عبد الكريم محمد بناني
:: متابع ::
- إنضم
- 22 يونيو 2011
- المشاركات
- 15
- الكنية
- bennanikarim
- التخصص
- الأصول والمقاصد
- المدينة
- فاس
- المذهب الفقهي
- المالكي
منهج الإمام مالك في التعامل مع الدلالات اللغوية
- دلالة المفهوم نموذجا -
د.عبد الكريم بناني ، باحث في الفكر الإسلامي ، دكتوراه في العلوم الإسلامية المغرب (أرجو توثيق النص عند اعتماده للأمانة العلمية)
karimbennani77@gmail.com
لم يتعامل الإمام مالك مع النصوص الشرعية باعتبارها مناهج للاستنباط فقط، بل سلك منمهجأ متميزا يتمثل في استيعاب القضايا التي يطرحها النص الشرعي ومن تم التركيز على القواعد الاستنباطية المؤسسة للحكم الشرعي، وكان هذا المسلك سببا في فتح شهية الأتباع لتتبع مثل هده القضايا واستخراج القواعد .
وقد يستغرب البعض من هذا الكلام ،على اعتبار أن مالكا تحدث عن جملة أصول بعقلية المنظر والمؤسس وهو كلام معقول لأن رسالته إلى الليث بن سعد في عمل أهل المدينة تأكيد لهده الحقيقة ،غير أن الجانب الآخر كان وراء توسع وتضييق علماء وفقهاء المذهب في أصول المالكية ومنها الدلالات اللغوية ، التي تعد وسائل ضرورية وآليات مهمة في تفسير النصوص الشرعية.
وسأحاول هنا ، أن أوضح موقف الإمام مالك ومنهجه في التعامل مع هذه الدلالات، وخاصة دلالة المفهوم في النقاط التالية:
أولا: موقع دلالة المفهوم من الدلالات اللغوية عند جمهور الأصوليين
ثانيا : موقف الإمام مالك من دلالة المفهوم من خلال الآراء الأصولية
ثالثا : موقفه من دلالة المفهوم من خلال الفروع الفقهية .
فأقول وبالله التوفيق ، ومنه نستمد العون والهداية
أولا: موقع دلالة المفهوم من الدلالات اللغوية عند جمهور الأصوليين
المفهوم في اللغة من " فهمت الشئ فهما وفهامية ، علمته ، وفلان فهم ، وقد استفهمني الشئ فأفهمته وفهمته تفهيما ، وتفهم الكلام إذا فهمه شيئا بعد شئ "
والفهم المصدر ، والفهم الاسم ، والمفهوم اسم مفعول ، وفي لسان العرب " الفهم معرفتك الشئ بقلبك " ، وهذا يدل أن للعقل والقلب مجالا للمعرفة والتوسع والاستفادة .
وفي المعنى الاصطلاحي الذي درج عليه الأصوليون في تعاملهم مع المصطلح يقصدون به : ما يخالف المنطوق ، وبالتالي فدلالة المفهوم عندهم تأتي في مقابلة دلالة المنطوق ، لأن الدلالة ""ما يلزم من فهمها فهم شيء آخر" وفيما يلي بيان ذلك :
ا ـ المنطوق :
معنى المنطوق عند أهل اللغة: "تكلم بصوت وحروف تعرف بها المعاني" ، وعند أهل الفن: "ما دل عليه اللفظ في محل النطق" ، فالمنطوق إذاً هو "دلالة اللفظ على حكم ما ذكر في الكلام ونطق به، سواء أكان هذا المدلول كل المعنى الذي وضع له اللفظ أم جزأه أو لازمه، فهي تعم الدلالات الثلاث: المطابقة والتضمن والالتزام" .
وهو قسمان: صريح وغي صريح.
1 ـ المنطوق الصريح :
هو ما وضع اللفظ له، أي دلالة اللفظ على ما وضع له بالاستقلال أو بمشاركة الغير، فيشمل المطابقة والتضمن .
2 ـ المنطوق غير الصريح :
وهو "ما لم يوضع اللفظ له، بل يلزم ما وضع له فيدل عليه بالالتزام" ، وهو إما "دلالة اقتضاء أو إيماء أو إشارة، وقد سبق ذكر الاقتضاء والإشارة عند الحنفية، أما دلالة الإيماء أو التنبيه فيعرفها عضد الدين الإيجي بقوله: "أن يقترن بحكم لو لم يكن للتعليل لكان بعيدا، فيفهم منه التعليل ويدل عليه وإن لم يصرح به" .
ب ـ المفهوم :
وهو القسم الثاني من دلالة اللفظ على المعنى عند جمهور الأصوليين – بخلاف الحنفية - ، ويحدده أهل الفن بأنه: "ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق بأن يكون حكما لغير المذكور وحالا من أحواله" ، وذلك كالشخص الموصوف بالجهل في مثال: "إذا سألت فاسأل العالم"، فإنه يخطر في الذهن عند ذكر العالم، لأنه ضد معناه، والضد يحضر بالبال عند حضور ضده . وقد يكون هذا الحكم المستفاد من المفهوم موافقا للمنطوق كما قد يكون مخالفا له، ولهذا فَقِسْمَا المفهوم هما: مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة.
1 ـ مفهوم الموافقة :
وهو "أن يكون المسكوت عنه موافقا في الحكم للمذكور، ويسمى فحوى الخطاب ولحن الخطاب" .
فحوى الخطاب :
إذا كان "هذا المفهوم أولى" من المنطوق كقوله تعالى: (فَلاَ تَقُلْ لَّهُمَا أُفٍّ) ، فإنه يدل على تحريم التأفف، وكذلك على تحريم الضرب من باب أولى.
لحن الخطاب :
إذا كان مساويا كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً اِنَّمَا يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً) ، دلّت الآية بمنطوقها على حرمة أكل أموال اليتامى ظلما، ودلت بمفهومها على تحريم إحراقها وتبديدها، والأكل مساوٍ للإحراق في الحكم.
2 ـ مفهوم المخالفة :
أن يكون "المسكوت عنه مخالفا للمنطوق في الحكم؛ ويسمى دليل الخطاب" .
فإذا كان الحكم المنطوق يفيد الحل مع القيد، فإنه يفيد بمفهومه المخالف التحريم إذا انتفى عنه القيد.
