسرتها، ومخادنة الرجال، وانطلاقها بين الكأس والملهى، وصالات القمار وعلب الليل، وعنادها لمن يحاول منعها من الحياة العابثة، تحت دعاوى الحرية والحياة العصرية وحقوق المرأة.
3. أكثر المادة الإعلامية التي تبث عبر الفضائيات هي لإثارة الشهوات الحسية وتصوير العلاقات المحرمة بين الرجل والمرأة.. وهذه المواد هي الأكثر مشاهدة للأسف، ويقبل عليها الشباب وصغار السن؛ فيرهقون قبل الأوان، وترق أخلاقهم، ويتعلمون ما لا يحسن بهم أن يعلموه عن العلاقة بين الرجل والمرأة. وبما أن سن الزواج تتأخر في مجتمعاتنا، فإن هؤلاء لا يجدون متنفسًا لتفريغ شهواتهم التي يؤججها البث الإعلامي، فإما الوقوع في الكبت، أو الزنا. عياذًا بالله.
4. كان أهل التمثيل يكتفون في الماضي بمشاهد لا تبلغ ما يجري الآن، حيث لم يعد حدود يقفون عندها ولا أخلاق تحجبهم، فيعرضون الأجساد عارية تمامًا، ويظهرون العورات، حتى المغلَّظة منها، ويمثلون الفاحشة بكل دقائقها، وكأنهم يعطون الناس دروسًا فيها في قنوات خاصة.. وهذا عجيب، أن يَقبل ممثلٌ وممثلة تمثيلَ الزنا، وعرضه على الملأ، حيث لا يصير الأمر تمثيلا، وإنما حقيقة كاملة. والمأساة أن تجلس الأسرة لتشاهد هذا الزنا الحقيقي، فيجتمع على مشاهدته الأب والأم، والابن والابنة، ويضيع الحياء والمروءة وسائر الفضائل، وينزل غضب الله على هذه الأسرة، فإنه لا يجوز مشاهدة الزنا، ولا الالتذاذ به. ولا الإعلان بالعري والفواحش هكذا، ولا يجوز للزوج المسلم أن يتيح لابنته أو امرأته مشاهدة رجل عارٍ يزني بامرأة، ولا يجوز لمسلم أن يستلذ بمشاهدة أجساد النساء العارية، ولا مطالعة الزناة على البث المباشر.
وقد نهى النبي عن إشاعة ذكْر العلاقة السوية، فما بالنا بالفاحشة. يقول : "إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة، الرجل يُفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرَّها" .
5. ولعل الأخطر هو خطط العدو الإسرائيلي المتلاحقة للسيطرة على الفضاء العربي، وبث سمومه من خلال البث المباشر للبرامج الإذاعية والتلفزيونية، باعتبار ذلك وسيلة فعالة لغزو العقل العربي، وتحطيم مقومات الشخصية المسلمة. فضلا عن أن الإذاعة والتلفزيون الإسرائيلي يصل بثها إلى مناطق عربية عديدة، فإن العدو أطلق قمرًا صناعيًا، خصص فيه قناة فضائية تبث باللغة العربية!
كيف نحمي الأسرة من خطر البث المباشر؟
لا يصح الانعزال في هذا العصر، ولا يكفي الصدُّ والرد، ولا يجوز الوقوف دائمًا في خندق الدفاع. بل يجب أن نكون أبناء عصر السموات المفتوحة، وعولمة الإعلام، والطريق السريع للمعلومات، من دون أن نفقد خصوصياتنا، أو نفرط في ديننا وثقافتنا.وإن المواجهة لهذا الغزو الثقافي الاجتماعي السياسي الموجه، لا يمكن أن تنجح فيما نرى- بسنِّ القوانين التي تحظر الاستقبال. بل لابد من مواجهة هذا الخطر بكل السبل المتاحة. وليس من ذلك فرض سلطة قوية، أو عقاب صارم، أو مراقبة دقيقة، أو محاسبة تحصي على الناس الأنفاس، وتحاسب على الخواطر والهواجس. كما لا يمكن أن تتم هذه المواجهة عن طريق الدعايات الصحفية أو الإذاعية. ولكن تتم هذه المواجهة عن طريق التحصين الفكري، والارتقاء الثقافي، ومقابلة الحقائق، متسلحين بالعلم والإيمان، والإخلاص لديننا وأمتنا.
ونقترح لذلك ما يلي:
• الارتقاء بالمادة الإعلامية، سواء في التلفزيون، أو الفضائيات التي تبث من بلادنا؛ حتى تكون بديلا لما تبه القنوات الغربية. بل ترقى لمنافسة هذه القنوات في عقر دارها؛ لذا لابد من أن تحقق المادة الإعلامية الفائدة والجاذبية والتشويق، وتوصف بالأصالة. وأن تتعاون الدول الإسلامية معًا من أجل إنتاج هذه المواد الإعلامية، وإطلاق فضائيات تعبر عن روح الأمة ودينها وثقافتها.
• تأهيل القوى البشرية التي يمكن أن تقود نهضة إعلامية إسلامية، وتملك التصورات الصحيحة، والقدرة على إبداع نتاج إعلامي متميز، يصمد في المنافسة في عصر عولمة الإعلام والسموات المفتوحة.
