العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

وقفات مع موضوع المسعى الجديد بقلم الشيخ علوي بن عبد القادر السقاف

إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
وقفات مع موضوع المسعى الجديد

بقلم المشرف على موقع الدرر السنية
الشيخ علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف
aasaggaf@dorar.net
16/4/1429هـ


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
بادئ ذي بدء أود التنويه إلى أن هذه الوقفات ليست فتوى بصحة السعي في المسعى الجديد أو بطلانه، ولا هي بحث علمي يسرد الأدلة ويناقشها، ولكنها توصيف للحال وتكييف للمشكلة وتوضيح للموقف الذي ينبغي أن يتخذه المسلم إزاءها.

الوقفة الأولى:
أن هذه القضية معضلة وليست بالهينة، ونازلة من النوازل التي ما ينبغي أن يفتي فيها متوسطو طلبة العلم فضلاً عن صغارهم، وما ينبغي أن يُترك من هب ودب من الإعلاميين وغيرهم يخوضون فيها بجهل أوهوى أو لأطماع شخصية.

الوقفة الثانية:
أنها قضية تمس ركناً من أركان الإسلام، وعبادة من أشرف العبادات (الحج والعمرة)، فعلى المسلم ألاَّ يستخف بها ويبحث عن أيسر الفتاوى فيها، بل عليه أن يتحرى أصوبها وأحوطها ولا يغتر بكثرة المفتين والمؤيدين، لكن عليه أن ينظر في أقوال أكثرهم علماً وورعاً، وأحرصهم على اتباع السنة.

الوقفة الثالثة:
على طالب الحق ألا يغتر بما تتناقله وسائل الإعلام من مجلات وصحف وإنترنت وغيرها فهذه ليست مصادر لتلقي العلم إلا ما كان منها منقولاً عن الثقات الأثبات.

الوقفة الرابعة:
أصل الخلاف في المسألة قضيتان:
الأولى: هل نحن مقيدون في السعي بين الصفا والمروة بعرضهما أم يجوز الخروج عنهما بما يقاربهما أو يحاذيهما؟
والثانية: كم عرض الصفا والمروة وهل يتسعان فتشملهما التوسعة الجديدة أم لا؟
لذلك انقسم المتكلمون في هذه المسألة إلى ثلاث فئات:
الأولى:ترى جواز السعي خارج عرض جبلي الصفا والمروة.
والثانية:ترى أنه لابد من السعي بين الجبلين عرضاً وطولاً ولكنهم يرون أن عرضهما يتسع ليشمل المسعى الجديد وزيادة ، وهاتان الفئتان تجوِّزان السعي في المسعى الجديد .
والثالثة:ترى أنه لابد من السعي بين الجبلين عرضاً وطولاً وأن المسعى الجديد خارج عرض الجبلين من جهة الشرق المقابلة للكعبة من الجهة الأخرى، وبالتالي فهم لا يجيزون السعي في المسعى الجديد.

الوقفة الخامسة:
أن غالبية هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية إضافة إلى علماء كبار ليسوا فيها، هم من الفئة الثالثة. وحجتهم أنه ثبت تاريخياً أن عرض المسعى ستة وثلاثون ذراعاً تقريباً أي ما يعادل 20 متراً وهو عرض المسعى الحالي بعد آخر توسعة حصلت له عام 1375هـ، وأن الجدار القائم وضع بفتوى من سماحة مفتي المملكة آنذاك الشيخ محمد بن إبراهيم بعد أن كلف لجنة عاينت الموقع وحددت عرض الصفا وبناء على هذه الفتوى تمت التوسعة المذكورة آنفاً، وهذا أقوى دليل لدى المانعين.

الوقفة السادسة:
أنه صدرت خلال الأشهر الماضية فتاوى لبعض العلماء وبحوث علمية لبعض طلبة العلم ودراسات تاريخية وجغرافية وجيولوجية وتقارير هندسية لمنطقة المسعى وتم توثيق شهادة عدد من كبار السن من أهالي مكة لدى المحكمة بمكة يشهدون أن المسعى ممتد إلى التوسعة الجديدة، وهذا أقوى أدلة المجيزين، وقد قرأت هذه الفتاوى والبحوث، وتناقشت مع عدد ممن لديهم الصور والخرائط والتقارير الجغرافية والجيولوجية واطلعت على شهادة الشهود.

الوقفة السابعة:
أن وسائل الإعلام نقلت لنا تأييد عدد كبير من علماء ومفتي العالم الإسلامي لبناء التوسعة الجديدة وأغلبهم علق ذلك بالمصلحة والتوسعة على الحجاج والمعتمرين، وهذا فيه دلالة على أحد أمرين: إما أن يكون هذا المؤيِّد لم يحط علماً بالقضية ويظن –ثقة- أن المسعى الجديد لا يخرج عن عرض الصفا، أو أنه ممن لا يرون بأساً بالسعي خارج الصفا تيسيراً على الناس.

الوقفة الثامنة:
أن علماء الشيعة كبارهم وصغارهم مختلفون كذلك فمنهم المجيز ومنهم المانع، وإنما ذكرتهم –مع أنه لا يُعتد بفقههم- لما لهم من ثقل سياسي وحضور كثيف في الحج والعمرة وقد يكون له تأثير في مسار القضية.

الوقفة التاسعة:
إن أعمال التوسعة للمسعى حتى كتابة هذه السطور تسير على قدم وساق، ليل نهار، وما هي إلا أشهر ويصبح المسعيان الجديد والقديم -بعد إعادة بنائه- جاهزين للاستخدام وتتحول القضية من نقاش علمي نظري إلى تطبيق عملي وسيسأل الناس نحج أم لا نحج؟ نعتمر أم لا نعتمر؟ نسعى أم لا نسعى؟ وكيف نسعى؟

الوقفة العاشرة:
وهي بيت القصيد، ما موقف المسلم من كل ما يجري ؟ وما العمل الآن؟ وما المتوقع أن يحصل في الأشهر القليلة القادمة؟ وما الذي سيسفر عنه هذا الخلاف القائم اليوم؟ وهذه كلها أسئلة تحتاج إلى إجابة:
أولاً: من الناحية الشرعية فلن يعدو الأمر ثلاث احتمالات:
1- أن يقتنع المانعون بأدلة المجيزين ويصدروا فتوى بالجواز (ولو بالأغلبية)
2- أن يقتنع المجيزون بأدلة المانعين ويتراجعوا عن أقوالهم (ولو بالأغلبية) وأعني بهم العلماء وبعض طلبة العلم الذين كتبوا بحوثاً علمية في الموضوع أما أصحاب الإشادة والتهنئة والتبريك فليسوا من أهل هذه المسائل في قبيل ولا دبير.
3- أن يبقى كلٌ على رأيه. وإن تراجع بعض هؤلاء وبعض هؤلاء بما لا يؤثر في رفع الخلاف.
ثانياً: من الناحية العملية فلن يعدو الأمر ثلاثة احتمالات أيضاً وهي تبع للناحية الشرعية:
1- في حال اقتناع المانعين بأدلة المجيزين فالأمر واضح، وسيمضي المشروع كما خُطط له وسيسعى الناس في المسعى الجديد (إلا قليل منهم ولا حكم لهم)
2- في حال اقتناع المجيزين بأدلة المانعين فالأمر أيضاً واضح وسيكون السعي في المسعى القديم بعد أن يكون قد تم تجديده آنذاك، أما مبنى المسعى الجديد فستكون له وظيفة أخرى يحددها المسئولون عن إدارة المسجد الحرام.
3- الحالة الثالثة وهي بقاء كلٍّ من الفريقين –أو أغلبهم- على رأيه، فها هنا لا يخلو الأمر من حالين:
الحال الأول: أن يمضي الأمر بما يوافق رأي المانعين فيؤول الأمر إلى ما ذُكر قبل قليل وهو: حال اقتناع المجيزين بأدلة المانعين
الحال الثانية: أن يمضي الأمر بما يوافق رأي المجيزين وهنا لا يخلو من حالين أيضاً:
الأول: أن يكون المسعى الجديد في اتجاه واحد من الصفا إلى المروة والقديم في اتجاه واحد أيضاً من المروة إلى الصفا –وهذا هو ما صُمم له حسب اطلاعي على المخططات- وهنا لا بد أن يكون للعلماء المانعين وقفة مع الحدث وفتوى تتناسب مع هذه النازلة ومع الوضع القائم.
الثاني: أن يكون كلٌّ من المسعيين القديم والجديد باتجاهين، فيكون السعي في مبنى المسعى الجديد من باب الاختيار لا الإجبار، وهنا سيقلد الساعون من يثقون في فتواه وسيتبع بعضهم الأيسر له دون النظر في الحكم كما هو الحال في السعي في الطابق العلوي.
وعليه فالخوض في هذا الآن ليس مجدياً وفيه تضييع للأوقات، كما أنه ليس من الحكمة التسرع في إطلاق الأحكام واتخاذ موقف قد يندم عليه المرء مستقبلاً.

الوقفة الحادية عشرة:
ما العمل الآن وقد تم هدم المسعى القديم ولا يوجد إلا المسعى الجديد ومن العلماء من يفتي بجواز وإجزاء السعي فيه ومنهم من يفتي ببطلانه؟
والجواب أنه مادام الأمر كذلك فلا يخلو الأمر من حالات ثلاث:
1-أن يكون المرء مقتنعاً بقول المانعين فلا يسعه خلافه ولا يجزئه السعي.
2- أن يكون المرء مقتنعاً شرعاً لا هوىً بقول المجيزين فيقلدهم وكلٌّ يتحمل مسئولية فتواه.
3-أن يكون متردداً ولم يظهر له رجحان أحد القولين فهذا الأولى في حقه الأخذ بالأحوط وبما عليه الأكثر علماً واتباعاً للسنة.
بقي أمرٌ آخر، وهو: هل هذا الاختلاف من الأمور الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف ولا إنكار في مسائل الاجتهاد أم هو من المسائل التوقيفية المنصوص عليها؟
وهذا محله الوقفة الأخيرة.

الوقفة الأخيرة:
هذه المسألة المعضلة، والنازلة المجلجلة، من حيث النظر إلى النصوص الشرعية فهي مسألة توقيفية وليست اجتهادية فالسعي بين الصفا والمروة طولاً وعرضاً يكاد يكون محل اتفاق بين العلماء ولو خالف البعض فيه، ومن حيث توصيف الحال وهل المسعى الجديد يقع ضمن الصفا والمروة أم خارجهما؟ فمحل نظر وبحث واجتهاد وعليه يدور الخلاف.
وبالنظر إلى أدلة الفريقين تبين أن أقوى دليل لدى المانعين كما سبق ذكره شهود العيان عند بدء أول توسعة للمسعى بين عامي 1374هـ و 1378هـ وأقوى دليل لدى المجيزين شهود كبار السن الموجودين الآن، وهذه المسألة تحتاج إلى بسط ليس هذا محله، ولكن لا بأس في الاختصار لتتضح الصورة:
(1) أما شهود العيان فكان ذلك عام 1374هـ حيث شُكلت لجنة لمعاينة موضع المسعى ورفعت تقريرها لسماحة مفتي المملكة آن ذاك الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ والذي بناء عليه أصدر فتواه قائلاً: (تأملت قرار الهيئة المنتدبة من لدن سمو وزير الداخلية، وهم فضيلة الأخ الشيخ عبدالملك بن إبراهيم وفضيلة الشيخ عبدالله بن دهيش وفضيلة الشيخ علوي المالكي حول حدود موضع السعي مما يلي الصفا المتضمن أنه لا بأس بالسعي في بعض دار آل الشيبي والأغوات المهدومتين هذه الأيام توسعة، وذلك البعض الذي يسوغ السعي فيه هو ما دفعه الميل الموجود في دار آل الشيبي إلى المسعى فقط وهو الأقل، دون ما دفعه هذا الميل إلى جهة بطن الوادي مما يلي باب الصفا وهو الأكثر؛ فإنه لا يسوغ السعي فيه، فبعد الوقوف على هذا الموضع في عدة رجال من الثقات رأيت هذا القرار صحيحًا، وأفتيت بمقتضاه) (فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 5/132)
والجدير بالذكر هنا أن اللجنة كما في تقريرها اصطحبت معها مهندساً وفنياً وقالت في نهاية التقرير: (هذا ما تقرر متفقاً عليه بعد بذلنا الوسع، سائلين من الله تعالى السداد والتوفيق) ثم وقع الجميع، وهذا يعني أن قرارهم هذا كان إجماعاً منهم كما أنهم بذلوا فيه وسعهم وطاقتهم.
وفي يوم الثلاثاء الموافق 10/2/1378هـ شُكلت لجنة أخرى من عدد من المشايخ وأعيان أهالي مكة وهم: الشيخ عبدالملك بن إبراهيم، والشيخ عبدالله بن جاسر، والشيخ عبدالله بن دهيش، والسيد علوي المالكي، والشيخ محمد الحركان، والشيخ يحيى أمان، وبحضور صالح قزاز وعبدالله ابن سعيد مندوبي محمد بن لادن لمعاينة مساحة الصفا والمروة، واستبدال الدرج بمزلقان، ونهاية أرض المسعى ومما جاء في تقرير اللجنة: (وبالنظر لكون الصفا شرعًا هو الصخرات الملساء التي تقع في سفح جبل أبي قبيس، ولكون الصخرات المذكورة لا تزال موجودة للآن وبادية للعيان، ولكون العقود الثلاثة القديمة لم تستوعب كامل الصخرات عرضًا. فقد رأت اللجنة أنه لا مانع شرعًا من توسيع المصعد المذكور بقدر عرض الصفا. وبناء على ذلك فقد جرى ذرع عرض الصفا ابتداء من الطرف الغربي للصخرات إلى نهاية محاذاة الطرف الشرقي للصخرات المذكورة في مسامتة موضع العقود القديمة...) (فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 5/141)

وجاء في مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (5/138) :
(من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم أيده الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد:
فبناء على أمركم الكريم المبلغ إلينا من الشيخ يوسف ياسين في العام الماضي حول تنبيه الابن عبدالعزيز على وضع الصفا ومراجعة ابن لادن لجلالتكم في ذلك، وحيث قد وعدت جلالتكم بالنظر في موضوع الصفا ففي هذا العام بمكة المكرمة بحثنا ذلك، وتقرر لدي ولدى المشايخ: الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ علوي عباس المالكي، والأخ الشيخ عبدالملك بن إبراهيم، والشيخ عبدالله بن دهيش، والشيخ عبدالله بن جاسر، والشيخ عبدالعزيز ابن رشيد: على أن المحل المحجور بالأخشاب في أسفل الصفا داخل في الصفا، ماعدا فسحة الأرض الواقعة على يمين النازل من الصفا فإننا لم نتحقق أنها من الصفا، أما باقي المحجور بالأخشاب فهو داخل في مسمى الصفا، ومن وقف عليه فقد وقف على الصفا كما هو مشاهد، ونرى أن ما كان مسامتاً للجدار القديم الموجود حتى ينتهي إلى صبة الأسمنت التي قد وضع فيها أصياخ الحديد هو منتهى محل الوقوف من اليمين للنازل من الصفا. أما إذا نزل الساعي من الصفا فإن الذي نراه أن جميع ما أدخلته هذه العمارة الجديدة فإنه يشمله اسم المسعى، لأنه داخل في مسمى ما بين الصفا والمروة، ويصدق على من سعى في ذلك أنه سعى بين الصفا والمروة. هذا وعند إزالة هذا الحاجز والتحديد بالفعل ينبغي حضور كلاً من المشائخ: الأخ الشيخ عبدالملك، والشيخ علوي المالكي، والشيخ عبدالله بن جاسر والشيخ عبدالله بن دهيش، حتى يحصل تطبيق ما قرر هنا، وبالله التوفيق)