وقد عدّ له الآمدي (تـ631هـ) عشرة أنواع: الشرط، والغاية، وإنما، والتخصيص بالأوصاف التي تطرأ وتزول بالذكر، واللقب، والاسم المشتق الدال على الجنس، والاستثناء، والعدد، وحصر المبتدأ في الخبر. ولم يتفق الجمهور على الاحتجاج بهذه الأنواع كلها، بل وقع الاختلاف حتى في عدِّها من المفهوم.
ثانيا : موقف الإمام مالك من دلالة المفهوم من خلال الآراء الأصولية
إن الكلام على منهج الإمام مالك في تعامله مع دلالة المفهوم ، يستدعي استحضار آراء علماء الأصول من المذهب ومن خارجه ، للوقوف على موقفه منها ، قبل تدقيق الأمر بالرجوع إلى ما سطّر عنه من آراء واجتهادات قد تستنبط من تفسيره وتفقهه في المسائل ، وتناولي لهذه الآراء يشمل المفهومين :
أ ـ مفهوم الموافقة : يقرر القاضي عياض السبتي المغربي (544هـ) وهو من علماء المذهب ، أصول الإمام مالك التي سار عليها في بناء الأحكام ، فيقول : " وأنت إذا نظرت منازع هؤلاء الأئمة وتقرير مأخذهم في الفقه والاجتهاد في الشرع ، وجدت مالكا ناهجا في هذه الأصول منهاجا ومرتبا لها مراتبها ومدارجها ، مقدما كتاب الله ومرتبا له على الآثار ثم مقدما لها على القياس والاعتبار تاركا منها ما لم يتحمله عنده الثقات العارفون بما تحملوه أو وجد الجمهور الغفير من أهل المدينة قد عملوا بغيره وخالفوه ولا يلتفت إلى من تأول عليه بظنه في هذا الوجه سوء تأويل وقوله ما لا يقوله ، بل يصرح أنه من الأباطيل ثم كان من وقوفه عن المشكلات وتحريه عن الكلام في المعوصات ما سلك به سبيل السلف الصالحين " .
ثم يأتي بعده الفقيه راشد ، لينقل نصا عن شيخه أبي محمد صالح عالم فاس الشهير (653هـ) يحدد به الأصول والأدلة بدقة أكثر ، فيقول : "الأدلة التي بنى عليها مالك مذهبه ستة عشر : نص الكتاب وظاهر الكتاب وهو العموم ، ودليل الكتاب وهو مفهوم المخالفة ، ومفهوم الكتاب وهو باب آخر وتنبيه الكتاب وهو التنبيه على العلة، ومن السنة أيضا مثل هذه الخمسة ، فهذه عشرة ، والحادي عشر الاجماع ، والثاني عشر القياس ، والثالث عشر عمل أهل المدينة ، والرابع عشر قول الصحابي ، والخامس عشر الاستحسان ، والسادس عشر الحكم بسد الذرائع ، واختلف قوله في السابع عشر وهو مراعاة الخلاف ، فمرة يراعيه ، مرة لا يراعيه ، وزاد أبو الحسن ، ومن ذلك الاستصحاب " .
فإذا كان القاضي عياض بنصه الأول لم يصرح بمنهج الإمام مالك من دلالة المفهوم ، فهو قد أشار إلى الأمر في اعتباره لمفهوم الكتاب والسنة الذي يشمل مفهوم الموافقة والمخالفة ، أما الشيخ أبو محمد صالح فقد نص على ذلك صراحة حينما نصّ على اعتماد الإمام مالك على " تنبيه الكتاب " ، وأوضحه بشكل جلي في قوله " وهو التنبيه على العلة " ، لأن ما يجعل حكم المسكوت عنه أولى أو يساوي ما جاء في النص من منطوق هو تنبيه النص إلى العلة بالمعنى .
ب: مفهوم المخالفة : يصرح ابن القصار (تـ397هـ) بحجية مفهوم المخالفة عند الإمام مالك في مقدمته الأصولية، حيث يقول: "ومن مذهب مالك رحمه الله أن دليل الخطاب محكوم به، وقد احتج بذلك في مواضع منها، حيث قال: "إن من نَحَرَ هديَه بالليل لم يُجْزِهِ لقول الله عز وجل: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهَ فِي أَيَّام مَّعْلُومَاتٍ) ، دليله أنه لا يُجْزِيهِ إذا نَحَرَهُ بالليل (...) وهذا نص منه في القول بدليل الخطاب" .
وحكاه أيضا القرافي (تـ684هـ) ولكنه استثنى منه مفهوم اللقب ، لأن ابن القصار اعتبر المثال المذكور مفهومَ لَقَبٍ، فاستدل بأضعفها عند مالك، أما القرافي ومن قال بقوله ، فيرى أنه ظَرْفٌ وليس بلقب، أقصد (لفظ الأيام) في الآية الكريمة.
ونجد في المقابل من يحكي نسبته إلى الإمام كـابن العربي (تـ543هـ) في المحصول، حيث قال: "ونسب أهل المقالات إلى مالك أنه يقول به" ، وإن كان في الأحكام يعتبره أصلا من أصول المالكية .
وفي رأيي أن اعتباره أصلا عند المالكية لا يمكن أن يتأتى دون سبق عمل الإمام به، وتوظيفه له في استنباط الأحكام.
ثم إن الأمر لا يقف عند هذا الحد، إذ ذهب بعض المالكية إلى أبعد من ذلك، كالإمام المازري (تـ536هـ) الذي أنكر نسبته إلى مالك "في شرح البرهان"، وقال: "ما استدلوا به على قوله به من أنه استدل على أن الخيل لا تؤكل بقوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) ، فذكر منافعها من ركوب وزينة، ولم يذكر الأكل، ففيه نظر، لاحتمال أن يكون تعلق بالآية لأجل أنها وردت مورد الامتنان، فلو كان الأكل مباحا لامتن به؛ لأنه من أعظم النعم التي يمتن بها، فلا يكون هذا الاستدلال اقتصارا على أن المسكوت عنه بخلاف المنطوق لأجل هاته القرينة التي أشرنا إليها" .
