العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

حل إشكالات الإنتصار

إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,279
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه:
وبعد :
استحسنت طلب الدكتور الفاضل أيمن علي صالح تتبع اعتراضات الإمام ابن الفخار في كتابه (الإنتصار) وعرضها على سبيل التتابع ، وأرجو ـ وكما ذكر الدكتور أيضاً ـ أن ينظر فيها الإخوة ويشاركوا فيها.
اختار محقق كتاب (الإنتصار) أن صاحبه الإمام ابن الفخار صنفه رداً على ابن حزم الظاهري مستشهداً بأمور منها أنه وصف المردود عليه بالشافعي ، وهذه كانت حالة ابن حزم رحمه الله قبل أن ينتقل إلى مذهب أهل الظاهر ، وأنه مع هذه النسبة خالف مذهب الشافعي في مسائل وبالنظر إلى هذه المسائل التي ذكرها ابن الفخار موافقة لمذهب ابن حزم رحمه الله بعد انتقاله كما ذكره المحقق في مقدمته وفي ثنايا الكتاب ، بالإضافة إلى التشابه بين عبارات المردود عليه التي نقلها ابن الفخار من عبارات ابن حزم في (المحلى) سواءً كان التشابه في المضمون فقط أو كاد يكون تطابقاً.
وهذا رأي قوي في ظني ، لذا أظن أنه ينبغي عند حل الإشكالات عدم إغفال كلام ابن حزم رحمه الله ، وتمييز ما هو من مذهب الشافعي فيكون هو مقصودنا بهذه الأجوبة ، وما كان منه رأياً لابن حزم أو المردود عليه من حيث هو مخالف لمذهب الشافعي من جهة فينظر فيه ويحل إشكاله شأنه شأن الإشكالات التي يضعفها المصنف نفسه ، ومن حيث هو مردود عليه فهذا لا أذكره إلا بحسب النشاط وعدمه إذ لم يكن له تعلق بمذهب الشافعي.
فنقول :
قال الإمام ابن الفخار رحمه الله : "ثم بدأ هذا المتعسف الجاهل بما أورده أهل العلم من الأئمة الماضين ، وألزمهم مخالفة ما أورده من الأحاديث الثابتة بسوء فهمه ، وقلة درايته ، وما لم يحط به خبرا ، فقال : باب خلافهم ـ يعني مالكاً ـ للنبي صلى الله عليه وسلم فيما أحبوا"
أقول : إن كان المردود عليه ابن حزم ـ كما هو الظاهر ـ فالأولى تقدير إرادته المالكية لا مالك ، وكأن ابن الفخار رحمه الله قدَّرَ مالكاً ليُسْتَقْبَحَ القول ويستهجن . والله أعلم ، لكن ديدن ابن حزم في عامة كتبه أن لا يعمد إلى إمام باسمه بالتقذيع ، بل إما أتباعه أو يُعَمِّي ولا يصرح بإسم ، وربما وقع له التصريح باسم إمام مقذعاً مستهجناً قوله بما لا يليق.
مسألة (1) : هذه أول المسائل التي ذكرها ابن الفخار ولم يعنونها بمسألة كما فعل بما يليها ، قال رحمه الله ، نقل رحمه الله عن المعترض قوله : " خالفوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا شرب الكلب من إناء أحكم، فليغسله سبع مرات) فقال مالك رحمه الله : لا يغسل إلا بالماء وحده ، ولا يلقى الطعام الذي ولغ فيه ، فخصوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما أرادوا ، ولم يستعملوه في عمومه كما جاء ، وإذا جاز لغيرهم أن يقول : بل يهرق الطعام وحده ، ويترك الماء ولا يهرق ، وهو أعذر ، لأن الماء جاء الحديث أنه لا ينجس ، ما لم يتغير ريحه ، أو لونه ، أو طعمه ، والطعام ينجس بأقل [...]"
أقول : أول دعاوى المعترض أن مالك لم يأمر بالتسبيع إلا إذا ولغ الكلب في إناء فيه ماء ، فإن ولغ في إناء فيه سمن مثلاً فلا يغسل ، واعترض عليه بأن الحديث عام فلم يذكر ماء من غيره بل علق بحصول الولوغ في الإناء .
ولم يتكلم المعترض في طهارة ما ولغ في الكلب أصلاً حتى يحتاج إلى رد ، ومع ذلك فقد عمد ابن الفخار إلى الإطالة في بيان أن الكلب طاهر وما ولغ فيه طاهر وأن التسبيع تعبد ، وهذا لا يفيده في الجواب ، فإن الأمر بالتسبيع عام ، فلو وجب تسبيع غسل إناء الماء تعبداً فكذلك إناء السمن وعامة المائعات ، وإن كان التسبيع في الماء لنجاسته فكذلك.
وهذا يسقط عامة ما ذكر سوى ما فرق به بين الماء والطعام ، وسيأتي ، لكن نجمل فنقول : إن التسبيع من الولوغ إن كان لنجاسته فلا فرق بين شراب وطعام ، وإن كان تعبداً ففي إدخال رأسه في الإناء عموماً وذكر الولوغ أغلبي .
فإن قيل : جره إلى أكل الطعام لا يصح إلا بالتعليل ولو الصوري ، والفرض أنه تعبدي.
قلنا : وكذلك قصره على الماء مع عموم لفظ الحديث لا يكون إلا بالتعليل ، والفرض أنه تعبدي.
وبهذا يظهر أن المعترض غير محتاج إلى رد جواب ابن الفخار لعدم تعرض الأخير له أصلاً ، بل تركه وعمد إلى الرد على غيره.
لكن لما كان جوابه يعم الشافعية فإننا نتتبعه ونرى ما فيه كلامه.
قال ابن الفخار : "الجواب عن ذلك أن مالكاً قال في رواية ابن القاسم عنه في سماعه ـ وهي أصح الرواية عنه ـ : (إذا ولغ في طعام ، أو شرب في إناء غُسِلَ الإناء سبعاً في جميع ذلك وأكل الطعام ، واستعمل الماء ، لأنه طاهر ، أو أهريق ، وأما الطعام فلا يلقى) ووجب غسل الإناء تعبداً "
وأخطأ رحمه الله في نقله رواية ابن القاسم رحمه الله كما بينه المحقق ، ونصها : "إنْ كَانَ يُغْسَلُ فَفِي الْمَاءِ وَحْدَهُ وَكَانَ يُضَعِّفُهُ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا يُغْسَلُ مِنْ سَمْنٍ وَلَا لَبَنٍ وَيُؤْكَلُ مَا وَلَغَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَأَرَاهُ عَظِيمًا أَنْ يَعْمِدَ إلَى رِزْقٍ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ فَيَلْقَى الْكَلْبَ وَلَغَ فِيهِ" (المدونة) 1/115 ط دار الكتب العلمية.
فبان صحة اعتراض المعترض ، وصحة احتجاجه بعموم الحديث.
وقول ا لمعترض : "وإذا جاز لغيرهم أن يقول : بل يهرق الطعام وحده ، ويترك الماء ولا يهرق ، وهو أعذر ، لأن الماء جاء الحديث أنه لا ينجس ، ما لم يتغير ريحه ، أو لونه ، أو طعمه ، والطعام ينجس بأقل [...]"
بناه على القول بنجاسة الكلب ، وعلى أن المائع ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة ، وبأنه قد ورد في الماء أنه لا ينجس إلا إن تغير ، فمن هذه الجهة لو وجد من عكس فالعاكس أولى بالعذر.
وهذا أيضاً ظاهر في العذر لكنه باطل أيضاً لما تقدم من عموم قوله صلى الله عليه وسلم (إذا ولغ الكلب) ومن أن الولوغ إنما يكون في المائعات ، فيدخل عليه النقض بالنص أيضاً ، أما ما ورد في عدم تنجس الماء ما لم يتغير ففيما زاد على القلتين لمفهوم حديث (إذا بلغ الماء قلتين) ، ولا يعترض عليه بكونه مفهوم إذ الراجح أن المفهوم حجة وهو من دلالات النص ، فإن قيل : منطوق حديث (الماء طهور لا ينجسه شيء) مقدم على مفهوم حديث القلتين .
قلنا : لا تعارض بين عموم وخصوص ، ولا ترجيح مع عدم التعارض.
وقد يجاب أيضاً ـ لا على مذهب الشافعية ـ بأن حديث القلتين في حمل الخبث وحديث (لا ينجسه شيء) في انقلاب الماء الطهور نجساً ، فنحن نسلم أن الماء لا يصير نجساً ونمنع كونه لا يحمل النجاسة بل يحملها إن كان دون قلتين ويحيلها إن كان فوق القلتين.
والله أعلم.
قال ابن الفخار : "وكذلك وقع التغليظ في ولوغها في الإناء لغسله سبعاً ، تغليظاً عليهم وتعبداً ، لا لنجاسة"
قلنا : كلامه مشعر بالفرق بين التغليظ والتعبد ، وعليه نقول : إن كان التغليظ من أجل أن الوالغ كلب ، فكذلك الآكل ، فهلا سويتم ، وإن كان التعبد من أجل ورود النص فقد ورد في كل ولوغ فهلا تعبدتم.
قال رحمه الله : "ولا أن ما شرب فيه قد نجس بولوغه ، بدليل الكتاب ، والسنة ، والدليل ، فأما الكتاب فقوله عز وجل : {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} التي الكلب أخذها {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ} وإنما تمسك بأفواهها ، فقد أباح كل ما أمسكت ، ولم يأمر بغسل ما أمسكت {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} فدل ذلك على طهارتها"
أقول : هذا كما تقدم ليس فيه جواب على اعتراض المعترض ، فإن المعترض لم يعب على المالكية القول بطهارة ما في الإناء ، بل تخصيصهم الحديث بغير مخصص ، فإنه قال : "فخصوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما أرادوا ، ولم يستعملوه في عمومه كما جاء" فلا يسقط اعتراضه بكون التسبيع من أجل النجاء أم لا ، بل قد صرح المعترض بأن اعتراضه من أجل تخصيص المالكية الماء ، أفتراهم يزعمون أن الماء مخصوص بتنجسه دون غيره ، فهذا خروج عن قولهم بالتعبد ، أو أنه مخصوص بالتعبد ، فهو تخصيص للحديث بقول مالك ، وهو معنى قول المعترض :"خلافهم للنبي واستعمالهم حديثه فيما أحبوا" مراده استعماله الحديث فيما وافق قول إمامهم دون ما خالفه.
ثم نقول : ونحن نسأل هنا ، ما وجه الدلالة في الآية ؟
إن قال العموم ؟
قلنا : فإن أرسلته على طير فجاء به فإذا هو غراب ، فهل نأكله ونقول {وما كان ربك نسيا} ؟
فإن قال : قد جاء تحريمه في غير هذا الموضع.
قلنا : وكذلك موضع ما أمسك الكلب ، فإنه جاء ما يدل على نجاسته وسيأتي ، فإن أمكن تطهير موضع ما أمسك أكلناه وإلا رميناه.
فإن قال : أردت بالعموم ، في الممسوك فلا يخص منه رأس من رجل ولا موضع من آخر ؟
قلنا : أرأيت إن أرسلته على أرنب فجاء برجله فقط والأرنب حي ، أفيجوز أكله ؟
إن قال : لا ، للنهي عنه في موضع آخر.
قلنا : وكذلك موضع فِيْهِ فيما أمسك ، لما تقدم ويأتي.
ثم نقول : أتراه لو أمسك حيواناً فأنْهَرَ دماً كثيراً ، أتراه يجوز أكل ذلك الدم لعدم الأمر بغسله في الآية {وما كان ربك نسيا} ؟
فإن قال : لا ؟
قلنا : فما معنى استدلالكم بالآية إن كنت لا تسلمون بعمومها لا في جنس الصيد ولا في نفس المصيد ؟
فإن قال : إنما أردنا عمومه في الصيد حيث لا نص يخالف ، وليس ثمة نص على موضع ما أمسك الكلب .
قلنا : فخصمك يزعم مجيئه فيه ، فبطل الإستدلال بالآية قبل إبطال الدليل المدعى .
ثم نقول : إن الآية دالة على عدم العموم من وجهين ، الأول : من جهة قوله سبحانه { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ} ، ولم يقل {فكلوا ما أمسكن} فدل على التبعيض ، والثاني من جهة قوله { أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وليس منها موضع ما أمسك الكلب ، ألا تراه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب ولا كان ما يمسك به الكلبُ الصيدَ طيباً ما أمر صلى الله عليه وسلم بإراقته !
فإن قالوا : لم يقل مالك بإراقته .
قلنا : قاله من هو حجة على مالك وغيره ، ولم يخصه بالماء { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} ، وجوابكم هذا مصداق قول المعترض : "واستعماله ـ أي الحديث ـ فيما أحبوا"
وقال رحمه الله : "وأما من السنة : فأمره صلى الله عليه وسلم بغسل الإناء سبعاً ، دل على أن ذلك لغير النجاسة إلا تعبداً تعبد الله به لنهيه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لأن النجاسة لم يأتِ في غسلها توقيت من عدد ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحائض بغسل دم الحيض ، ولم يوقت فيه شيئاً ، وكذلك أمر المقداد بغسل المذي من فرجه ، ولم يوقت فيه شيئاً ، وكان اسم الغسل يقع على غسلة وأكثر ، فكانت الأنجاس كلها قياساً على دم الحيض والمذي لموافقتها معاني الغسل"
أقول : هذا الكلام أخذه من الإمام الشافعي رحمه الله ـ والله أعلم ـ ، فإنه قال : "... فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل دم الحيضة ولم يوقِّتْ فيه شيئا ، وكان اسم الغسل يقع على غسله مرة وأكثر ... فكانت الأنجاس كلها قياساً على دم الحيضة ؛ لموافقته معاني الغسل والوضوء في الكتاب والمعقول ، ولم نقسه على الكلب لأنه تَعَبُّدْ" انتهى من الأم 1/18 20.
فألفاظه هي ألفاظ الشافعي بحروفها سوى نزر يسير لو تركه ما تغير شيء ، غير أن هذا الإستدلال غايته أن التسبيع تعبد ، فمن أين له أن الأمر بأصل الغسل كذلك ؟ ألا ترى الشافعي يصرح بأن التسبيع تعبد وقد استدل بالحديث على نجاسته ؟
وكلام ابن الفخار هنا ليس فيه جواب على المعترض أصلاً الذي عاب على المالكية تخصيصهم الحديث بالماء مع قولهم بطهارته وبأن الأمر في الحديث تعبد.
ثم قال : "ودليل آخر : أن الكلب إذا ولغ في غير إناء مما لا يقع عليه اسم إناء من سائر الظروف لم يغسل سبعاً ولا مرة ، بدليل الحديث الثابت الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه ، وهو الراوي لغسل الإنا من ولوغ الكلب ، قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن رجلاً رأى كلباً يأكل الثرى من العطش ، فأخذ الرجل خفه ، فجعل يغرف له فيه حتى أرواه ، فشكر الله له فأدخله الجنة) فقد جاء هذا الحديث ولم يذكر غسل الخف فيه ، والخف لا يقع عليه اسم إناء ، فلما خص الإناء بالغسل دون الخف ، ولم يقع عليه إسم إناء ، دل على طهارة الكلب ، لأنه لو كان نجساً ، لم يكن لتخصيص الإناء الذي يستعمله الناس لمياههم دون الخف تخصيص"
أقول : سبقه إلى هذا الإستدلال الإمام البخاري وقال ابن حزم رحمه الله ، في (المحلى) : "وَشَغَبَ بَعْضُهُمْ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ الْمَغْفِرَةُ لِلْبَغِيِّ الَّتِي سَقَتْ الْكَلْبَ بِخُفِّهَا. قَالَ عَلِيٌّ: وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْخَبَرَ كَانَ فِي غَيْرِنَا، وَلَا تَلْزَمُنَا شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا. وَأَيْضًا فَمَنْ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْخُفَّ شُرِبَ فِيهِ مَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَمْ يُغْسَلْ، وَأَنَّ تِلْكَ الْبَغِيَّ عَرَفَتْ سُنَّةَ غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ؟ وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْبَغِيُّ نَبِيَّةً فَيُحْتَجُّ بِفِعْلِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ دَفْعٌ بِالرَّاحِ وَخَبْطٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَحَى مِنْهُ.
وَيُجْزِئُ غَسْلُ مَنْ غَسَلَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ صَاحِبِهِ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ – (فَاغْسِلُوهُ) فَهُوَ أَمْرٌ عَامٌّ"
وفيه الجواب الكافي عما أورده ابن الفخار رحمه الله ، وبنحوه أجاب الحافظ في (الفتح) وزاد : " وَمَعَ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَيْضًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صَبَّهُ فِي شَيْءٍ فَسَقَاهُ أَوْ غَسَلَ خُفَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَلْبَسْهُ بَعْدَ ذَلِكَ" وهكذا قال غير واحد.
قال ابن الفخار : "وأما من الدليل : بأنه لو كان لا يوجد مأمور يغسل إلانجساً ، لكان كما قال المخالف ، ولكنك ترى مأموراً بغسل غير نجس ، مثل : الجنب ، والمحدِث والمحرم المتطيب ، والحائض والنفساء ..."
أقول : فإن جاز عندكم تسبيع الطاهر وإراقته فهلا قلتم به بولوغ الكلب في جميع المائعات عملاً بالحديث كما قتلموه في الماء من غير مخصص.
ثم هذا مما لا ينبغي الإستدلال به ، فإن تحقيق المناط هنا يقضي أن الغسل من أجل إزالة النجاسة أو أثرها ، وإلا لامتنع عليه الاستدلال على نجاسة المذي ودم الحيض بالأمر بغسلهما ، وقد تقدم استدلاله على نجاستهما بأمره صلى الله عليه وسلم بغسلهما.
ويشهد لها رواية (فأريقوه) فإنه يدل على أن ما ولغ فيه الكلب لم يبقَ حلالاً طيباً كما كان ، ألا ترى مالك يقول : "وَأَرَاهُ عَظِيمًا أَنْ يَعْمِدَ إلَى رِزْقٍ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ فَيَلْقَى الْكَلْبَ وَلَغَ فِيهِ" وهو يدل على أنه فهم من الحديث الأمر بالإراقة ، ولكنه استعظمه فأوله.
ونحن نوافقه ونقول : لولا أنه تنجس لكان هذا عظيماً في بادي الرأي.
يتبع ...
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
رد: حل إشكالات الإنتصار

بارك الله فيكم ونفع بكم
بالنسبة لشافعية ابن حزم فهي مجرد انتساب في بداية الطلب ولا أثر لذلك يذكر في نتاجه العلمي، وابن حزم إلى أحمد هو أقرب منه إلى الشافعي، فأحمد هو المقدم عند ابن حزم بعد داود، ولذا تجد بعضهم يصف الحنابلة بالظاهرية.
 
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,279
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: حل إشكالات الإنتصار

قال رحمه الله ص105 : (قول مالك رحمه الله بأنه يهراق الماء ويؤكل الطعام ، لم يقع تفريقه فيه بينهما لعلة نجاسة الماء ، إلا لورود السنة في جواز إراقة الماء ، وإن لم يكن نجساً ، وهو ما رواه أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب، فقال له رجل: يا رسول الله! إني لا أروى من نفس واحد؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأبن القدح عن فيك، ثم تنفس، قال: فإني أرى القذاة فيه؟ قال: فأهرقها. فقد أجاز إراقة الماء وهو طاهر لأجل القذاة ، وولوغ الكلب أشد قذاة)
أقول : هذا الحديث فيه إهراق قدر من الماء تخرج به القذاة لا إهراق جميع الماء ، مع جواز أن لا يريق ذلك المقدار ويشربه كما دل عليه حديث سقوط الذباب في الشراب ، وحديث الولوغ فيه أمر بالإهراق والأصل فيه الوجوب ، ومقتضاه عدم جواز الإنتفاع بذلك المائع أو الماء ، فلو كان الإهراق لمجرد التقذر مع الحكم بالطهارة لما وجب ولجاز الإنتفاع بالماء الذي حكمتم بطهارته ، فكيف إذا انضم إليه الأمر بغسل الإناء لمجرد أن الماء الطاهر الذي ولغ فيه الكلب كان فيه ؟
فإن قيل : قد قدمنا أنه تعبد.
قلنا : فلا ينفعكم الإستدلال بهذا الحديث هنا ، لأنه ليس تعبدياً كما يدل عليه السياق ووجه استدلالكم به أيضاً.
فقولكم : (
فقد أجاز إراقة الماء) فرق مؤثر بين المسألتين بحيث يوجب منع قياس إحداها بالأخرى.
ثم قولكم : (
وولوغ الكلب أشد قذاة) ما معناه ؟
إن قلتم : أشد قذراً .
قلنا : فالنجاسة هي القذر الذي يجب غسله ، فما زاد تعليلكم هنا على أن أثبت التنجس بولوغ الكلب ، حيث دل الحديث على وجوب غسله ودل كلامكم هنا على تعليل وجوب الغسل بقذارته.
ثم نقول : أن الناس متفاوتون في الإستقذار وعدمه ، فقد يستقذر زيد ما لا يستقذره عمرو ، ألا ترى مالك لم يستقذر ولوغ الكلب وقال : (
لَا يُغْسَلُ مِنْ سَمْنٍ وَلَا لَبَنٍ وَيُؤْكَلُ مَا وَلَغَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ) وغيره يستقذره غاية الإستقذار والشارع أمر الجميع بالغسل ، فكيف يأمر الشارع عموم الأمة بالإراقة والغسل من أجل علة غير مطردة في جميعهم ؟ فدل على أن الغسل هو لقذارته عند الشارع وهو مرادنا بالنجاسة ، لا لقذارته في طباع الناس فقط لاختلافهم فيه.
ثم قال رحمه الله : (
ثم أوهم هذا الجاهل من لم يكن له رسوخ في العلم من الأغمار أن عكس المسألة على مالك فقال : أرأيت إن قال قائل : إن الطعام يهراق لأنه نجس ، إذ هو غير مطهر لغيره ، والماء يشرب ، ويستعمل ، إذ هو مطهر لغيره ، وأن السنة وردت أن الماء لا ينجسه شيء؟ فأوهم هذا الكلام غير ذوي الأفهام ، وهذا الكلام الذي قاله خارج عن الإجماع ، لأن الشافعي ـ رحمه الله ـ يقول بنجاسة الكلب والماء الذي ولغ فيه ، لأن الماء عنده مال لم يكن خمسمائة رطل ينجسه قليل النجاسة ، وإن لم يتغير ... ) ص105-106
أقول : قال المعترض كما تقدم (
وإذا جاز لغيرهم أن يقول : بل يهرق الطعام وحده ، ويترك الماء ولا يهرق، وهو أعذر ؛ لأن الماء قد جاء الحديث أنه لا ينجس ما لم يتغير ريحه أو لونه أو طعمه ...) ص 99-100 ، فكلامه صريح بأنه غير قائل بهذا القول حال اعتراضه ، ثم إنه صريح في كون هذا القول غير جائز عنده كقول مالك في المسألة ، إلا أن صاحبه أعذر.
وهذ المقدار لم يرده ابن الفخار رحمه واقتصر على أن لا قائل به ، وهذا ليس بمستحسن إذ ليس من شرط الإلزام أن يكون المُلْزِم قائلاً به أو يكون ثمة من قال به أصلاً ، بل الأصل أن يكون الإلزام باطلاً في نفسه مع صحة الإلزام نفسه كما تراه واضحاً في قوله : "يلزم منه كذا وهو باطل فملزومه مثله" فمراد المعترض على المالكية أنه إذا قال قائل : يجب إراقة الطعام لتنجسه دون الماء لرفعه النجاسة ، يكون أولى بالعذر ممن قال يراق الماء دون الطعام ، ولما كان قوله باطلاً كان قول المالكية أبطل.
ثم قال رحمه الله : (
ثم نرجع إلى أصحاب الشافعي ، فإن قالوا : إن الكلب ما ولغ فيه نجس ، وإن جاء غسل الإناء بعدد من الغسل لا يدل على أنه تعبد دون نجاسة ... )
ثم ذكر استدلالهم بالاستنجاء من البول والغائظ مع مجيء العدد فيه وعدم دلالته على التعبد دون النجاسة فأراد أن يُبْرِزَ فرقاً غير موجود فقال : (
قيل لهم : أيجوز عندكم في ولوغ الكلب أن يغسل الإناء أكثر من سبع مرات أو أقل من سبع ؟ ... ) وحين سأل عن الإستنجاء قال : (فهل يجوز عندكم إذا استنجى من الغائط ثلاث مرات ولم ينقِ ما هنالك ، أيقتصر على ثلاث ولا يزيد شيئاً ؟)فأطلق السؤال عن نجاسة الكلب وقيده في الاستنجاء بما إذا لم ينقِ ، فتحصل له جوابين مختلفين ، في الأول لا تجوز الزيادة ولا النقصان ، وفي الثاني تجب الزيادة حتى ينقي ، وفي الحقيقة لم يفرق الشافعية فإنه يجب عندهم الزيادة على السبع متى علم بقاء نجاسة ولوغ الكلب ، كما تجوز الزيادة على الثلاثة في الاستنجاء متى علمنا عدم الإنقاء.
أما النقصان فقال رحمه الله : (
قيل لهم : إن أنقى بحجر أو بحجرين : أيجوز عندكم الاقتصار على ذلك ، أم يبلغ ثلاثة أحجار ؟ قالوا : إذا زال النجو ، جاز ذلك مع وجود الإنقاء.قيل لهم : فليس الغرض في الاستنجاء العدد ، فأي علة جمعت بين الاستنجاء وغسل الإناء من ولوغ الكلب؟ وقد وقعت التفرقة بينهما على قولكم وفعلكم)
أقول : ليس هذا جواب الشافعية فإن مذهبهم عدم الاكتفاء بأقل من ثلاثة أحجار أو ثلاث مسحات وإن حصل الإنقاء ، تماماً كما في الغسل من ولوغ الكلب.
وعلى فرض أنه قولهم فجواب قوله : (
فأي علة جمعت بين الاستنجاء وغسل الإناء من ولوغ الكلب؟ وقد وقعت التفرقة بينهما على قولكم وفعلكم) هو الأمر بالغسل.
فإن قال : استدلالكم كان بالتسوية بين الغسل من الولوغ والاستنجاء بالتعدد في الجميع ، وقد بان أن التعدد في الغسل من الولوغ غيره في الاستنجاء.
قلنا : قد دل الأمر بالغسل على النجاسة ، ولم يُفِدْ التعدد في اللاستنجاء عدم النجاسة ، فكذلك في الغسل من الولوغ ، ولا نمنع أن يختلف سبب التعددين في الحالين ، بل نمنع أن يكون التعدد مانعاً من الحكم بالنجاسة.
ولإيضاحه نسأل : ما الفائدة من الأمر بالثلاث في الاستنجاء إن كان يجوز الاقتصار على أقل منها إذا حصل الإنقاء؟ ولِمَ لَمْ يقتصر الشارع على الأمر بإزالة عين النجاسة فمتى حصلت توقفنا عن المسح؟
إن قيل : تعبد ؟
قلنا : فكذلك هو في الغسل من الولوغ.
وإن قيل : لأن حصول الإنقاء يحصل غالباً بالثلاث.
قلنا : وكذلك في الغسل من الولوغ ، غايته أن السبع هنا حتم لعدم تميز نجاسة الكلب عما ولغ فيه ، وهناك مستحب لإمكان معرفة الإنقاء بالحس فيكفي.
ثم لماذا لا يجوز أن يكون الأمر بالغسل دال على النجاسة والتعدد في كلٍّ منهما له علته التي تخصه؟
ثم قال رحمها لله : (
فإن قلتم : إن زال النجو بحجر ، لم يجز الاقتصار على حجر ، حتى يبلغ ثلاثة أحجار. قيل لهم : قد ورد الخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استنجى بحجرين ، وروى عنه أنه قال : "من استجمر فليوتر" وأقل الوتر واحد ، فلهذا لم تكن الثلاثة الأحجار حتماً ، لكن في أغلب الحال قد تنقي ...) ص108.
أقول : الأمر بالثلاث يفيد الوجوب اتفاقاً ما لم يأتِ صارف ، وقوله "فليوتر" عام يشمل الإيتار بواحد والإيتار بغيره ، فكيف يكون العام صارفاً للخاص والتخصيص ممكن ؟ وفي هذا الصرف إخراج للحديث عن ظاهره من غير موجب.
وأخيراً الدليل على نجاسة الكلب حديث : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ»وروي بلفظ : أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ»
والحديث صحيح باللفظين.
والأمر بالغسل فيهما دالٌّ دلالة ظاهرة على النجاسة ، حيث لا دليل على النجاسة في غيره كالمذي ودم الحيض وغيره سوى الأمر بالغسل ، وكيف يكون التشديد فيه والتغليظ فيه دالٌّ على عدم النجاسة ؟ والحمل على التعبد مع إمكان التعليل خروج عن الأصل ، كيف لو كان العذر الذي من أجله تركوا ظاهر الحديث هو التغليظ في الغسل ، والتغليظ أدل على النجاسة منه على التعبد ، لذا حكم بعض الأئمة الفقهاء على أن نجاسة الكلب أشد من نجاسة غيره ، ولم يعكسوا.
ويدل عليه أيضاً أمره صلى الله عليه وسلم بإراقة ما في الإناء ، وهو ممكن التعليل بتنجسه ، فهو مقوٍّ للدلالة الحديث على النجاسة.
ويزيده قوة على قوة رواية "طهور إناء أحدكم ... " الدالة على نجاسة الإناء ، ورام ابن الفخار رد دلالته بأن الله سمى الغسل من الجنابة طهوراً مع أن المؤمن لا ينجس.
وهذا تمحل ، فإن غايته أن يدل على صلوح الطهور لرفع النجس والحدث ، ونزيده فنقول : ويجوز أن يطلق التطهر ويراد به التطهر من الذنوب ، وجميع هذه المعاني وغيرها هي بالنظر إلى لفظة طهور حال الإطلاق وعدم الإقتران بما يدل على بعض المعاني دون بعض كما تقول مثلاً في { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} فعيون من غير نظر إلى السياق لفظ يدل على العيون الباصرة وعيون المياه الجارية ، فهل هذا يعني أنا لا نفهم أي المعنيين أريد في الآية.فإذا بان لك ذلك فاعلم أنه صلى الله عليه وسلم حيث قال (طهور إناء أحدكم ...) أراد الإناء الذي ولغ فيه الكلب خاصة ، وحيث أمر بالإراقة ، أراد إراقة ما ولغ فيه الكلب ، وحيث أمر بالغسل ، أمر بغسل ما ولغ فيه الكلب ، فأي معاني الطهارة صالحٌ هنا ؟ أتراه يريد الطهارة من الجنابة أم الذنب ؟
فإن قيل : أراد مجرد النظافة لأنها طهارة.
قلنا : وهل النجاسة إلا القذر ؟
فإذا أمر أمراً ملزماً عاماً للقذر من غير مراعاة لعدم استقذار نحو مالك رحمه الله وغيره، دل على أن المراد القذر عند الشارع ، وهو النجس لا محالة.
ثم في قوله صلى الله عليه وسلم (طهور إناء أحدكم ...) فائدة جليلة ، وهي أن الأمر بالغسل معلل بحصول الطهور به وليس هو تعبدي كما ذهب إليه المالكية ، ثم ذلك الطهور حصل لأن ولوغ الكلب أحدث في الأناء أمراً أخرجه عن كونه طاهراً ، ولا نعلم أمراً يصلح هنا سوى النجاسة.
ثم أقول : قد يعترض معترض على مذهب الشافعية عموماً بكون النجاسة مختصة بالمتحلب من لسان الكلب ، وهو لعابه ، لأن الأمر بالغسل ورد في الولوغ خاصة.
قلنا : ما الدليل على القصر وإصابة الماء بعض أجزائه حال شربه غير لسانه ممكن فيجوز أن يكون مراداً ؟ وقد اجتمع في الكلب حرمة أكله ويمكن تعليله بالنجاسة ، وحرمة بيعه ويجوز تعليله بالنجاسة ، وبخاصة أنه حيوان ذو منفعة ، ورش صلى الله عليه وسلم على موضع الجرو ماء ، ويجوز أن يكون لنجاسته ، بل ظاهره ـ والله أعلم ـ أنه للنجاسة .
إنما ورد فيه لأن الأغلب أن الكلب لا يقصد الأواني إلا للأكل أو الشرب ، فذكر الولوغ لغلبته لا غير .
ثم نخفف من أمر الخلاف بأن المعروف عن الكلب أنه يكرر لعق بدنه ويعممه ما أمكنه ، ويمكن مشاهدة ذلك.
[يمكنك البحث عبر اليوتيوب عن Dog liking himself لترى العجب حيث يبدأ الكلب بلعق ما دبره ثم يلعق باقِ بدنه]
فيصير باقي أجزاء الكلب متنجسة إن لم تكن نجسة ، ويجب التسبيع في الجميع.
أما اعتذار بعضهم بالضرر ، فلا ينافي النجاسة ، فقد اتفقوا على نجاسة دم الحيض لأمره صلى الله عليه وسلم بغسله ، مع قوله سبحانه {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} فلم يمنع ضرره كون الغسل دال على نجاسته.
بل لا خلاف في نجاسة البول والعذرة ولا خلاف في الضرر الذي يلحق بملابستهما الظاهر منها والباطن ، والأغلب في النجاسات ، إن لم تكن كلها ، أنها مضرة ، فلا يقال أن وجود الضرر يمنع أن يكون الغسل للنجاسة ، إنما يكون ذلك ـ والله أعلم ـ إن لم يرد بالغسل أمر ملزم أو ما في معناه مما يفيد وجوب الغسل.
هذا والله سبحانه أعلم.
 
التعديل الأخير:
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,279
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: حل إشكالات الإنتصار

المسألة الثانية : (البيعان بالخيار)
هذه المسألة قد قتلت بحثاً في كتب الفقه بحيث تصعب الإفادة بالجديد .​
قال ابن الفخار رحمه الله : "قال هذا القائل المتعسف : قال مالك رحمه الله في حديث النبي صلى الله عليه وسلم "البيعان بالخيار مالم يتفرقا" لا ندري ما معنى هذا الحديث ، وإنما البيع كلام ، فإذا وقع ذلك الكلام لزم البيع ، فترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إقراره بصحته"
أقول : الحديث رواه مالك في (موطأه) قال : عن نافع عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (المتبايعان كل واحدٍ منهما بالخيار على صاحبه مالم يتفرقا ، إلا بيع الخيار)​
قال مالك : عقبه : "ليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه"​
ورواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : "إذا تبايع الرجلان فكل واحدٍ منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً ، أو يخير أحدهما الآخر ، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك ؛ فقد وجب البيع ، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحدٌ منهما البيع ؛ فقد وجب البيع" واللفظ لمسلم.​
وروى أحمد وأصحاب السنن سوى ابنِ ماجة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "البائع والمبتاع بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون سفقة خيار ، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله"​
وفيه رواية للدارقطني : "حتى يفترقا عن مكانهما" وصحح ابن الملقن إسنادها إلى عمرو بن شعيب على شرط مسلم.​
وقال نافع رحمه الله : "وكان ـ أي ابن عمر رضي الله عنهما ـ إذا بايع رجلاً فأراد أن لا يقيله ؛ قام فمشى هنيهة ثم رجع"​
وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ فِي فَرَسٍ بَعْدَ مَا تَبَايَعَا وَكَانُوا فِي سَفِينَةٍ، فَقَالَ: لاَ أَرَاكُمَا افْتَرَقْتُمَا، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا".​
قال ابن الفخار : "الجواب في ذلك أن يقال له : إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (البيعان بالخيار مالم يتفرقا) يقتضي تفريقين : تفريق كلام ، ثم تفريق أبدان ، فإلى أي التفريقين تذهب أنت أيها المعترض؟ إلى تفريق الكلام أو تفريق الأبدان؟ فإن قلت : إلى تفريق الأبدان . قيل له : وما دليلك على ذلك ؟ ولأي شيء علقت حكم إنفاذ البيع بين المتبايعين بأحد الفريقين دون أولهما. قال : وهل يكون التفرق بالكلام دون الأبدان؟ وهل يسمى تفرق الكلام تفرقاً وإن كانت الأبدان مجتمعة؟ قيل له : قد ورد القرآن بآي كثيرة تصرح بذلك."​
أقول : الحديث لا يقتضي من جهة لفظه سوى تفرق الأبدان فقط ، ولو سلمنا دلالته على تفرق الكلام لغةً فهو في الحديث يقتضي إما تفرق الأبدان فقط ، أو تفرق الكلام والأبدان معاً عند من يحمل اللفظ على جميع معانيه الحقيقية والمجازية.​
وقد فهم مالك رحمه الله من الحديث تفرق الأبدان ، لذا أتبعه بقوله : "ليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه"​
فهذا منه اعتراض على الحديث ، ولو كان فهم منه تفرق الكلام ما اعترض ، وهو ما فهمه ابن رشد الجد من كلام مالك فقال في (البيان والتحصيل) 7/333 : "فرآه حديثاً متروكاً لم يصحبه عمل" ثم حكى عنه عبارته السابقة.​
وكذا فهم ابن القاسم ذلك ففي (المدونة) 3/222 : "قلت لابن القاسم: هل يكون البائعان بالخيار ما لم يفترقا في قول مالك؟ قال: قال مالك: لا خيار لهما وإن لم يفترقا، قال مالك: البيع كلام، فإذا أوجبا البيع بالكلام وجب البيع، ولم يكن لأحدهما أن يمتنع مما قد لزمه"​
ففهم ابن القاسم من عبارة السائل "هل يكون البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ..." أنه يسأل عن تفرق الأبدان ، مع أن السائل اقتصر على ذكر التفرق من غير تقييد له بما يفيد تخصيصه بتفرق الأبدان.​
بل كل مالكي أجاب عن الحديث برده فهو مقر بدلالته على تفرق الأبدان ، إذ لو لم يدل عنده على تفرق الأبدان لما رده.​
فإن قيل : وأين وجدت المالكية يردونه ؟​
قلت : عامة من علل ترك العمل به بمخالفته لإجماع أهل المدينة أو بمعارضته للقياس ، أو بأنه غرر ، ونحو ذلك فهو يرده، فإنه لو فهم منه تفرق الكلام لما أتى بهذه الأعذار.​
وكل مالكي حمل الحديث على تفرق الكلام فقد خالف مالكاً في فهم الحديث.​
ثم نقول : التفرق لا يكون بالكلام ، فلو قال رجل لآخر : (كيف حالك) فأجابه (بخير) ثم جلسا ؛ لم يُسَمى كلامهما تفرقاً ولا سكوتهما بعده تفرقاً ، وإنما يسمى تفرقاً إذا كان التفرق من معاني ألفاظه أو تركيبه ، كقول الرجل : (سأفارقك) أو (فارقتك) أو قوله لامرأته : (هي طالق) أو قال (لن أجامعَك) أو (أجتمعَ معك) وغيرها مما يدل على الفراق هذه الدلالة ، فنفس الكلام باعتباره كلام من غير نظر إلى معانيه ودلالاته ، بل إلى مجرد كونه ألفاظاً مركبة من الإسم والفعل والحرف أو بعضها ؛ لا يدل على اجتماع ولا افتراق فضلاً عن التفرق.​
بخلاف تفرق الأبدان فإنه متى حصل ؛ كان تفرقاً ، سواءً كان المتفرقان بأبدانهما متفقين أو مختلفين.​
فإذا عرفت هذا ، فالسوم هو عبارة عن تراوضٍ بين البائع والمشتري على مقدار السلعة وثمنها وصفاتها ومقدارها ، كنحو قول المشتري : (بعني ذراعين بعشرة) فيجيب البائع (بل بعشرين) أو (بل ذراعاً بعشرة) فهذه الكلمات حال وجودها لا تسمى تفرقاً ولا افتراقاً لما قدمنا، وبعد انقضائها كذلك ، إذ ليس بعد انقضائها كلام ليوصف بالاجتماع والافتراق ، ويكفي عدم وجود النقل في ذلك.​
ولا يكون التفرق بالكلام إلا إذا حملنا لفظ (البيعان) و(المتبايعان) على المتساومين ، وهو خلاف الحقيقة على رأي الجمهور وأبعد المجازين على رأي غيرهم.​
ويمنع حمله على المتساومين أيضاً إنه يلغي فائدة الخبر قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في (اختلاف الأئمة) ص59 : "وعلة من قال التفرق بالأبدان قيام الحجة على أن النبي صلى الله وعليه وسلم لا يجوز أن يخاطب أمته بما لا يفيدهم معنى فلما صح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" لم يخل ذلك التفرق من أن يكون بالقول أو الأبدان فإن كان بالقول فلم يفد به معنى لأن البائع مالك سلعته قبل عقد البيع فلا معنى أن يقال له أنت بالخيار في بيع سلعتك لأنه لم يكن أحد من أهل الجاهلية والإسلام يعتقد أن1 بيع ملكه غير جائز وكذلك المشتري لا معنى لقول قائل أنت بالخيار في أن تشتري سلعة غيرك الجائز منه اشتراؤها لأنه لم يكن أحد يدين بتحريم الشراء إذا كان لا معنى2 له وإذا كان لا معنى لهذا القول صح أن معنى الخبر هو ما أفاد معنى لم يكن المخاطبون يعتقدونه قبل أن يخاطبوا به وهو أنهما إذا تواجبا فلهما الخيار ما لم يتفرقا عن مكانهما إلا أن يكون البيع بيع خيار لقول النبي صلي الله عليه وسلم (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار) حدثني بذلك علي عن زيد عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلي الله عليه وسلم" انتهى.​
وأيضاً يمنع حمله على المتساومين رواية الشيخين المتقدم ذكرها.​
أما ما استدل به ابن الفخار من الآيات فالجواب من وجهين : الأول أن يقال : فرق اللغويون بين التفرق والافتراق ، فالتفرق بالأبدان والافتراق بالكلام ، وهذا الحكم بالنسبة للاستعمال الحقيقي ، فلا يرد عليه اعتراض ابن العربي بقوله سبحانه {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} .​
والثاني : أن جميعها دالٌ على انقطاع اجتماع كان ولو مقدراً أو متوهماً، وإذا جاز أن يكون التفرق بالكلام ، فهو عن اجتماع كان بالكلام ، كالطلاق الكائن عن نكاح واختلاف العقائد الكائن بعد اتفاقها، واختلاف القلوب مع توهم اجتماعها .​
وليس كذلك التساوم لما قاله ابن حزم رحمه الله : " ... قَالُوا: مَعْنَى التَّفَرُّقِ أَيْ بِالْكَلَامِ؟ فَقُلْنَا: لَوْ كَانَ كَمَا يَقُولُونَل َكَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِنَا وَمُخَالِفًا لِقَوْلِكُمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُتَبَايِعَيْنِ آخُذُهُ بِعَشَرَةٍ، فَيَقُولُ الْآخَرُ: لَا، وَلَكِنْ بِعِشْرِينَ لَا شَكَّ عِنْدَ كُلِّ ذِي حِسٍّ سَلِيمٍ أَنَّهُمَا مُتَفَرِّقَانِ بِالْكَلَامِ، فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ، وَقَالَ الْآخَرُ: نَعَمْ قَدْ بِعْتُكَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، فَالْآنَ اتَّفَقَا وَلَمْ يَتَفَرَّقَا فَالْآنَ وَجَبَ الْخِيَارُ لَهُمَا إذْ لَمْ يَتَفَرَّقَا بِنَصِّ الْحَدِيثِ؟" انتهى.​
وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله بعد أن أورد ما استدل صاحب (الهداية) من آيات وأحاديث : "وفُرِّقَ بينهما بأن هذه الشواهد كلها ليس فيها تفرق بالأقوال التي هي تلفظ باللسان ، وإنما هي تفرق من عقده ، أعني في قوله تعالى : {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} والمتبايعان في حال مباشرة العقد إنما بينهما اتفاق على الثمن والمبيع بعد الاختلاف فيه ، ولو كان المعنى أنهما بالخيار حال مباشرة العقد قبل أن يفرغا منه ؛ لكانت العبارة الصحيحة عن ذلك (ما لم يتفقا) لا (ما لم يتفرقا)"​
ثم نقل عن ابن عبد البر رحمه الله قوله : "وَأَمَّا مَا اعْتَلُّوا بِهِ مِنْ أَنَّ الِافْتِرَاقَ قَدْ يَكُونُ بِالْكَلَامِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ أن يكون أري بِذِكْرِ الِافْتِرَاقِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الِافْتِرَاقُ بِالْكَلَامِ فَيُقَالُ لَهُمْ خَبِّرُونَا عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الِاجْتِمَاعُ وَتَمَّ بِهِ الْبَيْعُ أَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الِافْتِرَاقُ أَمْ غَيْرُهُ فَإِنْ قَالُوا هُوَ غَيْرُهُ فَقَدْ أَحَالُوا وَجَاءُوا بِمَا لا يعقل لأنه ليس ثم كلام غير ذلك وإن قالوا هو ذلك الكلام بِعَيْنِهِ قِيلَ لَهُمْ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الَّذِي بِهِ اجْتَمَعَا وَتَمَّ بَيْعُهُمَا بِهِ افْتَرَقَا وَبِهِ انْفَسَخَ بَيْعُهُمَا هَذَا مَا لَا يُفْهَمُ وَلَا يُعْقَلُ" راجع (التمهيد) 14/18.​
فبان لك أن الحديث لا يقتضي من جهة لفظه وسياقه إلا تفرق الأبدان.​
وإذا تنزلنا وقلنا بدلالته على التفرق بالكلام فهو ظاهر في التفرق بالأبدان دون التفرق بالكلام ، والأصل حمل الكلام على الظاهر.
وعمل الصحابة الذين رووا أحاديث الخيار بأحد المعنيين مرجحٌ له.​
وأخيراً : لو فرضنا احتمال اللفظ للمعنيين ؛ فإما أن نحمله على أظهرهما كما تقدم أو نحمله عليهما معاً ، فيكون الحديث دال على تفرق الأبدان والتفرق بالكلام.​
أما أن يترك جميع ذلك ويصار إلى أضعف المعنيين فصاحبه أولى باسم التعنت من ابن حزم أو المعترض أيّ كان.​
... يتبع ...


الإخوة الأفاضل والدكتور الفاضل أيمن علي صالح ، أحب أن يكون لكم مشارة ونظر في هذه الأجوبة وفاقاً وخلافا
 
التعديل الأخير:
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,279
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: حل إشكالات الإنتصار



لا أجيز لأحد نقل مواضيعي أو مشاركاتي إلى ملتقى أو موقع آخر بغير إذن من إدارة الملتقى

 
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,279
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: حل إشكالات الإنتصار

قال رحمه الله : (أما من السنة ، فما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه ـ وهو الراوي لحديث التفرق ـ قال : "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فكنت على بكرٍ صعب لعمر رضي الله عنه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "بعنيه" فباعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هو لك يا عبدالله بن عمر فاصنع ما شئت" فقد وهبه صلى الله عليه وسلم بعد تفرق البيع بالكلام ، وقبل التفرق بالأبدان")​
أقول : أقتصر هنا على جوابي ابن حزم رحمه الله الذي ذكره محقق (الإنتصار)
قال رحمه الله : "وَنَحْنُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - نَذْكُرُ مَا هُوَ أَقْوَى شُبْهَةً لَهُمْ، وَنُبَيِّنُ حَسْمَ التَّعَلُّقِ بِهِ لِمَنْ عَسَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ نا عَمْرٌو «عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ فَكَانَ يَغْلِبُنِي فَيَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْقَوْمِ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: بِعْنِيهِ؟ قَالَ: هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: بِعْنِيهِ؟ فَبَاعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ» قَالُوا فَهَذَا بَيْعٌ صَحِيحٌ لَا تَفَرُّقَ فِيهِ وَهِبَةٌ لِمَا ابْتَاعَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِلَا شَكٍّ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَذَا خَبَرٌ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ -: أَوَّلُهَا - أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَفَرُّقٌ فِيهِ التَّخْيِيرُ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ السُّكُوتُ عَنْهُ بِمَانِعٍ مِنْ كَوْنِهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْبَيْعِ تَقْتَضِيه وَلَا بُدَّ - وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَذَا الْخَبَرِ ثَمَنٌ أَيْضًا، فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا الْبَيْعَ بِغَيْرِ ذِكْرِ ثَمَنٍ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ ثَمَنٌ. فَإِنْ قَالُوا: لَا بُدَّ مِنْ الثَّمَنِ بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِهِ؟ قُلْنَا: وَلَا بُدَّ مِنْ التَّفَرُّقِ أَوْ التَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَكُونُ بَيْعًا، وَلَا يَصِحُّ أَصْلًا إلَّا بِأَحَدِهِمَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِهَذَا الْخَبَرِ فِي إسْقَاطِ حُكْمِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ مِنْ التَّخْيِيرِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَبَيْنَ مَنْ احْتَجَّ بِهِ فِي الْبَيْعِ بِالْمُحَرَّمَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ ثَمَنٌ أَصْلًا، وَهَذِهِ هِبَةٌ لِمَا اُبْتِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ ... وَالْوَجْهُ الثَّانِي - أَنَّهُ حَتَّى لَوْ صَحَّ لَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْبَيْعِ تَخْيِيرٌ وَلَا إشْهَادٌ أَصْلًا وَهُوَ لَا يَصِحُّ أَبَدًا - فَمَنْ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ بَعْدَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ بَيِّعَيْنِ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا أَوْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ» ؟ ... مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ لِكَذِبِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ قَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ فَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْبَيْعَ حِينَئِذٍ كَانَ يَتِمُّ بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا وَلَا خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَإِنَّ الْإِشْهَادَ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا وَإِنَّمَا وَجَبَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا حِينَ الْأَمْرِ بِهِ لَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقْطَعُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُخَالِفُ أَمْرَ رَبِّهِ تَعَالَى، وَلَا يَفْعَلُ مَا نَهَى عَنْهُ أُمَّتَهُ، هَذَا مَا لَا شَكَّ فِيهِ عِنْدَنَا، وَمَنْ شَكَّ فِي هَذَا أَوْ أَجَازَ كَوْنَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، نَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَوْ نَسَخَ مَا أَمَرَنَا بِهِ لَبَيَّنَهُ حَتَّى لَا يَشُكَّ عَالِمٌ بِسُنَّتِهِ فِي أَنَّهُ قَدْ نَسَخَ مَا نَسَخَ وَأَثْبَتَ مَا أَثْبَتَ. وَلَوْ جَازَ غَيْرُ هَذَا - وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ - لَكَانَ دِينُ الْإِسْلَامِ فَاسِدًا لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِمَّا يَحِلُّ لَهُ مِمَّا أَوْجَبَ رَبُّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ حَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا، ... وَالْوَجْهُ الثَّالِثِ - أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّاوِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ أَعْلَمُ بِمَا رَوَى وَابْنُ عُمَرَ هُوَ رَاوِي هَذَا الْخَبَرِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ لَا يَرَى الْبَيْعَ يَتِمُّ إلَّا بِالتَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ، فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِمْ أَعْلَمُ بِمَا رُوِيَ. وَسَقَطَ عَلَى أَصْلِهِمْ هَذَا تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ جُمْلَةً - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ" (المحلى) 8/361 – 362.

قال رحمه الله : (ثم بدليل الإجماع ؛ أن من اشترى ابنه وتمت الصفقة ، أن العتق واقعٌ على المشتري بتمام الصفقة عقيب الملك قبل تفرق الأبدان ، فدل أن الملك قد تم بنفس الإيجاب بالقول ، وأن من اشترى زوجته ـ وهي ابنةً لقوم ـ فدفع ثمنها ، وتمت الصفقة ، ثم بدا له في فسخ البيع واستدامة عقد نكاحها قبل تفرق الأبدان أن ذلك غير جائز وأن الفسخ وجب بنفس الإيجاب قولاً واحداً ، ودل على أن التفرق بالأبدان ليس من شرائط عقد البيع الذي لا يتم إلا به ... والشافعي مخالفنا يزعم أن السلم ينعقد من غير تفرق الأبدان ... وكذلك من صارفَ رجلاً ذهباً بورق أو باعه طعاماً بطعام ثم تفرقا قبل التقابض : إن السلم فاسد)
أقول : أخطأ على الشافعية في عامة ما ذكره هنا مما له تعلق بخيار المجلس ، قال الإمام النووي رحمه الله : "يثبت خيار المجلس في أنواع البيع : كالصرف والطعام بالطعام والسلم ... ولو اشترى من يعتق عليه ؛ فإن قلنا : الملك في زمن الخيار للبائع أو موقوف .. فلهما الخيار ، وإن قلنا للمشتري .. تخير البائع دونه" (المنهاج) ص219 ط دار المنهاج ، والمعتمد أن الملك في زمن الخيار موقوف ، فالخيار ثابت.
أما من اشترى امرأته فإنه لا ينفسخ نكاحها ما دام خيار المجلس باقياً للمتبايعين ، لذا قال الشافعي رحمه الله فيمن اشترى زوجته وأراد وطأها قبل انقضاء الخيار : (لم يحل له ذلك؛ لأنه لا يدري أيطأ بالملك، أم بالزوجية؟) بناءً على أن ذلك لا يتميز إلا بانقضاء الخيار أو باختيار البائع إمضاءه. والله أعلم.​
ثم ما أوردوه في خيار المجلس واردٌ عليهم في خيار الشرط ، فجوابهم هناك صالحٌ هنا.
وكلامه في السلم والصرف واردٌ على قولهم بانعقاد البيع بمجرد الإيجاب والقبول ، فإنه عندهم إما غير منعقد بهما ، أو ينفسخ بتفرقهما قبل القبض وهو ما ذكره ابن عليش في (فتاويه) 4/53، وفي الأول عدم الإنعقاد بمجرد الإيجاب والقبول وفي الثاني إنفساخه بعد انعقاده بالإيجاب والقبول ، فدل الأول أن مجرد الإيجاب والقبول لا يكفي ، والثاني على صحة الفسخ بعد انعقاد الصفقة.
وهكذا قالوا في سلعتين غائبتين ضَرَبَ كل واحدٍ منهما لسلعته أجلاً يُحْضِرُها فيه أو ضُرِبَ لأحدهما أجلاً ولم يضرب للأخرى .
فما الذي خولكم التخصيص فجعلتم بعض البيوع تنعقد بمجرد العقد وبعضها لا ينعقد إلا بالقبض وبعضها يبطله التفرق وبعضها لا يبطله التفرق ؟ فإن قال : استثنينا هذه الصور لدليلها الخاص . قلنا : وكذلك نقول. هذا على فرض صحة ما أورده ، وقد بان لك ما فيه.

والله أعلم

... يتبع ...
 
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,279
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: حل إشكالات الإنتصار

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فقط لأن هناك من يتعلل في رد كل حديث بتمسكه بحكمة أوجبت رده أو صرفه عن ظاهره ونحو ذلك ، وقد ادعي ذلك في هذا الحديث خاصة ، أنقل كلام الإمام عبد الرحمن المعلمي رحمه الله من (التنكيل) حيث بيّن الحكمة من تشريع خيار المجلس فقال :
"وقوله تعالى: «عن تراض» نص في اشتراط رضا كلٍ من المتبايعين، والرضا معنى خفي، وسنة الشارع في مثله أن يضبطه بأمر ظاهر منضبط يشتمل على المعنى الذي عليه مدار الحكمة كالرضا ههنا، فيكون مدار الحكم على ذاك الضابط ههنا؟
بنى الأستاذ ـ أي الكوثري ـ على أنه الصيغة أي الإيجاب والقبول كما في النكاح. وذلك مدفوع بوجهين:
الأول: أن الصيغة قد علمت بقوله: «تجارة» .
الثاني: أنها ليست بواضحه الدلالة على الرضا إذ تكون عن هزل أو سبق لسان أو استعجال قبل تمكن الرضا من النفس، ويكثر وقوعه ويتكرر، ويكثر التغابن لكثرة الجهل بقيمة المثل بخلاف النكاح فإنه قد لا يقع في العمر إلا مرة، ويحتاط الناس له ما لا يحتاطون للبيع، والشارع يتشوف إلى تثبيت النكاح ما لا يتشوف إلى تثبيت البيع، جاء في الحديث: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق » وجاء فيه: «من أقال نادماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة» ومبنى البيع على المشاحة ومبنى النكاح على مكارمه، وأوضح من هذا كله أن في الحديث: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» ففرق بين هذا ثلاثة وبين غيرها كالبيع، على أن تعين الضابط غنما هو للشارع، فإذا لم يظهر من الكتاب وجب الرجوع إلى السنة، فنجدها قد تعيين الضابط التراضي بحصول أحد أمرين بعد الإيجاب والقبول، إما اختيار اللزوم، وأما أن يستمرا على ظاهر حالهما من التراضي مدة اجتماعهما ويتفرقا على ذلك، ولا يخفى على المتدبر أن هذا بغاية المطابقة للحكمة، أما اختيار اللزوم فواضح أنه بين في استحكام التراضي، وأما الاستمرار على ظاهر الحال من التراضي والتفرق على ذلك فلأن الغالب أنه إذا كان هناك هزل أو سبق لسان أو استعجال أن يتدار كه صاحبه قبل التفرق ولا سيما إذا علم أن التفرق يقطع الخيار.
فبان بهذا أن الحديث مفسر للآية التفسير الواضح المطابق للحكمة، لا مخالف لها كما زعم الكوثري، وراجع (تفسير أبن جرير) .
ويؤكد هذا المعنى مافي (سنن أبي داود) وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن تكون الصفقة خيار ولا يحل له ان يفارق صاحبه خشية أن يستقيله»
والمراد والله أعلم انه لا يحل لأحدهما أن يستغفل صاحبه فيفارقه وهو لا يشعر إذ قد لا يكون استحكم رضاه وكان يريد الفسخ إلا أنه أمهل اعتماداً على أن ذلك لا يفوت، حتى لورآه يريد المفارقة لبادر بالفسخ.
فأما ما جاء عن ابن عمر أنه كان إذا اشترى شيئاًُ يعجبه فارق صاحبه، فمحمول على مبادرته بالمفارق وصاحبه يراه، أو لا يكون وقف على هذه الزيادة، وقوله: «حتى يستقيله» ، لا يدل على الزوم العقد، فإن الاستقاله بعد الزوم العقد لا تمنع فيها المفارقة. إذا قد يستقله بعد أن يفارقه ويمضي زمان، وإنما المراد والله أعلم أن صاحبه قد يندم في المجلس فلا يبادر إلى الفسخ ويرى من حسن الأدب والعشرة أن يقول له: «أقلني» ليكون الفسخ برضاهما فإنه أطيب للنفوس"
انتهى

ووكلامه رحمه الله ظاهر يقبله العقل ولا يخالف ظاهر النقل ، ومع ذلك فلا يخفاك أن من يُجَوِّز أن ثم حكمة في كلام الشارع لم نطلع عليها ، خيرٌ ممن زعم أن الشارع لم يراعِ الحكمة في النص الفلاني مما يوجب رده والتنكب عنه ، أو التعسف في تأويله وصرفه عن ظاهره ، من أجل حكمة هي في نفسها مستنبطة باجتهاده يخالفه فيها غيره.
ومن التزم ظاهر النص ، لم يلتزمه لأنه منكر للحكمة ، أو أنه يردها متى دل عليها الدليل الظاهر للحفاظ على ظاهر يمكن تأويله بيسر من غير تعسف ، بل من أجل ما قاله الله سبحانه لملائكته {أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ}
قال الزمخشري المعتزلي رحمه الله : "{أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ} أي أعلم من المصالح في ذلك ما هو خفي عليكم.
فإن قلت: هلا بين لهم تلك المصالح؟
قلت: كفى العباد أن يعلموا أن أفعال اللَّه كلها حسنة وحكمة، وإن خفى عليهم وجه الحسن والحكمة"
انتهى
ما أجمل هذا من قلم هذا المعتزلي الذي تنسب مدرسته إلى تقديم العقل على النقل.
يا ليت هذا صنيع ما ينتسب إلى مدرسة اتباع النقل. من ذا يظن في نفسه أنه أعلم من الملائكة بالمصالح والحكم؟ ومن ذا يظن في نفسه أنه أبعد منهم عن الخطأ في تقديرها؟
من قال (أنا) فليتهم عقله.
أنا أخوف نفسي والقراء من التجرء على النصوص بالرد معتذراً عن ذلك بالدعاوى، ويكفينا جميعاً في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى) قالوا : ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال (من أطاعني دخل الجني ، ومن عصاني فقد أبا).

والله أعلم
 
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,279
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: حل إشكالات الإنتصار

السلام عليكم ورحمة الله

قد أكلمت إنشاء الله الكلام في نحو أربع مسائل أخرى ، ثم بدى لا أن لا يكون الكلام على هذا النحو ، بل نستعرض كلام الإمام ابن الفخار رحمه الله ثم يدلي الأخوة كلٌّ بما عنده.
لعل هذا أنفع للجميع وأنشط لي
وأحب أن يشارك الأخوة برأيهم في الموضوع
 
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,279
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: حل إشكالات الإنتصار

قال ابن الفخار رحمه الله : (مسألة : قال : روى مالك رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه ، فهي للذي يعطاها ، لا ترجع إلى الذي أعطى أبداً ؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث"
قال هذا المعترض : كيف جاز لكم ترك حديث جابر في العمرى أنها تكون ملكاً للمعمر وورثته دون المعمِر ، وأرجعتموه إلى الأول المعمر بعد موت المعمر وورثته ، وخالفتم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"
)
ثم قال رحمه الله : (قال محمد بن عمر : يقال له : قال الله عز وجل : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} قوله : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} فأخبر عز وجل أنه باللسان يصح البيان ، ويرتفع الإشكال ، وإنما علم الله آدم الأسماء كلها لأنه جعلها علامات ، لتدل على حقائق المسميات ، واختلاف المذكورات ، فلما قال صلى الله عليه وسلم : "من أعمر عمرى له ولعقبه ، فإنها للذي يعطاها ، لا ترجع إلى الذي أعطاها ، لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث" من قول أبي سلمة. فلما جاء الحديث باسم العمرى دون اسم العطية والهبة ، والصدقة ، والنحلة بالأسماء التي لا يشكل أنها تنتقل بها الأملاك من معطيها إلى معطاها ، اشتققنا الحكم من نفس الكلمة ، لأنه لم يقل : من أعطى ، ولا من وهب ، ولا من نحل ، ولا من تصدق ، إنما قال : "من أعمر عمرى" واسم العمرى مشتق من العمر ، وقد علق الملك بالعمر دون التأبيد ، فصار ملكاً إلى أجل ، وهو العمر ، فليس ملكاً مستقراً ، والملك المستقر ليس يعلق بأجل ، ولا عمر، إلا ملك مطلق، فلما رأينا أن الأمر هكذا ، وجب علينا طلب الدلالة لقوله : "لا ترجع إلى الذي أعطاها" وقول أبي سلمة : "لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث" ما وجهه؟
فوجهنا له وجهاً يعني أن الذي فرضه الله عز وجل، قال الله عز وجل { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} ولم يكن ذلك على وجه المواريث ، وإنما هو أنه إنما أخذ منهم ما كان بأيديهم ، وكذلك المعمر أخذ عنه ما كان بيد المعمر ، وكذلك العقب يأخذ ذلك بعد أبيه يعطيه المعمر حقيقة الشيء لأن العمرى عند العرب إنما هي : تمليك منفعة لا تمليك رقبة ، بدليل : لو كانت أمرة لم يطأها المعمر ، ولا عقبه من بعده ، ولو كان ملك الرقبة ، لحل لهم الوطء، فإذا كان كذلك ، كان ملك الرقبة العمرى للمعمر ، ترجع إليه إذا مات المعمر أو إلى ورثته يرثونها على كتاب الله، ألا ترى في البيع والصدقة والهبة؟ فلو قال : قد بعتك شهراً .. لم يصح ، أو تصدقت بها عليك شهراً ، لم يصح ذلك متى أراد نقل الملك إلى المتصدق عليه ، وكذلك العمرى ) (الإنتصار) ص 119-122

من عنده حل لما وضع ابن الفخار من إشكال هنا فيشاركنا به ؟
 
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,279
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: حل إشكالات الإنتصار

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أين الشافعية ، أين الأخوة الأفاضل ، إنا نمل ونستعين بنشاطهم لننشط.

قال رحمه الله : (مسألة : قال : روى مالك رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه ، فهي للذي يعطاها ، لا ترجع إلى الذي أعطى أبداً ؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث" قال هذا المعترض : كيف جاز لكم ترك حديث جابر في العمرى أنها تكون ملكاً للمعمر وورثته دون المعمِر ، وأرجعتموه إلى الأول المعمر بعد موت المعمر وورثته ، وخالفتم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم")
أقول : روى مالك هذا اللفظ كله مرفوعاً ، وابن حزم رحمه الله ـ إن كان هو المعترض ـ يجعل ذلك كله في حكم المرفوع ما دام الرافع له ثقة ولو خالفه من هو أوثق منه وأكثر فوقفوه أو وقفوا بعضه. وظاهر إيراد مالك له في موطئه هكذا أنه عنده مرفوع بهذا اللفظ.
ثم قوله صلى الله عليه وسلم : "فهي للذي يعطاها" كافٍ في الدلالة على دعوى المعترض، فإنه إما أن يراد أنها ملك للذي يُعطَاها ، أو أنه يملك منفعتها ، ثم إما أن يقصد أن ذلك على التأبيد أو حتى يموت المُعْمَرْ. فعلى كل تقدير سوى الأخير يبطل قول المالكية ، وعلى الأخير فما هي الفائدة المتحصلة من الحديث؟
فإن المخاطبين بهذا الحديث يعرفون أن العمرى ترجع إلى المعمِر بعد موت المعمَر ، فما معنى إخبارهم بذلك.
هذا ضعيف في البيان ، ويصان كلام النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمل عليه.
وانتقال الملك إلى المُعْمَرِ هو ما فهمه مالك من الحديث ، يدل عليه قوله : "لَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ" ولو كان المراد بالحديث أنها ترجع بعد موتِ المعْمَرِ كما زعمه المصنف رحمه، لكان العمل عند مالك عليه ، ولكنه رحمه الله نفى ذلك ، وكذلك فهم أصحابه :
قال ابن عبد البر : "وَلَمْ يَأْخُذْ مَالِكٌ بِحَدِيثِهِ الْمُسْنَدِ فِي هَذَا الباب"
وقال ابن رشد الجد في (البيان والتبيين) : "ولم يأخذ مالك في العُمْرى بحديثه الذي رواه في موطئه" ولو كان الحديث لا يمنع رجوع العمرى إلى من أعمرها لكان مالكٌ آخذاً به ، ولكن لما لم يفهم ابن عبد البر وابن رشد من الحديث إلا انتقال الملك في العمرى إلى المعمَرِ .. حكما على مالك بأنه ترك العمل بحديثه ولم يأخذ به .
ثم قال رحمه الله : (واسم العمرى مشتق من العمر ، وقد علق الملك بالعمر دون التأبيد ، فصار ملكاً إلى أجل ، وهو العمر ، فليس ملكاً مستقراً ، والملك المستقر ليس يعلق بأجل ، ولا عمر، إلا ملك مطلق، فلما رأينا أن الأمر هكذا ، وجب علينا طلب الدلالة لقوله : "لا ترجع إلى الذي أعطاها" وقول أبي سلمة : "لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث" ما وجهه؟
فوجهنا له وجهاً يعني أن الذي فرضه الله عز وجل، قال الله عز وجل { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} ولم يكن ذلك على وجه المواريث ، وإنما هو أنه إنما أخذ منهم ما كان بأيديهم ، وكذلك المعمر أخذ عنه ما كان بيد المعمر ، وكذلك العقب يأخذ ذلك بعد أبيه يعطيه المعمر حقيقة الشيء لأن العمرى عند العرب إنما هي : تمليك منفعة لا تمليك رقبة ، بدليل : لو كانت أمرة لم يطأها المعمر ، ولا عقبه من بعده ، ولو كان ملك الرقبة ، لحل لهم الوطء )
أقول : حاصل ما ذكره أن العمرى في لغة العرب تطلق على تمليك مقيد بمدة ترجع بعدها إلى صاحبها الذي أعمرها.
فنقول : نعم ، فكان ماذا ؟
ونحن لا زلنا نقول أن هذه هي دلالة لفظ العمرى قبل النهي عنها وبعده حتى يومنا هذا ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل العمل بمقتضى دلالته اللفظية ، وجعل العمرى هبة جائزة.

فهو كالظهار في قولهم (أنتِ علي كظهر أمي) فإنه صريح في أن المرأة تحرم بها حرمة مؤبدة كما هو الشأن بالنسبة لظهر أمه ، لذا كانت من طلاق أهل الجاهلية، لكن هذه الدلالة متروكة بنسخ الشريعة لها .
والألفاظ ، إن لم تكن أوامرَ الشارع ونواهيه ، لا تفيد حكماً ، بل هي محكومٌ عليها ، ولو كانت تفيده ، لما منع ذلك من جواز نسخها لفظا ومعنى أو منع من العمل بمقتضاها ولو كان ذلك المقتضى هو مدلول ذلك اللفظ في اللغة.
فبطل ما زعمه من احتياجنا إلى تطلب وجه نحمل عليه باقي الحديث ، إذ لا حاجة إلا تطلب وجه نصرف به الحديث عن ظاهره للحفاظ على دلالة لغوية لا يمتنع في الشرع ولا في العقل إبطال العمل بها.
بل نحمل الحديث كله على ظاهره ، ونبطل العمل بدلالة اللفظ اللغوية، لا على معنى أن اللفظ لم يعد يدل عليها بعد النهي ، بل على معنى أنه مع دلالته عليها غير معمول بها، لمنع الشرع من العمل بتلك الدلالة.

وقوله : (والدليل على أن العمرى راجعة إلى صاحبها ، ولا تكون مبتولة للمعمر : قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "المسلمون على شروطهم ، ما وافق الحق منها" وقوله صلى الله عليه وسلم :"من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة شرط" والمعمر قد شرط أنها عمرى لا هبة ولا عطية ولا صدقة ، فهو على شرطه فيما أعطى، وشرطه جائز ، لأنه ليس بخلاف لكتاب الله عز وجل ، بل هو موافق للكتاب والسنة، ....)
أقول : دل ما ذكره من الحديث على أن شرط المسلم جائز إن لم يخالف كتاب الله ، فإن خالفه ، فقد قال صلى الله عليه وسلم "شرط الله أحق، وكتاب الله أوثق" وكان مما شرط الله للمُعمَرِ أن يملك العمرى ، وألغى الشرط المفهوم من لفظ العمرى الذي هو عود العمرى إلى من أعمرها ، فعلمنا بذلك بطلان ما زعمه أن العمرى ليست بهبة ، لأنه سبحانه قد ردها إلى أن تكون هبة على لسان نبيه ، وبطل ما زعمه من أن هذا شرط جائز ، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن العمرى وتصريحه صلى الله عليه وسلم بإلغاء الشرط المستفاد من دلالة اللفظ اللغوية.
فحجتنا عليه هو عين ما احتج به ، وقد أطال بما هو مردود بعين ما قدمناه ، فلا حاجة إلى تطلب رده.

والله أعلم
 
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,279
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: حل إشكالات الإنتصار

قال رحمه الله : (مسألة : وقال هذا الرجل : قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسليك إذا جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال : "صليت؟" قال : لا ، قال : "قم فاركع" وخالف ذلك مالك، وقال : لا يركع ، ونهى عن ذلك أشد النهي)
أقول : قد روي الأمر بهما من حديث جابر في الصحيحين بلفظ : جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: «أَصَلَّيْتَ يَا فُلاَنُ؟» قَالَ: لاَ، قَالَ: «قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ» وحديث سليك رواه مسلم بعدة ألفاظ أحدها : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَجَلَسَ، فَقَالَ لَهُ: «يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا» ثُمَّ قَالَ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا»
وقد روى أبو سعيد الخدري قصة سليك فقال : " رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ رَجُلٌ وَهُوَ يَخْطُبُ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ بِهَيْئَةٍ بَذَّةٍ، فَقَالَ: «أَصَلَّيْتَ» ؟ قَالَ: لا، قَالَ: «فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» ، قَالَ: ثُمَّ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَأَلْقَوْا ثِيَابًا فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا الرَّجُلَ ثَوْبَيْنِ.​
فَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الأُخْرَى جَاءَ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصَلَّيْتَ» ؟ قَالَ: لا، قَالَ: «فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» ، ثُمَّ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ يَعْنِي: فَطَرَحَ، يَعْنِي: ذَلِكَ الرَّجُلُ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ فَصَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «خُذْهُ خُذْهُ» ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرُوا إِلَى هَذَا جَاءَ تِلْكَ الْجُمُعَةَ بِهَيْئَةٍ بَذَّةٍ فَأَمَرْتُ النَّاسَ بِالصَّدَقَةِ فَطَرَحُوا ثِيَابًا فَأَعْطَيْتُهُ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ فَلَمَّا جَاءَتِ الْجُمُعَةُ أَمَرْتُ النَّاسَ بِالصَّدَقَةِ فَجَاءَ فَأَلْقَى أَحَدَ ثَوْبَيْهِ»

وقال ابن الفخار : (الجواب عن ذلك إن كان قد أمرَ سليكاً بالركون وهو يخطب ، فقد أمرَ غيره بالجلوس، قال معاوية بن صالح حدثني أبو الزاهرية ، عن عبدالله بن بسر قال : كنت جالساً إلى جانبه يوم الجمعة فقال : جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة وسلو الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إجلس فقد آذيت و(أوذيت)"

أقول : قال ابن حزم رحمه الله : ( وَهَذَا لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ -:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؟
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ - لَوْ صَحَّ - أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَكَعَهُمَا، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَكَعَهُمَا ثُمَّ تَخَطَّى، وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ رَكَعَهُمَا، فَإِذْ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ لَا أَنَّهُ رَكَعَ، وَلَا أَنَّهُ لَمْ يَرْكَعْ -: فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا عَلَيْهِمْ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ فِي الْخَبَرِ مَا لَيْسَ فِيهِ فَيَكُونُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدَ الْكَذَّابِينَ؟
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ حَتَّى لَوْ صَحَّ الْخَبَرُ، وَكَانَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَكَعَ -: لَكَانَ مُمْكِنًا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ جَاءَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ بِالرُّكُوعِ، وَمُمْكِنًا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ، فَإِذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لَهُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ؟
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الْخَبَرُ وَصَحَّ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَكَعَ.
وَصَحَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ أَمْرِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْ جَاءَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ بِأَنْ يَرْكَعَ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ -: لِمَا كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ، لِأَنَّنَا لَمْ نَقُلْ: إنَّهُمَا فَرْضٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُمَا سُنَّةٌ يُكْرَهُ تَرْكُهَا، وَلَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ صَلَاتِهِمَا؟ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ الْفَاسِدِ جُمْلَةً - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ) انتهى.
أقول : معاوية بن صالح ثقة إن شاء الله كما قاله الذهبي رحمه الله في (ميزان الاعتدال) وإنما تكلموا فيه من أجل مناكير رواها عن مجاهيل أو رواها عنه ضعفاء ، وكان رحمه الله مكثراً يروي عن كل أحد ويحدث بكل ما سمع فيما يظهر من حاله ، وتكلموا في عدالته بما لا يقدح إن شاء الله ، وليس هو بدون الثقة إن شاء الله. وقول الذهبي فيه خير من قول ابن حجر رحمه الله في (التقريب) : "صدوق" وكل هذه الأوجه خير مما ذهب إليه ابن الفخار لأن الأصل عند التعارض بين الأخبار الجمع لا الدفع. ومن أوجه الجمع أن يقال : دل ظاهر الحديث على ازدحام المسجد ، فلعله صلى الله عليه وسلم رأى أنه لا مكان يكفي ليصلي فيه ركعتين ، فأمره بالجلوس. ولعله وصلَ ولم يبقَ من وقت الخطبة ما يسع الداخل ليصلِ ركعتين فاكتفى صلى الله عليه وسلم بدفع أذاه بأمره للجلوس.
قال ابن الفخار : (فقيل : إن أمره سليكاً بالصلاة ليتصدق عليه)
أقول : هو مردود بحديث أبي سعيد الخدري المتقدم ، وفيه أنه بعد أن تصدقوا عليه أمره كذلك في الجمعة التي تليها بأن يصلي ركعتي ، ولم يكن أمرهم بالتصدق عليه كما يدل عليه تصدقه هو نفسه بأحد ثوبيه. وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر : " إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا" فدلت الزيادة على أن الأمر غير مختص بسليك رضي الله عنه ، قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في صحيحه بعد إيراده حديث سليك بهذه الزيادة : "فَمَنِ ادَّعَى أَنَّ هَذَا كَانَ خَاصًّا لِسُلَيْكٍ - أَوْ لِلدَّاخِلِ وَهُوَ رَثُّ الْهَيْئَةِ وَقْتَ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ خَالَفَ أَخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنْصُوصَةَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» مُحَالٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ دَاخِلًا وَاحِدًا دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ» عِنْدَ الْعَرَبِ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَقَعَ عَلَى وَاحِدٍ دُونَ الْجَمْعِ"
وكذلك روى أبو قتادة رضي الله عنه قال : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ»
واستدل رحمه الله بالقياس على الملائكة ، وهو قياس مع الفارق وفي مقابلة النص ، أما النص فقد تقدم ، أما الفارق فلعدم الدليل على أنهم مكلفين بالصلاة تكليفنا.

وقال : (وصلاة النافلة ليست بواجبة ، واستماع الذكر واجب بالسنة ، فكذلك بنبغي طي الاشتغال بالنافلة ، كما طوت الملائكة صحفهم ...)
تقدم معك أن القياس على الملائكة في مقابلة النص ، كما أنه لم يأتِ نص بأن صلاة التحية نافلة لهم ، ولو جاء ، لم يدل لأنهم يأتون مبكرين فمن أين له أنهم لم يصلوا.
وجواب باقي كلامه داخلٌ فيما تقدم.
والله أعلم
 
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,279
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: حل إشكالات الإنتصار

قال : (مسألة : قال : وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز النكاح بخاتم من حديد ، وبسورة من القرآن. وخالفتم أنتم في ذلك ، وقال مالك رحمه الله : لا يجوز)
أقول : الحديث رواه مالك في (موطأه) عن أبي حازم بن دينار، عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل عندك من شيء تصدقها إياه؟» فقال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك، فالتمس شيئا» فقال: ما أجد شيئا، قال: «التمس ولو خاتما من حديد»، فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل معك من القرآن شيء»؟ فقال: نعم. معي سورة كذا وسورة كذا - لسور سماها - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أنكحتكها بما معك من القرآن»
وعن مالك رواه الشافعي في (الأم).
والحديث متفق على صحته ، وقيل هو متواتر.
قال الإمام ابن الفخار : (يا أيها الرجل قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهل بلغك أو بلغ أحداً من الناس أن واحداً منهم نكح بما ذكرتَ ، وعلى الصفة التي وردت في الحديث بعد هذا الرجل المخصوص بذلك ؟ مع وجود الفقر في المهاجرين وأهل الصفة الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ، وفقراء أهل الصفة، أو بلغك عن أحد منهم بلاغاً لو أنعمت النظر لكان السكوت عن إيرادك للحديث المخصوص ، وأن لا توجب به العموم أولى لك ، لأن جميع حروف الحديث لو أنعمت النظر فيها وتدبرتها ، لدلت على التخصيص ، ومن أنكر أن هذه الحديث خصوص ، فقد كابر بغير دراية)
وأطال رحمه الله بما حاصل جوابه ، الحديث صحيح مقطوع بصحته ، وهو كافٍ في الحجية عندنا وعندكم ، وأن دعوى التخصيص لا برهان عليها .
وهذا كافٍ ، لكن دفعاً للشغب نقول : قال رحمه الله (ومن أنكر أن هذا الحديث خصوص فقد كابر بغير دراية ، من ذلك : 1. أنها وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فهذا خاص)
وجوابه : أنا لم نستدل بهذا الخصوص ، بل بغيره.
وقال : (2. ومنها : أنه أنكحها ، ولم يظهر لنا أنه سألها : هل تحب نكاح غيره عليه السلام أم لا؟)
والجواب : قوله (لم يظهر لنا) دليل على عدم علمه بما في نفس الأمر ، هل سألها أم لا ، وإلا لقطع بعدم سؤالها ، لأنه أدل على مراده من الخصوصية ، وعليه فلا دلالة لجواز أن يكون سألها التوكيل ونحوه ، أو تكون هبتها نفسها كافٍ فيه.
وقال : (3. ومنها أنه لم يسألها في الحديث : هل رضيت بذلك الرجل؟ ...)
وهذا كسابقه.
قال : (4. ومنها أنه لم يسألها : هل تحفظ السؤرة أم لا تحفظها ؟ وكان ظاهره : "إني زوجتكها لأن معك قرآن تقرأه" إذ لم يأمره أن يعلمها السور)
وجوابه : أن الحديث روي بعدة ألفاظ منها : "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ رَجُلًا امْرَأَةً عَلَى سُورَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ يُعَلِّمُهَا إِيَّاهُمَا" فبطلت دعواه. ولو لم يرد هذا اللفظ لكانت المقابلة تفيده ، أي (زوجتكها بما معك من القرآن) فإنه لا مقابلة أو معاوضة إن لم يكن التعليم مقصوداً ، واللفظ يفيد هذه المعاوضة.
ولم يرد أنه لم يسأل ، وسؤاله صلى الله عليه وسلم عن السور وتعديد الرجل لها لا معنى له ، فإنه لو قال : أحفظ عشر سور أو خمس سور ، كفاه في الدلالة على مقدار ما يحفظ ، لكن كأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يعرف أيحفظ من القرآن ما لا تعرفه هي فيعلمها أياه أم لا؟
فإن قيل : في الجواب بعض تعسف .
قلنا : لأن الدعوى التي نردها تعسف محض ، ونحن نتكلف رده ، وإلا كان الاكتفاء بصحة الحديث والاتفاق على حجيته كافٍ لخصمه.

قال : (وفي الحديث أنه لم يبح النكاح بخاتم الحديد حتى لم يجد شيئاً ...)
والجواب : إن أراد (لم يبح) أنه منع وحرم ذلك ، فهذه دعوى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد قال : "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
وإن قال : أردت ، أنه لم يذكر إباحته حتى لم يجد شيئاً .
قلنا : لأنه صلى الله عليه وسلم هنا وكيلها أو وليها ، فهو يتصرف بما فيه الحظ لها ، فلم يكن لينتقل إلى الأدون مع إمكان الأعلى.
والله أعلم
 
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,279
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: حل إشكالات الإنتصار

قال رحمه الله ص 141 : (مسألة : وذكر هذا الرجل حديث : "إذا أرسل الرجل كلبه ، وأكل ، لا يؤكل ، لأنه أمسك لنفسه" )
وقال المحقق في الحاشية : (حديث عدي هذا مشهور ، روي بألفاظ مختلفة ، ليس هذا منها ، ولعل المصنف ذكره بالمعنى. واللفظ القريب هو : عن عدي بن حاتم رضي الله عنه : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : إن قوم نصيد بهذه الكلاب؟ قال : "إن أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك ، وإن قتلن ، إلا أن يأكل الكلب ، فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه ، وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل" ... )
وعزاه للصحيحين مع تنبيهه أن اللفظ للبخاري.

أقول : هذا اللفظ ليس هو أقرب الألفاظ إلى لفظ المصنف ، وأقرب منه ما رواه الشيخان بلفظ : "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ" وهذا لفظ متفق عليه ، ووجه كونه أقرب أن المصنف نقل الجزم بالتعليل ، وهو هنا كذلك.

قال ابن الفخار : (وقال : إن مالكاً خالف الحديث الثابت ، فكيف جاز له مخالفته ؟ وقال : إذا أكل .. فيؤكل. ... فالجواب عن ذلك ـ وبالله التوفيق ـ : أن عدياً روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إذا أكل الكلب فلا تأكل" ورواه عدي أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إذا أرسلت كلابك المعلمة ، وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك ، [وإن قتلن] إلا إن أكله الكلب ، فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه"
وقال حذاق أئمة الحديث ، وأهل العلل : لما وردت هذه اللفظة في الحديث : "فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه" وجاء [لعل الصواب وها] الحديث بذلك؛ لأنه لا يجوز أن يكون قالٌ من قول النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه شك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق بالشك ، وإنما يحل ويحرم بيقين من الله عز وجل ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى، فلما وهى الحديث بهذه الألفاظ ، لجأنا إلى الإعتصام بالاعتصام إلى الحديث لا التباس فيه ، وهو ما روى عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله الله عليه وسلم أنه قال : "إذا أكل فكل" فقد أباح الأكل في هذا الحديث بيقين بعد أكل الكلب منه ، وفي كل الأخبار الواردة : إذا قتل الكلب فهي ذكاة ... )
أقول : أما حذاق أهل الحديث فقد صححوه ولم يعلوه بما ذكر ، لذا أخرجه الشيخان في صحيحيهما وصححه عامة أهل العلم ، ولا يعله حاذق أصلاً ـ على فرض وجوده ـ فضلاً عن أن يتعلل بتعليله بما ذكر ، فإنه صلى الله عليه وسلم جزم بالعلة في غير رواية بأسانيد صحيحة إلى الشعبي ، وجزم بالحكم في جميع الروايات ، إلا أن يريد بحذاق أهل الحديث بعض فقهاء المالكية القائلين بجواز أكل ما أكل منه الكلب من الصيد ، إلا أن هؤلاء لم يتعللوا بما ذكره المصنف ، بل بأن النهي عن أكل ما أكل منه الكلب زيادة ذكرها الشعبي ولم يذكرها همام ، وهو مردود بأن الكل ثقة ، وبأن لها شاهد من حديث ابن عباس وأبي رافع مع موافقته لظاهر كتاب الله كما سيأتي.
على أن الشك في التعليل غير التعليل بالشك ، فإن الثاني غير ممتنع كما في قوله صلى الله عليه وسلم : (لعله نزعه عرق) ومن جنسه قوله صلى الله عليه وسلم (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) كما أن لهذه المسألة تعلق باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن جوزه لا يشكل عليه الشك حتى لو كان في نفس الحكم أو علته ، بناءً على أن الحكم أو علته من اجتهاده صلى الله عليه وسلم ، ولم يجزم به لجواز أن ينبهه سبحانه وتعالى كما في أسارى بدر مثلاً ، فلما مات صلى الله عليه وسلم أمنا أن يكون اجتهاده خطأً ، هذا كله على فرض أنه شك في الحكم أو في علته ، وليس في الحديث شيء من ذلك.
أما ما استدل به من حديث عبدالله بن عمرو والذي فيه "إذا أكل فكل" فهو صحيح أو جيد من جهة إسناده ، وجاءت روايات بمعناه، فقد أجاب عنها المانعون بوجوه :
الأول : الكلام في رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وهو مشهور ، لكن الراجح أنها مقبولة كما تقدم.
الثاني : تضعيفه لمعارضة ما هو أصح منه سنداً ، وهو حديث عدي بن حاتم في الصحيحين مع ما له من شواهد.
الثالث : الجمع بأن حديث عمرو بن شعيب عام في كل ما أمسكه الكلب ، وحديث عدي بن حاتم فيما أمسكه على نفسه أو جاز أن يكون أمسكه على نفسه ، ولا تعارض بين عام وخاص. وبما سيأتي أيضاً.

وقول ابن الفخار رحمه الله ص 143: (فقد أباح الأكل في هذا الحديث بيقين بعد أكل الكلب منه)
فيه نظر من جهة أن دلالة الحديث دلالة عموم ، وهي ليست بدلالة يقينية عندنا وعندهم.


أما قوله : (فلما اختلفوا رجعنا إلى حديث عبدالله بن عمرو، وإلى ما أوجبه القرآن مع موافقة حديث عبدالله لظاهر القرآن . قال الله تبارك وتعالى : {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} )
أقول : أما كون حديث عبدالله بن عمرو موافقاً لظاهر القرآن ، فممنوع ، فإن الذي أحله الله سبحانه في هذه الآية هو ما أمسك الكلب على صاحبه ، ومفهومه أن ما لم يمسكه على صاحبه لا يؤكل ، وهو الموافق لحديث عدي ، إذ فيه التصريح بإباحة ما أمسكه الكلب على سيده اتباعاً لمنطوق الآية ، ومنع ما لم يمسكه على سيده أو خشي أنه لم يمسكه على سيده اتباعاً لمفهومها.
بل لو لم نقل بدلالة المفهوم لكان المنع هو الموافق لكتاب الله سبحانه ، كما قال الإمام ابن حجر : "َرِوَايَةُ عَدِيٍّ صَرِيحَةٌ مَقْرُونَةٌ بِالتَّعْلِيلِ الْمُنَاسِبِ لِلتَّحْرِيمِ وَهُوَ خَوْفُ الْإِمْسَاكِ عَلَى نَفْسِهِ مُتَأَيِّدَةٌ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَيْتَةِ التَّحْرِيمُ فَإِذَا شَكَكْنَا فِي السَّبَبِ الْمُبِيحِ رَجَعْنَا إِلَى الْأَصْلِ".
أما حديث عبدالله بن عمرو فقد ألغى الوصف رأساً مخالفة منه لمنطوق اللآية ومفهومها ، فإن ما أكل منه الكلب ليس هو ما أمسكه على سيده .

أما قوله : (وما أمسكت علينا هو ما أدركت ذكاته ، وما لم تدرك ذكاته إذا قتلته الجوارح ، فإذا صحت ذكاته بقتل الجوارح له ، فلا يضر أكله ، لا فرق بين أكله بعد الذكاة ، وبين أكله من شاة مذبوحة)
هذا كلام ينقض آخره أوله ، فإنه لو كان ما أمسكت علينا هو ما أدركنا ذكاته ، فما لم ندرك ذكاته لم تمسكه علينا لا محالة ، فهو خلاف قوله : (فإذا صحت ذكاته بقتل الجوارح له ...) فإن هذا مبني على أن ما لم ندرك ذكاته فهو مما أمسكته علينا أيضاً وهو خلاف مقتضى تفسيره أولاً.
وهذا المقدار الزائد ، وهو أن ما قتلته الجوارح صحت ذكاته ليس في كتاب الله ، فلا معنى للاشتهاد به على تقوية حديث عبدالله بن عمرو.
قال رحمه الله : (فإن قلوا : أكل الكلب ينبئ أنه أمسك فقتل لنفسه ؟

قيل لهم : قد يجوز أن يمسك يريد غيره ، فيأكل بعد تقدم إذارادته لغيره ، ويمكن أن يمسك يريد لنفسه ثم يكسل فلا يأكل ... ) إلى آخر كلامه.
وهذا لا فائدة في تتبعه أصلاً إلا قطع الشغب. فإن العبرة بالظاهر والظن الغالب ، وهو حاصل بأن يمسك الكلب فلا يأكل وبأن يمسك ويأكل ، وهو كافٍ.


والله أعلم
 
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,279
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: حل إشكالات الإنتصار

قال ابن الفخار ص 146: (قال هذا الرجل : ومالك يقول في الحديث الذي لا يثبت من منع بيع الحيوان باللحم ، ثم يخالفه خلافاً شديداً ، لأنه وإن كان يستعمله فإنه يخالفه ، وذلك أنه يجيز الحيوان باللحم ويكره اليحيوان بالحيوان ، يجيز الشاة الحية بالإوزة المذبوحة ، ويكره الدجاجة الحية بالحجلة الحية ويقول : ليس معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من صنف واحد. قلنا له : وما دليلك على ذلك ، أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرت ؟ وما تقول إن خالفك غيره فقال : إن معنى حديثه صلى الله عليه وسلم فيا كان من أصناف مختلفة ، دون أن يكون من صنف واحد ، ألك في النظر فضل عليه ؟)
أقول : هذا الإعتراض يشير بقوة إلى أن المعترض هو ابن حزم ، ويشبه أن يكون كتب اعتراضه وقد ترك التمذهب بمذهب الشافعي أو قريب منه.
وعلى كل حال ، فحديث النهي عن الحيوان باللحم صحيح وإن روي مرسلاً ، فإنه روي من عدة طرق منها طريق ابن المسيب مرسلاً ومنها طريق الحسن عن سمرة وعمل بمقتضاه أبو بكر الصديق وناهيك به ، وله شاهد من حديث ابن عمر عند البزار ، وروي مرفوعاً من حديث ابن عباس ، والصواب وقفه ، ومن طريق سهل بن سعد والصواب أنه وهم وأنه من حديث سعيد بن المسيب مرسلاً كما تقدم.
قال ابن الفخار مجيباً : (إعلم أن الحديث وإن لم يثبت فقد عضده نظيره من الحديث الثابت الذي صح سنده ، واستقامت طريقته ، وهو ما رواه ابن عمر قال : "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة ، وهي : أن يبيع تمر حائط إن كان نخلاً بتمر كيلاً ، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً ، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام ، نهى عن ذلك كله" . ألا ترى أنه إنما توجه النهي في كل صنف أن يباع بصنفه ، ولم يمنع أن يباع بغيره من أصناف الطعام ، فإن اسم الطعام يشمل الجميع كما يشمل اسم الحيوان جميع الحيوان ، ولكن إنما توجه النهي وتوجهت المزابنة إلى الصنف الواحد من الطعام دون سائر الطعام كذلك الحيوان باللحم من باب المزابنة ، فتوجه النهي إلى الصنف الواحد من الحيوان دون ما شمله اسم الحيوان ...)
أقول : نقل المحقق عن ابن القاسم توجيهه لكلام الإمام مالك في اللحم بالحيوان بأن النهي لموضع الفضل فيه ، والمزابنة فيما بنهما ، وعليه جرى المعترض والمجيب ، وهو معنى حسن ممكن في نفسه ، ولكنه محض رأي يعارض عموم الحديث ، وثمة فرق ؛ وهو أن التمر في النخل بتمر كيلاً وكذا الكرم بالزبيب والزرع بالطعام كلها ربوي بربوي ، يخشى فيه الفضل ، وليس كذلك الحيوان باللحم ، فإن الحيوان ليس بربوي والفضل فيه غير ممتنع ، وعليه المعنى في النهي عن اللحم بالحيوان غيره في المزابنة .

فصح مذهب الشافعي من المنع من بيع اللحم بالحيوان مطلقاً لعموم الحديث مع عدم المخصص.
والله أعلم.
 
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,279
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: حل إشكالات الإنتصار

قال ابن الفخار رحمه الله ص152 : (وقال هذا الرجل : قال مالك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" ، قال مالك : إن معنى ذلك لمن كان وحده ، دون من كان وراء الإمام.
قلنا لأصحابه : أهكذا نص الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
فإن قالوا : لم ينص على ذلك ، لكنه معناه عندنا.
قلنا لهم : لئن كان معناه عندكم فيمن كان وحده دون أن يكون وراء إمام ، فإن معناه عندنا على ضد ما قلتم ، فنقول : معناه لمن كان وراء إمام دون أن يكون وحده ، فقولهم في هذا محال وتناقض من المقال)

أراد المعترض أن دعوى المالكية أن المراد بالحديث من كان وحده خالية عن الدليل كما أن عكسه ـ أي حمل الحديث على من كان خلف الإمام ـ كذلك ، فإن جاز رد العكس بخلوه عن الدليل ، فكذلك دعوى المالكية.
أقول : وفي هذا المراد نظر ، من جهة أن دعوى المالكية تؤيدها النصوص ولو ظاهراً كما سيأتي وسيأتي مناقشتها ، كما يؤيدها النظر من جهة أن سكوت المأموم في الجهرية تتحصل به فائدة وهي الإنصات، وهي الحامل لهم على حمل الحديث على المأموم دون المنفرد، فما المعنى الذي من أجله خص المعترض المنفرد عن المأموم؟

وقد أجاب ابن الفخار بقوله سبحانه : {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
وبحديث (وإذا قرأ فأنصتوا)
وحديث (هل قرأ أحد معي آنفاً)
والإجماع على أن من أدرك ركوع الإمام فقد أدرك الركعة مع أنه لم يقرأ الفاتحة .
وبأن آمين خلف الإمام تقوم مقام القراءة .
وأشار إلى حديث (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة).
وهذا الحديث الأخير أدل شيء على دعواه.

أما توجيه كلام الشافعية فنقول : استدل الشافعية بالحديث الذي ذكره المعترض "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"
وبحديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ» ثَلَاثًا غَيْرُ تَمَامٍ. فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: «اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ»
وبحديث مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: "تَقْرَءُونَ؟" قُلْنَا: نَعَمْ. يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ؛ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِهَا"
وقد نص صلى الله عليه وسلم على القراءة في هذه الأحاديث فبطل الاكتفاء بالتأمين ، بدليل أن الجنب ليس منهياً عن قول آمين إذا سمع من يقرأ الفاتحة ، ولو كان التأمين قراءة للفاتحة لنهيناه.
وأجابوا عن الآية وحديث (وإذا قرأ فأنصتوا) بأنهما عامان ، والحديثين خاصان بالقراءة في الصلاة ، ولا تعارض بين عام وخاص.
وبأن الإنصات غير متصور في السرية ، وفي الجهرية يقرأ بها بين سكتات الإمام أو بعد فراغه من الفاتحة وقبل شروعه فيما بعدها.
وزادوا في جوابهم عن الحديث (وإذا قرأ فأنصتوا) بتعليل هذه الزيادة كما قاله جماعة من حذاق علماء الحديث.
وعن حديث (هل قرأ أحدٌ معي) أن هذا كان في صلاة جهرية ، وأن المنازعة فيه لا تتصور إلا إذا كان من قرأ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ جهراً ، فالنهي عن القراءة خلف الإمام جهراً خاصة.
ومع ذلك روي بلفظ صريح في استثناء الفاتحة "فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة إلا بها" وقد تقدم.
أما الاستدلال بالإجماع على أن من أدرك الإمام راكعاً فقد أدرك الركعة ، فلو سلمناه فهو مخصوص بهذا الإجماع جمعاً بين الأدلة ، وهو خير من ضرب بعضها ببعض.
على أنه قد قال بعض الشافعية بأن الركعة غير محتسبة ويأتي بركعة مكانها لعدم قراءته الفاتحة فيها.
أما حديث : (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) فقد قال فيه الحافظ ابن حجر : "حديث ضعيف عند الحفاظ".

والله سبحانه أعلم
 
أعلى