وعندما أرادت الدولة السعودية عام 1393هـ توسعة المسعى أصدرت هيئة كبار العلماء وقتها فتوى بجواز السعي فوق سقف المسعى نظراً لأن المسعى قد استوعب مابين الصفا والمروة طولاً وعرضاً وجاء في الفتوى: (وبعد تداول الرأي والمناقشة انتهى المجلس بالأكثرية إلى الإفتاء بجواز السعي فوق سقف المسعى عند الحاجة، بشرط استيعاب ما بين الصفا والمروة، وأن لا يخرج عن مسامتة المسعى عرضاً)
وكل هذا يعني أن حدود نهاية الصفا قد تم تحديدها منذ ذلك الوقت وبناء عليه تم بناء الجدار الواصل من الصفا إلى المروة لذلك كان يفتي العلماء بعد ذلك ببطلان من سعى خارج هذا الجدار.
(2) وأما شهود الحال فقد وُثقت شهادة سبعة من كبار السن من أهالي مكة بالمحكمة العامة بمكة المكرمة وصدر بها صك شرعي بتاريخ 24/12/1427هـ جاءت شهاداتهم على النحو التالي:
1- فوزان بن سلطان بن راجح العبدلي الشريف من مواليد عام 1349هـ، قرر قائلاً: إنني أذكر أن جبل المروة يمتد شمالاً متصلاً بجبل قعيقعان وأما من الجهة الشرقية فلا أتذكر وأما موضوع الصفا فإنني أتوقف.
2- عويد بن عياد بن عايد الكحيلي المطرفي، من مواليد عام 1353هـ، قرر قائلاً: إن جبل المروة كان يمتد شرقاً من موقعه الحالي بما لا يقل عن ثمانية وثلاثين متراً، وأما الصفا فإنه يمتد شرقاً بأكثر من ذلك بكثير.
3- عبد العزيز بن عبدالله بن عبدالقادر شيبي، من مواليد عام 1349هـ، قرر قائلاً : إن جبل المروة يمتد شرقاً وغرباً وشمالاً ولا أتذكر تحديد ذلك بالمتر، وأما الصفا فإنه يمتد شرقاً بمسافة طويلة حتى يقرب من القشاشية بما لا يزيد عن خمسين متراً.
4- حسني بن صالح بن محمد سابق، من مواليد عام 1357هـ، قرر قائلاً : إن جبل المروة يمتد غرباً ويمتد شرقاً بما لا يقل عن اثنين وثلاثين متراً. وكنا نشاهد البيوت على الجبل ولما أزيلت البيوت ظهر الجبل وتم تكسيره في المشروع، وأما جبل الصفا فإنه يمتد من جهة الشرق بأكثر من خمسة وثلاثين أو أربعين متراً.
5- محمد بن عمر ابن عبدالله زبير، من مواليد عام 1351هـ، قرر قائلاً: إن المروة لا علم لي بها وأما الصفا فالذي كنت أشاهده أن الذي يسعى كان ينزل من الصفا ويدخل في برحة عن يمينه، وهذه البرحة يعتبرونها من شارع القشاشية ثم يعود إلى امتداد المسعى بما يدل على أن المسعى في تلك الأماكن أوسع.
6- درويش بن صديق بن درويش جستنيه، من مواليد عام 1357هـ، قرر قائلاً: إن بيتنا سابقاً كان في الجهة الشرقية من نهاية السعي في المروة وكان يقع على الصخور المرتفعة التي هي جزء من جبل المروة، وقد أزيل جزء كبير من هذا الجبل بما في ذلك المنطقة التي كان عليها بيتنا وذلك أثناء التوسعة التي تمت في عام 1375هـ، وهذا يعني امتداد جبل المروة شرقاً في حدود من خمسة وثلاثين إلى أربعين متراً شرق المسعى الحالي ، وأما الصفا فإنها كانت منطقة جبلية امتداداً متصلاً بجبل أبي قبيس ويعتبر جزءاً منه وكنت أصعد من منطقة السعي في الصفا إلى منطقة أجياد خلف الجبل.
7- محمد بن حسين بن محمد سعيد جستنيه، من مواليد عام 1361هـ، قرر قائلاً إن جبل المروة كان يمتد من الجهة الشرقية والظاهر أنه يمتد إلى المدعى وأما جبل الصفا فإنه يمتد شرقاً أيضاً أكثر من امتداد جبل المروة.
والملاحظ على هذه الشهادات أنها غير متطابقة فمنهم من لا يذكر الامتداد، ومنهم من أثبت الامتداد ولا يذكر المسافة، والذين أثبتوها على خلاف كم هي؟ ولم يتفق اثنان على قول واحد، وإن كان الغالبية يرون –حسب ذاكرتهم- أن هناك زيادة على الموجود حالياً.

وخلاصة الأمر أن دليل المانعين القوي هو شهود العيان قبل البدء في أول توسعة عام 1375هـ ودليل المجيزين القوي هو شهادة الشهود بعد ذلك بـ 54 عاماً، ولكلٍ منهما أدلة أخرى لا ترفع الخلاف، من ذلك نقل المانعين لأقوال عدد من العلماء وخاصة علماء الشافعية والتي منها ما ذكره النووي في (المجموع) (8/76): (قال الشافعي والأصحاب: لا يجوز السعي في غير موضع السعي فلو مر وراء موضع السعي في زقاق العطارين أو غيره لم يصح سعيه لأن السعي مختص بمكان فلا يجوز فعله في غيره كالطواف، قال أبو علي البندنيجي في كتابه (الجامع): موضع السعي بطن الوادي، قال الشافعي في القديم: فإن التوى شيئاً يسيراً أجزأه وإن عدل حتى يفارق الوادي المؤدي إلى زقاق العطارين لم يجزئه) انتهى.
ومن ذلك أيضاً قول الرملي الشافعي كما في (نهاية المحتاج شرح المنهاج) (3/383): (إن الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة كل مرة، ولو التوى في سعيه عن محل السعي يسيراً لم يضر كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه).
فقول الشافعي: (إن التوى شيئاً يسيراً أجزأه) مفهومه: لو التوى كثيراً لم يجزئه فكيف بالعشرين متراً وهي زيادة المسعى الجديد؟!
وغيرها من الأقوال الموجودة في مظانها من كتب الفقه وذكرها عدٌد ممن كتب في هذا الموضوع بتوسع وليس هنا محل التفصيل فيها.
لذلك ختمت اللجنة -التي تمت الإشارة إليها وفيها عددٌ من علماء وأعيان الحجاز ونجد- تقريرها بقولها: (وحيث أن الحال ما ذكر بعاليه، ونظراً إلى أنه في أوقات الزحمة عندما ينصرف بعض الجهال من أهل البوادي ونحوهم من الصفا قاصداً المروة يلتوي كثيراً حتى يسقط في الشارع العام فيخرج من حد الطول من ناحية باب الصفا والعرض معاً ويخالف المقصود من البينية بين الصفا والمروة. وحيث أن الأصل في السعي عدم وجود بناء وأن البناء حادث قديما وحديثا. وأن مكان السعي تعبدي، وأن الالتواء اليسير لا يضر، لأن التحديد المذكور بعاليه العرض تقريبي، بخلاف الالتواء الكثير كما تقدمت الإشارة إليه في كلامهم فإننا نقرر ما يلي:.........)
كما استشهد المانعون بذرع عددٍ من المؤرخين عرض المسعى كالأزرقي والفاكهي وغيرهما وقد نصوا أنه خمسة وثلاثون ذراعاً ونصف ذراع، أي ما لا يزيد عن عشرين متراً وهو عرض المسعى القديم.

أما المجيزون فمن أدلتهم الأخرى أن الصفا والمروة كانا أكبر مما هما عليه الآن، وأن الفقهاء لم يحددوا عرض المسعى، وأن المؤرخين اختلفوا فيه وأن لديهم دراسة جيولوجية وخريطة تم إعدادها قبل عشرين عاماً توضح امتداد جبل الصفا إلى جبل أبي قبيس، الخ. ولكن يبقى كما سبق ذكره أن أقوى أدلة لدى الطرفين: شهود العيان عام 1375هـ وشهود الحال الآن.

وبعد:
فعلى المسلم أن يتحرى الصواب ولا يتعصب لرأي أو شخص، فالمسألة لها ما بعدها سنين عديدة وعليه أن يحذر من أن يأخذه الحماس والعاطفة والتعصب لرأي دون آخر، وليتذكر الوقوف بين يدي الله تعالى وألا يجعل ما يتوهم أنه مصلحة أو تيسير على الناس هو الفيصل في القضية، كما لا يضيق على الناس ما يسَّره الله وأباحه لهم.

وأختم بكلام للشيخ محمد بن إبراهيم يتناسب مع هذا المقام حيث قال كما في مجموع فتاويه (5/146): (إنه يتعين ترك الصفا والمروة على ما هما عليه أولاً، ويسعنا ما وسع من قبلنا في ذلك، ولو فتحت أبواب الاقتراحات في المشاعر لأدى ذلك إلى أن تكون في المستقبل مسرحاً للآراء، وميداناً للاجتهادات، ونافذة يولج منها لتغيير المشاعر وأحكام الحج، فيحصل بذلك فساد كبير. ... ولا ينبغي أن يلتفت إلى أماني بعض المستصعبين لبعض أعمال الحج واقتراحاتهم، بل ينبغي أن يعمل حول ذلك البيانات الشرعية بالدلائل القطعية المشتملة على مزيد البحث والترغيب في الطاعة والتمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته في المعتقدات والأعمال، وتعظيم شعائر الله ومزيد احترامها)

و ما أحوج طلاب العلم اليوم لكلام قاله الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله لطلابه يوصيهم قائلاً: (أوصيكم بالثبات في جميع أموركم فإنه من أعظم ما انتفعت به، فإني أخذت على نفسي أن لا أغير رأياً رأيته في أمر علمي أو عملي حتى يثبت لي خطؤه كما ثبت لي صوابه فانتفعت بذلك كثيراً)



اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
 
التعديل الأخير:

أبو عبد الباري المدني

:: مخالف لميثاق التسجيل ::
إنضم
7 يونيو 2008
المشاركات
16
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مراكش
المذهب الفقهي
المالكي
تذييل البحث ببحث قيم مبارك للشيخ صالح السندي عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية

تذييل البحث ببحث قيم مبارك للشيخ صالح السندي عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية

كتبها
د. صالح بن عبد العزيز بن عثمان سندي
ملحوظة:
لم تطب نفسي بنشر البحث حتى عرضته على عدد من أهل العلم وطلابه؛ فاستحسنوه، وحثوا على نشره، والحمد لله على إعانته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلا أظن أن مسألة فقهية معاصرة قد حظيت بما حظيت به توسعة المسعى التي قامت مؤخرا من نقاش علمي وحشد إعلامي، وقد كنت متابعا لما يُكتب ويُقال منذ ابتداء العمل فيها وإلى هذه الأيام.
ولقد هالني ما قرأت وما سمعت مما أجلب عليه كثير من المتكلمين في الموضوع من أدلة، وما طوعوه من قواعد ليوافق ما اختاروا، ولست بالتأكيد أعني الجميع.
إن الحق الذي لا ريب فيه أن الصفا والمروة من شعائر الله، والمسعى بينهما محلٌ توقيفي عرفه المسلمون أجمعون كما هو دون زيادة أو نقصان، وتوارثوه على حاله جيلا بعد جيل.
والقائلون بجواز هذه التوسعة لم يظفروا –على كثرة ما بحثوا وقالوا- بدليل صحيح صريح الدلالة لا معارض له يعضد ما نصروا، ولا بنص واحد عن إمام معتبر من أئمة المسلمين السابقين يجيز فيه توسعة المسعى، ولا بنقل عن أحد منهم أنه سعى في غير المسعى المعروف.
وهذه الأوراق فيها بحث هذا الموضوع: تأصيلا له، ومناقشة لأدلة المجيزين، وكان الوصول إلى الحق قصدي في كتابتها.
كما قصدت السعي في الذب عن أعراض علماء أعلام تناولتهم ألسنة وأقلام بغمز ولمز لفتواهم بعدم الجواز، مع أنهم –دون شك- أسعد بالصواب.
أسأل الله أن يجعل هذا المكتوب مسددا نافعا، كما أسأله أن يوفق ولاة أمرنا وعلماءنا إلى ما يحب، وأن يأخذ بأيديهم إلى ما يرضيه، والله المستعان.
المسألة الأولى: محل السعي.
إن مما لا تختلف فيه كلمة المسلمين أن محل السعي شرعا: ما بين الصفا والمروة، ودليل ذلك من كتاب الله قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).
ودليله من السنة: كونه المحل الذي سعى فيه النبي عليه الصلاة والسلام، وقد جاء في السنة عشرات الأحاديث –في الصحيحين وغيرهما- فيها التنصيص على أنه عليه الصلاة والسلام سعى بين الصفا والمروة، وهو القائل: (خذوا عني مناسككم) أخرجه مسلم.
وعليه فمن سعى خارجا عما بين الصفا والمروة لم يكن ممتثلا للأمر الشرعي؛ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) أخرجه مسلم.
ولأجل هذا فقد نص جمع من الفقهاء على أن من شروط صحة السعي أن يكون في محله بين الصفا والمروة.
قال الرملي في نهاية المحتاج 3/291: (ويشترط [أي في السعي] قطع المسافة بين الصفا والمروة كل مرة، ولا بد أن يكون قطع ما بينهما من بطن الوادي، وهو المسعى المعروف الآن). ثم نقل إجماع العلماء وغيرهم من وقت الأزرقي (قيل إنه توفي في 223هـ، وقيل 250هـ، وقيل غير ذلك) إلى زمانه (توفي في 1004هـ) على أن السعي إنما هو في المسعى المعروف.
وانظر أيضا: حاشية البجيرمي على الخطيب 2/375، وغيرها من كتب الشافعية.
وأنبه هنا إلى أن الوادي في كلام الرملي وغيره من العلماء في هذا المقام يراد به المسيل الذي بين الصفا والمروة، قال ابن جبير في رحلته 88: (وما بين الصفا والمروة مسيل). وليس هذا هو الوادي الآخر الممتد شرقا وغربا الذي يمر به في موضع الهرولة.
ومن كلام العلماء في الاشتراط المذكور قول الحطاب المالكي في مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 4/118: (وللسعي شروط ... ومنها كونه بين الصفا والمروة؛ فلو سعى في غير ذلك المحل بأن دار من سوق الليل أو نزل من الصفا فدخل المسجد لم يصح سعيه).
وفي المسلك المتقسط في المنسك المتوسط (192) لملا علي القاري –مع حاشيته إرشاد الساري- أثناء الكلام عن شروط السعي؛ ذكر في الشرط الأول: ((كينونته بين الصفا والمروة) أي بأن لا ينحرف عنهما إلى أطرافهما).
وهذا الاشتراط لم تخل منه كتب الفقه المعاصرة أيضا؛ ففي فقه السنة لسيد سابق 1/639 أثناء الكلام عن شروط السعي: (وأن يكون السعي في المسعى؛ وهو الطريق الممتد بين الصفا والمروة).
وهذا الحكم قد توارد على تقريره كثير من أهل العلم.
قال النووي في المجموع 8/102: ((فرع) قال الشافعي والأصحاب: لا يجوز السعي في غير موضع السعي؛ فلو مرّ وراء موضع السعي في زقاق العطارين أو غيره لم يصح سعيه؛ لأن السعي مختص بمكان فلا يجوز فعله في غيره كالطواف.
قال أبو علي البندنيجى في كتابه الجامع: موضع السعي بطن الوادي.
قال الشافعي في القديم: فإن التوى شيئا يسيرا أجزأه، وإن عدل حتى يفارق الوادي المؤدي إلى زقاق العطارين لم يجز.
وكذا قال الدارمي: إن التوى في السعي يسيرا جاز، وان دخل المسجد أو زقاق العطارين فلا، والله أعلم).
ونقل قول الشافعي هذا غير واحد، منهم: الروياني في بحر المذهب 5/173، والرملي في نهاية المحتاج 3/291 وغيرهم.
على أن من الشافعية من استشكل جواز هذا عن الشافعي وتأوله بأنه أراد الالتواء الذي لا يخرج عن حدود المسعى، كما تجده في تحفة المحتاج وحواشي الشرواني وغيرها من كتب الشافعية.
وقال النووي –أيضا- في الإيضاح في مناسك الحج 290 –مع حاشية الهيتمي-: ( ... فلو أنه لما عاد من المروة عدل عن موضع السعي وجعل طريقه في المسجد أو غيره وابتدأ المرة الثانية من الصفا أيضا لم يصح). إذن فللسعي موضعه الواضح المعلوم.
ومن تقرير العلماء لهذا الحكم أيضا: قول شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة 2/599: (لو سعى في مسامتة المسعى وترك السعي بين الصفا والمروة لم يجزه).
وقول القطب الحنفي في كتابه الإعلام 103 –نقلا عن تحصيل المرام 1/342-: (السعي بين الصفا والمروة من الأمور التعبدية التي أوجبها الله تعالى علينا، ولا يجوز العدول عنه، ولا تُؤدى هذه العبادة إلا في ذلك المكان المخصوص الذي سعى فيه صلى الله عليه وسلم).
وقول العلامة الشنقيطي في أضواء البيان 5/253: (اعلم أنه لا يجوز السعي في غير موضع السعي، فلو كان يمر من وراء المسعى حتى يصل إلى الصفا والمروة من جهة أخرى لم يصح سعيه؛ وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه.
وعن الشافعي في القديم: أنه لو انحرف عن موضع السعي انحرافا يسيرا أنه يجزئه. والظاهر أن التحقيق خلافه، وأنه لا يصح السعي إلا في موضعه).
المسألة الثانية: تحديد المسعى.
قد تقرر في القرآن الكريم أن الصفا والمروة من شعائر الله سبحانه، قال تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) أي من أعلام دينه الظاهرة التي تعبّد بها عباده.
وهذا الموضع معروف بيّن عند المسلمين كافة لا يختلفون فيه، وليس لهم –عبر تاريخهم- مكان يسعون فيه سواه.
يقول أبو المعالي الجويني في نهاية المطلب 4/304: (ومكان السعي معروف لا يُتعدى).
ويقول ملا علي القاري في مرقاة المفاتيح 5/475: (والمسعى هو المكان المعروف اليوم؛ لإجماع السلف والخلف عليه كابرا عن كابر).
ويقول الفاسي في كتابه شفاء الغرام 1/521: (وما حُفظ عن أحد منهم [أي أهل العلم] إنكارٌ لذلك [أي السعي في محل السعي المعروف] ولا أنه سعى في غير المسعى اليوم).
ويقول مؤرخ مكة محمد طاهر الكردي في كتابه التاريخ القويم 5/363 –أثناء كلامه عن اختلاف أوضاع الناس في السعي سهولة وصعوبة منذ القدم وإلى العصر الحاضر-: (موضع السعي هو هو؛ لم يتغير ولم يتبدل ولم ينقص ولم يزد).
ومع كون هذا المشعر العظيم معلوما ظاهرا للناس قد جرى تواترهم العملي على تعيينه - فإن كثيرا من العلماء قد عُنوا بتحديده؛ سواء أكانوا من علماء الفقه أو التفسير أو التاريخ أو من أصحاب الرحلات.
ويمكن استخلاص تحديد المسعى في كلام العلماء من جهتين:
الأولى: تحديد عرض المسعى.
والثانية: تحديد الصفا والمروة.
أما عن الأولى: فإن من العلماء من ذكر حد المسعى إجمالا؛ وهو عرض الوادي –كما سبق النقل من المجموع للنووي – وهذا الوادي كان موجودا قديما، وهو محل السعي.
غير أن آخرين من أهل العلم كانوا أكثر تدقيقا؛ فقد حددوا عرض المسعى بالذراع، وأقدم من وقفت عليه قد اعتنى بهذا الأمر: أبو الوليد الأزرقي (قيل إنه توفي في 223هـ، وقيل 250هـ، وقيل غير ذلك) ؛ فإنه ذكر في أخبار مكة 2/119 أن عرض المسعى –فيما بين العلم الذي على باب المسجد إلى العلم الذي على دار العباس- خمسة وثلاثون ذراعا ونصف ذراع.
وعلى القول بأن الذراع 46.2 سم (انظر: معجم لغة الفقهاء 420)؛ فيكون العرض إذن: ستة عشر مترا ونصفا تقريبا، وعلى القول بأن الذراع 48 سم –كما في تاريخ عمارة المسجد الحرام لباسلامة-فيكون عرض المسعى: سبعة عشر مترا تقريبا. وإذا كان المقصود بالذراع الذراع الهاشمية فإنها أكبر من ذلك إذ تبلغ (64 سم) (انظر: المعجم الوسيط 311).
ومن الكتب التي نصت عليه أيضا: كتاب: المناسك وطرق الحج، فقد جاء فيه ص502: (وذرع المسعى من المسجد الحرام إلى دار العباس: اثنان وثلاثون ذراعا).
وبناء على هذا التحديد يكون عرضه: أقل من خمسة عشر مترا بقليل أو أكثر بقليل؛ بحسب الاختلاف في طول الذراع.
وقريب من هذا التحديد ما جاء عند الفاسي في شفاء الغرام (1/519) إذ جعل المسافة بين باب العباس إلى دار العباس: إحدى وثلاثين ذراعا وخمسة أسباع ذراع. وأما من العلم الذي بالمنارة المعروفة بمنارة باب علي إلى الميل المقابل له في الدار المعروفة بدار سلمة فقد ذكر أنه سبعة وثلاثون ذراعا ونصف ذراع وسدس سبع ذراع.
وممن اعتنى بذكر عرضه أيضا: الفاكهي؛ فقد قال رحمه الله في أخبار مكة 2/243: (وذرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى العلم الذي بحذائه على باب دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه -وبينهما عرض المسعى- خمسة وثلاثون ذراعا واثنتا عشرة أصبعا) فيكون العرض: ستة عشر مترا تقريبا.
وقد تابعه على هذا جماعة من فقهاء الشافعية؛ كما في تحفة المحتاج وحاشية البجيرمي على المنهاج وحاشية الجمل وحواشي الشرواني وحاشيتا قليوبي وعميرة وغيرها.
ومما يضاف إلى ذلك: ما أورده القطب الحنفي في كتابه الإعلام 104-106 (نقلا عن تحصيل المرام للصباغ 1/346-348) في قصة تعدي أحد التجار –واسمه: ابن الزمن- على المسعى حين اغتصب من جانبه ثلاثة أذرع ليجعلها ضمن أرض يبني عليها رباطا للفقراء؛ فمنعه قاضي مكة ابن ظهيرة وجمع محضرا من العلماء وفيهم من علماء المذاهب الأربعة وقابلوا هذا التاجر (وأنكر عليه جميع الحاضرين وقالوا له في وجهه: أنت أخذت من المسعى ثلاثة أذرع وأدخلتها، وأحضروا له النقل بعرض المسعى من تاريخ الفاكهي، وذرعوا من جدار المسجد إلى المحل الذي وضع فيه ابن الزمن الأساس فكان عرض المسعى ناقصا ثلاثة أذرع).
وأما عن تحديد عرض الصفا والمروة: فقد تقدم أن السعي شرعا هو ما بين الصفا والمروة، وقد كان المتقدمون –ممن وقفت على كلامهم- يكتفون بالوصف الإجمالي لهما.
ومن تأمل ما ذكره العلماء في هذا الموضع يقطع أن الصفا والمروة جُبيلان صغيران، وسيأتي النقل في هذا -بعون الله- مفصلا.
أما عن المعاصرين: فإن منهم من اعتنى بتحديده تحديدا دقيقا؛ من ذلك ما قام به المؤرخ الأستاذ حسين باسلامة؛ فإنه قام بذرع عرض الصفا؛ فقال: (وعرض أصل الصفا التي عليها الثلاثة العقود (12) مترا) تاريخ عمارة المسجد الحرام ص 303.
كما قامت اللجنة التي كُلفت في عهد الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ والمكونة من الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ عبدالله بن جاسر، والشيخ عبد الله بن دهيش، والشيخ علوي مالكي، والشيخ محمد الحركان، والشيخ يحيى أمان، بحضور صالح قزاز وعبد الله ابن سعيد مندوبي الشيخ محمد بن لادن بذرع الصفا كاملا –بما في ذلك ما زاد على العقود الثلاثة- وكان فيما قررت اللجنة: (وبناء على ذلك فقد جرى ذرع عرض الصفا ابتداء من الطرف الغربي للصخرات إلى نهاية محاذاة الطرف الشرقي للصخرات المذكورة في مسامتة موضع العقود القديمة، فظهر أن العرض المذكور يبلغ ستة عشر مترًا) فتاوى الشيخ ابن إبراهيم 5/148
وسبب الاختلاف بين التقديرين راجع إلى أن باسلامة قد ذرع ما عليه العقود الثلاثة فقط، أما اللجنة فقد ذرعت أصل الصفا، وفيه قدر زائد على ما وضعت العقود عليه.
والملاحظ أن هذه المسافة التي ذكرها أعضاء اللجنة توافق تحديد العلماء لعرض المسعى قديما تقريبا منذ عهد الأزرقي (ت223هـ، أو250هـ) وإلى هذا العصر، مرورا بمن ذُكر سابقا؛ وهذا يرد قول من قال: إن ما ذُكر في كتب العلماء من تحديد للمسعى ما هو إلا حكاية للواقع؛ لأنه لو كان كذلك لاختلف من عصر إلى عصر؛ والواقع خلاف ذلك؛ فجميع من حدّد عرض المسعى متفقون في تحديدهم أو متقاربون؛ من عهد الأزرقي وإلى هذا العصر.
وإذا كان هناك اختلاف بين تلك التحديدات السابقة فهو يسير لا يتجاوز المتر إلى المترين؛ والخطب في ذلك يسير، إذ ذراع اليد ليس مقياسا منضبطا؛ وإنما هو مقياس تقريبي، والأذرع متفاوتة طولا وقصرا، ثم إن هناك أنواعا من الأذرع سوى ذراع اليد؛ فثمة ذراع الحديد، والذراع الهاشمية، وكل ذلك معروف في كتب أهل العلم؛ فقد يكون تفاوت التقديرات لتفاوت نوع الذراع، والله أعلم.
غير أن الذي لا شك فيه أن التوسعة السعودية الأولى –عند مقارنتها بكلام العلماء في تحديد المسعى- قد جاءت مستوعبة لعرضه على أوسع تقدير؛ فليس هناك مجال للزيادة عليها.
ثم إنها قد جعلت المسعى على استقامة واحدة؛ وهذا يقتضي أنها أزالت بروز بعض المباني المشرفة عليه الذي كان يضيق به عرض المسعى في بعض المواضع؛ وذلك البروز -مما كان قبل التوسعة- إما أن يكون داخلا في حدود المسعى؛ فيكون قد أزيل؛ أو لا يكون كذلك؛ فتكون إزالته من الالتواء اليسير المغتفر الذي رخص فيه بعض أهل العلم –كما سبق- إذ لا يخرج الساعي عن كونه ساعيا بين الصفا والمروة، وفي قرار اللجنة المضمن في فتاوى الشيخ ابن إبراهيم (5/143) ما يشير إلى ذلك.
ولا ريب أن الضرورة تقتضي جعل المسعى على استقامة واحدة من أوله إلى آخره؛ لأنه مع الزحام الشديد فيه سيحصل ضرر كبير على الساعين لو كان واسعا في موضع ضيقا في موضع آخر.
وأنبه أخيرا إلى أنه ليس فيما تقدم حجة للمجيزين للتوسعة الجديدة؛ فأين الترخص بمتر ونحوه من إنشاء مسعى جديد يبلغ عشرين مترا؟!
والخلاصة المستفادة من هذه المسألة وما قبلها ما يأتي:
1- أن السعي شرعا هو ما بين الصفا والمروة، ومن سعى خارجا عن حدودهما فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع.
2- أن الفقهاء قد نصوا على أنه يشترط لصحة السعي أن يكون فيما بين الصفا والمروة، ومنعوا من السعي خارجا عن ذلك، وبعضهم رخص في الالتواء اليسير.
3- أن المسعى معلوم ظاهر التحديد لم يزل المسلمون يعرفونه ويتوارثونه.
4- أن العلماء قد حددوا المسعى تحديدا دقيقا منذ القرن الثالث –أو آخر الثاني- وإلى العصر الحاضر ولم يكن بينهم في هذا التحديد خلاف يُذكر.
5- أن التوسعة السعودية الأولى قد استوعبت حدود المسعى، وجعله على استقامة واحدة لم يخرجه عن كونه المشعر الحرام المحفوظ عبر القرون.
المسألة الثالثة: مناقشة استدلالات المجيزين لتوسعة المسعى.
سبق في المسألتين السابقتين بيان محل السعي شرعا، وتحديد المسعى.
وهذه المسألة متعلقة بما أثير في هذه الأيام من الكلام عن جواز التوسعة الجديدة، وسوف أورد أهم ما وقفت عليه مما استُدل به على جواز هذه التوسعة مع مناقشته، سائلا الله تعالى التوفيق للحق والصواب.
وقبل أن ألج إلى ذلك أقدم بتمهيد لا بد منه، مشتمل على أمرين:
الأمر الأول: ينبغي أن يدرك الناظر في هذا الموضوع أن المسعى كان واضح المعالم لدى المسلمين منذ الصدر الأول، وكلام العلماء في هذا مستفيض، وقد نقلت بعضا منه فيما مضى.
وأشير هنا إلى نكتة لم أشر إليها سابقا؛ ألا وهي أن في قول الشافعي رحمه الله (ت 204هـ) المنقول عنه بجواز الالتواء اليسير في السعي، أو في منع غيره من ذلك أو من السعي في السوق ونحوه - دليلا على أن المسعى كان واضح المعالم، مستوعبا لمحله عندهم؛ فلأجل هذا سهلوا في الالتواء اليسير أو منعوا من السعي في السوق ونحوه؛ ولو كان المسعى غير منضبط عندهم لم يكن لهذا الحكم معنى.