وقد اختار البعض توضيح منهج الإمام مالك بتفصيل أنواع مفهوم المخالفة ، فقد ذكر القاضي عبد الوهاب (تـ422هـ) مثلا في الملخص عن مفهوم الصفة "أنه ظاهر قول مالك" . ونفى ابن التلمساني عن مالك عمله بمفهوم الشرط كما حكاه القرافي ،وقال صاحب مختصر تحقيق الأمل: "إنه أخذ بمفهوم العدد" ، في حين ذكر الغزالي بأنه "ينسب له فقط" .
فهذه جملة من آراء بعض علماء الأصول تم استقراؤها لتوضيح تعامل الإمام مالك مع دلالة المفهوم عموما ، وهي غير كافية لتوضيح الصورة ، لذلك كان من الضروري الرجوع إلى الفروع الفقهية لتلمس منهجه بشكل جلي وواضح .
ثالثا : موقفه من دلالة المفهوم من خلال الفروع والمسائل الفقهية
سأتناول منهج أو موقف الإمام مالك من دلالة المفهوم من خلال تقسيم الأمر إلى فرعين :
أـ مفهوم الموافقة : تنوعت المسائل التي تظهر بوضوح منهج الإمام مالك في تعامله مع دلالة مفهوم الموافقة ، سأسرد بعضها هنا ، معنونا لها بحكم المسألة :
ـ نكاح الأمة غير الكتابية:
استدل الجمهور على تحريم نكاح الأمة الغير الكتابية بمفهوم الموافقة أو تنبيه الخطاب، فقالوا إنه لما لم يجز نكاح الأمة المسلمة بالتزويج إلا بشرط فأحرى ألا يجوز نكاح الأمة الكتابية بالتزويج في قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَن يَّنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُومِنَاتِ، فَمِمَّا مَلَكَتَ اَيْمَانُكُمْ مِّنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُومِنَاتِ) . .
وهذا المثال يرد فيه على ابن حزم الذي اعتبر العمل بمفهوم المخالفة ينقض مفهوم الموافقة، لكننا نجد هنا مفهوم المخالفة أن غير المؤمنات أو الكتابيات على خلاف ذلك وهو نفس حكم مفهوم الموافقة الأولى.
وبالرجوع إلى المدونة نجد الاستدلال بالآية حاضرا في نكاح الأمة على الحرة ، جاء فيها :" قُلْتُ: لِمَ جَعَلْتُمْ الْخِيَارَ لِلْحُرَّةِ إذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ الْأَمَةَ عَلَيْهَا، أَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى الْأَمَةِ وَالْحُرَّةُ لَا تَعْلَمُ؟ قَالَ: لِأَنَّ الْحُرَّ لَيْسَ مِنْ نِكَاحِهِ الْإِمَاءَ إلَّا أَنْ يَخْشَى الْعَنَتَ، فَإِنْ خَشِيَ الْعَنَتَ وَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ كَانَتْ الْحُرَّةُ بِالْخِيَارِ، وَلِلَّذِي جَاءَ فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَنْكِحَ أَرْبَعًا مَمْلُوكَاتٍ إذَا كَانَ عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ،) قَالَ: وَالطَّوْلُ عِنْدَنَا الْمَالُ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الطَّوْلَ وَخَشِيَ الْعَنَتَ فَقَدْ أَرْخَصَ اللَّهُ لَهُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ" .
ـ ألفاظ الظهار:
معلوم أن الفقهاء اتفقوا أن الرجل لو قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي، أنها تحرم عليه وأنه ظهار ، لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَظَّهَّرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) ،ولحديث خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت: "ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت" . لكن، ما الحكم لو أن الزوج ذكر عضوا آخر غير الظهر أو ذكر ظهر من تحرم عليه من المحرمات على التأييد غير الأم، وكلها مسكوت عنها؟
قال مالك: أنه ظهار وأن معنى التحريم تستوي فيه الأم وغيرها من المحرمات والظهر وغيره من الأعضاء، وبهذا احتج على من خالف مذهبه وألحق المسكوت عنه منطوق ، وفي المدونة تفصيل ذلك، "قلت لعبد الرحمان بن القاسم أرأيت إن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي أيكون مظاهرا؟ قال: نعم، قلت: أرأيت من قال لامرأته: أني علي كظهر فلانة لذات رحم محرم من نسب أو محرم من رضاع، قال: قال مالك: من ظاهر بشيء من ذوات المحارم من نسب أو رضاع فهو مظاهر، قال ابن القاسم: وإن ظاهر من صهر فهو مظاهر، قلت أرأيت إن قال: أنت علي كرأس أمي أو كمقدم أمي أو كفخذ أمي؟ قال: لم أسمع لمالك فيه شيئا وأراه مظاهرا، لأن مالكا قال في الذي يقول لامرأته: أنت علي مثل أمي أنه مظاهر، فكل ما قال به من شيء منها فهو مثله فيكون مظاهرا" .
ـ جمع الصلاة للمريض:
أجاز الإمام مالك للمريض الذي يخاف أن يغلب على عقله أن يجمع بين الصلاتين وكذلك لمن كان به بطن، لأن علة الجمع للمسافر وهي المشقة أحرى وأولى أن تلحق بالمريض .
جاء في مدونة سحنون تأكيد ذلك: "قال وقال مالك في المريض الذي يخاف أن يغلب على عقله أنه يصلي الظهر والعصر إذا زالت الشمس ولا يصليهما قبل ذلك (...) وإنما ذلك لصاحب البطن أو ما أشبهه من المرض أو صاحب العلة الشديدة الذي تضر به أن يصلي في وقت كل صلاة ويكون هذا أرفق به أن يجمعها لشدة ذلك عليه" .
فهذا استدلال يوضح منهجه في الاستدلال بدلالة مفهوم الموافقة حين ألحق الجمع للمريض من باب أولى على جمع المسافر لعلة المرض .
وأعتقد أن هذه النماذج دالة على غيرها في توضيح المنهج الذي سلكه الإمام مالك في تعامله مع الشق الأول من دلالة المفهوم ، حيث يجعل الاعتداد به وسيلة للاستنباط وبناء الأحكام .
