وضاح أحمد الحمادي
:: متخصص ::
- إنضم
- 31 مارس 2009
- المشاركات
- 1,277
- الإقامة
- عدن
- الجنس
- ذكر
- الكنية
- أبو عبد الرحمن
- التخصص
- لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
- الدولة
- اليمن
- المدينة
- عدن
- المذهب الفقهي
- شافعي
هذا موضوع كنت نشرته في (منتدى دار الحديث بمأرب) في 15/2/2009 أحب أن أشارك به هنا أيضاً
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
أدخل رأساً في الموضوع فأقول:
قال المليباري : "وهذا الأسلوب المقترح في تدريس علو الحديث لا يدعو إلى إهمال ما ورد في كتب المصطلح من العريفات، بل يدعوا إلى فهمها على طلابنا من خلال ترتيبها ترتيباً موضوعياً، ثم عرض كم منها على تطبيقات نقاد الحديث، وشرحها بالأمثلة الواقعية التي يألفها المجتمع في معالجة الأخبار التي تتداول فيما بينهم"
قسم المليباري المتكلمين في علم الحديث، سواءً نظرياً، كالمتكلمين في الحدود والتعريفات، أو عملياً، أي تطبيق تلك الحدوث والتعريفات، إلى متقدمين ومتأخرين، وجعل لكلٍّ منهم منهج يسير عليه، لكن لا يعني هذا أن للمتأخر قواعد لا يقول بها المتقدم والعكس إجمالاً. لكن غالب الاختلاف هو في تطبيق تلك القواعد. وبخاصة فيما يتعلق بالعلة ماهي وكيف تعامل معها المتقدمون والمتأخرون.
لكن لما كانت المصطلحات ـ في أي علم كان ـ إنما توضع لتقييد وضبط عملٍ ما بغرض تبسيطه، ثم يسعون إلى تعريفه بحد يجمع شروطه ويمنع دخول غيره معه، فإن الناس قد يختلفون إما في نفس الاصطلاح، أو في تعريفه، وقد يتفقون على جملة يختلفون في تفاصيلها.
فمثلاً : الحسن عرفه بعضهم كالخطابي بما يتناول الحسن لذاته دون الحسن لغيره، وعرفه بعضهم بما يتناول الحسن لغيره دون الحسن لذاته، وذكر ابن الصلاح التعريفين جميعاً مع شيءٍ من التعديل فيه، من دون أن يجمع بينهما.
ومثله الصحيح، فاقتصر ابن الصلاح على تعريف أحد قسميه، وعقب عليه الحافظ بأنه كالحسن فيه الصحيح لغيره والصحيح لذاته، إلا أن من راعى القسمة رأى أنه يجب أن يزيد في الإسم ما يميز كل قسم عن قسيمه، فزادوا في الصحيح والحسن لفظتي لذاته ولغيره، وليس هو اصطلاحٌ قديم.
هذا فيما يتعلق بنفس التعريف، أما نفس الاصطلاح، فقد اختلفوا في رواية الثقة إذا تفرد عن رجل مشهور له أصحاب معروفون؛ هل يُسمى حديث هذا شاذاً أو منكراً أو صحيحاً فرداً أو غريباً إلى غير ذلك من المسميات، وذلك بحسب اختلاف المحدثين في الحكم على ما كان هذا حاله.
فمن سماه صحيحاً، نظر مثلاً إلى أن الشيخين أخرجا في صحيحهما أفراداً كثيرة، فدل على أن تفرد الثقة لا يخرج حديثه عن كونه صحيحاً. وغايته أن يكون فرداً أو غريباً. ورأى آخرون أن هذا قد يصح فيما لو كان الراوي المتفرد عنه ليس مشهوراً له أصحاب مشهورين، وإلا فيجب النظر حينئذٍ إلى روايات أصحابه، فإن لم يجدوا ذلك الحديث عنده نظروا في حال المتفرد، إن كان هو من أخصائه، وكان أكثر حديثه موافق لما يرويه أصحابه، فحديثه صحيح مقبول، ولا تراهم غالباً يسمون هذا غريباً، وإن قالوا : تفرد به فلان. ومنهم من يقسم حال الرواة إلى متقدمين يقبل منهم هذا بالشرط المذكور، ومتأخرين لا يقبل تفردهم مطلقاً. ثم إن لم يجمع الشروط المذكورة، فهل حديثه شاذ أم منكر، أو أن الشاذ والمنكر على حدٍّ سواء، فيطلق هذا حيث يطلق ذاك.
إلى آخر ما تراه في كتب المصطلح وغيرها.
قال المليباري : "ثم قام المتأخرون بتنظير تلك القواعد وجمعها في أطر المصطلحات وتعريفاتها المصاغة طبقاً لقواعد علم المنطق. وينبغي هنا أن نركز على أربع نقاط مهمة، تضمنتها هذه الجمل، بعضها يتصل بمصدر علوم الحديث، والأخرى بمحتواها : النقطة الأولى : تكون مرجعية هذا العلم هي نصوص المحدثين النقاد
النقطة الثانية: الذي قام به المتأخرون في مجال علوم الحديث هو جمع ما تفرق في كتب النقاد من نصوص ومصطلحات ثم تحديد معانيها وضبط مدلولاتها، بوضع تعريفات لكل منها، منضبطة بقواعد المنطق، وبأسلوب ألفه معاصروهم، حتى استقرت تلك المصطلحات، بحيث إذا أطلق لفظ أو مصطلح لا يتبادر إلى الذهن إلا ذلك المعنى"
أقول: في هذا الكلام شرح لسبب إعراضه عن بعض المصطلحات والتعريفات الموجودة في كتب المصطلح، وأن الواجب التقيد بتعبيرات المتقدمين، واستخراج المطلحات منها، والتعريفات من صنيعهم في نقد النصوص. لذا تراه يعمد في كتبه إلى وضع اصطلاحات لم يسبق إليها، من أجل أنه رأى أفعالاً للمتقدمين لم يرَ له اصطلاحاً ما في كتب المصطلح، أو يضع تعريفاً إما بزيادة قيد أو إسقاطه، لأنه رأى في صنيع المتقدمين ما يدل عليه. وهو لا يهاب الرد على المصنفين في علم المصطلح لذلك.
هذا إجمال ما سيأتي تفصيله لاحقاً.
مصطلح المتقدمين والمتأخرين :-
قد فسر المليباري نفسه مراده بهذا الاصطلاح في كتابه (نظرة جديدة) صفحة 13 بما حاصله أن المتقدمين هم من عاصروا فترة التدوين الأولى، والمراد بها فترة الاعتماد على التراث الشفوي، وجعلها ممتدة إلى نهاية القرن الخامس. وأن المتأخرين هم من عاصر المرحلة الثانية، وهي المرحلة التي بدأ فيها الاعتماد على الرواية والإسناد تتلاشى، ويحل محلها الاعتماد على كتب المتقدمين.
فإذا لم نربط هذا الاصطلاح بأمر زائد على ما ذكره من التعريف، فإنه لا يظهر فيه أي سوء سواءً سُبِقَ إليه أو لم يسبق.
لكن المنتقدين له رأوا أنه نسب إلى المتأخرين العمل وفق قواعد تخالف قواعد المتقدمين.
وبالنظر إلى كتبه، فإني رأيته يقول بأن المتأخرين يعملون وفق مناهج تخالف مناهج المتقدمين، بمعنى أنهم قد يتفقون على قاعدة ويختلفون في تطبيقها.
فمثلاً يتفق المتقدمون والمتأخرون على أن الشاذ هو مخالفة الثقة لمن هو أولى منه، ومع ذلك ترى كثيراً من المتأخرين يصححون زيادات وإن خالف فيها الثقة من هو أولى منه، أو ألفاظ يخالف فيها الثقة من هو أولى منه، بزعم أن الزائد ثقة، والزيادة من الثقة مقبولة، أو أن اللفظ المخالف يمكن الجمع بينه وبين ما يخالفه، فتنتفي بذلك المخالفة.
بينما لا ترى هذا ولا ذاك عند المتقدمين، فتراهم يعللون زيادات الثقات سواءً في السند أو المتن، وقد يجوز حمل ألفاظ المتون على الاتفاق، والزيادة في الإسناد على الرواية عن شيخين مثلاً، فلا يجيزونه، بل يعللونه.
وليس ذنب المليباري أن غيره يستخدم هذا الاصطلاح على غير ما يصطلح هو عليه.
والآن نشرع في المقصود، ونرتب الكلام اعتماداً على ترتيب كتب المصطلح، فأقول :
الحديث الصحيح :
المشهور من تعريفه هو أنه الحديث المتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة.
وعلى هذا التعريف إيرادات ذكر الحافظ ابن حجر كثيراً منها في (النكت) فرد أكثرها، وصحح بعضها، وأورد هو من عند نفسه إيرادات يهمنا هنا ما يتعلق بمعرفة الصحيح لغيره، حيث قال عند تعليقه على تعريف ابن الصلاح للحديث الحسن: ".. إن وصف الحديث بالصحة إذا قصر عن رتبة الصحيح، وكان على شرط الحسن، إذا روي من وجه آخر لا يدخل في التعريف الذي عرف به الصحيح أولاً. فإما أن يزاد في حد الصحيح ما يعطي أن هذا أيضاً يسمى صحيحاً، وإما أن لا يسمى هذا صحيحاً. والحق أنه من طريق النظر أنه يسمى صحيحاً، وينبغي أن يزاد في التعريف بالصحيح فيقال : هو الحديث الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط أو القاصر عنه إذا اعتضد عن مثله إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً ولا معللا" انتهى من (النكت) 1/417.
إلا أن هذا يضع على حد الصحيح إشكالات أوردها الحافظ نفسه عند كلامه على حد الصحيح. منها أنه لم يحدد مقدار القصور عن العدل الضابط.
فإن قيل : هو ما ينزل بحديثه إلى رتبة الحسن.
قيل : الضعيف إذا جاء من طريقين محتملين يرتفع إلى رتبة الحسن فإذا وجدنا له طريقاً آخر ضعيف أيضاً تقوى بذلك فارتفع إلى رتبة الصحيح أو كاد. فإذا جاء من طريق آخر تقوى بذلك أيضاً فيجزم الناقد حينئذٍ بالصحة. وهي طرق نزلت رتبة الراوي فيها عن رتبة الحسن.
فإن قيل : المراد بمن قصر ضبطه كل ضعيف محتمل.
قيل : فاعتضاد الضعيف بمثله لا يرفع الحديث إلى رتبة الصحيح، غايته أن يرتفع إلى رتبة الحسن، إلا أن تتكاثر الطرق كما قدمنا.
لا خلاف بأن الحديث الصحيح ينقسم إلى صحيح لذاته وصحيح لغيره، بالنظر إلى ما في نفس الأمر، لكن حد القسم الثاني يعسر.
حد المليباري للحديث الصحيح :
والمليباري أراد أن يضع حداً جامعاً للصحيح يشمل القسمين، لكنه لما لم يجد في كتب المصطلح حداً جامعاً مانعاً من جهة، لم يرتض التعاريف الموجودة فيها.
ولما كان يريد أن يستنبط هذا التعريف من صنيع المحدثين من جهة أخرى، ووجدهم يصححون حديث الضعيف كثيراً، ويعللون كثيراً من روايات الثقات، لم يعتبر بحال الراوي في الحد العام، إلا بمقدار ما يخرج حديث من لا ينجبر حديثه، كالمتروك وما دونه.
إلا أنه اختار في تعريف الحديث الصحيح عبارة عامة غير منضبطة فقال : "الحديث إذا تبين للناقد أنه تم نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره، من غير خطأ ولا وهم، فإنه يُعِبَّرُ عنه غالباً بأنه (صحيح) ، وقد يُعِبَّر عنه بأنه حسن" انتهى المراد (علوم الحديث في ضوء تطبيقات النقاد)
وهذا بالتعمية أشبه منه بالتعريف، لكنه لم يقله اتباعاً لهواه، ولا هو منطوٍ على أمرٍ جديد بدعي. بل الرجل لما لما يجد حداً منضبطاً لما رآه من صنيع أهل الحديث يكون شاملاً إما للصحيح بقسميه، أو لما يحتج به عموماً ـ أي الصحيح بقسميه والحسن بقسميه ـ هداه اجتهاده إلى هذا الذي لا أستطيع أن أسميه تعريفاً، ولا حتى ضابطاً.
أما وجه اعتراضي عليه فهو من جهة أنه لم يعرف الصحيح بشيء من ذاتياته، بل هو كقولنا: إن العام هو الذي لم يجد الأصولي أو الفقيه ما يخصصه ببعض أفراده.
وقد عاب هو على ابن الصلاح نحو ذلك في تعريفه للعلة، حيث زعم أنه لم يأتِ يحقيقة العلة، وإن كان صنيع ابن الصلاح صواب تماماً كما سيأتي.
ومراد الطالب هو معرفة ذاتيات الصحيح التي يمكنه بها أن يميزه عن غيره، إما من غير استعانة بغيره، وذلك إذا قلنا بجواز التصحيح والتضعيف في العصور المتأخرة، أو مع الاستعانة بغيره من غير تقليد، كما لو اختلف إمامان ناقدان بحسب تعبير المليباري في حديث واحد فصححه أحدهما وضعفه الآخر، فإن هذا الحديث المختلف فيه قد تبين لأحد الناقدين ضبط الراوي له من غير خطأ ولا وهم، وتبين للآخر خطأه ووهمه فيه.
فكيف يفعل من يريد أخذ أحد القولين من غير تقليد؟
وكأن المليباري علم أن هذا الحد ـ إن كان حداً ـ لا يفي بتعريف الصحيح فذكر صفحة 42 من نفس الكتاب فصلاً سماه (كيف يقوي شعور الناقد بذلك؟) أي بالصحة أو الحُسْن. ثم أعطى ضوابط ثلاثة تجعل الناقد يشعر بارتفاع الحديث إلى رتبة الاحتجاج، أي إلى رتبة الصحيح بقسميه والحسن بقسميه، وهي ثقة الرواة، واتصال السند، وما سماه عدم مخالفة الأمر الواقع.
ولم يقصد بالثقة معناه المشهور عند المشتغلين بهذا الفن اليوم، بل ولا بالأمس، وهو العدل الضابط، وذلك أن هذا المعنى الاصطلاحي إنما هو شرط في الصحيح لذاته فقط، وهو إنما يتكلم عما يفيد الصحة مطلقاً أو الحجية، وهذا قد يحصل بالمتابعات حتى لو فقد شرط تمام الضبط أو الضبط مطلقاً كما في الصحيح لغيره والحسن لغيره.
كما أسقط الكلام عن الشذوذ والعلة، لأن الشذوذ عنده من العلل من جهة، ولأن الشرط الأخير الذي وضعه وسماه (عدم مخالفة الواقع) يشملهما.
في الحقيقة، في الوقت الذي قصدت فيه الدفاع عن الدكتور المليباري، أراه يجذبني إلى خلاف القصد، لا أقصد بذلك أني أظنه مبتدعاً متبعاً لهواه، بل أنه بدلاً من ضبط القواعد التي لعله يراها غير منضبطة في كتب المصطلح المعروفة اليوم، زاد ضغثاً على إبالة، وعمى على الدارسين الحالة.
والدكتور لا يجهل طرق النقد، يشهد لذلك كتابه (ما هكذا تورد يا سعدٌ الإبل) فإنه أبان فيه براعة في تمييز طرق مسلم وخفايا ما يعتريها، مما لعله لم يتنبه له كثير من المشتغلين في هذا الفن اليوم، ولا أقصد كل من هب ودب، بل كثير ممن يتقن هذه الصناعة، لعله ما تنبه لكثير مما بينه هو من الخصائص الإسنادية التي أودعها مسلم أحاديث صحيحه.
أما كتابه الذي ألفه حول صحيح الإمام مسلم خاصة، فلم أطلع عليه.
ولكن كأن الأستاذ الدكتور استخف بشأن المصنفين المتأخرين في هذا الفن منذ الإمام ابن الصلاح وحتى يومنا هذا؛ فهو مع موافقته لعموم ما جاؤوا به، واستشهاده بكثير من أقوالهم، لا يوافقهم على ما اصطلحوا عليه من القواعد والضوابط، والتعريفات، مع أنها أدق وأحصر مما جاءنا هو به. والله أعلم.
كأن عند الدكتور إعجاب بنسفه وثقة بأن ما وصل إليه من صنيع المتقدمين، إن لم يخف على المتأخرين، فقد امتاز هو بجودة فهم لم يبلغوه، لذا اصطلحوا على مصطلحات خاطئة ـ عنده ـ أوجب التنكب عنها، والبحث عن غيرها، لا من طريقهم، بل عبر النظر إلى صنيع المتقدمين مباشرة عند نقدهم للحديث.
إن حصل وبلغ الأستاذ هذا الكلام، فأنا أرجو أن يعفو ويصفح، فلا أقصد هنا التنقص منه، ولكن للأستاذ معجبين كثيرين، أرجو إن تحقق الإنصاف فيهم أو في بعضهم، أن لا ينجروا إلى ما يسير عليه الدكتور من الرد للقواعد المقررة والإصطلاحات المحررة في كتب المصطلح إلى هذه العمايات، التي نحتاج، لا أقول إلى تفسيرها، بل إلى تفسير التفاسير التي وضعها الأستاذ لها.
ونعود إلى ما وضعه من الشروط، وهي الثقة بالمعنى الذي قدمناه، والاتصال، ولا يخفى المقصود به، وعدم مخالفة الواقع.
هذا الأخير شرحه الدكتور بقوله : "وبقي لنا العنصر الثالث، وهو عدم مخالفة الحديث الواقع، أو الواقع العملي، ويتحقق هذا العنصر إما بموافقة ما رواه الراوي الأمر الواقع في رواية ذلك الحديث، أو بتفرده بما له أصل في الواقع. ويعد هذا من أهم عناصر التصحيح، إذ يُعْتَبَرُ الحديث صحيحاً بمجرد تحقق هذا العنصر، وإن كان راويه ضعيفاً بشرط أن لا يكون متروكاً. كما أن هذا العنصر يكون في غاية الدقة والغموض؛ حيث يحتاج الناقد في معرفة ذلك إلى فخلية علمية وملكة نقدية" انتهى (علوم الحديث) صفحة 53
وهذا كما ترى تفسير يحتاج إلى إيضاح، إذ أدخل لفظ الواقع في تعريفه لمعنى الواقع، ولم يسبق له أن عرف المراد بالواقع. ثم قسم هو الواقع إلى حديثي وعملي، فلننظر إلى تفسيره فلعله يجلو عنا العمى.
قال : "أما الواقع الحديثي، فأعني به ما ثبت عن المحدث الذي روي عنه الحديث، فبمقدور الناقد أن يقف على الواقع، وتحديده بكل دقة، من خلال معاينته المحدث، أو بحفظ ما يتداوله أصحابه الثقات عنه، لا سيما أكثرهم مجالسة له، وحفظاً وضبطاً لأحاديثه" صفحة 54.
تبين الآن مقصوده، ولكن بعض بيان، وذلك أنه يرد سؤال : إن اطلاع الناقد على أصل الشيخ المروي عنه، إما أن يكون ذلك بمعاصرة، وحينئذٍ يكون الناقد هو نفسه الراوي عن الشيخ، ولا يحتاج معه إلى النظر في حال الراوي للحديث عن الشيخ صاحب الأصل. أو عن طريق وجادة صحيحة، فإن قبلناها، كفى كذلك. أما إن لم تُقبل الوجادة، فإن كان من لا يقبلها هو بعينه ذلك الناقد صاحب الوجادة الصحيحة، فغاية ذلك أن يكون بينه وبين الشيخ صاحب الأصل انقطاع خفيف ينجبر، ورواية الضعيف عن الشيخ صاحب الأصل يجبر هذا الانقطاع. وهكذا إن كان الذي يرد الوجادة غير ذلك الناقد.
فتبين أن هذا النوع هو المعروف عند المتأخرين بالشواهد والمتابعات، ولا حاجة بنا إلى اختراع اصطلاح مبهم لا يدل بلفظه على معناه.
أما الحالة الثانية، وهي أن ينظر في أخبار الرواة عن ذلك الشيخ، فإن كان ذلك الحديث معروفاً لديهم قُبِلَتْ وإلا رُدَّت. أقول: هذا أوضح من سابقه في كونه أيضاً من الشواهد والمتابعات. وإن كانت هنا أمور دقيقة، من ذلك أن المليباري لم يتكلم هنا عن ضبط الراوي الذي نبحث عن روايته أصلاً، وعليه لا يكون البحث بالقفز إلى النظر إلى رواية غيره، هذا بناه المليباري على أصله من أن الحكم مبني بشكل رئيسي على النظر فيما سماه الواقع الحديثي والعملي.
والصواب أن الأمر مركب من معرفة حال الراوي ومروياته عموماً، ومن جهة معرفة حال مروياته عن ذلك الشيخ خصوصاً، ومن جهة أخرى بالنظر إلى تلك الرواية بعينها، هل وُجِدَ من وافقه عليها أم لا.
فإن كان في الأكثر من أمره في عموم رواياته موافقاً للثقات فهو ثقة ضابطٌ لما يرويه، وهو حكم أكثري في الغالب، وعليه فالأغلب من حاله أنه ضبط هذه الرواية الخاصة، وسواءً اتفقنا على هذه الأغلبية أم لا، يأتي بعد ذلك النظر إلى حال مروياته من ذلك الشيخ المعين، ولهذا غرضين إثنين:
الأول: معرفة ضبطه لمرويات ذلك الشيخ، وهذا أعم الغرضين.
والثاني: معرفة مكانته من ذلك الشيخ، وهو الأخص.
فإذا تبين أنه في غالب أمره موافقاً لغيره، فهو ثقة في ذلك الشيخ. وإذا تبين فوق ذلك، أنه من الملازمين لذلك الشيخ المكثرين عنه، وهو على كثرة أحاديثه لم ينفرد بالكثير، كان ما ينفرد به مقبولاً، محتجاً به. والعكس في جميع ما ذكرنا يعكس الحكم.
أنت كما ترى هنا، لا تستطيع أن تفصل ما يتعلق بحال الراوي من جهة عدالته وضبطه عن البحث في الواقع الحديثي، بل لا بُدَّ من الجمع ما أمكن، لتصل إلى حكم أدق.
لكن كلام الأستاذ مشعر ـ بل قد نص عليه ـ في كون النظر في الواقع الحديثي والعملي، كما اصطلح عليه في كتابه هذا، أو القرائن والحيثيات والعلل وغيرها من المصطلحات التي عبر بها في كتبه الأخرى، يغني عن النظر في حال الراوي.
ومع أني أرى هذا الصنيع خطأ سيء، فإن أظن أنه عند تطبيق ما اشترطه في معرفة حجية الخبر لا يؤدي إلى كبير اختلاف؛ لأن إهماله لحال الراوي، أظن والله أعلم، إنما كان من أجل أن كلامه في الخبر المحتج به عموماً، أما إذا أردنا أن نعرف مرتبته بعد تحقق هذه الشروط، هل هو من الصحيح لذاته، أو لغيره، أو الحسن لذاته أو لغيره، لا يسعنا حينئذٍ إلا النظر في حال الراوي.
وإنما أهمل ذلك لأن هذه الإصطلاحات، وهي صحيح لذاته وصحيح لغيره، ليست من عبارات المحدثين النقاد، بحسب اصطلاحه، كما أنه صرح بأن الحديث إن بحثنا في قرائنه، فلم نجد مزيداً على مجرد حال الرواة، فإن الناقد حينئذٍ يحكم بها وحدها، ولكنه يعبر بصحيح الإسناد، أو حسن الإسناد، ونحو ذلك.
وقد لخص الدكتور تعريفه للصحيح بقوله : "إذا توفرت في الحديث عدالة راويه، واتصال سنده، وسلم من الشذوذ والعلة يعد صحيحاً، وإن كان راويه ضعيفاً"
ثم عرف الشذوذ والعلة بوقله : "هو أن لا يكون مخالفاً للواقع، ولا غريباً ليس له أصل"
وعدالة الراوي هنا، هي كثقة الراوي فيما تقدم، لا يقصد بها الضبط، بل الصدق وسلامة الدين.
وقال أيضاً : "الجرح والتعديل ليس هو أساس التصحيح والتضعيف عند المحدثين النقاد كما يزعم كثير من الناس اليوم، بل هو نتيجة تمخض عنها نقدهم للأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً"
أقول : إن اصطلاح صحيح لذاته وصحيح لغيره، وحسن لذاته وحسن لغيره، اصطلاح متأخر لحقيقة متقدمة، فابن الصلاح مثلاً، قسم الحسن إلى قسمين، أحدهما الحسن باعتبار الإسناد، والثاني الحسن باعتبار الاعتضاد، ولم يعبر بالحسن لذاته والحسن لغيره؛ وذلك لما صرح به الترمذي في علله الصغير أن الحديث قد يكون حسناً باعتبار المتابعات.
فإذا ثبت وجود هذين المعنيين في كتب المتقدمين، فلا ضير في وضع اصطلاح يميز به بينهما، ليمكن وضع حدٍّ ضابطٍ لكيلهما كما فعله المتأخرين ـ بحسب تعبير الدكتور ـ ، بدل التعميات بالعموميات كما فعله هو.
والاستاذ سلك هذا المسلك، بل لعله توسع أكثر من غيره؛ ذلك لأنه باسم التجديد، وضع اصطلاحات ليست معروفة عند المتقدمين، أو يكون المصطلح نفسه معروفاً، لكن لغير المعاني التي كانت تستعمل لها، كـ(المتقدم) و(المتأخر)، و(المحدثين النقاد)، أو (النقاد)، ولفظ (العدل) و(الثقة) مع عدم إرادة الضبط رغم الإطلاق، و(الواقع الحديثي)، و(الواقع العملي)، و(العلة) بمعنى خطأ الراوي أو وهمه، ومجرد أن المتقدمين لم يتلفظوا بها، لا يعني انعدام معانيها.
وعليه قد ينظر الرجل في عمل الأئمة الأوائل في تصحيح الحديث، فيراهم يحكمون تارة به على الحديث بسند واحد، ويضعون لذلك شروطاً، ثم يراهم يحكمون على حديث آخر باعتبار سندين أو أكثر ولا يقبلونه بأحدها، فيعرف أن الأول ليس هو الثاني وإن جامعه في الإسم أو الحكم العام، فيجتهد في تعرف شروط الأول، وبم يتميز عن الثاني حتى صار الإسناد الواحد فيه كافياً مقبولا، ويرجع إلى الثاني ويبحث، ما الذي قصر به عن الأول، وما الذي يحتاجه ليبلغ نفس حكمه، ثم لا يرى من الحكمة أن يضع للجميع تعريفاً واحداً يضيع به كلما جمعه من الفوارق والمميزات لكل نوعٍ منهما، كما لا يستطيع أن يجعل لكلٍّ منهما إسماً يوهم اختلاف حكمهما مع أن صنيع الأئمة يدل على اتحادهما فيه.
فيجعل الأسم العام لهما هو الصحيح، ولكل واحدٍ منهما تعريفٌ يخصه.
لكن لتمييز تعريف أحدهما عن الآخر، يجعل اسماً تبسيطياً تفهيمياً هو الصحيح لذاته، والصحيح لغيره، أخذاً من أن الأول باعتبار نفسه مشتمل على شروط الصحة، وأن الثاني لا يحمل سندٌ من أسانيده الحكم مفرداً حتى ينضم إليه غيره.
وهذا أفضل من جمع الجميع في خانة واحدة، ثم البحث عن الأعم الجامع لها، فيسقط بذلك ما به اختصاص كل واحدٍ منها عن الآخر. وهو صنيع المليباري.
لكن أعود فأقول : إن المليباري لا ينكر أن العدالة شرط، والضبط عند عدم العلة الخفية القادحة شرط، وأن الاتصال شرط، وأن نفي الشذوذ شرط، وأن نفي العلة شرط. لكن هذه جميعها شروط بعض الحديث الصحيح لا كل الحديث الصحيح، وهو يقصد لوضع حدٍّ يجمع الجميع، لأن المتقدمين يطلقون لفظ الصحيح مطلقاً على أكثر من هذا النوع، ولا يخصون واحداً منها بإسم دون غيره.
إذا أنت عرفت هذا، فلنرجع إلى مسألة الشذوذ والعلة، ومدى التزام المتقدمين والمتأخرين بها.
أما العلة فهي في كتب المصطلح سبب خفي يقدح في صحة الحديث. وقد عاب المليباري هذا الحد لكونه لا يوضح حقيقة الشيء المسمى علة، حيث قال بعد ذكره لتعريف ابن الصلاح للعلة : "ومفاد هذا التعريف أنه شيء خفي غامض يقدح في صحة الحديث، دون أن يوضح حقيقة هذا الشيء، وما هو هذا الشيء؟" (علوم الحديث) ص122. كما علق عليه في الحاشية بقوله : "قد يشكل على تعريف ابن الصلاح بأنه لم يكن مانعاً من دخول الإرسال الخفي، والتدليس فيه، لأن التعريف يصدق عليهما؛ إذ هما من الأسباب القادحة في صحة الحديث مع الغموض والخفاء. ومن المعلوم أن الإرسال الخفي والتدليس لا يعرفان بمجرد عنعنة الراوي، أو المدلس، بل بجمع الطرق والروايات. أما إذا قلنا إن العلة عبارة عن خطأ الراوي، فيكون المعنى واضحاً، ومانعاً من دخول التدليس والإرسال الخفي فيها، إذ لا صلة لهما بالخطأ، وإن كان كل منهما قادحاً في صحة الحديث" نفس المصدر ص 123.
وفي كتابه (نظرة جديدة) عند كلامه عن العلة وعن ميدان العلة، ذكر أن العلة قد تكون في حديث الثقة وحديث الضعيف على السواء، وقال : "يظن كثير من المتأخرين أن العلة لا تطلق على مرويات الضعفاء، وأن ميدانها مرويات الثقات، وفي تعريفهم للعرة إشارة إلى ذلك، وهو فيما قاله ابن الصلاح : "عبارة عن أسباب خفية غامضة، قادحة في صحة الحديث"
والحديث المعلل "هو الحديث الذي اطلع فيه على علةتقدح في صحته مع ظاهره السلامة منه"
أقول : أما كونه لم يعرف ماهية العلة وحقيقتها، فذلك لأنها لا تنضبط كما ذكره المليباري نفسه، فلما عسر ذكر حقيقتها لاختلافها وتمايز حقائق بعضها عن بعض، لجأ إلى تعريفها بنتيجتها المتحدة، وهي القدح.
أما قوله أن حده ليس جامعاً مانعاً، ففي كلامه نظر، وذلك أن خفاء كون الحديث المعين للمدلس إذا عنعنه فهو منقطع أم لا، لكونه يعتمد على جمع الروايات، لا يعني أنه علة خفية قادحة، ذلك أنا نرد حديث المدلس سواءً عرفنا أن ذلك الحديث المعنعن هو منقطع في نفس الأمر أم لا، إلا أن تدل الروايات على كونه متصلاً غير منقطع.
فالخفي هنا ـ وهو الإنقطاع ـ ليس هو سبب حكمنا على الحديث بالضعف، بل اتصاف الراوي بالتدليس، وهو ظاهر جلي.
فإذا بحثنا في الروايات فدلت على الإنقطاع، كان ذلك مؤكداً للحكم، وإن دلت على الإتصال، لم تكن علة خفية، لأن العلة الخفية تنتج ضعف الحديث، لا صحته.
وهكذا الأمر في المرسل الخفي.
وأيضاً لو فرضنا أن التدليس والإرسال الخفي علتان خفيتان لا تعرفان إلا عن طريق جمع طرق الحديث، فَلِمَ لا يدخلاف في باب العلة؟ مع أنهم عللوا كثيراً من الأحاديث بالتدليس والإرسال في كتب العلل.
فإن قيل: أن أحداً ممن صنف في المصطلح لم يدخلهما في الأحاديث المعللة.
قلنا: ومتى كنتم تتقيدون بما يذكره هؤلاء متى خالف صنيع النقاد عندكم.
على أن في كلام المتأخرين ما يدل على دخول التدليس والإرسال في معنى العلة، إذا آل الأمر إليهما مع كون الظاهر السلامة من ذلك، قال الحافظ احجر : "فعلى هذا لا يسمى الحديث المنقطع مثلاً معلولاً، ولا الحديث الذي راويه مجهول أو مضعف معلولاً، وإنما يسمى معلولاً إذا آل أمره إلى شيء من ذلك مع كونه ظاهر السلامة من ذلك" (النكت) 2/710
ولما كان ابن الصلاح قدم اشتراط العدالة والضبط والاتصال، احتاج إلى بيان ما لا يعارضها ظاهراً، ويعارضها باطناً.
فلو وجد المحقق راوياً مدلساً أو موصوفاً بالإرسال في سند الحديث، ولو كان طالباً مبتدءً، فإنه يتوقف رأساً في الحكم عليه بالاتصال، وهذا أمر لا يختص به النقاد ـ بحسب تعبير الدكتور ـ ، ومبحث العلة والتعليل أمرٌ يختص به النقاد.
فإن قال : معرفة كون فلان مدلس أو يرسل، لا يقدر عليه إلا النقاد لجمعهم الروايات إلى آخر كلامه.
قلنا: هذا ليس من الكلام في العلل القادحة، بل من الكلام في أحوال الرواة، والفرض أنه لا مدخل له في الحكم على الحديث إلا بعد التنقيب والتفتيش، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، التدليس والإرسال حتى الخفي منه لا يشترط في معرفة صاحبه جمع الروايات، بل قد يصرح به المدلس نفسه، أو المرسل، بأن يروي حديث فيقول : عن فلان، فيُسأل: أسمعته منه، فيقول : لا. وهذا كثير.
وإن قال: إن بعض الأحاديث لا يمكن الكشف عن التدليس فيها إلا بجمع الطرق، وذلك إن كان المدلس كسفيان بن عيينة، أو أن ينسب التدليس إلى نحو الزهري.
قلنا: فدخل التدليس في باب المعلل لا محالة، وإن كان ذلك مقيداً بالتدليس في هذه الصورة. وقد تقدم قريباً.
وأخيراً : قد عرف المليباري العلة بقوله : "العلة تكون عبارة عن خطأ الراوي" (علوم الحديث) ص124.
وهذا أيضاً ليس جامعاً مانعاً؛ وذلك أن العلة قد تكون عن عمد، كالحال في التدليس من الزهري وابن عيينة كما تقدم، إن لم يمكن كشف ذلك إلا بتتبع الطرق والروايات.
وهنا أقول : على الرغم مما تقدم من خلافي للمليباري في منهجه لتأسيس مصطلاحات جديدة، أوافقه على صحة معانيها، وأخالفيه على اصطلاحه فيها، فإنه لا يمكنني قط أن أقول : أنه مبتدع ضال صاحب هوى لمجرد أنه خالفني في الاصطلاح.
وهنا يقفز المبدعة والمضللة بأنه يطلق مصطلحات على معاني بدعية كالمتقدمين والمتأخرين. فأقول : هذا هو موضوع حلقتنا الثانية إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله
سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
[تنبيه : ليس هناك حلقة ثانية ولن يكون ، لأن المقصود به في حينه خارج عن البحث العلمي إلى القيل والقال ، فعزفت عنه]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
أدخل رأساً في الموضوع فأقول:
قال المليباري : "وهذا الأسلوب المقترح في تدريس علو الحديث لا يدعو إلى إهمال ما ورد في كتب المصطلح من العريفات، بل يدعوا إلى فهمها على طلابنا من خلال ترتيبها ترتيباً موضوعياً، ثم عرض كم منها على تطبيقات نقاد الحديث، وشرحها بالأمثلة الواقعية التي يألفها المجتمع في معالجة الأخبار التي تتداول فيما بينهم"
قسم المليباري المتكلمين في علم الحديث، سواءً نظرياً، كالمتكلمين في الحدود والتعريفات، أو عملياً، أي تطبيق تلك الحدوث والتعريفات، إلى متقدمين ومتأخرين، وجعل لكلٍّ منهم منهج يسير عليه، لكن لا يعني هذا أن للمتأخر قواعد لا يقول بها المتقدم والعكس إجمالاً. لكن غالب الاختلاف هو في تطبيق تلك القواعد. وبخاصة فيما يتعلق بالعلة ماهي وكيف تعامل معها المتقدمون والمتأخرون.
لكن لما كانت المصطلحات ـ في أي علم كان ـ إنما توضع لتقييد وضبط عملٍ ما بغرض تبسيطه، ثم يسعون إلى تعريفه بحد يجمع شروطه ويمنع دخول غيره معه، فإن الناس قد يختلفون إما في نفس الاصطلاح، أو في تعريفه، وقد يتفقون على جملة يختلفون في تفاصيلها.
فمثلاً : الحسن عرفه بعضهم كالخطابي بما يتناول الحسن لذاته دون الحسن لغيره، وعرفه بعضهم بما يتناول الحسن لغيره دون الحسن لذاته، وذكر ابن الصلاح التعريفين جميعاً مع شيءٍ من التعديل فيه، من دون أن يجمع بينهما.
ومثله الصحيح، فاقتصر ابن الصلاح على تعريف أحد قسميه، وعقب عليه الحافظ بأنه كالحسن فيه الصحيح لغيره والصحيح لذاته، إلا أن من راعى القسمة رأى أنه يجب أن يزيد في الإسم ما يميز كل قسم عن قسيمه، فزادوا في الصحيح والحسن لفظتي لذاته ولغيره، وليس هو اصطلاحٌ قديم.
هذا فيما يتعلق بنفس التعريف، أما نفس الاصطلاح، فقد اختلفوا في رواية الثقة إذا تفرد عن رجل مشهور له أصحاب معروفون؛ هل يُسمى حديث هذا شاذاً أو منكراً أو صحيحاً فرداً أو غريباً إلى غير ذلك من المسميات، وذلك بحسب اختلاف المحدثين في الحكم على ما كان هذا حاله.
فمن سماه صحيحاً، نظر مثلاً إلى أن الشيخين أخرجا في صحيحهما أفراداً كثيرة، فدل على أن تفرد الثقة لا يخرج حديثه عن كونه صحيحاً. وغايته أن يكون فرداً أو غريباً. ورأى آخرون أن هذا قد يصح فيما لو كان الراوي المتفرد عنه ليس مشهوراً له أصحاب مشهورين، وإلا فيجب النظر حينئذٍ إلى روايات أصحابه، فإن لم يجدوا ذلك الحديث عنده نظروا في حال المتفرد، إن كان هو من أخصائه، وكان أكثر حديثه موافق لما يرويه أصحابه، فحديثه صحيح مقبول، ولا تراهم غالباً يسمون هذا غريباً، وإن قالوا : تفرد به فلان. ومنهم من يقسم حال الرواة إلى متقدمين يقبل منهم هذا بالشرط المذكور، ومتأخرين لا يقبل تفردهم مطلقاً. ثم إن لم يجمع الشروط المذكورة، فهل حديثه شاذ أم منكر، أو أن الشاذ والمنكر على حدٍّ سواء، فيطلق هذا حيث يطلق ذاك.
إلى آخر ما تراه في كتب المصطلح وغيرها.
قال المليباري : "ثم قام المتأخرون بتنظير تلك القواعد وجمعها في أطر المصطلحات وتعريفاتها المصاغة طبقاً لقواعد علم المنطق. وينبغي هنا أن نركز على أربع نقاط مهمة، تضمنتها هذه الجمل، بعضها يتصل بمصدر علوم الحديث، والأخرى بمحتواها : النقطة الأولى : تكون مرجعية هذا العلم هي نصوص المحدثين النقاد
النقطة الثانية: الذي قام به المتأخرون في مجال علوم الحديث هو جمع ما تفرق في كتب النقاد من نصوص ومصطلحات ثم تحديد معانيها وضبط مدلولاتها، بوضع تعريفات لكل منها، منضبطة بقواعد المنطق، وبأسلوب ألفه معاصروهم، حتى استقرت تلك المصطلحات، بحيث إذا أطلق لفظ أو مصطلح لا يتبادر إلى الذهن إلا ذلك المعنى"
أقول: في هذا الكلام شرح لسبب إعراضه عن بعض المصطلحات والتعريفات الموجودة في كتب المصطلح، وأن الواجب التقيد بتعبيرات المتقدمين، واستخراج المطلحات منها، والتعريفات من صنيعهم في نقد النصوص. لذا تراه يعمد في كتبه إلى وضع اصطلاحات لم يسبق إليها، من أجل أنه رأى أفعالاً للمتقدمين لم يرَ له اصطلاحاً ما في كتب المصطلح، أو يضع تعريفاً إما بزيادة قيد أو إسقاطه، لأنه رأى في صنيع المتقدمين ما يدل عليه. وهو لا يهاب الرد على المصنفين في علم المصطلح لذلك.
هذا إجمال ما سيأتي تفصيله لاحقاً.
مصطلح المتقدمين والمتأخرين :-
قد فسر المليباري نفسه مراده بهذا الاصطلاح في كتابه (نظرة جديدة) صفحة 13 بما حاصله أن المتقدمين هم من عاصروا فترة التدوين الأولى، والمراد بها فترة الاعتماد على التراث الشفوي، وجعلها ممتدة إلى نهاية القرن الخامس. وأن المتأخرين هم من عاصر المرحلة الثانية، وهي المرحلة التي بدأ فيها الاعتماد على الرواية والإسناد تتلاشى، ويحل محلها الاعتماد على كتب المتقدمين.
فإذا لم نربط هذا الاصطلاح بأمر زائد على ما ذكره من التعريف، فإنه لا يظهر فيه أي سوء سواءً سُبِقَ إليه أو لم يسبق.
لكن المنتقدين له رأوا أنه نسب إلى المتأخرين العمل وفق قواعد تخالف قواعد المتقدمين.
وبالنظر إلى كتبه، فإني رأيته يقول بأن المتأخرين يعملون وفق مناهج تخالف مناهج المتقدمين، بمعنى أنهم قد يتفقون على قاعدة ويختلفون في تطبيقها.
فمثلاً يتفق المتقدمون والمتأخرون على أن الشاذ هو مخالفة الثقة لمن هو أولى منه، ومع ذلك ترى كثيراً من المتأخرين يصححون زيادات وإن خالف فيها الثقة من هو أولى منه، أو ألفاظ يخالف فيها الثقة من هو أولى منه، بزعم أن الزائد ثقة، والزيادة من الثقة مقبولة، أو أن اللفظ المخالف يمكن الجمع بينه وبين ما يخالفه، فتنتفي بذلك المخالفة.
بينما لا ترى هذا ولا ذاك عند المتقدمين، فتراهم يعللون زيادات الثقات سواءً في السند أو المتن، وقد يجوز حمل ألفاظ المتون على الاتفاق، والزيادة في الإسناد على الرواية عن شيخين مثلاً، فلا يجيزونه، بل يعللونه.
وليس ذنب المليباري أن غيره يستخدم هذا الاصطلاح على غير ما يصطلح هو عليه.
والآن نشرع في المقصود، ونرتب الكلام اعتماداً على ترتيب كتب المصطلح، فأقول :
الحديث الصحيح :
المشهور من تعريفه هو أنه الحديث المتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة.
وعلى هذا التعريف إيرادات ذكر الحافظ ابن حجر كثيراً منها في (النكت) فرد أكثرها، وصحح بعضها، وأورد هو من عند نفسه إيرادات يهمنا هنا ما يتعلق بمعرفة الصحيح لغيره، حيث قال عند تعليقه على تعريف ابن الصلاح للحديث الحسن: ".. إن وصف الحديث بالصحة إذا قصر عن رتبة الصحيح، وكان على شرط الحسن، إذا روي من وجه آخر لا يدخل في التعريف الذي عرف به الصحيح أولاً. فإما أن يزاد في حد الصحيح ما يعطي أن هذا أيضاً يسمى صحيحاً، وإما أن لا يسمى هذا صحيحاً. والحق أنه من طريق النظر أنه يسمى صحيحاً، وينبغي أن يزاد في التعريف بالصحيح فيقال : هو الحديث الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط أو القاصر عنه إذا اعتضد عن مثله إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً ولا معللا" انتهى من (النكت) 1/417.
إلا أن هذا يضع على حد الصحيح إشكالات أوردها الحافظ نفسه عند كلامه على حد الصحيح. منها أنه لم يحدد مقدار القصور عن العدل الضابط.
فإن قيل : هو ما ينزل بحديثه إلى رتبة الحسن.
قيل : الضعيف إذا جاء من طريقين محتملين يرتفع إلى رتبة الحسن فإذا وجدنا له طريقاً آخر ضعيف أيضاً تقوى بذلك فارتفع إلى رتبة الصحيح أو كاد. فإذا جاء من طريق آخر تقوى بذلك أيضاً فيجزم الناقد حينئذٍ بالصحة. وهي طرق نزلت رتبة الراوي فيها عن رتبة الحسن.
فإن قيل : المراد بمن قصر ضبطه كل ضعيف محتمل.
قيل : فاعتضاد الضعيف بمثله لا يرفع الحديث إلى رتبة الصحيح، غايته أن يرتفع إلى رتبة الحسن، إلا أن تتكاثر الطرق كما قدمنا.
لا خلاف بأن الحديث الصحيح ينقسم إلى صحيح لذاته وصحيح لغيره، بالنظر إلى ما في نفس الأمر، لكن حد القسم الثاني يعسر.
حد المليباري للحديث الصحيح :
والمليباري أراد أن يضع حداً جامعاً للصحيح يشمل القسمين، لكنه لما لم يجد في كتب المصطلح حداً جامعاً مانعاً من جهة، لم يرتض التعاريف الموجودة فيها.
ولما كان يريد أن يستنبط هذا التعريف من صنيع المحدثين من جهة أخرى، ووجدهم يصححون حديث الضعيف كثيراً، ويعللون كثيراً من روايات الثقات، لم يعتبر بحال الراوي في الحد العام، إلا بمقدار ما يخرج حديث من لا ينجبر حديثه، كالمتروك وما دونه.
إلا أنه اختار في تعريف الحديث الصحيح عبارة عامة غير منضبطة فقال : "الحديث إذا تبين للناقد أنه تم نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره، من غير خطأ ولا وهم، فإنه يُعِبَّرُ عنه غالباً بأنه (صحيح) ، وقد يُعِبَّر عنه بأنه حسن" انتهى المراد (علوم الحديث في ضوء تطبيقات النقاد)
وهذا بالتعمية أشبه منه بالتعريف، لكنه لم يقله اتباعاً لهواه، ولا هو منطوٍ على أمرٍ جديد بدعي. بل الرجل لما لما يجد حداً منضبطاً لما رآه من صنيع أهل الحديث يكون شاملاً إما للصحيح بقسميه، أو لما يحتج به عموماً ـ أي الصحيح بقسميه والحسن بقسميه ـ هداه اجتهاده إلى هذا الذي لا أستطيع أن أسميه تعريفاً، ولا حتى ضابطاً.
أما وجه اعتراضي عليه فهو من جهة أنه لم يعرف الصحيح بشيء من ذاتياته، بل هو كقولنا: إن العام هو الذي لم يجد الأصولي أو الفقيه ما يخصصه ببعض أفراده.
وقد عاب هو على ابن الصلاح نحو ذلك في تعريفه للعلة، حيث زعم أنه لم يأتِ يحقيقة العلة، وإن كان صنيع ابن الصلاح صواب تماماً كما سيأتي.
ومراد الطالب هو معرفة ذاتيات الصحيح التي يمكنه بها أن يميزه عن غيره، إما من غير استعانة بغيره، وذلك إذا قلنا بجواز التصحيح والتضعيف في العصور المتأخرة، أو مع الاستعانة بغيره من غير تقليد، كما لو اختلف إمامان ناقدان بحسب تعبير المليباري في حديث واحد فصححه أحدهما وضعفه الآخر، فإن هذا الحديث المختلف فيه قد تبين لأحد الناقدين ضبط الراوي له من غير خطأ ولا وهم، وتبين للآخر خطأه ووهمه فيه.
فكيف يفعل من يريد أخذ أحد القولين من غير تقليد؟
وكأن المليباري علم أن هذا الحد ـ إن كان حداً ـ لا يفي بتعريف الصحيح فذكر صفحة 42 من نفس الكتاب فصلاً سماه (كيف يقوي شعور الناقد بذلك؟) أي بالصحة أو الحُسْن. ثم أعطى ضوابط ثلاثة تجعل الناقد يشعر بارتفاع الحديث إلى رتبة الاحتجاج، أي إلى رتبة الصحيح بقسميه والحسن بقسميه، وهي ثقة الرواة، واتصال السند، وما سماه عدم مخالفة الأمر الواقع.
ولم يقصد بالثقة معناه المشهور عند المشتغلين بهذا الفن اليوم، بل ولا بالأمس، وهو العدل الضابط، وذلك أن هذا المعنى الاصطلاحي إنما هو شرط في الصحيح لذاته فقط، وهو إنما يتكلم عما يفيد الصحة مطلقاً أو الحجية، وهذا قد يحصل بالمتابعات حتى لو فقد شرط تمام الضبط أو الضبط مطلقاً كما في الصحيح لغيره والحسن لغيره.
كما أسقط الكلام عن الشذوذ والعلة، لأن الشذوذ عنده من العلل من جهة، ولأن الشرط الأخير الذي وضعه وسماه (عدم مخالفة الواقع) يشملهما.
في الحقيقة، في الوقت الذي قصدت فيه الدفاع عن الدكتور المليباري، أراه يجذبني إلى خلاف القصد، لا أقصد بذلك أني أظنه مبتدعاً متبعاً لهواه، بل أنه بدلاً من ضبط القواعد التي لعله يراها غير منضبطة في كتب المصطلح المعروفة اليوم، زاد ضغثاً على إبالة، وعمى على الدارسين الحالة.
والدكتور لا يجهل طرق النقد، يشهد لذلك كتابه (ما هكذا تورد يا سعدٌ الإبل) فإنه أبان فيه براعة في تمييز طرق مسلم وخفايا ما يعتريها، مما لعله لم يتنبه له كثير من المشتغلين في هذا الفن اليوم، ولا أقصد كل من هب ودب، بل كثير ممن يتقن هذه الصناعة، لعله ما تنبه لكثير مما بينه هو من الخصائص الإسنادية التي أودعها مسلم أحاديث صحيحه.
أما كتابه الذي ألفه حول صحيح الإمام مسلم خاصة، فلم أطلع عليه.
ولكن كأن الأستاذ الدكتور استخف بشأن المصنفين المتأخرين في هذا الفن منذ الإمام ابن الصلاح وحتى يومنا هذا؛ فهو مع موافقته لعموم ما جاؤوا به، واستشهاده بكثير من أقوالهم، لا يوافقهم على ما اصطلحوا عليه من القواعد والضوابط، والتعريفات، مع أنها أدق وأحصر مما جاءنا هو به. والله أعلم.
كأن عند الدكتور إعجاب بنسفه وثقة بأن ما وصل إليه من صنيع المتقدمين، إن لم يخف على المتأخرين، فقد امتاز هو بجودة فهم لم يبلغوه، لذا اصطلحوا على مصطلحات خاطئة ـ عنده ـ أوجب التنكب عنها، والبحث عن غيرها، لا من طريقهم، بل عبر النظر إلى صنيع المتقدمين مباشرة عند نقدهم للحديث.
إن حصل وبلغ الأستاذ هذا الكلام، فأنا أرجو أن يعفو ويصفح، فلا أقصد هنا التنقص منه، ولكن للأستاذ معجبين كثيرين، أرجو إن تحقق الإنصاف فيهم أو في بعضهم، أن لا ينجروا إلى ما يسير عليه الدكتور من الرد للقواعد المقررة والإصطلاحات المحررة في كتب المصطلح إلى هذه العمايات، التي نحتاج، لا أقول إلى تفسيرها، بل إلى تفسير التفاسير التي وضعها الأستاذ لها.
ونعود إلى ما وضعه من الشروط، وهي الثقة بالمعنى الذي قدمناه، والاتصال، ولا يخفى المقصود به، وعدم مخالفة الواقع.
هذا الأخير شرحه الدكتور بقوله : "وبقي لنا العنصر الثالث، وهو عدم مخالفة الحديث الواقع، أو الواقع العملي، ويتحقق هذا العنصر إما بموافقة ما رواه الراوي الأمر الواقع في رواية ذلك الحديث، أو بتفرده بما له أصل في الواقع. ويعد هذا من أهم عناصر التصحيح، إذ يُعْتَبَرُ الحديث صحيحاً بمجرد تحقق هذا العنصر، وإن كان راويه ضعيفاً بشرط أن لا يكون متروكاً. كما أن هذا العنصر يكون في غاية الدقة والغموض؛ حيث يحتاج الناقد في معرفة ذلك إلى فخلية علمية وملكة نقدية" انتهى (علوم الحديث) صفحة 53
وهذا كما ترى تفسير يحتاج إلى إيضاح، إذ أدخل لفظ الواقع في تعريفه لمعنى الواقع، ولم يسبق له أن عرف المراد بالواقع. ثم قسم هو الواقع إلى حديثي وعملي، فلننظر إلى تفسيره فلعله يجلو عنا العمى.
قال : "أما الواقع الحديثي، فأعني به ما ثبت عن المحدث الذي روي عنه الحديث، فبمقدور الناقد أن يقف على الواقع، وتحديده بكل دقة، من خلال معاينته المحدث، أو بحفظ ما يتداوله أصحابه الثقات عنه، لا سيما أكثرهم مجالسة له، وحفظاً وضبطاً لأحاديثه" صفحة 54.
تبين الآن مقصوده، ولكن بعض بيان، وذلك أنه يرد سؤال : إن اطلاع الناقد على أصل الشيخ المروي عنه، إما أن يكون ذلك بمعاصرة، وحينئذٍ يكون الناقد هو نفسه الراوي عن الشيخ، ولا يحتاج معه إلى النظر في حال الراوي للحديث عن الشيخ صاحب الأصل. أو عن طريق وجادة صحيحة، فإن قبلناها، كفى كذلك. أما إن لم تُقبل الوجادة، فإن كان من لا يقبلها هو بعينه ذلك الناقد صاحب الوجادة الصحيحة، فغاية ذلك أن يكون بينه وبين الشيخ صاحب الأصل انقطاع خفيف ينجبر، ورواية الضعيف عن الشيخ صاحب الأصل يجبر هذا الانقطاع. وهكذا إن كان الذي يرد الوجادة غير ذلك الناقد.
فتبين أن هذا النوع هو المعروف عند المتأخرين بالشواهد والمتابعات، ولا حاجة بنا إلى اختراع اصطلاح مبهم لا يدل بلفظه على معناه.
أما الحالة الثانية، وهي أن ينظر في أخبار الرواة عن ذلك الشيخ، فإن كان ذلك الحديث معروفاً لديهم قُبِلَتْ وإلا رُدَّت. أقول: هذا أوضح من سابقه في كونه أيضاً من الشواهد والمتابعات. وإن كانت هنا أمور دقيقة، من ذلك أن المليباري لم يتكلم هنا عن ضبط الراوي الذي نبحث عن روايته أصلاً، وعليه لا يكون البحث بالقفز إلى النظر إلى رواية غيره، هذا بناه المليباري على أصله من أن الحكم مبني بشكل رئيسي على النظر فيما سماه الواقع الحديثي والعملي.
والصواب أن الأمر مركب من معرفة حال الراوي ومروياته عموماً، ومن جهة معرفة حال مروياته عن ذلك الشيخ خصوصاً، ومن جهة أخرى بالنظر إلى تلك الرواية بعينها، هل وُجِدَ من وافقه عليها أم لا.
فإن كان في الأكثر من أمره في عموم رواياته موافقاً للثقات فهو ثقة ضابطٌ لما يرويه، وهو حكم أكثري في الغالب، وعليه فالأغلب من حاله أنه ضبط هذه الرواية الخاصة، وسواءً اتفقنا على هذه الأغلبية أم لا، يأتي بعد ذلك النظر إلى حال مروياته من ذلك الشيخ المعين، ولهذا غرضين إثنين:
الأول: معرفة ضبطه لمرويات ذلك الشيخ، وهذا أعم الغرضين.
والثاني: معرفة مكانته من ذلك الشيخ، وهو الأخص.
فإذا تبين أنه في غالب أمره موافقاً لغيره، فهو ثقة في ذلك الشيخ. وإذا تبين فوق ذلك، أنه من الملازمين لذلك الشيخ المكثرين عنه، وهو على كثرة أحاديثه لم ينفرد بالكثير، كان ما ينفرد به مقبولاً، محتجاً به. والعكس في جميع ما ذكرنا يعكس الحكم.
أنت كما ترى هنا، لا تستطيع أن تفصل ما يتعلق بحال الراوي من جهة عدالته وضبطه عن البحث في الواقع الحديثي، بل لا بُدَّ من الجمع ما أمكن، لتصل إلى حكم أدق.
لكن كلام الأستاذ مشعر ـ بل قد نص عليه ـ في كون النظر في الواقع الحديثي والعملي، كما اصطلح عليه في كتابه هذا، أو القرائن والحيثيات والعلل وغيرها من المصطلحات التي عبر بها في كتبه الأخرى، يغني عن النظر في حال الراوي.
ومع أني أرى هذا الصنيع خطأ سيء، فإن أظن أنه عند تطبيق ما اشترطه في معرفة حجية الخبر لا يؤدي إلى كبير اختلاف؛ لأن إهماله لحال الراوي، أظن والله أعلم، إنما كان من أجل أن كلامه في الخبر المحتج به عموماً، أما إذا أردنا أن نعرف مرتبته بعد تحقق هذه الشروط، هل هو من الصحيح لذاته، أو لغيره، أو الحسن لذاته أو لغيره، لا يسعنا حينئذٍ إلا النظر في حال الراوي.
وإنما أهمل ذلك لأن هذه الإصطلاحات، وهي صحيح لذاته وصحيح لغيره، ليست من عبارات المحدثين النقاد، بحسب اصطلاحه، كما أنه صرح بأن الحديث إن بحثنا في قرائنه، فلم نجد مزيداً على مجرد حال الرواة، فإن الناقد حينئذٍ يحكم بها وحدها، ولكنه يعبر بصحيح الإسناد، أو حسن الإسناد، ونحو ذلك.
وقد لخص الدكتور تعريفه للصحيح بقوله : "إذا توفرت في الحديث عدالة راويه، واتصال سنده، وسلم من الشذوذ والعلة يعد صحيحاً، وإن كان راويه ضعيفاً"
ثم عرف الشذوذ والعلة بوقله : "هو أن لا يكون مخالفاً للواقع، ولا غريباً ليس له أصل"
وعدالة الراوي هنا، هي كثقة الراوي فيما تقدم، لا يقصد بها الضبط، بل الصدق وسلامة الدين.
وقال أيضاً : "الجرح والتعديل ليس هو أساس التصحيح والتضعيف عند المحدثين النقاد كما يزعم كثير من الناس اليوم، بل هو نتيجة تمخض عنها نقدهم للأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً"
أقول : إن اصطلاح صحيح لذاته وصحيح لغيره، وحسن لذاته وحسن لغيره، اصطلاح متأخر لحقيقة متقدمة، فابن الصلاح مثلاً، قسم الحسن إلى قسمين، أحدهما الحسن باعتبار الإسناد، والثاني الحسن باعتبار الاعتضاد، ولم يعبر بالحسن لذاته والحسن لغيره؛ وذلك لما صرح به الترمذي في علله الصغير أن الحديث قد يكون حسناً باعتبار المتابعات.
فإذا ثبت وجود هذين المعنيين في كتب المتقدمين، فلا ضير في وضع اصطلاح يميز به بينهما، ليمكن وضع حدٍّ ضابطٍ لكيلهما كما فعله المتأخرين ـ بحسب تعبير الدكتور ـ ، بدل التعميات بالعموميات كما فعله هو.
والاستاذ سلك هذا المسلك، بل لعله توسع أكثر من غيره؛ ذلك لأنه باسم التجديد، وضع اصطلاحات ليست معروفة عند المتقدمين، أو يكون المصطلح نفسه معروفاً، لكن لغير المعاني التي كانت تستعمل لها، كـ(المتقدم) و(المتأخر)، و(المحدثين النقاد)، أو (النقاد)، ولفظ (العدل) و(الثقة) مع عدم إرادة الضبط رغم الإطلاق، و(الواقع الحديثي)، و(الواقع العملي)، و(العلة) بمعنى خطأ الراوي أو وهمه، ومجرد أن المتقدمين لم يتلفظوا بها، لا يعني انعدام معانيها.
وعليه قد ينظر الرجل في عمل الأئمة الأوائل في تصحيح الحديث، فيراهم يحكمون تارة به على الحديث بسند واحد، ويضعون لذلك شروطاً، ثم يراهم يحكمون على حديث آخر باعتبار سندين أو أكثر ولا يقبلونه بأحدها، فيعرف أن الأول ليس هو الثاني وإن جامعه في الإسم أو الحكم العام، فيجتهد في تعرف شروط الأول، وبم يتميز عن الثاني حتى صار الإسناد الواحد فيه كافياً مقبولا، ويرجع إلى الثاني ويبحث، ما الذي قصر به عن الأول، وما الذي يحتاجه ليبلغ نفس حكمه، ثم لا يرى من الحكمة أن يضع للجميع تعريفاً واحداً يضيع به كلما جمعه من الفوارق والمميزات لكل نوعٍ منهما، كما لا يستطيع أن يجعل لكلٍّ منهما إسماً يوهم اختلاف حكمهما مع أن صنيع الأئمة يدل على اتحادهما فيه.
فيجعل الأسم العام لهما هو الصحيح، ولكل واحدٍ منهما تعريفٌ يخصه.
لكن لتمييز تعريف أحدهما عن الآخر، يجعل اسماً تبسيطياً تفهيمياً هو الصحيح لذاته، والصحيح لغيره، أخذاً من أن الأول باعتبار نفسه مشتمل على شروط الصحة، وأن الثاني لا يحمل سندٌ من أسانيده الحكم مفرداً حتى ينضم إليه غيره.
وهذا أفضل من جمع الجميع في خانة واحدة، ثم البحث عن الأعم الجامع لها، فيسقط بذلك ما به اختصاص كل واحدٍ منها عن الآخر. وهو صنيع المليباري.
لكن أعود فأقول : إن المليباري لا ينكر أن العدالة شرط، والضبط عند عدم العلة الخفية القادحة شرط، وأن الاتصال شرط، وأن نفي الشذوذ شرط، وأن نفي العلة شرط. لكن هذه جميعها شروط بعض الحديث الصحيح لا كل الحديث الصحيح، وهو يقصد لوضع حدٍّ يجمع الجميع، لأن المتقدمين يطلقون لفظ الصحيح مطلقاً على أكثر من هذا النوع، ولا يخصون واحداً منها بإسم دون غيره.
إذا أنت عرفت هذا، فلنرجع إلى مسألة الشذوذ والعلة، ومدى التزام المتقدمين والمتأخرين بها.
أما العلة فهي في كتب المصطلح سبب خفي يقدح في صحة الحديث. وقد عاب المليباري هذا الحد لكونه لا يوضح حقيقة الشيء المسمى علة، حيث قال بعد ذكره لتعريف ابن الصلاح للعلة : "ومفاد هذا التعريف أنه شيء خفي غامض يقدح في صحة الحديث، دون أن يوضح حقيقة هذا الشيء، وما هو هذا الشيء؟" (علوم الحديث) ص122. كما علق عليه في الحاشية بقوله : "قد يشكل على تعريف ابن الصلاح بأنه لم يكن مانعاً من دخول الإرسال الخفي، والتدليس فيه، لأن التعريف يصدق عليهما؛ إذ هما من الأسباب القادحة في صحة الحديث مع الغموض والخفاء. ومن المعلوم أن الإرسال الخفي والتدليس لا يعرفان بمجرد عنعنة الراوي، أو المدلس، بل بجمع الطرق والروايات. أما إذا قلنا إن العلة عبارة عن خطأ الراوي، فيكون المعنى واضحاً، ومانعاً من دخول التدليس والإرسال الخفي فيها، إذ لا صلة لهما بالخطأ، وإن كان كل منهما قادحاً في صحة الحديث" نفس المصدر ص 123.
وفي كتابه (نظرة جديدة) عند كلامه عن العلة وعن ميدان العلة، ذكر أن العلة قد تكون في حديث الثقة وحديث الضعيف على السواء، وقال : "يظن كثير من المتأخرين أن العلة لا تطلق على مرويات الضعفاء، وأن ميدانها مرويات الثقات، وفي تعريفهم للعرة إشارة إلى ذلك، وهو فيما قاله ابن الصلاح : "عبارة عن أسباب خفية غامضة، قادحة في صحة الحديث"
والحديث المعلل "هو الحديث الذي اطلع فيه على علةتقدح في صحته مع ظاهره السلامة منه"
أقول : أما كونه لم يعرف ماهية العلة وحقيقتها، فذلك لأنها لا تنضبط كما ذكره المليباري نفسه، فلما عسر ذكر حقيقتها لاختلافها وتمايز حقائق بعضها عن بعض، لجأ إلى تعريفها بنتيجتها المتحدة، وهي القدح.
أما قوله أن حده ليس جامعاً مانعاً، ففي كلامه نظر، وذلك أن خفاء كون الحديث المعين للمدلس إذا عنعنه فهو منقطع أم لا، لكونه يعتمد على جمع الروايات، لا يعني أنه علة خفية قادحة، ذلك أنا نرد حديث المدلس سواءً عرفنا أن ذلك الحديث المعنعن هو منقطع في نفس الأمر أم لا، إلا أن تدل الروايات على كونه متصلاً غير منقطع.
فالخفي هنا ـ وهو الإنقطاع ـ ليس هو سبب حكمنا على الحديث بالضعف، بل اتصاف الراوي بالتدليس، وهو ظاهر جلي.
فإذا بحثنا في الروايات فدلت على الإنقطاع، كان ذلك مؤكداً للحكم، وإن دلت على الإتصال، لم تكن علة خفية، لأن العلة الخفية تنتج ضعف الحديث، لا صحته.
وهكذا الأمر في المرسل الخفي.
وأيضاً لو فرضنا أن التدليس والإرسال الخفي علتان خفيتان لا تعرفان إلا عن طريق جمع طرق الحديث، فَلِمَ لا يدخلاف في باب العلة؟ مع أنهم عللوا كثيراً من الأحاديث بالتدليس والإرسال في كتب العلل.
فإن قيل: أن أحداً ممن صنف في المصطلح لم يدخلهما في الأحاديث المعللة.
قلنا: ومتى كنتم تتقيدون بما يذكره هؤلاء متى خالف صنيع النقاد عندكم.
على أن في كلام المتأخرين ما يدل على دخول التدليس والإرسال في معنى العلة، إذا آل الأمر إليهما مع كون الظاهر السلامة من ذلك، قال الحافظ احجر : "فعلى هذا لا يسمى الحديث المنقطع مثلاً معلولاً، ولا الحديث الذي راويه مجهول أو مضعف معلولاً، وإنما يسمى معلولاً إذا آل أمره إلى شيء من ذلك مع كونه ظاهر السلامة من ذلك" (النكت) 2/710
ولما كان ابن الصلاح قدم اشتراط العدالة والضبط والاتصال، احتاج إلى بيان ما لا يعارضها ظاهراً، ويعارضها باطناً.
فلو وجد المحقق راوياً مدلساً أو موصوفاً بالإرسال في سند الحديث، ولو كان طالباً مبتدءً، فإنه يتوقف رأساً في الحكم عليه بالاتصال، وهذا أمر لا يختص به النقاد ـ بحسب تعبير الدكتور ـ ، ومبحث العلة والتعليل أمرٌ يختص به النقاد.
فإن قال : معرفة كون فلان مدلس أو يرسل، لا يقدر عليه إلا النقاد لجمعهم الروايات إلى آخر كلامه.
قلنا: هذا ليس من الكلام في العلل القادحة، بل من الكلام في أحوال الرواة، والفرض أنه لا مدخل له في الحكم على الحديث إلا بعد التنقيب والتفتيش، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، التدليس والإرسال حتى الخفي منه لا يشترط في معرفة صاحبه جمع الروايات، بل قد يصرح به المدلس نفسه، أو المرسل، بأن يروي حديث فيقول : عن فلان، فيُسأل: أسمعته منه، فيقول : لا. وهذا كثير.
وإن قال: إن بعض الأحاديث لا يمكن الكشف عن التدليس فيها إلا بجمع الطرق، وذلك إن كان المدلس كسفيان بن عيينة، أو أن ينسب التدليس إلى نحو الزهري.
قلنا: فدخل التدليس في باب المعلل لا محالة، وإن كان ذلك مقيداً بالتدليس في هذه الصورة. وقد تقدم قريباً.
وأخيراً : قد عرف المليباري العلة بقوله : "العلة تكون عبارة عن خطأ الراوي" (علوم الحديث) ص124.
وهذا أيضاً ليس جامعاً مانعاً؛ وذلك أن العلة قد تكون عن عمد، كالحال في التدليس من الزهري وابن عيينة كما تقدم، إن لم يمكن كشف ذلك إلا بتتبع الطرق والروايات.
وهنا أقول : على الرغم مما تقدم من خلافي للمليباري في منهجه لتأسيس مصطلاحات جديدة، أوافقه على صحة معانيها، وأخالفيه على اصطلاحه فيها، فإنه لا يمكنني قط أن أقول : أنه مبتدع ضال صاحب هوى لمجرد أنه خالفني في الاصطلاح.
وهنا يقفز المبدعة والمضللة بأنه يطلق مصطلحات على معاني بدعية كالمتقدمين والمتأخرين. فأقول : هذا هو موضوع حلقتنا الثانية إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله
سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
[تنبيه : ليس هناك حلقة ثانية ولن يكون ، لأن المقصود به في حينه خارج عن البحث العلمي إلى القيل والقال ، فعزفت عنه]