وعليه فالأمر على ما قال أبو المعالي الجويني في نهاية المطلب 4/304: (ومكان السعي معروف لا يُتعدى).
الأمر الثاني: لاحظت أن كثيرا ممن تناولوا هذا الموضوع لم يقفوا مليا عند المسعى الحالي وسبب اقتصاره على وضعه الذي هو عليه؛ مع أن هذا من أهم ما يلزم التأمل فيه.
لقد كان الاهتمام ببيت الله الحرام والمشاعر المشرفة وخدمة الحجاج والمعتمرين محط اهتمام ولاة الأمر في هذه البلاد المباركة، وكان أن وفق الله الملك عبد العزيز ومن ثم ابنه سعودا –رحمهما الله- إلى العناية البالغة بالمسجد الحرام؛ فشمل ذلك رصف المسعى وإحكام تسقيفه وإزالة الأسواق المحدقة به، إضافة إلى التوسعة الكبرى للمسجد.
ولأجل أن تكون هذه العناية والتوسعة موافقة للأحكام الشرعية فقد تم تكليف مفتي البلاد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله بالنظر في التحديد الشرعي للمسعى والمصعد إلى الصفا والمروة وبعض المباني المجاورة لذلك؛ فقام رحمه الله بتشكيل لجان مكونة من أهل العلم الشرعي ومن أهل المعرفة بمكة وجغرافيتها لتقلد هذه الوظيفة بالغة الأهمية، فقاموا بما أوكل إليهم بعد معاينة للواقع، ومراجعة علمية وتاريخية، والوقوف على الخرائط المتعلقة بهذا المشعر، مع السؤال والتحقيق، ويتابع هذا سماحة المفتي رحمه الله.
والظن فيهم أنهم كانوا يستحضرون عظم هذه المسئولية التي اضطلعوا بها، وأن ملايين المسلمين سيؤدون عبادة السعي في ضوء ما يقررونه من مساحة المسعى طولا وعرضا.
ثم إن هذا كله كان على مرأى من علماء مكة ووجهائها وبقية علماء البلاد وغيرها.
إن هذه الحقبة المهمة في تاريخ المسعى وما يتعلق بها من خلفيات وملابسات لا يناسب أن يُتعامل معها بغض الطرف، ولا أن تُتناول بأطراف الأصابع؛ بل ينبغي أن تقدر قدرها، وأن تُعطى أهميتها اللائقة بها.
إن أي رأي يُطرح هذه الأيام يدعو إلى توسعة المسعى يجب أن يستحضر جيدا وضع المسعى الحالي ولِم كان بهذه الحدود المعروفة، وهل ما يخالف هذه الحدود يستند إلى ما هو أقوى؟
أعتقد أن من أنعم النظر وأنصف سيجيب بالنفي، ولعل في الصفحات الآتية تجلية الأمر.
ويحسن التنبيه ههنا إلى ما يشير إليه بعضهم من أن اقتصار اللجان العلمية إبان التوسعة السابقة على هذا القدر الحالي إنما كان لأجل أنهم رأوا أن الاقتصار على هذا القدر كافٍ ومؤدٍ للغرض بالنظر إلى أعداد الحجاج والمعتمرين في ذاك الزمان؛ كلا؛ لم يكن الأمر كذلك؛ فإن من يتأمل ما قرره المشايخ –كما في فتاوى الشيخ ابن إبراهيم- يلحظ أنه كان ثمة رغبة جادة في معرفة جميع ما يمكن دخوله في حدود المسعى وإضافته إلى المشروع توسعةً على المسلمين وتخفيفاً لتزاحمهم.
الاستدلال الأول: شهادة الشهود بأن الصفا والمروة كانا أوسع مما عليه عرض المسعى حاليا.
فقد اشتهر أن جماعة بلغوا نحوا من ثلاثين من معمري أهل مكة قد شهدوا بأنهم أدركوا جبلي الصفا والمروة أوسع مما عليه عرض المسعى حاليا بما لا يقل عن عشرين مترا، بل ذكر بعضهم أن الجبلين متسعين شرقا اتساعا كبيرا، وأن لهما أكتافا، وأنه قد قام عليهما بيوت ومساكن.
والظاهر من حال المستدل بهذا الدليل أنه لا ينازع في أن المطلوب شرعا أن يكون السعي فيما بين الصفا والمروة ولا يخرج عن حدودهما، غير أنه ينازع في قصر المسعى على هذا القدر الموجود الآن، ويرى أن عرض المسعى الحالي أقل من عرض الجبلين سابقا؛ وبناء عليه فإنه لا يرى حرجا في توسعة المسعى؛ لأن هذه التوسعة لن تخرج عن عرض الجبلين.
هذا باختصار تقرير هذا الاستدلال، وهو –فيما يبدو- أقوى ما احتج به المجيزون.
والذي يظهر –والله تعالى أعلم-أنه دليل ضعيف جدا؛ وبيانه بأمرين:
الأمر الأول: أن شهادة هؤلاء الشهود إنما هي في أمر ظاهر للعيان؛ لأنها شهادة برؤية جبل كبير متسع، وعليه فيقال: إن شهادتهم هذه معارَضة بشهادة تخالفها، وهي أرجح منها؛ ويظهر هذا بما يأتي:
أ- أن اللجان المشكلة لدراسة وضع المسعى إبان التوسعة السعودية الأولى قد شهدت بخلاف ذلك؛ وهو وأن جبلي الصفا والمروة إنما هما بهذا العرض الذي جُعل عليه المسعى الحالي؛ ومن نظر في فتاوى الشيخ ابن إبراهيم (5/138-149) علم صدق ذلك.
وتوضيح ذلك: أن هذا التحديد قد شهد به أعضاء اللجنة المكونة لدراسة وضع الصفا ودخول دار الشيبي ومحل الأغوات الواقعين بين موضع الصفا وبين الشارع العام الملاصق للمسجد الحرام مما يلي باب الصفا، وذلك في عام 1374هـ -وهم: الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ عبد الله ابن دهيش، والشيخ علوي مالكي- وقد قاموا بهذا وشاهدوا الواقع بأنفسهم؛ فقد جاء في قرارهم: (فقد توجهنا فوقفنا على "الميل" المذكور. وصحبنا معنا مهندسًا فنيًا، وجرى البحث فيما يتعلق بتحديد عرض المسعى مما يلي الصفا) فتاوى ابن إبراهيم 5/139
وقد قاموا –كما جاء في منصوص القرار- بالإضافة إلى هذه المعاينة بمراجعة كلام العلماء والمؤرخين فيما يتعلق بذلك، وساقوا جملة من نصوصهم التي وقفوا عليها، كما قاموا بمراجعة بعض الصكوك المسجلة بالمحكمة الكبرى بمكة، وسؤال أغوات الحرم عن تاريخ وحدود دارهم.
وتُوج هذا بوقوف الشيخ محمد بن إبراهيم على هذا الواقع مع عدة من الثقات؛ ففي الفتاوى 5/139: (فبعد الوقوف على هذا الموضع في عدة رجال من الثقات رأيت هذا القرار صحيحًا، وأفتيت بمقتضاه، قاله الفقير إلى عفو الله محمد بن إبراهيم آل الشيخ).
ب- ومن ذلك أيضا: ما شهد به جملة من أهل العلم فيما يتعلق بالصفا؛ ففي فتاوى ابن إبراهيم 5/144 يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: (وحيث قد وعدت جلالتكم بالنظر في موضوع الصفا؛ ففي هذا العام بمكة المكرمة بحثنا ذلك، وتقرر لدي ولدى المشايخ: الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ علوي عباس المالكي، والأخ الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ عبد الله بن دهيش، والشيخ عبد الله بن جاسر، والشيخ عبد العزيز ابن رشيد: على أن المحل المحجور بالأخشاب في أسفل الصفا داخل في الصفا، ماعدا فسحة الأرض الواقعة على يمين النازل من الصفا فإننا لم نتحقق أنها من الصفا. أما باقي المحجور بالأخشاب فهو داخل في مسمى الصفا ... هذا وعند إزالة هذا الحاجز والتحديد بالفعل ينبغي حضور كل من المشايخ: الأخ الشيخ عبد الملك، والشيخ علوي المالكي، والشيخ عبد الله بن جاسر والشيخ عبد الله بن دهيش، حتى يحصل تطبيق ما قرر هنا، وبالله التوفيق). وكان هذا عام 1380هـ.
ج- ومن ذلك أيضا: ما شهد به جملة من أولئك المشايخ؛ ففي فتاوى الشيخ ابن إبراهيم أيضا 5/147: (في يوم الثلاثاء الموافق 10/2/1378هـ اجتمعت اللجنة المكونة من كل من: الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ عبد الله بن جاسر، والشيخ عبد الله بن دهيش، والسيد علوي مالكي، والشيخ محمد الحركان، والشيخ يحيى أمان، بحضور صالح قزاز وعبد الله ابن سعيد مندوبي الشيخ محمد بن لادن، للنظر في بناء المصعدين المؤديين إلى الصفا ...
وبناء على ذلك فقد جرى ذرع عرض الصفا ابتداء من الطرف الغربي للصخرات إلى نهاية محاذاة الطرف الشرقي للصخرات المذكورة في مسامتة موضع العقود القديمة، فظهر أن العرض المذكور يبلغ ستة عشر مترًا ...
كما وقفت اللجنة أيضًا على المروة، فتبين لها بعد الاطلاع على الخرائط القديمة والحديثة للمسعى، وبعد تطبيق الذرع للمسافة فيما بين الصفا والمروة كما نص على ذلك الإمام الأزرقي والإمام الفاسي في تأريخهما بأن المسافة المذكورة تنتهي عند مراجعة موضع العقد القديم من المروة ...) إلى آخر ما جاء في هذا القرار.
د- ومن ذلك أيضا شهادة المؤرخ حسين باسلامة الذي قام بذرع المسعى بنفسه كما في: تاريخ عمارة المسجد الحرام 302-304، وقد تقدم شيء من كلامه سابقا.
فبعد كل ذلك يقال: إن كان الشهود المعاصرون قد شهدوا برؤيتهم فإن هؤلاء العلماء قد شهدوا برؤيتهم أيضا؛ وإذا كان لا بد من الترجيح بين الشهادتين –نظرا لتعارضهما- فإن مما لا شك فيه أن شهادة أولئك المشايخ مقدمة؛ وذلك لوجوه:
أولا: أن أولئك المشايخ أرفع قدرا وأعلى كعبا في العلم والفهم إلى غير ذلك من خلالهم الكريمة؛ ومن المعلوم عند أهل العلم أن رواية الأوثق وشهادته مقدمة على من دونه.
ثانيا: أن ما قرره أولئك المشايخ ليس شهادة فحسب؛ بل هو شهادة وزيادة؛ إنه قرار مبني على تكليف من ولي الأمر بتحديد مشعر تقام فيه عبادة شرعية؛ فلا ريب أنهم استفرغوا وسعهم في تحقيق ما أنيط بهم على الوجه المرضي؛ فجمعوا بين المعاينة والدراسة والمراجعة والسؤال والاطلاع على الخرائط والصكوك –كما هو مدون في فتاوى الشيخ ابن إبراهيم- لعلمهم بأن التحديد الذي سيصدرون عنه سيكون له ما وراءه.
وأضيف إلى ما سبق أيضا: ما ذكرته آنفا من أن من يتأمل ما قرره المشايخ –كما في فتاوى الشيخ ابن إبراهيم- يلحظ أنه ليس مجرد تحديد ما هو واقع؛ بل كان ثمة رغبة جادة في معرفة جميع ما يمكن دخوله في حدود المسعى وإضافته إلى المشروع توسعةً على المسلمين وتخفيفاً لتزاحمهم.
فهل بعد هذا ثمة مقارنة بين قرارهم وهذه الشهادة الحديثة التي أخبروا فيها بمجرد مشاهدة شاهدوها، وعمر بعضهم في ذلك الوقت لم يتجاوز أربع عشرة سنة!
ويا لله العجب! جبل ممتد لأكثر من خمسين مترا –كما يقول بعض الشهود- تتعلق به عبادة عظيمة، وجبل مثله على الجانب الآخر، ولا يراهما أهل العلم المكلفون بالنظر إليهما وتحديدهما، ويظفر برؤيتهما فلان وفلان ممن دونت شهادتهم!
هل هذا مقبول عقلا؟
لست أتهم الشهود بالكذب، حاشا وكلا، كما أني لست أشك أن الذي رآه هؤلاء ليس هو الصفا والمروة اللذين تعلقت بهما عبادة السعي قطعا؛ لقد رأى الشهود شيئا آخر؛ وسيأتي بيان ذلك بوضوح بعون الله.
ثالثا: أن شهادة أولئك المشايخ كانت في الوقت الذي رأوا فيه المشهود عليه؛ بخلاف شهادة الشهود الحاليين الذين أدلوا بشهادتهم بعد مرور أكثر من خمسين عاما على مشاهدتهم -بعد أن أزيلت الجبال- فاحتمال الوهم بالنسبة لهم أكبر دون ريب.
بعبارة أخرى: إذا أدلى شهود بما رأوه بأعينهم في الحال، وآخرون أدلوا بشهادتهم بأنهم رأوا شيئا ما قبل أكثر من خمسين عاما، ثم اختلفت الشهادة؛ فأي الشهادتين المقدم؟ لا شك أن الجواب واضح.
رابعا: أن شهادة أولئك المشايخ قد تأيدت بعدم معارضة بقية العلماء في مكة وغيرها، وكذا كبار السن والوجهاء؛ حيث لا يُعلم أن أحدا اعترض عليهم بأنهم انتقصوا من حد هذا المشعر الحرام –ومن أولئك أيضا أصحاب الشهادات الجديدة؛ إذ لم يُسمع لهم صوت أنذاك- وهذه القضية من مهمات القضايا التي لا يسع السكوت فيها بحال، لا سيما من أهل العلم والرأي؛ فهذه قرينة ترجح صواب ما صدر القرار به.
ولا يقال ههنا إن عدم الإنكار سببه عدم الحاجة؛ بمعنى: أنه لا يقال إن عدم إنكارهم راجع إلى أنهم رأوا أن هذا القدر الذي صدر القرار به كافٍ للناس في ذلك الزمان مع كونه غير مستوفٍ للحد الشرعي؛ إذ لم تزل الشكوى من الزحام في المسعى –مع وجود السوق على حافتيه، واختلاط الناس في الذهاب والإياب- مشتهرة من قديم؛ فهذا ابن جبير يقول في رحلته 88: (والساعون لا يكادون يخلصون من كثرة الزحام).
ويقول ابن بطوطة في رحلته 103: (والساعون بين الصفا والمروة لا يكادون يخلصون لازدحام الناس على حوانيت الباعة).
وممن لاحظها وأشار إليها أصحاب الفضيلة أعضاء اللجان المكلفة بدراسة حدود المسعى أنفسهم. انظر: ما جاء في قرار اللجنة في فتاوى الشيخ ابن إبراهيم 5/143، 148.
خامسا: من أقوى القرائن التي ترجح شهادة أولئك المشايخ: موافقة تحديدهم لكلام العلماء السابقين؛ فالفقهاء والمؤرخون يذكرون عن الصفا والمروة أنهما جبيلان، أو جبلان صغيران، أو حجران، ويصفانهما بالانخفاض؛ وهذا لا يتفق مع شهادة الشهود الحاليين . وبيان هذا أكثر في الجواب الثاني.
سادسا: مما يرجح جانب شهادة أولئك المشايخ أن الذي شهدوا به هو الذي وقع عليه التواتر العملي من المسلمين من قديم الزمان؛ وقد تقدم كلام الرملي وهو قوله في نهاية المحتاج 3/291: (ويشترط [أي في السعي] قطع المسافة بين الصفا والمروة كل مرة، ولا بد أن يكون قطع ما بينهما من بطن الوادي، وهو المسعى المعروف الآن). ثم نقل إجماع العلماء وغيرهم من وقت الأزرقي (قيل إنه توفي في 223هـ، وقيل 250هـ، وقيل غير ذلك) إلى زمانه (توفي في 1004هـ) على أن السعي إنما هو في المسعى المعروف عندهم.
ومثله أيضا قول ملا علي القاري في مرقاة المفاتيح 5/475: (والمسعى هو المكان المعروف اليوم؛ لإجماع السلف والخلف عليه كابرا عن كابر).
وقول أبي المعالي الجويني في نهاية المطلب 4/304: (ومكان السعي معروف لا يُتعدى).
وقول الفاسي في كتابه شفاء الغرام 1/521: (وما حُفظ عن أحد منهم [أي أهل العلم] إنكارٌ لذلك [أي السعي في محل السعي المعروف] ولا أنه سعى في غير المسعى اليوم).
وهذا التواتر العملي على السعي في هذه البقعة المنحصرة فقط من أقوى الدلائل في هذا الموضوع.
فهل يمكن عند أهل العلم أن يعارَض الأمر المستفيض –بل المتواتر- الذي جرى عليه عمل المسلمين منذ قرون متطاولة بشهادة أفراد معدودين، فضلا عن أن تقدم عليه؟!
ولا إخال المفتين بالجواز ولا أصحاب تلك الشهادات الجديدة يقولون إن الناس قديما كانوا يسعون في مساحة أرحب من هذه؛ ومن قال هذا فعليه الدليل.
ثم إن الصور الملتقطة للمسعى قبل أكثر من خمسين سنة كافية في رد هذا الزعم؛ فهي واضحة كالشمس في أن المسعى قديما لم يكن أوسع من المسعى الحالي.
سابعا: لقد نظرت في شهادة الشهود السبعة الذين هم أول من شهد في هذا الموضوع –وشهادتهم قد أوردها بعض من كتب في هذا الموضوع في رسالة مطبوعة، على أن تسمية ما أدلى به المشار إليهم "شهادة" محل وقفة؛ إذ هي إفادة أقرب من كونها شهادة؛ فليس فيها إثبات الشهادة ولا تزكية الشهود؛ وانظر ما ذكره شيخنا الشيخ عبد المحسن العباد في بيانه المنشور في الشبكة العالمية-.
مهما يكن من شيء؛ لقد تأملت تلك التي سميت شهادات؛ وكان مما لاحظته: أن أكبرهم كان عمره سنة التوسعة (1375هـ) ستة وعشرين عاما، وأصغرهم كان عمره أربعة عشر عاما!
أيضا: أن ثلاثة من السبعة توقفوا ولم يتذكروا شيئا يتعلق بامتداد المروة شرقا، واثنان منهم لم يتذكرا شيئا يتعلق بالصفا، وثالث لم يذكر شيئا واضحا يتعلق به.
أيضا: أن الشهادة التي أدلوا بها لم تكن متفقة؛ فمنهم من يذكر أن الجبل كان ممتدا ولا يذكر تحديدا منضبطا، والذين ذكروا التحديد المنضبط مختلفون؛ فأحدهم يذكر أن الصفا يمتد خمسة وثلاثين مترا، وآخر يقول: يمتد خمسين مترا! ولم تتفق شهادة اثنين منهم على تحديد واحد.
فهل هذه الشهادات غير المتفقة يمكن أن تعارض تلك البينات القوية الكثيرة التي سبق إيرادها؟
هل شهادة أحدهم –كما هو مدون في الشهادة- حين لم يتذكر شيئا يتعلق بامتداد الصفا أو المروة شرقا وإنما شهد بامتداد المروة شمالا! هل هذه شهادة يُعتمد عليها في توسعة المسعى شرقا! بل ويُشاد بها وتُذكر في كل محفل –بل وعلى لسان بعض المنتسبين إلى العلم- وإذا قيل ما الدليل؟ قيل: شهادة العدول الثقات!
على أي شيء كانت الشهادة؟ وبأي دليل تحشر ضمن شهادات الشهود في قضية تعبدية تتعلق بالمسلمين جميعا؟
هل شهادة هؤلاء الشهود وثلاثة منهم كانوا دون العشرين –بل وأحدهم ربما لم يكن بالغا- وأكبرهم كان عمره ستة وعشرين يصح أن تقدم على شهادة وتحديد أهل العلم والسن والخبرة؟
إذا كان بعض هؤلاء الشهود –كما هو مدون في الشهادة- يشهد على رؤية الصفا ولا يتذكر شيئا عن المروة والعكس – مع أن بين الجبلين نحو أربعمائة متر فقط- فهل هؤلاء ممن يوثق بحافظتهم ويعتمد عليهم في هذا الأمر الجلل؟
هل تبرأ الذمة بمثل هذه الشهادات؟