ب- مفهوم المخالفة : سوف أقتصر هنا على بعض الفروع الفقهية التي توضح منهج الإمام مالك وموقفه من هذا المفهوم ، مقسمة حسب المشهور عند الأصوليين من أنواعه :
1 ـ مفهوم الصفة :
ومنه قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً اَن يَّنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُومِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتَ ايْمَانُكُم مِّنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُومِنَاتِ) . فظاهر هذه الآية الكريمة أن الْأَمَةَ لا يجوز نكاحها ولو عند الضرورة، إلا إذا كانت مؤمنة بدليل قوله تعالى: (مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُومِنَاتِ) ومفهوم مخالفته أن غير المؤمنات من الإماء لا يجوز نكاحهن على كل حال .
وهو ما نص عليه مالك بعد ذكره للآية قال: "فإنما أحل الله فيما نرى نكاح الإماء المؤمنات ولا يحل نكاح إماء أهل الكتاب اليهودية والنصرانية" . ويبدو أن قوله رحمه الله تعالى: "ولا يحل نكاح (...) بعد قوله فإنما أحل"، ظاهر في إيراده لمنطوق الآية أولا ثم مفهومها ثانيا، ولهذا قال ابن العربي في القبس: "وهذا نص منه على التعلق بالتخصيص والقول بدليل الخطاب" .
ويشير إليه أيضا القرطبي (تـ671هـ) بقوله: "فهذه الصفة مشترطة عند مالك وأصحابه" .
2 ـ مفهوم الشرط :
ومنه قوله تعالى في آية اللعان: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتِ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) ، فمنطوق هذا النص أن المرأة إذا لاعنت زوجها عند لعانه لها ارتفع عنها العذاب، أما إذا امتنعت ونكلت، فإنها تعذب اعتبارا لمفهوم الشرط الذي قيد به النص، وعذابها هو الحد، أي حد الزنى وهو الرجم" ، لأنها تقر به بامتناعها، وهذا كلام مالك في المسألة كما حكاه عنه تلميذه ابن القاسم في المدونة: "قال: قال مالك: يقال للمرأة الْتَعِنِي وَادْرَئِي العذاب عن نفسك ولا ميراث لك، فإن أبيت اللعان وأكذبت نفسك أقيم عليك الحد" . فمنطوق النص في كلامه: "الْتَعِنِي وَادْرَئِي الْعَذَابَ"، ومفهومه في قوله" "فإن أبيت اللعان (...)".
3 ـ مفهوم الغاية :
يفيد مفهوم الغاية أن الحكم إذا علق على غاية، دل على أن ما بعدها بخلاف ما قبلها، ومن هذه الأحكام التي تشير إلى ما نحن بصدده، تعليق النبي عليه الصلاة والسلام بيع الطعام بغاية القبض في قوله: "مَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ" ، أي إذا تم القبض جاز بيعه. وإليه يشير قول مالك في المدونة بأنه "لا يجوز بيع الطعام الذي أسلف فيه، إلا أن يقبضه" .
وكذا حرمة الأكل والشرب بعد طلوع الفجر المفهوم من قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الاَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاَسْوِدِ مِنَ الْفَجْرِ) ، وغيرها كثير في المدونة والموطأ.
4 ـ مفهوم العدد :
مفهوم العدد يعني الاقتصار على العدد المنطوق به دون زيادة ولا نقصان. وأهم المسائل التي تشير إليه عند مالك، الاقتصار في الطواف بالبيت على سبع دون زيادة ولا نقصان، حيث جاء في الموطأ أن الرجل يدخل في الطواف فيسهو حتى يطوف ثمانية أو تسعة أطواف. قال مالك: "يقطع إذا علم أنه قد زاد" .
والاقتصار في الحدود على العدد المنصوص، كحد القاذف ثمانين جلدة، لا تقل ولا تزيد عنها واحدة . وغير ذلك كثير.
5 ـ مفهوم الحصر:
"الحصر إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه" . وقد أخذ به مالك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ" . حيث يفيد الحديث بمفهومه حصر إحداد المرأة على زوجها فقط، فلا إحداد على المطلقة، ولا على أم الولد، ولا الْأَمَةِ بملك اليمين.
يقول مالك رحمه الله تعالى: "لا إحداد على المطلقة، مبتوتة كانت أو غير مبتوتة، وإنما الإحداد على المتوفى عنها زوجها، وليس على المطلقات شيء من الإحداد" . وكذا قوله في أم الولد أيضا . وقد أوضح ابن رشد (تـ595هـ) الدليل هنا فقال: "فعلم بدليل الخطاب أن مَنْ عَدَا ذاتِ الزوج لا يجب عليها إحداد" .
وإن اقتصرت هنا على هذا الفرع، فإن المدونة تعج بتطبيق مفهوم الحصر، خذ على سبيل المثال لا الحصر: مسألة الرجوع في الهبة لغير الوالد ، وحصر الصدقة في الحرث والعين والماشية ، وحصر حق الولي في القصاص ؛ إلى آخر ما هنالك مما لا يحتاج إلى مزيد عرض وبسط.
6 ـ مفهوم اللقب :
وهو بيت القصيد، لأخذ أغلب المالكية بالمفاهيم السالفة، فضلا عن الفروع الكثيرة الشاهدة بذلك، أما مفهوم اللقب فإنهم يصرحون بتركه إلا ما كان من ابن خويز منداد.
ثم إني وجدت في المدونة ما يفيد العكس، ذلك بأن الإمام مالكا قال بهذا المفهوم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ" . فتقييد الكلام هنا بالطعام يفيد أن غير الطعام بخلافه، فيجوز بيعه قبل الاستيفاء، "لأن الحديث إنما جاء في الطعام وحده" .
وقال المازري (تـ536هـ) يحكي دليل مالك: "ويقول مالك فإن دليل خطاب الحديث يقتضي جواز غير الطعام، ولو كان سائر المكيلات ممنوعا بيعها قبل قبضها، لما خص الطعام بالذكر، فلما خصه دل على أن ما عداه بخلافه" .
وهكذا يتضح بجلاء، أن منهج الإمام في تعامله مع دلالة المفهوم عموما يقوم على أساس اعتبارها أصلا من أصول الاستنباط ،وهذه الحقيقة وإن اعتبرها البعض أمرا مسلما به بحكم ما ورد عن عدد من فقهاء وأتباع المذهب ، فإن استجماع خيوط المسألة والاستدلال بالفروع التي تشهد على ذلك يعدّ الأمر الأهم في المسألة .
والحمد لله رب العالمين .
- دلالة المفهوم نموذجا -
د.عبد الكريم بناني ، باحث في الفكر الإسلامي ، دكتوراه في العلوم الإسلامية المغرب (أرجو توثيق النص عند اعتماده للأمانة العلمية)
karimbennani77@gmail.com
لم يتعامل الإمام مالك مع النصوص الشرعية باعتبارها مناهج للاستنباط فقط، بل سلك منمهجأ متميزا يتمثل في استيعاب القضايا التي يطرحها النص الشرعي ومن تم التركيز على القواعد الاستنباطية المؤسسة للحكم الشرعي، وكان هذا المسلك سببا في فتح شهية الأتباع لتتبع مثل هده القضايا واستخراج القواعد .
وقد يستغرب البعض من هذا الكلام ،على اعتبار أن مالكا تحدث عن جملة أصول بعقلية المنظر والمؤسس وهو كلام معقول لأن رسالته إلى الليث بن سعد في عمل أهل المدينة تأكيد لهده الحقيقة ،غير أن الجانب الآخر كان وراء توسع وتضييق علماء وفقهاء المذهب في أصول المالكية ومنها الدلالات اللغوية ، التي تعد وسائل ضرورية وآليات مهمة في تفسير النصوص الشرعية.
وسأحاول هنا ، أن أوضح موقف الإمام مالك ومنهجه في التعامل مع هذه الدلالات، وخاصة دلالة المفهوم في النقاط التالية:
أولا: موقع دلالة المفهوم من الدلالات اللغوية عند جمهور الأصوليين
ثانيا : موقف الإمام مالك من دلالة المفهوم من خلال الآراء الأصولية
ثالثا : موقفه من دلالة المفهوم من خلال الفروع الفقهية .
فأقول وبالله التوفيق ، ومنه نستمد العون والهداية
أولا: موقع دلالة المفهوم من الدلالات اللغوية عند جمهور الأصوليين
المفهوم في اللغة من " فهمت الشئ فهما وفهامية ، علمته ، وفلان فهم ، وقد استفهمني الشئ فأفهمته وفهمته تفهيما ، وتفهم الكلام إذا فهمه شيئا بعد شئ "
والفهم المصدر ، والفهم الاسم ، والمفهوم اسم مفعول ، وفي لسان العرب " الفهم معرفتك الشئ بقلبك " ، وهذا يدل أن للعقل والقلب مجالا للمعرفة والتوسع والاستفادة .
وفي المعنى الاصطلاحي الذي درج عليه الأصوليون في تعاملهم مع المصطلح يقصدون به : ما يخالف المنطوق ، وبالتالي فدلالة المفهوم عندهم تأتي في مقابلة دلالة المنطوق ، لأن الدلالة ""ما يلزم من فهمها فهم شيء آخر" وفيما يلي بيان ذلك :
ا ـ المنطوق :
معنى المنطوق عند أهل اللغة: "تكلم بصوت وحروف تعرف بها المعاني" ، وعند أهل الفن: "ما دل عليه اللفظ في محل النطق" ، فالمنطوق إذاً هو "دلالة اللفظ على حكم ما ذكر في الكلام ونطق به، سواء أكان هذا المدلول كل المعنى الذي وضع له اللفظ أم جزأه أو لازمه، فهي تعم الدلالات الثلاث: المطابقة والتضمن والالتزام" .
وهو قسمان: صريح وغي صريح.
1 ـ المنطوق الصريح :
هو ما وضع اللفظ له، أي دلالة اللفظ على ما وضع له بالاستقلال أو بمشاركة الغير، فيشمل المطابقة والتضمن .
2 ـ المنطوق غير الصريح :
وهو "ما لم يوضع اللفظ له، بل يلزم ما وضع له فيدل عليه بالالتزام" ، وهو إما "دلالة اقتضاء أو إيماء أو إشارة، وقد سبق ذكر الاقتضاء والإشارة عند الحنفية، أما دلالة الإيماء أو التنبيه فيعرفها عضد الدين الإيجي بقوله: "أن يقترن بحكم لو لم يكن للتعليل لكان بعيدا، فيفهم منه التعليل ويدل عليه وإن لم يصرح به" .
ب ـ المفهوم :
وهو القسم الثاني من دلالة اللفظ على المعنى عند جمهور الأصوليين – بخلاف الحنفية - ، ويحدده أهل الفن بأنه: "ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق بأن يكون حكما لغير المذكور وحالا من أحواله" ، وذلك كالشخص الموصوف بالجهل في مثال: "إذا سألت فاسأل العالم"، فإنه يخطر في الذهن عند ذكر العالم، لأنه ضد معناه، والضد يحضر بالبال عند حضور ضده . وقد يكون هذا الحكم المستفاد من المفهوم موافقا للمنطوق كما قد يكون مخالفا له، ولهذا فَقِسْمَا المفهوم هما: مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة.
1 ـ مفهوم الموافقة :
وهو "أن يكون المسكوت عنه موافقا في الحكم للمذكور، ويسمى فحوى الخطاب ولحن الخطاب" .
فحوى الخطاب :
إذا كان "هذا المفهوم أولى" من المنطوق كقوله تعالى: (فَلاَ تَقُلْ لَّهُمَا أُفٍّ) ، فإنه يدل على تحريم التأفف، وكذلك على تحريم الضرب من باب أولى.
لحن الخطاب :
إذا كان مساويا كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً اِنَّمَا يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً) ، دلّت الآية بمنطوقها على حرمة أكل أموال اليتامى ظلما، ودلت بمفهومها على تحريم إحراقها وتبديدها، والأكل مساوٍ للإحراق في الحكم.
2 ـ مفهوم المخالفة :
أن يكون "المسكوت عنه مخالفا للمنطوق في الحكم؛ ويسمى دليل الخطاب" .
فإذا كان الحكم المنطوق يفيد الحل مع القيد، فإنه يفيد بمفهومه المخالف التحريم إذا انتفى عنه القيد.
وقد عدّ له الآمدي (تـ631هـ) عشرة أنواع: الشرط، والغاية، وإنما، والتخصيص بالأوصاف التي تطرأ وتزول بالذكر، واللقب، والاسم المشتق الدال على الجنس، والاستثناء، والعدد، وحصر المبتدأ في الخبر. ولم يتفق الجمهور على الاحتجاج بهذه الأنواع كلها، بل وقع الاختلاف حتى في عدِّها من المفهوم.
ثانيا : موقف الإمام مالك من دلالة المفهوم من خلال الآراء الأصولية
إن الكلام على منهج الإمام مالك في تعامله مع دلالة المفهوم ، يستدعي استحضار آراء علماء الأصول من المذهب ومن خارجه ، للوقوف على موقفه منها ، قبل تدقيق الأمر بالرجوع إلى ما سطّر عنه من آراء واجتهادات قد تستنبط من تفسيره وتفقهه في المسائل ، وتناولي لهذه الآراء يشمل المفهومين :
أ ـ مفهوم الموافقة : يقرر القاضي عياض السبتي المغربي (544هـ) وهو من علماء المذهب ، أصول الإمام مالك التي سار عليها في بناء الأحكام ، فيقول : " وأنت إذا نظرت منازع هؤلاء الأئمة وتقرير مأخذهم في الفقه والاجتهاد في الشرع ، وجدت مالكا ناهجا في هذه الأصول منهاجا ومرتبا لها مراتبها ومدارجها ، مقدما كتاب الله ومرتبا له على الآثار ثم مقدما لها على القياس والاعتبار تاركا منها ما لم يتحمله عنده الثقات العارفون بما تحملوه أو وجد الجمهور الغفير من أهل المدينة قد عملوا بغيره وخالفوه ولا يلتفت إلى من تأول عليه بظنه في هذا الوجه سوء تأويل وقوله ما لا يقوله ، بل يصرح أنه من الأباطيل ثم كان من وقوفه عن المشكلات وتحريه عن الكلام في المعوصات ما سلك به سبيل السلف الصالحين " .
ثم يأتي بعده الفقيه راشد ، لينقل نصا عن شيخه أبي محمد صالح عالم فاس الشهير (653هـ) يحدد به الأصول والأدلة بدقة أكثر ، فيقول : "الأدلة التي بنى عليها مالك مذهبه ستة عشر : نص الكتاب وظاهر الكتاب وهو العموم ، ودليل الكتاب وهو مفهوم المخالفة ، ومفهوم الكتاب وهو باب آخر وتنبيه الكتاب وهو التنبيه على العلة، ومن السنة أيضا مثل هذه الخمسة ، فهذه عشرة ، والحادي عشر الاجماع ، والثاني عشر القياس ، والثالث عشر عمل أهل المدينة ، والرابع عشر قول الصحابي ، والخامس عشر الاستحسان ، والسادس عشر الحكم بسد الذرائع ، واختلف قوله في السابع عشر وهو مراعاة الخلاف ، فمرة يراعيه ، مرة لا يراعيه ، وزاد أبو الحسن ، ومن ذلك الاستصحاب " .
فإذا كان القاضي عياض بنصه الأول لم يصرح بمنهج الإمام مالك من دلالة المفهوم ، فهو قد أشار إلى الأمر في اعتباره لمفهوم الكتاب والسنة الذي يشمل مفهوم الموافقة والمخالفة ، أما الشيخ أبو محمد صالح فقد نص على ذلك صراحة حينما نصّ على اعتماد الإمام مالك على " تنبيه الكتاب " ، وأوضحه بشكل جلي في قوله " وهو التنبيه على العلة " ، لأن ما يجعل حكم المسكوت عنه أولى أو يساوي ما جاء في النص من منطوق هو تنبيه النص إلى العلة بالمعنى .
ب: مفهوم المخالفة : يصرح ابن القصار (تـ397هـ) بحجية مفهوم المخالفة عند الإمام مالك في مقدمته الأصولية، حيث يقول: "ومن مذهب مالك رحمه الله أن دليل الخطاب محكوم به، وقد احتج بذلك في مواضع منها، حيث قال: "إن من نَحَرَ هديَه بالليل لم يُجْزِهِ لقول الله عز وجل: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهَ فِي أَيَّام مَّعْلُومَاتٍ) ، دليله أنه لا يُجْزِيهِ إذا نَحَرَهُ بالليل (...) وهذا نص منه في القول بدليل الخطاب" .
وحكاه أيضا القرافي (تـ684هـ) ولكنه استثنى منه مفهوم اللقب ، لأن ابن القصار اعتبر المثال المذكور مفهومَ لَقَبٍ، فاستدل بأضعفها عند مالك، أما القرافي ومن قال بقوله ، فيرى أنه ظَرْفٌ وليس بلقب، أقصد (لفظ الأيام) في الآية الكريمة.
ونجد في المقابل من يحكي نسبته إلى الإمام كـابن العربي (تـ543هـ) في المحصول، حيث قال: "ونسب أهل المقالات إلى مالك أنه يقول به" ، وإن كان في الأحكام يعتبره أصلا من أصول المالكية .
وفي رأيي أن اعتباره أصلا عند المالكية لا يمكن أن يتأتى دون سبق عمل الإمام به، وتوظيفه له في استنباط الأحكام.
ثم إن الأمر لا يقف عند هذا الحد، إذ ذهب بعض المالكية إلى أبعد من ذلك، كالإمام المازري (تـ536هـ) الذي أنكر نسبته إلى مالك "في شرح البرهان"، وقال: "ما استدلوا به على قوله به من أنه استدل على أن الخيل لا تؤكل بقوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) ، فذكر منافعها من ركوب وزينة، ولم يذكر الأكل، ففيه نظر، لاحتمال أن يكون تعلق بالآية لأجل أنها وردت مورد الامتنان، فلو كان الأكل مباحا لامتن به؛ لأنه من أعظم النعم التي يمتن بها، فلا يكون هذا الاستدلال اقتصارا على أن المسكوت عنه بخلاف المنطوق لأجل هاته القرينة التي أشرنا إليها" .
وقد اختار البعض توضيح منهج الإمام مالك بتفصيل أنواع مفهوم المخالفة ، فقد ذكر القاضي عبد الوهاب (تـ422هـ) مثلا في الملخص عن مفهوم الصفة "أنه ظاهر قول مالك" . ونفى ابن التلمساني عن مالك عمله بمفهوم الشرط كما حكاه القرافي ،وقال صاحب مختصر تحقيق الأمل: "إنه أخذ بمفهوم العدد" ، في حين ذكر الغزالي بأنه "ينسب له فقط" .
فهذه جملة من آراء بعض علماء الأصول تم استقراؤها لتوضيح تعامل الإمام مالك مع دلالة المفهوم عموما ، وهي غير كافية لتوضيح الصورة ، لذلك كان من الضروري الرجوع إلى الفروع الفقهية لتلمس منهجه بشكل جلي وواضح .
ثالثا : موقفه من دلالة المفهوم من خلال الفروع والمسائل الفقهية
سأتناول منهج أو موقف الإمام مالك من دلالة المفهوم من خلال تقسيم الأمر إلى فرعين :
أـ مفهوم الموافقة : تنوعت المسائل التي تظهر بوضوح منهج الإمام مالك في تعامله مع دلالة مفهوم الموافقة ، سأسرد بعضها هنا ، معنونا لها بحكم المسألة :
ـ نكاح الأمة غير الكتابية:
استدل الجمهور على تحريم نكاح الأمة الغير الكتابية بمفهوم الموافقة أو تنبيه الخطاب، فقالوا إنه لما لم يجز نكاح الأمة المسلمة بالتزويج إلا بشرط فأحرى ألا يجوز نكاح الأمة الكتابية بالتزويج في قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَن يَّنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُومِنَاتِ، فَمِمَّا مَلَكَتَ اَيْمَانُكُمْ مِّنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُومِنَاتِ) . .
وهذا المثال يرد فيه على ابن حزم الذي اعتبر العمل بمفهوم المخالفة ينقض مفهوم الموافقة، لكننا نجد هنا مفهوم المخالفة أن غير المؤمنات أو الكتابيات على خلاف ذلك وهو نفس حكم مفهوم الموافقة الأولى.
وبالرجوع إلى المدونة نجد الاستدلال بالآية حاضرا في نكاح الأمة على الحرة ، جاء فيها :" قُلْتُ: لِمَ جَعَلْتُمْ الْخِيَارَ لِلْحُرَّةِ إذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ الْأَمَةَ عَلَيْهَا، أَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى الْأَمَةِ وَالْحُرَّةُ لَا تَعْلَمُ؟ قَالَ: لِأَنَّ الْحُرَّ لَيْسَ مِنْ نِكَاحِهِ الْإِمَاءَ إلَّا أَنْ يَخْشَى الْعَنَتَ، فَإِنْ خَشِيَ الْعَنَتَ وَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ كَانَتْ الْحُرَّةُ بِالْخِيَارِ، وَلِلَّذِي جَاءَ فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَنْكِحَ أَرْبَعًا مَمْلُوكَاتٍ إذَا كَانَ عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ،) قَالَ: وَالطَّوْلُ عِنْدَنَا الْمَالُ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الطَّوْلَ وَخَشِيَ الْعَنَتَ فَقَدْ أَرْخَصَ اللَّهُ لَهُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ" .
ـ ألفاظ الظهار:
معلوم أن الفقهاء اتفقوا أن الرجل لو قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي، أنها تحرم عليه وأنه ظهار ، لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَظَّهَّرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) ،ولحديث خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت: "ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت" . لكن، ما الحكم لو أن الزوج ذكر عضوا آخر غير الظهر أو ذكر ظهر من تحرم عليه من المحرمات على التأييد غير الأم، وكلها مسكوت عنها؟
قال مالك: أنه ظهار وأن معنى التحريم تستوي فيه الأم وغيرها من المحرمات والظهر وغيره من الأعضاء، وبهذا احتج على من خالف مذهبه وألحق المسكوت عنه منطوق ، وفي المدونة تفصيل ذلك، "قلت لعبد الرحمان بن القاسم أرأيت إن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي أيكون مظاهرا؟ قال: نعم، قلت: أرأيت من قال لامرأته: أني علي كظهر فلانة لذات رحم محرم من نسب أو محرم من رضاع، قال: قال مالك: من ظاهر بشيء من ذوات المحارم من نسب أو رضاع فهو مظاهر، قال ابن القاسم: وإن ظاهر من صهر فهو مظاهر، قلت أرأيت إن قال: أنت علي كرأس أمي أو كمقدم أمي أو كفخذ أمي؟ قال: لم أسمع لمالك فيه شيئا وأراه مظاهرا، لأن مالكا قال في الذي يقول لامرأته: أنت علي مثل أمي أنه مظاهر، فكل ما قال به من شيء منها فهو مثله فيكون مظاهرا" .
ـ جمع الصلاة للمريض:
أجاز الإمام مالك للمريض الذي يخاف أن يغلب على عقله أن يجمع بين الصلاتين وكذلك لمن كان به بطن، لأن علة الجمع للمسافر وهي المشقة أحرى وأولى أن تلحق بالمريض .
جاء في مدونة سحنون تأكيد ذلك: "قال وقال مالك في المريض الذي يخاف أن يغلب على عقله أنه يصلي الظهر والعصر إذا زالت الشمس ولا يصليهما قبل ذلك (...) وإنما ذلك لصاحب البطن أو ما أشبهه من المرض أو صاحب العلة الشديدة الذي تضر به أن يصلي في وقت كل صلاة ويكون هذا أرفق به أن يجمعها لشدة ذلك عليه" .
فهذا استدلال يوضح منهجه في الاستدلال بدلالة مفهوم الموافقة حين ألحق الجمع للمريض من باب أولى على جمع المسافر لعلة المرض .
وأعتقد أن هذه النماذج دالة على غيرها في توضيح المنهج الذي سلكه الإمام مالك في تعامله مع الشق الأول من دلالة المفهوم ، حيث يجعل الاعتداد به وسيلة للاستنباط وبناء الأحكام .
ب- مفهوم المخالفة : سوف أقتصر هنا على بعض الفروع الفقهية التي توضح منهج الإمام مالك وموقفه من هذا المفهوم ، مقسمة حسب المشهور عند الأصوليين من أنواعه :
1 ـ مفهوم الصفة :
ومنه قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً اَن يَّنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُومِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتَ ايْمَانُكُم مِّنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُومِنَاتِ) . فظاهر هذه الآية الكريمة أن الْأَمَةَ لا يجوز نكاحها ولو عند الضرورة، إلا إذا كانت مؤمنة بدليل قوله تعالى: (مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُومِنَاتِ) ومفهوم مخالفته أن غير المؤمنات من الإماء لا يجوز نكاحهن على كل حال .
وهو ما نص عليه مالك بعد ذكره للآية قال: "فإنما أحل الله فيما نرى نكاح الإماء المؤمنات ولا يحل نكاح إماء أهل الكتاب اليهودية والنصرانية" . ويبدو أن قوله رحمه الله تعالى: "ولا يحل نكاح (...) بعد قوله فإنما أحل"، ظاهر في إيراده لمنطوق الآية أولا ثم مفهومها ثانيا، ولهذا قال ابن العربي في القبس: "وهذا نص منه على التعلق بالتخصيص والقول بدليل الخطاب" .
ويشير إليه أيضا القرطبي (تـ671هـ) بقوله: "فهذه الصفة مشترطة عند مالك وأصحابه" .
2 ـ مفهوم الشرط :
ومنه قوله تعالى في آية اللعان: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتِ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) ، فمنطوق هذا النص أن المرأة إذا لاعنت زوجها عند لعانه لها ارتفع عنها العذاب، أما إذا امتنعت ونكلت، فإنها تعذب اعتبارا لمفهوم الشرط الذي قيد به النص، وعذابها هو الحد، أي حد الزنى وهو الرجم" ، لأنها تقر به بامتناعها، وهذا كلام مالك في المسألة كما حكاه عنه تلميذه ابن القاسم في المدونة: "قال: قال مالك: يقال للمرأة الْتَعِنِي وَادْرَئِي العذاب عن نفسك ولا ميراث لك، فإن أبيت اللعان وأكذبت نفسك أقيم عليك الحد" . فمنطوق النص في كلامه: "الْتَعِنِي وَادْرَئِي الْعَذَابَ"، ومفهومه في قوله" "فإن أبيت اللعان (...)".
3 ـ مفهوم الغاية :
يفيد مفهوم الغاية أن الحكم إذا علق على غاية، دل على أن ما بعدها بخلاف ما قبلها، ومن هذه الأحكام التي تشير إلى ما نحن بصدده، تعليق النبي عليه الصلاة والسلام بيع الطعام بغاية القبض في قوله: "مَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ" ، أي إذا تم القبض جاز بيعه. وإليه يشير قول مالك في المدونة بأنه "لا يجوز بيع الطعام الذي أسلف فيه، إلا أن يقبضه" .
وكذا حرمة الأكل والشرب بعد طلوع الفجر المفهوم من قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الاَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاَسْوِدِ مِنَ الْفَجْرِ) ، وغيرها كثير في المدونة والموطأ.
4 ـ مفهوم العدد :
مفهوم العدد يعني الاقتصار على العدد المنطوق به دون زيادة ولا نقصان. وأهم المسائل التي تشير إليه عند مالك، الاقتصار في الطواف بالبيت على سبع دون زيادة ولا نقصان، حيث جاء في الموطأ أن الرجل يدخل في الطواف فيسهو حتى يطوف ثمانية أو تسعة أطواف. قال مالك: "يقطع إذا علم أنه قد زاد" .
والاقتصار في الحدود على العدد المنصوص، كحد القاذف ثمانين جلدة، لا تقل ولا تزيد عنها واحدة . وغير ذلك كثير.
5 ـ مفهوم الحصر:
"الحصر إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه" . وقد أخذ به مالك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ" . حيث يفيد الحديث بمفهومه حصر إحداد المرأة على زوجها فقط، فلا إحداد على المطلقة، ولا على أم الولد، ولا الْأَمَةِ بملك اليمين.
يقول مالك رحمه الله تعالى: "لا إحداد على المطلقة، مبتوتة كانت أو غير مبتوتة، وإنما الإحداد على المتوفى عنها زوجها، وليس على المطلقات شيء من الإحداد" . وكذا قوله في أم الولد أيضا . وقد أوضح ابن رشد (تـ595هـ) الدليل هنا فقال: "فعلم بدليل الخطاب أن مَنْ عَدَا ذاتِ الزوج لا يجب عليها إحداد" .
وإن اقتصرت هنا على هذا الفرع، فإن المدونة تعج بتطبيق مفهوم الحصر، خذ على سبيل المثال لا الحصر: مسألة الرجوع في الهبة لغير الوالد ، وحصر الصدقة في الحرث والعين والماشية ، وحصر حق الولي في القصاص ؛ إلى آخر ما هنالك مما لا يحتاج إلى مزيد عرض وبسط.
6 ـ مفهوم اللقب :
وهو بيت القصيد، لأخذ أغلب المالكية بالمفاهيم السالفة، فضلا عن الفروع الكثيرة الشاهدة بذلك، أما مفهوم اللقب فإنهم يصرحون بتركه إلا ما كان من ابن خويز منداد.
ثم إني وجدت في المدونة ما يفيد العكس، ذلك بأن الإمام مالكا قال بهذا المفهوم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ" . فتقييد الكلام هنا بالطعام يفيد أن غير الطعام بخلافه، فيجوز بيعه قبل الاستيفاء، "لأن الحديث إنما جاء في الطعام وحده" .
وقال المازري (تـ536هـ) يحكي دليل مالك: "ويقول مالك فإن دليل خطاب الحديث يقتضي جواز غير الطعام، ولو كان سائر المكيلات ممنوعا بيعها قبل قبضها، لما خص الطعام بالذكر، فلما خصه دل على أن ما عداه بخلافه" .
وهكذا يتضح بجلاء، أن منهج الإمام في تعامله مع دلالة المفهوم عموما يقوم على أساس اعتبارها أصلا من أصول الاستنباط ،وهذه الحقيقة وإن اعتبرها البعض أمرا مسلما به بحكم ما ورد عن عدد من فقهاء وأتباع المذهب ، فإن استجماع خيوط المسألة والاستدلال بالفروع التي تشهد على ذلك يعدّ الأمر الأهم في المسألة .
والحمد لله رب العالمين .