• فتح المجال للقيادات الإسلامية الراشدة في الفضائيات، والاستفادة من الدعاة الناصحين وأصحاب الملكات الناضجة في مخاطبة الجماهير والتأثير فيها، وتقديم الطرح الإسلامي العصري لمعالجة قضايا المجتمع ومشكلات الحياة المتجددة.
• التحرر من أعداء الثقافة الإسلامية، وهم المتغربون الذين يكمنون داخل أجهزة الإعلام ووسائل الثقافة في بلادنا، وأكثرهم نال تعليمًا غربيًا، وتشكَّل فكرُه وثقافته من معين الغرب، وآمن بقيمه وتقاليده المتحررة من كل دين وخلق. وهؤلاء يبثون سمومهم بما يحملون من زاد فكري غريب على الجسد الإسلامي، ويمثلون مقدمة للغزو الثقافي الوافد عبر الفضاء وعبر الإنترنت.
• تربية الأجيال الطالعة على الثقافة الإسلامية، وتأكيد الأخلاق الفاضلة، وتعميق العقيدة الإسلامية في نفوسهم؛ لتحصينهم من القيم الغربية الوافدة، والمضمون العلماني الذي تطرحه برامجُ البث المباشر. وتأكيد التربية على نظام الحياة الإسلامية، بالمحافظة على الصلوات الخمس، التي تربط المسلم بخالقه سبحانه، وأخذ المرأة بالحجاب الشرعي والتصوُّن، وعدم الاختلاط بالرجال، وحفظ الزينة والالتزام بغض البصر، كما أَمرَ الله تعالى بقوله: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور: 30-31].
ومن المؤكد، أن اتباع نظام الحياة الإسلامية، وتربية الأسرة عليه، كفيل بمنع التأثيرات السلبية على البيت المسلم، أو تقليلها. وتحصينه ضد غزو البث المباشر.
• يمكن التحكم في نوعية البرامج المستقبلة، وتحديد المواد التي يسمح بالوصول إليها، وذلك بواسطة أجهزة معينة، تضاف للدش، تسمح بالمرور لما نرغب من برامج مفيدة، وتمنع ما لا نرغب من برامج تصادم ديننا وثقافتنا. وتشفير القنوات التي لا نرغب في أن يشاهدها الأطفال، فليس كل شيء يصلح أن يراه الطفل، ولا يجوز أن نترك لهم مجال الاختيار مفتوحًا على كل ما تبثه الفضائيات؛ لأن الأطفال غير قادرين على التمييز بين الغث والثمين، وإنما هو مسئولية الكبار.
• تحديد أوقات مشاهدة للأطفال، فلا يصح أن نسمح لهم بالجلوس أما التلفزيون لفترات طويلة، والأفضل أن نشاهد البرامج معهم؛ حتى نتابع ما يشاهدون؛ ونعلق على ما يحتاج منه إلى تعليق.
• ترغيب الأطفال في مشاهدة القنوات الجيدة المتخصصة في شئونهم التي تقدم لهم زادًا دينيًا وعلميًا متميزًا، مع السماح لهم بمشاهدة بعض ما في قنوات الكبار التي تمثل لهم فائدة ثقافية وتعليمية.
• إجراء حوار مع الشباب بشأن القنوات التي يمكن لهم مشاهدتها، وإقناعهم باجتناب القنوات المرفوضة دينيًا وأخلاقيًَا. وتحذيرهم مما في المواد الإعلامية الوافدة من سموم فكرية وإباحية.
• الاشتراك في القنوات الفضائية المتخصصة التي تقدم الثقافة الإسلامية، وتدعو للأخلاق الحميدة، وتشبع نهم الصغار والكبار لتلقي الأخبار والتحليلات والأفلام والبرامج.
ولابد لنا ألا نغفل لحظة عن أن الغرب يعد كل حين لغزوة ثقافية جديدة، من خلال إمكاناته المادية الجبارة، وتقنياته المتطورة؛ لذا يجب تحصين العقل المسلم وتوعيته بانتمائه الحقيقي وقيم ثقافته الأصيلة، وغرس روح الاعتزاز بذاته وثقته بنفسه وبقدراته؛ حتى لا يساق سوقًا أعمى أمام البرامج الغربية. فالبصيرة الناقدة التي تميز بين الغث والثمين، هي أهم ما يجب أن يتحلى به المسلم، مع إيمانه العميق بدينه وثقافته.
وهنا، ندعو كل المعنيين بمشروع الفضائيات الإسلامية والمشاركين فيها، إلى النظر بجدية إلى التحدي الحضاري العظيم، الذي تمثله تقنيات الفضاء والمخاطر التي تهدد مجتمعاتنا. كما ندعو إلى عقد مؤتمرات يشارك فيها الوزراء المسئولون عن الاتصالات والثقافة والإعلام والتربية والتعليم في العالم الإسلامي؛ لوضع مخططات غير تقليدية، يتعاون الجميع على تنفيذها بجد وإخلاص؛ لاستدراك ما تخلفنا عنه في هذا المضمار.
التعديل الأخير: