رد: هل حقًّا الاستحسان من أصول المذهب المالكي؟
جزى الله أخي الدكتور أيمن على هذه الملحوظات القيمة.
بداية أقول: مشكلة مصطلح الاستحسان أنه ليس له مفهوم محدد الأمر الذي جعل أصحابه يعجزون عن وضع تعريف محدد له، وبعد أخذ ورد استقر أمره على المفهوم العام الذي ذكرتم فضيلتكم. وقد ذكرت هذا في البحث المتعلق بالاستحسان عند الحنفية.
وهذا الغموض الهلامي في اعتقادي من الأسباب التي جعلت الإمام الشافعي يحمل على هذا الاصطلاح، ولو كان واضحا منذ البدء أن معنى الاستحسان هو الاستثناء والتخصيص من العمومات بدليل معتبر شرعا لما أنكر ذلك الشافعي ولا أحد من أهل العلم؛ لأن هذا الأمر يقول به جميع أهل العلم وإن كان ذلك على اختلاف في التفاصيل.
د. أيمن علي صالح قال:
ما ذكرتموه عن المالكية الذين أثبتوا الاستحسان أصلا من أصول الاستنباط كابن العربي أنهم تأثروا بالحنفية يمكن قلبُه بالقول بأن الذين نفوا الاستحسان منهم أو لم يذكروه أصلا قد تأثروا بالشافعية الذين شنوا حملة شعواء، بدءا من مؤسس المذهب، على فكرة الاستحسان.
ما ذكرتم من إمكان حمل موقف المخالفين لابن العربي على التأثر بالشافعية، أمر وارد، لكني أراه احتمالا ضعيفا لأسباب أبرزها قول القاضي عبد الوهاب المالكي وهو من أساطين المذهب: "ليس بمنصوص عن مالك، إلا أنّ كتب أصحابنا مملوءة من ذكره والقول به." وهو عينه ما يؤيد القول بأن ما ورد في المدونة هو نسبة بالمعنى.
مفهوم "الدليل الإجمالي" أو "أصل الاستنباط" عند الأصوليين أوسع مما بات يسمى عند المعاصرين، تأثرا بالكتابات القانونية، بـ"المصدر التشريعي"، إذ الدليل الإجمالي يشمل المصدر وكذا القواعد العامة التي يكثر استعمالها في انتزاع الأحكام من المصادر، ولذلك تجد بعض الأصوليين يذكر في الأدلة الإجمالية المفهوم والقياس والذرائع مع أنها ليست مصادر بل مناهج في الاستنباط من المصادر (الكتاب والسنة). والاستحسان كذلك فإنه وإن لم يكن مصدرا إلا أنه قاعدة راسخة ومنهج أصيل في الاستباط
أما مسألة الدليل الإجمالي والدليل التفصيلي، فأنا شخصيا لا أميل إلى اعتماد هذا التقسيم، وهو كما تعلمون اصطلاح أصولي متأخر. والواقع أنه ليس هناك سوى دليل تفصيلي، ولا يوجد دليل إجمالي على الحقيقة، وإنما هو استعمال تجوز استعمله الأصوليون لتقسيم مباحث علم الأصول.
فقولهم الدليل على كذا الكتاب والسنة والإجماع والقياس، هو إطلاق تجوزي من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء، فالدليل هو آية أو آيات من الكتاب، وحديث أو أحاديث من السنة، وإجماع أو قياس بعينه. وكذلك القول في الاستحسان (إذا سلمنا بالقول به على اعتبار أنه عدول بالمسألة عن نظائرها لأمر يقتضي ذلك) هو كلام فيه تجوز؛ لأن الدليل هو دليل العدول: نصا كان أو قياسا أو قاعدة، ولا يبقى لمصطلح "الاستحسان" فائدة سوى من باب معناه اللغوي العام، وهو ما أراه وبينته في بحث الاستحسان في المذهب الحنفي.
نفي الاصطلاح اللفظي للاستحسان عن مالك مع وروده عنه برواية الثقات وبنص المدونة في أكثر من موطن تذرعا بأن ذلك رواية بالمعنى لا أراه سائغا لأن حمله على المعنى رجمٌ بالغيب وهو خلاف الظاهر.
قولكم إنه ورد برواية الثقات، فيه نظر؛ فلا أعلم أن هناك رواية صريحة تنسب القول بالاستحسان إلى مالك، وإنما هي عبارات الأقرب إلى فهمهما أنها تشبيه لما شاع تسميته بالاستحسان بالمسائل التي اجتهد فيها مالك. وهو التفسير الأقرب إلى الجمع بين ما ذكره القاضي عبد الوهاب وبين تلك العبارات.
د. أيمن علي صالح قال:
نعم ليس لفظ "الاستحسان" مضطردا ومنتشرا في كلام مالك، وذلك لأنه كانت تزاحمه ألفاظ أخرى وتنوب عنه مثل مصطلح "الرأي" و"أرى" ومصطلح "أحب"، فهذه المصطلحات أعم من الاستحسان فيما استقر عليه ولقد كانت شاملة له في فقه السلف عموما. ومالك لا يخرج عنهم في ذلك.
إذا كان لفظ الاستحسان كانت تزاحمه ألفاظ أخرى، فهذه هي نكتة المسألة، فإننا بذلك نعود إلى القول بأنه ليس هناك للاستحسان مدلول أصولي يشبه ما هو موجود في القياس والسنة، وقول الصحابي مثلا، بل بدأ استعماله بالمعنى اللغوي العام مثل تلك الألفاظ التي ذكرتم. ولم تدخل تلك العبارات قاموس الأدلة الأصولية، ولكن البعض أعطى عبارة الاستحسان مدلولا أصوليا، وجعله دليلا قائما بذاته مثل القياس (وهو الأمر الذي سار عليه للأسف كثير من المتأخرين)، ففتح على نفسه إشكالات كثيرة أشرت إلى بعضها في بحث الاستحسان في المذهب الحنفي. وهذا الأمر الذي يدعو إلى العودة بهذا الاصطلاح إلى معناه اللغوي الذي بدأ به وإخراجه من دائرة الأدلة الأصولية لأنه ليس له حقيقة مستقلة ولا واضحة. فهلاّ عدنا بهذه العبارة التائهة إلى مكانها الطبيعي مع أخواتها "الرأي"، "أرى" "أحب" وغيرها من العبارات التي استخدمها علماؤنا الأجلاء. والله أعلم