ثامنا: لقد وصف إبراهيم باشا في مرآة الحرمين –ونقل هذا عنه ووافقه وأكده المؤرخ حسين باسلامة في تاريخ عمارة المسجد الحرام (301-303)- وصف الصفا –المعروف عند المسلمين كافة- بأنه محاط من جميع جهاته بجدار يفصله عن جبل أبي قبيس إلا من الجهة الشمالية التي منها المرقى إليه، والأمر لا يحتاج إلى شهادة؛ لأن صورة ذلك الجدار المحيط موجودة واضحة –انظرها في التاريخ القويم للكردي (5/344)- فليت شعري كيف رآه هؤلاء الشهود –مع هذا- جبلا كبيرا ممتدا؟
الأمر الثاني: أن القول بأن الصفا والمروة جبلان كبيران ممتدان وأن لهما أكتافا إلى آخر ما قيل فيما نُقل في تلك الشهادات، وفي بعض الأبحاث المنشورة التي تناولت هذا الموضوع – غير صحيح؛ وكلام العلماء السابقين واللاحقين ليس فيه حرف واحد يدل على صحته، هذا أولا.
وثانيا: أن كلام العلماء السابقين قد تواتر بأن الصفا والمروة جبلان صغيران أو جبيلان أو حجران أو نحو ذلك من الألفاظ المبينة أنهما بخلاف ما أثير مؤخرا من كبرهما.
وقد تتبعت شيئا من كلام العلماء في هذا الموضوع فظهر ذلك ظهورا واضحا.
ويمكن أن ألخص كلام العلماء في هذه المسألة وأرتبه فيما يأتي:
أولا: وصفهما بأنهما جبلان صغيران.
قال ابن جزي في تفسيره (التسهيل) 65 في تفسير قوله تعالى: (إن الصفا والمروة): (جبلان صغيران بمكة).
وقال الزبيدي في تاج العروس 38/430: (والصفا من مشاعر مكة شرفها الله تعالى، وهو جبل صغير بِلَحْف جبل أبى قبيس) أي بأصله.
وبمثله قال: أحمد عبد الغفور عطار في كتابه: حجة النبي عليه الصلاة والسلام 122.
ثانيا: وصفهما بأنهما جُبيلان.
في المحرر الوجيز لابن عاشور 2/35: (الصفا والمروة: جُبَيلان بمكة).
وبمثله قال أحمد عبد الغفور عطار عن المروة 122.
ثالثا: وصفهما بأنهما حجران.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 3/501: (وفي كتاب مكة لعمر بن شبة بإسناد قوي عن مجاهد في هذه الآية: قال: قالت الأنصار: إن السعي بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية؛ فنزلت) أي الآية: (إن الصفا والمروة من شعائر الله) الآية.
وفي هذا يقول التجيبي في رحلته –مستفاد الرحلة والاغتراب- 227: (والصفا حجرٌ أزرق عظيم قد بني عليه درجات). ثم وصف المروة أيضا بأنها حجر عظيم. وبمثله قال العمري في مسالك الأبصار –نقلا عن باسلامة 292-: (أما الصفا فحجرٌ أزرق عظيم في أصل جبل أبي قبيس) ثم وصف المروة –أيضا- بأنها حجر عظيم.
وبمثله قال الإصطخري في المسالك والممالك عن المروة: (والمروة حجرٌ من جبل قعيقعان).
رابعا: وصفهما بأنهما صفحان (أي حجران عريضان)
ففي المفهم لأبي العباس القرطبي 3/327: (وهما [أي الصفا والمروة]: اسمان لصفحين معلومين). فعرّف الصفا والمروة بأنهما حجران عريضان.
جاء في لسان العرب في مادة (صفح): (وكل عريض من حجارة أَو لوح ونحوهما صُفَّاحة والجمع صُفَّاحٌ، وصَفِيحةٌ والجمع صفائح).
خامسا: وصفهما بأنهما أنفان من جبلي أبي قبيس وقعيقعان.
في تهذيب الأسماء واللغات 3/181: (الصفا: هو مبدأ السعي ... وهو أنفٌ من جبل أبي قبيس ... وأما المروة فلاطية جدا [أي منخفضة]، وهي أنف جبل قعيقعان). ومعنى (أنف): أي قطعة.
وهذا الكلام قد نقله تقي الدين الفاسي (ت 832هـ) في الزهور المقتطفة من تاريخ مكة المكرمة 171، وفي العقد الثمين 1/112، وانظر هذا الوصف في: مفيد الأنام لابن جاسر 269.
سادسا: وصف الصفا بأنه في أصل أبي قبيس، والمروة بأنها في أصل قعيقعان؛ أي بأسفلهما.
كما في رحلة التجيبي (350)، وفي الروض المعطار في خبر الأقطار 1/363 ، وفي الزهور المقتطفة من تاريخ مكة المكرمة 171، وفي في العقد الثمين 1/107، 112.
سابعا: وصفهما بأنهما في ذيل جبلي أبي قبيس وقعيقعان.
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة 2/87: (ومنها الجبلان اللذان جعلهما الله سورا على بيته، وجعل الصفا في ذيل أحدهما، والمروة في ذيل الآخر ...).
ثامنا: وصفهما بأنهما في طرف جبلي أبي قبيس وقعيقعان.
كما في: حاشية البجيرمي على الخطيب 2/381، وجميع كتب الشافعية التي سبق ذكرها، وفي منسك ابن جاسر –مفيد الأنام- 269.
تاسعا: وصفهما بأنهما رأسا نهاية جبلي أبي قبيس وقعيقعان.
ففي تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور 2/60: (والصفا والمروة اسمان لجُبَيلَين متقابلين، فأما الصفا فهو رأس نهاية جبل أبي قبيس، وأما المروة فرأسٌ هو منتهى جبل قُعَيقِعَانَ).
عاشرا: وصفهما بأنهما مصعدان إلى أبي قبيس وقعيقعان.
في: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم: (وأبو قبيس مطل على المسجد، يُصعد إليه من الصفا في درج).
ومثله في رحلة التجيبي حيث قال عندما تكلم عن أبي قبيس 350: (وفي أصله هو الصفا ومن عليه صعدنا إليه).
حادي عشر: وصف الصفا بأنه مكان مرتفع من أبي قبيس.
في معجم البلدان 3/411: (أما الصفا فمكان مرتفع من جبل أبي قبيس)
وفي تهذيب الأسماء واللغات 3/181: (الصفا: هو مبدأ السعي ، مقصور، وهو مكان مرتفع عند باب المسجد الحرام، وهو أنفٌ من جبل أبي قبيس، وهو الآن إحدى عشرة درجة، فوقها أزج كإيوان، وعرض فتحة هذا الأزج نحو خمسين قدما.
وأما المروة فلاطية جدا، وهي أنف جبل قعيقعان، وهي درجتان، وعليها أيضا أزج كإيوان، وعرض ما تحت الأزج نحو أربعين قدما).
ومثله في الزهور المقتطفة 171، والعقد الثمين 1/107.
ثاني عشر: وصف المروة بأنها أكمة لطيفة أي تل صغير.
كما في معجم البلدان 5/116.
ثالث عشر: وصف الصفا بالانخفاض.
قال ابن تيمية في شرح العمدة 2/451: (ولهذا قال أصحابنا إنه يرقى على الصفا حتى يرى البيت ويستقبل القبلة، إلا أن هذا كان لما كانت الأبنية منخفضة عن الكعبة؛ فأما الآن فإنهم قد رفعوا جدار المسجد وزادوا فيه ما بينه وبين الصفا حتى صار المسعى يلي جدار المسجد، وكان قبل ذلك بين المسجد والمسعى بناء للناس، فاليوم لا يرى أحد البيت من فوق الصفا ولا من فوق المروة، نعم قد يراه من باب المسجد إذا خفض).
فهذا النص تضمن دلالة صريحة على أن الصفا جبيل منخفض؛ بدليل أنه لما جُعل جدار للمسجد حال هذا الجدار دون رؤية الكعبة لمن يرقى على الصفا، ومن استحضر في ذهنه تقديرا لهذا الجدار –مهما بلغ ارتفاعه- فسيتضح له قطعا أن الصفا ليس إلا جبيلا صغيرا، وليس كما توهمه بعض الناس من أنه جبل كبير مرتفع.
ويؤيده ما جاء في كلام التجيبي –القاسم بن يوسف التجيبي السبتي- (ت 730هـ) في رحلته (مستفاد الرحلة والاغتراب): (فصعدت على الصفا واستقبلت الكعبة المعظمة، وهي ظاهرة من هذا الموضع من باب المسجد –باب الصفا- لا من فوق جدار المسجد). ومثله في الإيضاح في مناسك الحج للنووي 284-286 –مع حاشية الهيتمي-.
رابع عشر: وصف المروة بالانخفاض.
قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات 3/181: (وأما المروة فلاطية جدا، وهي أنف جبل قعيقعان، وهي درجتان، وعليها أيضا أزج كإيوان، وعرض ما تحت الأزج نحو أربعين قدما). ومعنى لاطية أي منخفضة.
وقد نقل هذا النقل عنه المباركفوري في تحفة الأحوذي 3/600.
ويؤيد ما ذكره النووي ما ذكره إمام الحرمين الجويني في نهاية المطلب 4/305: (وكانت الكعبة تبدو في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الجهة أيضا، ثم أحدث الناس الأبنية فحالت بين الكعبة وبين الراقين في المروة بالقدر المشروع).
وكل أحد يدرك أن بيوت الناس في تلك العهود السالفة لم تكن شاهقة وإنما قصيرة؛ فلو كانت المروة جبلا كبيرا شاهقا ممتدا –كما يتصور بعضهم- هل تحول تلك البيوت القصيرة دون رؤية البيت العتيق؟
خامس عشر: وصف الصفا بالصخرات الملساء التي تقع في سفح جبل أبي قبيس.
كما في فتاوى الشيخ ابن إبراهيم 5/148
هذه جملة من كلام العلماء في هذا الشأن، وأظن أن من تتبع تتبعا أكثر سيقف على أضعاف هذه النقول.
أقول: مع النظر في كلام هؤلاء العلماء بإنصاف؛ هل يصح أن يقال: إن الصفا والمروة جبلان كبيران ممتدان؟
وهل يقبل منصف بأن تُرمى شهادات العلماء والمؤرخين وهي بالعشرات وفي عصور مختلفة دون أدنى اعتبار ويقدم عليها شهادات هي في أحسن أحوالها قد وهِم أصحابها؟
وشيء ثالث: قرأت وسمعت كثيرا كلام القائلين بأن الصفا والمروة جبلان كبيران ممتدان؛ غير أني لم أجد كلمة واحدة يبين فيها هؤلاء الفرق بينهما وبين جبلي أبي قبيس وقعيقعان؛ مع أن الجميع متفق على أنهما متصلان بهما وفرعان عنهما، والجميع –أيضا- متفق على أن العبادة إنما تعلقت بالصفا والمروة لا بذينك الجبلين؛ فهل يستطيعون ذكر الحد الفاصل بين هذين وهذين حتى يُعلم محل العبادة الشرعي؟ وهل يمكنهم التمييز بين الأصل والفرع؟ وإذا أمكن التمييز؛ فما هو الدليل عليه؟
أجزم أنه لا جواب على هذا السؤال.
أما المانعون فالأمر عندهم واضح؛ إذ إنهم يميزون بين هذين وهذين، ودليلهم: تواتر المسلمين العملي المؤيد بكلام العلماء والمؤرخين من السابقين واللاحقين، والله المستعان.
وقبل أن أختم الكلام عن هذا الاستدلال أشير إلى ثلاثة أمور:
الأول: قد يقول قائل: هل يمكن توجيه شهادة الشهود الجدد في ضوء كلام أهل العلم الثقات المتقدمين والمتأخرين؟
والجواب: من خلال العرض السابق اتضح أن تخطئة المشايخ وأهل العلم السابقين واللاحقين لا يمكن القول بها مطلقا؛ إذ لا مقارنة بين قوة شهادة أهل العلم والتي تأيدت بكلام العلماء والمؤرخين -مما سبق بيانه- وبين هذه الشهادات الجديدة؛ فلم يبق إلا نسبة الوهم إلى الشهود الحاليين، وقد أوردت سابقا إيرادات تدل على ضعف شهادتهم.
وإحسانا للظن بهم يقال: قد يكون سبب الوهم منهم أحد أمرين: إما أنهم خلطوا بين الصفا وأبي قبيس، وبين المروة وقعيقعان؛ فظنوا أن الذي شاهدوه كبيرا متسعا نحو الشرق: الصفا والمروة، والواقع أنهما جزآن من أبي قبيس وقعيقعان –الجبلين الكبيرين المشرفين على المسجد وعلى الصفا والمروة-.
أو أن يكون قد اشتهر عند العامة في الفترة الماضية –إبان الفترة التي أدركها أولئك الشهود وما قبلها- إطلاق اسمي الصفا والمروة لا على القطعة المخصوصة من أبي قبيس وقعيقعان وإنما عليهما جميعا أو على قدر منهما أكبر من الواقع؛ فيكون من باب إطلاق اسم الفرع على الأصل لشرفه، وهو –إن صح- اصطلاح حادث لا يغير من الحقائق الشرعية شيئا.
أقول: لعل هذا هو سبب دخول الوهم على الشهود.
ويؤكد حصول الوهم –علاوة على ما مضى- أنه لم يذكر المتقدمون وجود بيوت مسكونة على الصفا والمروة، وإنما ذكروا هذا على أبي قبيس وقعيقعان، وهذا قد ذكره غير واحد؛ ومنهم ابن جبير في رحلته (89) حيث قال عن أبي قبيس: (وفي أعلاه رباط مبارك فيه مسجد).
ومنهم ابن بطوطة في رحلته (105) حيث قال عن أبي قبيس: (وبأعلاه مسجد وأثر رباط وعمارة)، وهذا يوافق ما ذكره بعض من كتب في هذا الموضوع من الفضلاء؛ حيث عدّد جملة من البيوت التي كانت مسكونة على الصفا والمروة في ظنه؛ والواقع أنها ليست على الصفا والمروة، وإنما على ذينك الجبلين، والله أعلم.
ولا يُشكل على ما سبق -من أنه لم يكن ثمة بيوت على الصفا- ما ذكره بعضهم من أن دار الأرقم كانت على الصفا؛ لأن هذه الدار بجوار الصفا وليست مبنية أعلاه؛ وإطلاق أنها كانت على الصفا تجوّز في العبارة؛ ومرادهم بذلك أنها: عند الصفا، كما قال ذلك غير واحد من المؤرخين (انظر شيئا من النقول في ذلك في التاريخ القويم 1/88-91) ، وهو يقوي ما ذكرته آنفا من شهرة تسمية ما حول الصفا بالصفا.
يقول ابن جبير في رحلته (126) واصفا هذه الدار: (وهي بإزاء الصفا).
ويقول الفاسي في شفاء الغرام 1/363: (والصفا هو مبدأ السعي، وهو قرب هذه الدار). وانظر أيضا: تحصيل المرام 1/554.
وفي التاريخ القويم للكردي 2/88-91 تحقيقٌ ونقولٌ في محلها، ووصف لها، وأنها في زقاق على يسار الصاعد إلى الصفا، وبيان المسافة التي بينها وبين الصفا.
الثاني: ذكر بعضهم أن الصفا جبل له أكتاف، إذ لا يُعقل أن يكون له امتداد من الأمام دون الجانبين، ومثل هذا يقال في المروة.
والذين يقولون هذا يتصورون الصفا جبلاً مستقلاً، و يغفلون عن كونه قطعة ملتصقة بجبل أبي قبيس؛ فهو -كما سبق-: "حجرٌ من أبي قبيس"، و"أنفٌ منه"، و"طرفٌ منه"، و"رأس نهايته"، و"مصعدٌ إليه"، و"مكانٌ مرتفعٌ منه" .. وإذا كان كذلك زال الإشكال، ولم يُستبعد كونه كما هو عليه.
والقول في المروة كالقول في الصفا.
الثالث: أن بعضهم قد أشار إلى أن مما يرجح تقديم شهادة الشهود الحاليين أنهم مثبتون، والمتقدمون نافون؛ والمثبت مقدم على النافي.
وأظن أنه مع البيان السابق لن يكون لهذا الكلام محل من القبول.
وأضيف إلى ذلك: أن تطبيق هذه القاعدة (المثبت مقدم على النافي) في هذا الموضوع غير وارد؛ وذلك أن هذه القاعدة إنما تورد إذا أثبت أحد الطرفين ونفى الآخر علمه؛ فيكون المثبت مقدما على النافي؛ وأما مسألتنا هذه فليس قول المانعين فيها من باب نفي العلم؛ بل من باب العلم بالنفي؛ وبينهما فرق شاسع؛ فلا محل للقاعدة إذن.
وتوضيح ذلك: أن كلا الفريقين مثبت؛ هذا يثبت قدرا، وهذا يثبت قدرا أكبر؛ فكلاهما إذن مثبت؛ وليس منهما نافٍ.
على أنه يمكن جوابهم بقولهم -من باب المعارضة- بأن تُعكس القضية؛ فيقال: من أثبت الحد الأدنى أثبت عن علم، والنافي لذلك يقال له: المثبت مقدم على النافي!
الاستدلال الثاني: الاستدلال بامتداد جذور الصفا والمروة في باطن الأرض.
فبعض القائلين بالجواز يستدل بأن الحفريات قد أثبتت أن للصفا والمروة امتدادا في باطن الأرض؛ وبناء عليه فيجوز السعي في التوسعة لكون الساعي قد سعى بين الصفا والمروة في القدر المدفون تحت الأرض.
والجواب: أن هذا الاستدلال فيه من التكلف ما فيه، ولم يأمرنا ربنا أن ننقب في باطن الأرض حتى نمتثل ما شرعه لنا في قوله: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).
ويكفي في رد هذا الكلام المتكلف أن يقال: إذا ثبت أن للصفا والمروة امتدادا في باطن الأرض شرقا وغربا؛ فإن لهما امتدادا –أيضا- شمالا وجنوبا؛ وباتفاقٍ لا يصح أن يقال بأنه يجوز أن ينتقص الساعي من المسافة التي بين الصفا والمروة بحجة أن ثمة امتدادا للصفا في باطن الأرض من جهة الشمال، وامتدادا للمروة من جهة الجنوب؛ فيكون ساعيا بين الصفا والمروة في القدر المدفون تحت الأرض!
فظهر بهذا ضعف هذا الاستدلال.
الاستدلال الثالث: أنه لا تحديد لعرض المسعى في الكتاب والسنة وكلام أهل العلم.
هكذا ذكر بعضهم؛ وهو كلام ظاهر الضعف بحيث يُستغنى عن رده.
ومع ذلك يقال: أين هذا القائل عن قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)؟ أليس هذا تحديدا واضحا؟ محل السعي بيِّن في هذه الآية؛ وهو ما بين الصفا والمروة، ومن لم يسع بينهما كان ساعيا بجوارهما لا بينهما؛ وهذا خلاف ما في الآية.
ثم هو أيضا المحل الذي سعى فيه النبي عليه الصلاة والسلام، وهو القائل: (خذوا عني مناسككم) أخرجه مسلم.
ويقال ثالثا: هو المحل الذي أطبق المسلمون على السعي فيه عبر مراحل تاريخهم؛ فهو إجماع عملي لا شك فيه.
ويقال رابعا: يلزم من هذا القول أن كلام العلماء في تحديد المسعى –وقد نقلت طرفا منه- ما هو إلا عبث منهم وتكلف!
ويقال خامسا: إن هذا القول يلزم منه أن المسلمين –علماء وعامة- قد أطبقوا على التضييق على أنفسهم في أمر لهم فيه فسحة؛ فالناظر في كلام العلماء يجد أن الشكوى من الزحام في المسعى قديمة؛ فلماذا إذن رضوا بهذا الزحام وكان يمكنهم أن يسعوا في مساحة لا تُحد عرضا؟
ومن غرائب ما قرأت في هذا الموضوع: أن أحدهم يقول: إنه يمكن أن يسعى الساعي حيث شاء دون تقييد بحدود معينة؛ غير أن المهم هو أن يلصق قدمه بجبلي الصفا والمروة! هكذا قال، ولازم هذا أنه يمكن أن يسعى الساعي مشرقا حيث شاء –لأنه لا تحديد شرعا- ثم يعود إلى الصفا والمروة حتى يلصق قدمه به؛ فهل يقول عالم بذلك؟! وهل فعل هذا أحد من المسلمين قط؟
الاستدلال الرابع: قياس جواز توسعة المسعى على جواز توسعة المطاف.
والمتأمل في هذا القياس أدنى تأمل يدرك أنه قياس مع الفارق؛ فهو فاسد الاعتبار. وبيان ذلك:
أن الطواف مرتبط بالكعبة؛ وعليه فمهما توسع المطاف فيصدق على الطائف أنه طائف بالكعبة؛ أما في السعي فالأمر يختلف؛ إذ إن السعي مرتبط ببينية الصفا والمروة؛ وعليه فمن سعى وراء ذلك لم يكن ساعيا بين الصفا والمروة؛ وهذا خلاف ما أمرنا الله به في قوله: (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)، وخلاف فعله عليه الصلاة والسلام حيث طاف بين الصفا والمروة، وخلاف عمل المسلمين في مختلف العصور.
الاستدلال الخامس: الاستدلال بالضرورة، وأن الأمر إذا ضاق اتسع.
من أكثر ما قرأته في هذا الموضوع من الاستدلالات: الاستدلال على جواز توسعة المسعى بالضرورة؛ نظرا للمشقة الحاصلة على المسلمين من ضيق المسعى؛ والقاعدة: أن الأمر إذا ضاق اتسع.
وإذا كان المستدل بهذا الاستدلال من أصحاب مسلك التيسير الذي اتخذوه غاية ومنهجا لا يبالون لأجله بتخطي النصوص وتعدي الحدود؛ فهؤلاء لست معنيا بجوابهم؛ لأن الخلاف معهم أكبر من مسألة توسعة المسعى؛ إنه خلاف يشمل مسائل كثيرة؛ بل هو خلاف في منهج التلقي والاستدلال.
ولست أريد أن أخوض في ضوابط الضرورة ومدى انطباقها على الوضع الحالي –وهو السعي في الطوابق الثلاثة-.
سأتجاوز ذلك وأجيب بأنه على تسليم حصول المشقة العظيمة التي تبلغ بالأمر إلى حد الاضطرار فإنه يقال: من المتقرر عند أهل العلم أن الضرورة تقدر بقدرها؛ وعليه فإن الضرورة قد تبيح توسعة المسعى لو كانت الخيار الوحيد لدفعها؛ أما مع وجود ما يدفعها دون تخطي الحدود الشرعية؛ فإن الاستدلال بالضرورة يصبح حينئذ لا وجه له شرعا.
وإذا نظرنا في هذه المسألة وجدنا أن البديل لدفع الضرورة ممكن؛ وهو التوسع رأسيا بزيادة عدد من الأدوار تندفع بها هذه المشقة -لأن الهواء يحكي القرار- مع بقاء الحدود الشرعية للمسعى كما هي، وهذا ما أرشد إليه كبار العلماء في فتواهم الصادرة بالأغلبية في هذا الموضوع؛ فقد جاء في قرار الهيئة رقم (227) وتاريخ 22/2/1427هـ: (وبعد الدراسة والمناقشة والتأمل رأى المجلس بالأكثرية أن العمارة الحالية للمسعى شاملة لجميع أرضه، ومن ثم فإنه لا يجوز توسعتها، ويمكن عند الحاجة حل المشكلة رأسيا بإضافة بناء فوق المسعى).
ومن اللافت للنظر أنه مع كثرة المستدلين بالضرورة على جواز التوسعة لم أجد منهم تعريجا على الخيار الآخر وهو التوسع رأسيا؛ فالملاحظ أنهم قد أهملوا الإشارة إليه فضلا عن الجواب عنه.
وإنني لأطرح عليهم السؤال مرة أخرى: لماذا لا يكون الحل في زيادة الطوابق دون التوسعة؟
ولماذا الحرص على تغيير هذا المشعر الذي حافظ عليه المسلمون بحدوده أكثر من أربعة عشر قرنا مع وجود الحل الآخر؟
وبناء على التقرير السابق؛ فإنه إذا استدل المستدل على جواز توسعة المسعى بقاعدة: إذا ضاق الأمر اتسع؛ فإنه يجاب بتتمة القاعدة: وإذا اتسع –بإمكان التوسعة الرأسية- ضاق!
ثم إنه يلزم المستدل بالضرورة أن يقصر جواز السعي في التوسعة الجديدة على الوقت الذي يشتد فيه الزحام جدا –في أوقات المواسم المعلومة- وأما ما عداها فلا يجوز السعي فيها؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها، ولأنه إذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اتسع ضاق!
الاستدلال السادس: الاستدلال بقاعدة: الزيادة لها حكم المزيد؛ وبناء عليه فيكون للتوسعة حكم المسعى؛ فيجوز السعي فيها.
والجواب أن هذا الاستدلال بيّن الضعف؛ ذلك أن الزيادة لها حكم المزيد متى ثبت شرعا جواز الزيادة؛ وأما مع منعها فلا؛ فليس لصاحب أرض أن يغتصب الطريق المجاورة لأرضه ويضمها إليها ويقول: قد زدتها؛ والزيادة لها حكم المزيد!
والمانعون قد بينوا أن هذا المشعر توقيفي لا تجوز الزيادة عليه؛ وعليه فلا يصح الاستدلال بالقاعدة؛ بل الاستدلال بها حينئذ استدلالٌ بمحل النزاع.
الاستدلال السابع: الاستدلال بقاعدة: حكم الحاكم يرفع الخلاف.
والجواب عن هذا الاستدلال بعدم التسليم بكون هذه المسألة خلافية أصلا؛ فالخلاف فيها حادث؛ إذ هو مخالف لإجماع العلماء -بل المسلمين- قبله على أن المسعى محل تعبدي توقيفي.
ثم إن الاستدلال بهذه القاعدة موضع استغراب؛ فالحاكم في القاعدة يراد به القاضي وليس السلطان؛ ويراجع في هذا كلام العلماء عن القاعدة لا سيما ما ذكره القرافي في كتابه: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وفي كتابه الفروق أيضا.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما حكم الحاكم فذاك يقال له: قضاء القاضي ...) مجموع الفتاوى 35/376
ويقال أيضا: إن القرافي وغيره من أهل العلم قد بينوا أن محل القاعدة: مسائل النزاع والخصومات بين الناس وليس التعبديات.
والمقصود من القاعدة: أنه إذا حكم القاضي على أحد الخصمين في مسألة خلافية بأحد القولين فيها فليس للمحكوم عليه أن يتنصل من هذا الحكم بحجة أنه يرجح أو يقلد خلافه، وتكون المسألة حينئذ في حقه كالمجمع عليها. هذا المقصود من القاعدة؛ وليس جعل حكمه حكما عاما للناس جميعا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق "حكم الحاكم" ولو كان الحاكم أفضل أهل زمانه؛ بل حكم الحاكم العالم العادل يلزم قوما معينين تحاكموا إليه في قضية معينة؛ لا يلزم جميع الخلق) مجموع الفتاوى 35/372
ويقول: (فهذه الأمور الكلية ليس لحاكم من الحكام كائنا من كان -ولو كان من الصحابة- أن يحكم فيها بقوله على من نازعه في قوله؛ فيقول: ألزمته أن لا يفعل ولا يفتي إلا بالقول الذي يوافق لمذهبي؛ بل الحكم في هذه المسائل لله ورسوله –عليه الصلاة والسلام- والحاكم واحد من المسلمين؛ فان كان عنده علم تكلم بما عنده وإذا كان عند منازعه علم تكلم به؛ فان ظهر الحق في ذلك وعُرف حكم الله ورسوله –عليه الصلاة والسلام- وجب على الجميع اتباع حكم الله ورسوله –عليه الصلاة والسلام- وإن خفي ذلك أقر كل واحد على قوله -أقر قائل هذا القول على مذهبه وقائل هذا القول على مذهبه- ولم يكن لأحدهما أن يمنع الآخر إلا بلسان العلم والحجة والبيان؛ فيقول ما عنده من العلم.
وأما باليد والقهر فليس له أن يحكم إلا في المعينة التي يتحاكم فيها إليه، مثل ميت مات وقد تنازع ورثته في قسم تركته فيقسمها بينهم إذا تحاكموا إليه، وإذا حكم هنا بأحد قولي العلماء ألزم الخصم بحكمه، ولم يكن له أن يقول: أنا لا أرضى حتى يحكم بالقول الآخر، وكذلك إذا تحاكم إليه اثنان في دعوى يدعيها أحدهما فصل بينهما كما أمر الله ورسوله –عليه الصلاة والسلام- وألزم المحكوم عليه بما حكم به، وليس له أن يقول أنت حكمت علي بالقول الذي لا أختاره) مجموع الفتاوى 35/360
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -أيضا- زيادة في تحرير الكلام عن هذه القاعدة: (والأمة إذا تنازعت في معنى آية أو حديث أو حكم خبري أو طلبي لم يكن صحة أحد القولين وفساد الآخر ثابتا بمجرد حكم حاكم فإنه إنما ينفذ حكمه في الأمور المعينة دون العامة، ولو جاز هذا لجاز أن يحكم حاكم بأن قوله تعالى: (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) هو الحيض والأطهار، ويكون هذا حكما يلزم جميع الناس قوله، أو يحكم بأن اللمس في قوله تعالى: (أو لامستم النساء) هو الوطء والمباشرة فيما دونه، أو بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج أو الأب والسيد وهذا لا يقوله احد ... والذي على السلطان في مسائل النزاع بين الأمة أحد أمرين: إما أن يحملهم كلهم على ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة لقوله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) وإذا تنازعوا فَهِمَ كلامهم إن كان ممن يمكنه فهم الحق؛ فإذا تبين له ما جاء به الكتاب والسنة دعا الناس إليه، و[ولعل الصواب: أو] أن يقر الناس على ما هم عليه كما يقرهم على مذاهبهم العملية ... وأما إلزام السلطان في مسائل النزاع بالتزام قول بلا حجة من الكتاب والسنة فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين، ولا يفيد حكم حاكم بصحة قول دون قول في مثل ذلك إلا إذا كان معه حجة يجب الرجوع إليها؛ فيكون كلامه قبل الولاية وبعدها سواء، وهذا بمنزلة الكتب التي يصنفها فى العلم). مجموع الفتاوى 3/238-240.
الاستدلال الثامن: الاستدلال بأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن ينبه الصحابة الذين حجوا معه على عدم الخروج عن حدود هذا المسعى المعروف.
وهذا الاستدلال قد ذكره بعضهم؛ وتقريره: أن الذين حجوا مع النبي عليه الصلاة والسلام مائة ألف أو يزيدون، والوادي فسيح، ولم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يحذر الصحابة من الخروج عن حدود هذا المسعى المعلوم مع أن هذا وارد مع كثرة العدد وعدم وجود حدود تمنعهم من الذهاب شرقا وغربا؛ وعليه فلا حرج من التوسعة الشرقية للمسعى.
وهذا الكلام لا شك في بطلانه، وصاحبه قد تكلم في المسألة دون أن يتصور الواقع الذي يتحدث عنه.
فالمسعى لم يكن واديا فسيحا لا يحده شيء شرقا وغربا بحيث يمكن حصول ما ذكروا؛ بل قد كانت البيوت محدقة به على حافتيه؛ وعليه فلا يمكن لأحد منهم أن يسعى إلا في هذا المكان المعلوم.
ودونك نبذة عن حال المسعى وما أحاط به من خلال كتب التاريخ والحديث:
يقول ابن عمر رضي الله عنهما: (السعي من دار ابن عباد إلى زقاق بني حسين) علقه البخاري في صحيحه 3/501 مع الفتح.
ويقول الأزرقي 2/117: (قال ابن جريج: أخبرني نافع قال: فينزل ابن عمر من الصفا فيمشي حتى إذا جاء باب دار بني عباد سعى حتى ينتهي إلى الزقاق الذي يسلك إلى المسجد، الذي بين دار ابن أبي حسين ودار ابنة قرظة).
ومن ذلك أيضا أنه كانت البيوت قائمة بين المسجد والمسعى ولم يدخل منها شيء في المسجد حتى وسع المهدي المسجد؛ يقول الأزرقي 2/75: (فاشترى [أي المهدي] جميع ما كان بين المسعى والمسجد من الدور فهدمها ووضع المسجد على ما هو اليوم شارعا على المسعى).
ويقول أيضا 2/79: (وكانت الدور وبيوت الناس من ورائه [أي المسجد] في موضع الوادي اليوم، إنما كان موضعه دور الناس، وإنما كان يسلك من المسجد إلى الصفا في بطن الوادي، ثم يسلك في زقاق ضيق حتى يخرج إلى الصفا من التفاف البيوت، فيما بين الوادي والصفا).
ويقول أيضا 2/90: (كانت دور بني عدي ما بين الصفا والمسجد وموضع الجنبزة التي يسقى فيها الماء عند البركة هلم جرا إلى المسجد).
ويقول أيضا 2/261: (وكانت مساكن بني عدي ما بين الصفا إلى الكعبة).
ويقول أيضا 2/233: (وللعباس بن عبد المطلب أيضا الدار التي بين الصفا والمروة التي بيد ولد موسى بن عيسى التي إلى جنب الدار التي بيد جعفر بن سليمان، ودار العباس هي الدار المنقوشة التي عندها العلم الذي يسعى منه من جاء من المروة إلى الصفا بأصلها، ويزعمون أنها كانت لهاشم بن عبد مناف).
ويقول أيضا 2/235: (لآل عتبة بن فرقد السلمي دارهم وربعهم التي عند المروة).
ويقول أيضا 2/247: (ولآل الأزرق بن عمرو أيضا دارهم التي عند المروة إلى جنب دار طلحة بن داود الحضرمي، يقال لها دار الأزرق، وهي في أيديهم إلى اليوم، وهي لهم ربع جاهلي).
ويقول أيضا: (ربع آل داود بن الحضرمي واسم الحضرمي عبد الله بن عمار حليف عتبة بن ربيعة قال أبو الوليد: لهم دارهم التي عند المروة، يقال لها دار طلحة، بين دار الأزرق بن عمرو الغساني ودار عتبة بن فرقد السلمي، ولهم أيضا الدار التي إلى جنب هذه الدار عند باب دار الأزرق أيضا، يقال لها دار حفصة، ويقال لها دار الزوراء، ومن رباعهم أيضا الدار التي عند المروة في صف دار عمر بن عبد العزيز، ووجهها شارع على المروة).
ويقول أيضا 2/250: (رباع بني نوفل بن عبد مناف قال أبو الوليد: كانت لهم دار جبير بن مطعم عند موضع دار القوارير اللاصقة بالمسجد الحرام بين الصفا والمروة، اشتريت منهم في خلافة المهدي أمير المؤمنين حين وسع المسجد الحرام ... ولهم دار عدي بن الخيار، كانت عند العلم الذي على باب المسجد الذي يسعى منه من أقبل من المروة إلى الصفا).
ويقول أيضا 2/255: (ربع آل قارظ القاريين وهي الدار التي يقال لها دار الخلد على الصيادلة، بين الصفا والمروة).
ويقول أيضا 2/254: (وكانت لهم دار مخرمة بن نوفل التي بين الصفا والمروة التي صارت لعيسى بن علي عند المروة).
هذه طائفة يسيرة من الشواهد على ما كان يحيط بالمسعى من بيوت، ولو أردت الزيادة لزدت، وهي دليل على أن هذه الحجة هشة ضعيفة.
الاستدلال التاسع: الاستدلال بأن المسعى قد تعرض للتغيير سابقا.
مما رأيت بعض المفتين بجواز التوسعة قد اعتمد عليه في فتواه: القول بأن المسعى قد طالته يد التغيير والتوسع في السابق دون نكير من أهل العلم؛ فدل على جواز هذه التوسعة؛ ولا تكون بذا بدعا من التصرف.
وإذا أثار المستدلون هذا الجانب من الاستدلال فإنهم إنما يشيرون في الغالب إلى ما حصل في عهد الخليفة المهدي العباسي رحمه الله أثناء توسعة المسجد الحرام؛ إذ من المعلوم أن المهدي قد قام بتوسعة المسجد الحرام مرتين: الأولى: عام 164هـ، والأخرى عام 167هـ، والتوسعة الثانية هي التي حصلت فيها تغيير في محل المسعى على ما يذكر هؤلاء المستدلون.
والمعتمد في هذا على أقوال ذكرها الأزرقي في أخبار مكة فيها ما يشير إلى حصول هذا التغيير؛ من ذلك: قوله 2/62 عن جده –أو من فوقه من شيوخه؛ فالعبارة محتملة-: (والمهدي وضع المسجد على المسعى)، وقوله 2/80: (فهدموا أكثر دار ابن عباد بن جعفر العايذي وجعلوا المسعى والوادي فيهما) وعند الفاكهي 2/173 –وقد نقل عبارة الأزرقي-: (فيها).
وسوف أتوسع بعض الشيء في الجواب عن هذا الاستدلال لشهرته لدى بعض طلبة العلم الذين يُسمع احتجاجهم به دون أن يكونوا قد أنعموا النظر فيه؛ وهذا مما يعطي انطباعا عن المنهج العلمي الذي سار عليه بعض من تكلم في هذا الموضوع تقريرا واستدلالا.
فأقول وبالله التوفيق: الجواب عن هذا الاستدلال أن يقال:
لم يحصل في توسعة المهدي ولا قبلها ولا بعدها أن توسع المسعى جملةً شرقاً أو غرباً، ويخطئ من يظن ذلك استنادا إلى قصة التوسعة هذه، ويخطئ أيضا من يجعلها أصلا يقيس عليه التوسعة الحالية، وتوضيح ذلك:
أن المهدي في توسعته الأولى اشترى جميع ما كان بين المسعى والمسجد من الدور فهدمها ووسع المسجد، وانتهت التوسعة شرقا إلى حد المسعى، يقول الأزرقي 2/75: (فاشترى جميع ما كان بين المسعى والمسجد من الدور فهدمها ووضع المسجد على ما هو اليوم شارعا على المسعى).
إذن التوسعة لم ينل المسعى منها شيء، واستمر المسعى محفوظا من ذلك إلى عهد الأزرقي وإلى ما بعده؛ وهذا معنى العبارة السابقة: (والمهدي وضع المسجد على المسعى) أي أزال البيوت التي كانت بين المسجد والمسعى وجعل المسجد على حد المسعى، وليس أنه أدخل المسعى في المسجد وأنشأ مسعى جديدا وراء ذلك؛ فهذا خطأ، وهذا ما وضحه الأزرقي نفسه حيث قال: (ووضع المسجد على ما هو اليوم شارعا على المسعى).
ويؤكد ذلك ما جاء عند الفاكهي في أخبار مكة 2/87: (وأمير المؤمنين المهدي وضع أبواب المسجد على المسعى).
وقد تقدم النقل عن أهل العلم بأن من سعى من داخل المسجد فسعيه باطل، وهذا يدل على أنه ليس من المسعى في المسجد شيء.
هذا عن العبارة الأولى، أما العبارة الأخرى وما أشبهها مما أورده الأزرقي في كتابه؛ فقبل أن أجيب على ما يتعلق بها أشير إلى شيء ينبغي ألا يُهمل أثناء النظر في هذا الموضوع؛ ألا وهو أن الإشارة إلى حصول شيء من التغيير في المسعى لم ينقلها أحد –وأقول هذا بعد بحث طويل- سوى الأزرقي، وكل من جاء بعده وأشار إلى هذا الموضوع -كالفاكهي وابن فهد وابن ظهيرة وابن الضياء والفاسي والصباغ وغيرهم- فهو ناقل عنه، وأما جل مشاهير المؤرخين فلم ينقلوا شيئا يتعلق بهذا الأمر الجلل مطلقا، مع إشارتهم إلى توسعة المهدي للمسجد.
ومثلهم في السكوت علماء الفقه؛ إذ إن جماهيرهم لم يشيروا إلى شيء يتعلق بذلك، مع أن القضية لها ارتباط شرعي، ومن أشار إلى ذلك –كالرملي مثلا- فهو ناقل عن الأزرقي أيضا.
إذن هذه القضية على جلالة قدرها ليس لها من مستند تاريخي إلا ما دونه الأزرقي نقلا عن جده فقط.
هذه لفتة أحببت أن يرمقها العاقل بعين بصيرته، وإن كنت لن أقف عندها.
أقول مستعينا بالله: الجواب عن الاستدلال بما أورده الأزرقي من وجوه:
أولا: المنقول في كتاب الأزرقي -ومن جاء بعده ناقلا عنه- لا يتعلق بالمسعى جميعا؛ إنما يشير إلى أنه طرأ شيء ما على موضع السعي –أي الهرولة- فحسب؛ فقول الأزرقي 2/80: (فهدموا أكثر دار ابن عباد بن جعفر العايذي وجعلوا المسعى والوادي فيهما) إنما أراد به بطن الوادي الذي هو موضع الهرولة؛ وهذا يُطلق عليه –أيضا-: المسعى، وهذا الإطلاق أمرٌ معلوم؛ فعند الترمذي عن كثير بن جمهان قال: (رأيت ابن عمر يمشي في المسعى) وفي تحفة الأحوذي 3/601: (أي مكان السعي وهو بطن الوادي).
ومنه أيضا قول الأزرقي 2/119: (وذرع ما بين العلم الذي في حد المنارة إلى العلم الأخضر الذي على باب المسجد - وهو المسعى - مائة ذراع واثنا عشر ذراعا).
والخلاصة أن المسعى يطلق ويراد به جميع ما بين الصفا والمروة، ويطلق ويراد به بطن الوادي لأنه محل للسعي –أي الهرولة- ومن هذا الباب قول الأزرقي السابق؛ فالتغيير الذي أشار إليه إنما يتعلق بهذا الجزء فحسب دون سائر المسعى؛ وهذا لا شك فيه؛ إذ كيف يُجعل المسعى كله في موضع دار؟
وقد أفصح الفاسي بتوضيح موضع التغيير الذي أشار إليه الأزرقي؛ حيث قال: (وذكر الأزرقي ما يقتضي أن موضع السعي فيما بين الميل الذي بالمنارة والميل المقابل له لم يكن مسعى إلا في خلافة المهدي العباسي بتغيير موضع السعي قبله في هذه الجهة) ثم نقل كلام الأزرقي الذي نقلت بعضه فيما مضى، انظر: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1/520
ثانيا: إذا اتضح أن محل التغيير إنما يتعلق بجزء من المسعى –وهو محل الهرولة- فينبغي أن يُعلم أن هذا التغيير –إن صح حصوله- فهو مخصوص بجزء يسير من هذا الموضع المخصوص؛ وذلك أن دار ابن عباد كانت عند مبتدأ الوادي –محل الهرولة- وفي محلها وُضع علم السعي المعلق على منارة المسجد –منارة باب علي- الذي يذكره الفقهاء في كتبهم؛ وهو مبتدأ الهرولة للقادم من الصفا إلى المروة، وفي هذا يقول ابن عمر رضي الله عنهما: (السعي من دار ابن عباد إلى زقاق بني حسين) علقه البخاري في صحيحه 3/501 مع الفتح.
وقد تكلم المؤرخون عن موضع دار ابن عباد وأنها كانت عند حد ركن المسجد الحرام؛ يقول الأزرقي 2/79: (وكان باب دار محمد بن عباد بن جعفر عند حد ركن المسجد الحرام اليوم، عند موضع المنارة الشارعة في بحر [وفي نسخة: في نحو] الوادي، فيها علم المسعى، وكان الوادي يمر دونها في موضع المسجد الحرام اليوم). وانظر أخبار مكة للفاكهي 2/208.
والمقصود أن هذه الدار في طرف من الوادي من الجنوب ولم تستوعبه كله؛ فهو إذن تغيير يسير، لا كما يتصوره بعضهم أنه تغيير كبير، ويتأيد هذا بقول الفاسي شفاء الغرام 1/520: (والظاهر –والله أعلم- إجراء المسعى [كذا، ولعل الصواب: السعي] بموضع السعي اليوم وإن تغير بعضه عن موضع السعي قبله).
ويؤيد أن التغيير يسير ليس بذي بال أن الأزرقي –نفسه- لما تكلم عن رباع مكة ودور أهلها وبلغ بحديثه إلى دار عباد بن جعفر أشار إلى جعل الوادي فيها ولم يشر إلى شيء يتعلق بالمسعى؛ حيث يقول 2/259-260: (فلما أن وسع المهدي المسجد الحرام في سنة سبع وستين ومائة وأدخل الوادي في المسجد الحرام، أُدخلت دار عباد بن جعفر هذه في الوادي؛ اشتريت منهم وصُيرت بطن الوادي اليوم، إلا ما لصق منها بالجبل -جبل أبي قبيس-)..
ثالثا: مما يعكر صفو ما قرره الفاسي متابعا فيه الأزرقي أن من أهل العلم من قرر أن موضع السعي –الهرولة- هو كما كان عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يطرأ عليه تغيير، وفي هذا يقول ابن القيم في زاد المعاد 2/228: (والظاهر أن الوادي لم يتغير عن وضعه). وبمثله قال ابن جاسر في منسكه (270)..
ويؤيده أن وضع الأعلام –الأميال- التي في محل الوادي ليس إلا لضبط محل سعيه عليه الصلاة والسلام، وعليه فالظاهر أنه لم يطرأ تغيير على هذا الموضع وإلا لم يكن لوضعها فائدة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة – المناسك 2/464: (وقد حدد الناس بطن الوادي الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يسعى فيه بأن نصبوا في أوله وآخره أعلاما، وتسمى أميالا، ويسمى واحدها: الميل الأخضر؛ لأنهم ربما لطخوه بلون خضرة ليتميز لونه للساعي، وربما لطخوه بحمرة).
ومن العجيب أن المهدي الذي يُنسب إليه نقل المسعى وتوسعته شرقا هو الذي يُنسب إليه بناء هذه الأعلام؛ يقول القلقشندي في مآثر الخلافة 1/185 في تعداد مناقب المهدي: (وبنى العلمين اللذين يُسعى بينهما).
وإذا كان حريصا على بقاء الموضع الذي سعى فيه النبي عليه الصلاة والسلام ظاهرا للمسلمين، سالما من التغيير؛ فكيف يُظن به أنه ينقل المسعى عن موضعه؟
وهذه الأميال لم تزل على حالها –بحمد الله- إلى العصر الحاضر قبيل التوسعة السعودية الأولى، انظر وصفها لحسين باسلامة في تاريخ عمارة المسجد الحرام 303، ثم وضع محلها هذه العلامات الظاهرة الآن في سقف المسعى وجوانبه.
ويتأيد هذا بوجه آخر: وهو أن المتتبع لكلام العلماء في هذا الباب يقطع بأنهم أشد ما يكونون حرصا على الالتزام بالهدي النبوي، ومن ذلك جعلهم المشاعر –ومنها المسعى- أماكن توقيفية؛ ومن ذلك أنهم نصوا على أن على الساعي أن يسعى قبل وصوله الميل بستة أذرع حتى يطابق محل السعي الذي جرى فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام -كما نص على هذا الشافعي وغيره من أهل العلم، انظر: مختصر المزني 76، والمغني لابن قدامة 5/236، وشرح العمدة لابن تيمية 2/465، ومواهب الجليل 4/156 وغيرها من كتب الفقه- هذا مع كون الهرولة سنة ومن تركها فليس عليه شيء في قول جماهير أهل العلم؛ فأين تنبيههم على محل المسعى النبوي عرضا لو كان ثمة تغيير شرقا أو غربا؟
والخلاصة المستفادة مما سبق: أن المستدل بهذه القصة إن استدل بها على أن المسعى قد نُقل بالكامل عن موضعه؛ فهو استدلال باطل.
وإن قال: إن موضع الهرولة قد تغير موضعه بالكامل؛ فهو أيضا قول باطل.
وإن قال: إن موضعا يسيرا في محل الهرولة قد حصل فيه تغيير؛ فهذا ليس مسلما؛ بل يلفه شيء من الشك؛ وعليه فلا يصلح مستمسكا في هذه القضية الشرعية بالغة الأهمية.
رابعا: أنه على تسليم حصول هذا التغيير، وأن جزءا من المسعى –في محل الهرولة- جُعل في دار ابن عباد؛ فإن هذا ليس فيه ما يدل على جواز تغيير محل هذه العبادة التوقيفي، أو أن هذا التغيير قد حصل بالفعل؛ وإنما غاية ما هنالك أنه أزيل بناء كان قائما في محل يُشرع السعي فيه.
وكأني بدار ابن عباد هذه مشابهة في حالها لدار آل الشيبي التي أزيلت في العصر الحديث –خلال التوسعة السعودية الأولى- والتي كان محلها بين موضع السعي من جهة الصفا وبين الشارع العام الملاصق للمسجد الحرام مما يلي باب الصفا (انظر: فتاوى الشيخ ابن إبراهيم 5/139) وكان قرار اللجنة الذي وافق عليه سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: (ولا بأس من السعي في موضع دار الشيبي لأنها على مسامتة بطن الوادي بين الصفا والمروة) 5/143-144.
والخلاصة: أن جعل المسعى في دار ابن عباد لم يُخرج هذا الموضع من المسعى عن الحد الشرعي فيما بين الصفا والمروة قطعا، والمطلوب شرعا السعي بين الصفا والمروة وليس الموضع الذي سعى فيه عليه الصلاة والسلام على وجه الخصوص، وهذا حاصل بعد هذا التغيير –إن كان-؛ فلم يزل الناس يسعون بين الصفا والمروة كما كان الأمر قبل توسعة المهدي ولم يتغير شيء من ذلك البتة.
يوضح ذلك: أن الدرج التي على الصفا وعلى المروة قد بنيت قبل المهدي –في عهد والده أبي جعفر المنصور- وفي هذا يقول الأزرقي 2/102: (حتى كان عبد الصمد بن علي في خلافة أبي جعفر المنصور فبنى درجهما التي هي درجهما).
ويقول الفاكهي 2/245: (فدرجهما إلى اليوم قائمة).
فهذه الدرج بقيت على موضعها بعد التغيير المذكور –إن صح- ولم تزل كذلك إلى ما قبل التوسعة السعودية الأولى؛ وهي شاهد صدق على أن المسلمين لم يكونوا يسعون إلا في هذا المسعى المعروف بين الصفا والمروة، وأن المسعى لم يخرج عن كونه بين الصفا والمروة؛ فالساعي كان ينزل من هذه الدرج التي على المسعى قاصدا المروة قبل توسعة المهدي، واستمر الأمر كذلك بعد التوسعة وإلى التوسعة السعودية الأولى، بل وإلى اليوم؛ فالمسعى هو هو بحمد الله.
وهذا دليل آخر على أن المسلمين لم يزالوا محافظين على محل هذه الشعيرة دون زيادة أو نقصان.
ويؤيده –أيضا- أن الإجماع قد قام على صحة السعي في هذا المسعى المعروف الذي توارثه الناس مع وقوع هذا التعديل الطفيف فيه إن صح ذلك.
يقول الفاسي في شفاء الغرام 1/520 - 521: (والظاهر –والله أعلم- إجراء المسعى [كذا، ولعل الصواب: السعي] بموضع السعي اليوم وإن تغير بعضه عن موضع السعي قبله لتوالي الناس من العلماء وغيرهم على السعي بموضع السعي اليوم، ولا خفاء في تواليهم على ذلك ... وما حُفظ عن أحد منهم إنكار لذلك ولا أنه سعى في غير المسعى اليوم ... فيكون أجرى [كذا] السعي بمحل السعي مجمعا عليه عند من وقع التغيير في زمنهم وعند من بعدهم، والله أعلم).
ويقول الرملي في نهاية المحتاج 3/291: (ويشترط [أي في السعي] قطع المسافة بين الصفا والمروة كل مرة، ولا بد أن يكون قطع ما بينهما من بطن الوادي، وهو المسعى المعروف الآن؛ وإن كان في كلام الأزرقي ما يوهم خلافه؛ فقد أجمع العلماء وغيرهم من زمن الأزرقي إلى الآن على ذلك).
ويقول ملا علي القاري في مرقاة المفاتيح 5/475: (والمسعى هو المكان المعروف اليوم؛ لإجماع السلف والخلف عليه كابرا عن كابر ولا ينافيه كلام الأذرعي أن أكثره في المسجد كما توهم ابن حجر رحمه الله فتدبر).
وكلام الأذرعي هذا قد حرصت على الظفر به فلم أفلح؛ ومهما يكن فليس صحيحا أن أكثر المسعى في المسجد؛ فهذا قول شاذ مخالف للإجماع، وكلام ملا علي القاري يُلمح إلى أن هذا الإجماع العملي مقدم على ما يقال بخلافه.
ويقول الباجي في المنتقى شرح الموطأ 2/305: (والسعي بين العلمين هو الذي يقتضيه الحديث المذكور، وقد أَعلَمت الخلفُ ذينك الموضعين حتى صار إجماعا).
ويقول مؤرخ مكة الخبير بها محمد طاهر الكردي في كتابه التاريخ القويم 5/363: (موضع السعي هو هو؛ لم يتغير ولم يتبدل ولم ينقص ولم يزد).
والمستخلص من هذه النقولات أن موضع السعي المعروف توقيفي مجمع عليه؛ وعليه فلا يجوز أن يُخرج عنه بحال.
وأضيف إلى ما سبق جوابين آخرين يؤكدان بطلان القول بأن المسعى قد توسع شرقا كما يردد هذا بعضهم:
1- كان يقابل باب المسجد المسمى باب العباس والميل المعلق عليه الذي منه مبتدأ الهرولة للقادم من المروة إلى الصفا – أقول: كان يقابل هذا الباب: دار تسمى: دار العباس، وقد أطبقت كتب تاريخ مكة على تحديد محلها، وأنها كما هي قبل توسعة المهدي وبعدها، بل وإلى الأزمنة المتأخرة حينما صارت خرابا في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية –انظر: شرح العمدة 2/465- ورباطا فيما بعده –انظر: مغني المحتاج 1/495، وشفاء الغرام 1/440، وتحصيل المرام 1/346- أقول: هذه الدار معروفة ومكانها محفوظ إلى وقت التوسعة السعودية الأولى؛ فلو كان ثمة توسعة للمسعى من جهة الشرق لدخلت هذه الدار في التوسعة قطعا ولزال وجودها؛ إذ لم يكن بينها وبين جدار المسجد سوى خمسة وثلاثون ذراعا فقط، أي ستة عشر مترا تقريبا! وهذا لم يكن.
2- يلاحظ أن من يرسل الكلام بأن المسعى قد توسع في مراحل مختلفة من التاريخ لا يستطيع أن يجيب على هذا السؤال: إلى أي حد بلغ هذا الامتداد خلال هذه المراحل؟ ليس في كلام المؤرخين في هذا كلمة واحدة! مع أنهم اعتنوا بأمور هي أقل من هذا بكثير؛ حتى إنهم قالوا: إن بين جدار باب بني شيبة بالمسجد الحرام إلى جدار المشعر الحرام بمزدلفة: خمسة وعشرين ألف ذراع وسبعمائة وثمانية أذرع وأربعة أسباع الذراع! انظر: شفاء الغرام 1/507
أفتراهم يعتنون بذكر هذا التحديد ذي المسافة البعيدة مع أنه لا يترتب على ذكره فائدة، ويهملون تحديد مسافة المسعى بعد تأخير موضعه –كما يُزعم- مع تعلق عبادة السعي به؟!
أختم هذه المسألة بذكر شاهد على عناية العلماء ببقاء المسعى محفوظا عن الزيادة والنقصان، وعلى شدة إنكارهم على من حاول العبث بحدوده التوقيفية، وقد ورد ذكره سابقا.
ذلكم ما أورده القطب الحنفي في كتابه الإعلام 104-106 (نقلا عن تحصيل المرام للصباغ 1/346-348) في قصة تعدي أحد التجار –واسمه: ابن الزمن- على المسعى حين اغتصب من جانبه ثلاثة أذرع ليجعلها ضمن أرض يبني عليها رباطا للفقراء؛ فمنعه قاضي مكة ابن ظهيرة وجمع محضرا من العلماء وفيهم من علماء المذاهب الأربعة وقابلوا هذا التاجر (وأنكر عليه جميع الحاضرين وقالوا له في وجهه: أنت أخذت من المسعى ثلاثة أذرع وأدخلتها، وأحضروا له النقل بعرض المسعى من تاريخ الفاكهي، وذرعوا من جدار المسجد إلى المحل الذي وضع فيه ابن الزمن الأساس فكان عرض المسعى ناقصا ثلاثة أذرع).
فهذا شاهد على اهتمام أهل العلم بهذا المشعر العظيم ومنع التغيير فيه حتى ولو كان قدرا يسيرا لا يتجاوز مترا ونصفا، ونحمد الله أن هذا التعدي كان مؤقتا وزال؛ فإن التوسعة السعودية الأولى قد استوعبت المسعى بعرضه المتوائم مع ما ذكره المؤرخون القدماء ولله الحمد.
الخاتمة
هذا ما أردت بيانه في هذه المسألة؛ إبراء للذمة، وصدعا بالحق الذي أدين به، والله يشهد أني بذلت قصارى جهدي في الوصول إليه.
وإنني في ختام هذا البحث لأهيب بأهل العلم وبأصحاب القرار أن يعيدوا النظر في هذه التوسعة.
إن خيرا للأمة أن تبقى على الأمر الواضح المستبين الذي مضى عليه عمل المسلمين وتوارد عليه الناس وتلقاه الخلف عن السلف، بعيدا عن التكلف في الاستدلال واتباع المتشابه من كلام أهل العلم؛ فهذا الذي لا ينازع عاقل في أنه أسلم في الدين وأبرأ للذمة، وبه تحصل الطمأنينة بصحة العبادة.
وإذا كان العقد قد انفرط ولم يمكن التدارك فلا أقل من جعل المسعى القديم بحاله ذهابا وإيابا، فمن طابت نفسه بالسعي في المسعى المحدث فدونه، ومن أراد أن يسعى كما سعى المسلمون قبله فلا يبقى في صدره حرج من صحة عبادته.
وكأني بهذه التوسعة -لو مضت كما هو مرسوم لها- وقد وقف العقلاء إزاءها عاجزين عن حل معضلة كبرى؛ ألا وهي التنازع والتدافع اللذين سيسببهما إصرار كثير من المسلمين على السعي في المسعى القديم ذهابا ومجيئا احتياطا لعبادتهم! وحينها سنقع في شر مما فررنا منه، والأمر لله.
ويحسن أن أحلي ختام البحث بكلمات نيرات للشيخ العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله تتعلق بهذا الموضوع.
قال رحمه الله: (يتعين ترك الصفا والمروة على ما هما عليه أولاً، ويسعنا ما وسع من قبلنا في ذلك، ولو فُتحت أبواب الاقتراحات في المشاعر لأدى ذلك إلى أن تكون في المستقبل مسرحًا للآراء، وميدانًا للاجتهادات، ونافذة يولج منها لتغيير المشاعر وأحكام الحج، فيحصل بذلك فساد كبير ... ولا ينبغي أن يُلتفت إلى أماني بعض المستصعبين لبعض أعمال الحج واقتراحاتهم، بل ينبغي أن يُعمل حول ذلك البيانات الشرعية بالدلائل القطعية المشتملة على مزيد الحث والترغيب في الطاعة والتمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته في المعتقدات والأعمال، وتعظيم شعائر الله ومزيد احترامها) الفتاوى (5/146-147).
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، وحسن الاتباع للنبي الكريم عليه الصلاة والسلام -ففي ذلك الخير كل الخير- كما أسأله جل وعلا أن يوفق ولاة أمورنا إلى ما فيه صلاح الدين والدنيا، وأن يزيدهم توفيقا، وأن يمن عليهم بالهداية إلى الحق والعمل به؛ إن ربي قريب مجيب.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تمت كتابة مسودة هذا البحث في 2/4/1429هـ، ثم راجعته وأضفت إليه وهذبته بعدُ.
dr.saleh.s@gmail.com
نقله / أنس الرشيـد
فجزاه الله عنا خير الجزاء ووفقه الله لما يحبه ويرضاه

[/B]
 

أبو عبد الباري المدني

:: مخالف لميثاق التسجيل ::
إنضم
7 يونيو 2008
المشاركات
16
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مراكش
المذهب الفقهي
المالكي
دعوة لرفع الموضوع والعناية به لأنه في غاية الأهمية

دعوة لرفع الموضوع والعناية به لأنه في غاية الأهمية

[أسأل الله العلي القدير أن يجزي الشيخ صالح السندي خير الجزاء وأن ينفع بعلمة بعامة وبهذا البحث على وجه الخصوص فقد أجاد وأفاد وأرشد إلى الحق الذي يدعو إلى تعظيم شعائر الله على مراد الله نحسبه والله حسيبنا وإياه، وهي دعوة صارخة أرفع بها العقيرة إلى اغتنام ثمرات هذا البحث المبارك علَّ الله تعالى أن يشملنا بعفوه وقوله: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}
 

د. عبدالحميد بن صالح الكراني

:: المشرف العام ::
طاقم الإدارة
إنضم
23 أكتوبر 2007
المشاركات
8,136
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أسامة
التخصص
فقـــه
الدولة
السعودية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
جزاكما الله خيراً على إثراء هذا الموضوع من النوازل المعاصرة
 

د. عبدالحميد بن صالح الكراني

:: المشرف العام ::
طاقم الإدارة
إنضم
23 أكتوبر 2007
المشاركات
8,136
الجنس
ذكر
الكنية
أبو أسامة
التخصص
فقـــه
الدولة
السعودية
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن

أبو عبد الباري المدني

:: مخالف لميثاق التسجيل ::
إنضم
7 يونيو 2008
المشاركات
16
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مراكش
المذهب الفقهي
المالكي
بارك الله فيك أخي الكريم الأستاذ عبد الحميد وكل الإثراء منكم وإليكم أسأل الله الكريم بمنه أن ينفع بهذه الأبحاث القيمة وأن يرزقنا حسن الهداية وكريم الاقتفاء وأن يخلص نياتنا ويصلح عمالنا ، والموضوع في الحقيقة حريٌّ بالعناية وحديث الساعة
 

حسنون

:: مخالف لميثاق التسجيل ::
إنضم
10 نوفمبر 2008
المشاركات
9
التخصص
نظم معلومات
المدينة
مكة المكرمة
المذهب الفقهي
شافعي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين وصلى الله وسلم على النبي الأمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الإخوان الكرام
جزاكم الله خير الجزاء على هذه المواضيع النافعة ، وسياقكم للأبحاث والأقوال والأدلة
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى
والسلام​
 
أعلى