العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

صلة مبدأ اعتبار المآل بنظرية التعسف في استعمال الحق - العدد 12 من مجلة المذهب المالكي

إنضم
21 فبراير 2010
المشاركات
456
الإقامة
الإمارات العربية المتحدة
الجنس
ذكر
الكنية
أبو حاتم
التخصص
أصول الفقه ومقاصد الشريعة
الدولة
الإمارات العربية المتحدة
المدينة
أبوظبي
المذهب الفقهي
المذهب المالكي
صلة مبدأ اعتبار المآل بنظرية التعسف في استعمال الحق
في فتاوى مالكية الغرب الإسلامي
الدكتور يوسف حميتو
أستاذ الفقه وأصوله ومقاصد الشريعة
الدار البيضاء

تمهيد
حاز مبدأ اعتبار المآل اهتماما واسعا في عمل العقل الاجتهادي المسلم، فبسبب حاجة المجتهد والمفتي إلى تحقيق المناط في أحكام الشرع وأفعال المكلفين، لم يكن له بد من البناء عليه في تنزيل أحكام الشرع على واقع المكلفين، أو في تكييف أفعالهم على وَفق مقاصد الشرع، وذلك باعتبار أن الأمور تَحِلُّ وتَحْرُمُ بمآلاتها، إذ المآل ليس شيئا سوى المصالح والمفاسد المتوقعة، أو الواقعة تقريبا أو تغليبا. فهذا المبدأ يتسم بسمة علاجية تقوم على أساس التدخل لحسم مادة الفساد بمجرد تَحَسُّسِ آثارها سواء كانت ناتجة عن قَصْدٍ مُبَيَّتٍ من المكلف، أو كانت ناتجةً عن فِعلٍ مارسه المكلف في إطار مشروع لكن آلت هذه الممارسة إلى مآل ضرري، وسواء كان هذا الضرر واقعا أم متوقعا، فالحكم واحد عملا بمبدأ الاحتياط، وعملا بما يمكن تسميته: بنظرية التعسف في استعمال الحق، التي تجد امتدادها ضمن القواعد الأصولية المشكلة لمبدأ اعتبار المآل. وفي هذا الإطار، يأتي هذا البحث لاستكناه العلاقة بين مبدأ اعتبار المآل ونظرية التعسف في استعمال الحق من خلال التطبيق الفقهي العملي الذي تجسده كتب الفتوى والنوازل الفقهية خاصة المالكية منها، وذلك باعتبارالخصوصيات الاجتهادية التي تَميَّز بها المذهب المالكي عموما، والفكر النوازلي في بلاد المغرب الإسلامي على وحه الخصوص. ولبيان هذه العلاقة سنتناول مكوناتها من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول: مفهوم اعتبار المآل.
المطلب الثاني: التعريف بنظرية التعسف في استعمال الحق.
المطلب الثالث: علاقة نظرية التعسف في استعمال الحق بمراعاة المآل
.
المطلب الرابع: تطبيقات عملية لعلاقة نظرية التعسف في استعمال الحق واعتبار المآل في فتاوى مالكية الغرب الإسلامي.
[FONT=FS_Free]المطلب الأول[/FONT]
[FONT=FS_Free]مفهــوم اعتبار المــآل[/FONT]
أولا: تعريف الاعتبار
الاعتبار لغة:
تعددت المعاني اللغوية لمصطلح "الاعتبار" حسب الاستعمال والسياق، وبالمقارنة بين ما ورد في المعاجم اللغوية من معاني لمصطلح الاعتبار، لكن الذي يهمنا منها ما يفيد في الوصول إلى المعنى الاصطلاحي لاعتبار المآل، وعلى هذا يكون اعتبار المآل هو : المـُجاوَزةُ من شَيْءٍ إلى شيءٍ
[1]، أو هو: الاعتدادُ بالشيء في تَرَتُّبِ الحُكْم ونحوه[2]، والتَّدبرُ والنَّظرُ للتوَصُّلِ من معرفة المُشاهَد إلى ما ليس بمُشَاَهدٍ([3]). كل هذه المعاني تشترك في الدلالة على معنى المجاوزة والعبور، وهذا المعنى اللغوي هو أساسُ بناء مفهوم اعتبار المآل، ذلك أن النظر في المآل هو مُجاوزةُ الواقع إلى ما هو مُتَوَقَّعٌ للحكم عليه بما يناسب المقصد الشرعي من وضع الأحكام، ولذلك فالعلاقة بين المعنى اللغوي للاعتبار ومفهوم اعتبار المآل بمعناه التركيبي قوية بالنظر إلى الأثر المقصدي للعمل بمبدأ المآلات.
الاعتبار اصطلاحا:
عرفه الإمام ابن عاشور فقال: النظر في دلالة الأشياء على لوازمها وعواقبها وأسبابها([4]). هذا التعريف يشتمل على بعض المعاني التي يتألف منها مفهوم اعتبار المآل باعتبار اللقب، والمقصود بذلك: المصطلحات التي استعملها: أي اللوازم، والعواقب والأسباب، التي هي ذات صلة باعتبار المآل، بل هي من ضمائمه. وهو نفس المعنى الذي بنى عليه الدكتور عبد الكريم عكيوي تعريفه للاعتبار حين قال: «الاعتبار هو النظر في المسألة مع استحضارِ نظائرها والالتفات إلى لوازمها ومراعاةِ نقائضها ، مع صحة المناسبة»([5])، وهو بذلك يراعي معنى التوصل إلى الحقيقة قطعا أو ظنا، من خلال الواقع المنظور فيه، مع استحضار وتمثل ما يشبهه ويقاربه من قضايا أخرى منفصلة عنه، وما يترتب عن ذلك من آثار بالنظر إلى ما يعارض هذا الواقع الماثل، مع تحقق الصلة بينهما حقيقة لا وهما. وعرفه الدكتور أحمد الريسوني فقال: «الاعتبار هو الجمع بين النظر في المسألة ودليلها المباشر، والنظر في كل ما له علاقة بها وتأثير في حكمها إثباتا أو نفيا»([6]). بعد النظر في هذين التعريفين، نتبين أن المعنى متقارب بينهما، والفرق فقط في الإجمال والتفصيل، إلا أن مفردات تعريف الدكتور الريسوني أدقُّ في الاستعمال بالنظر إلى موضوع "اعتبار المآل"، فطبيعة النظر في المآلات تتأسس على النظر في النازلة ارتباطاً بالدليل العامِّ الذي قد يكون نصّاً أو اجتهاداً، ثم النظر إلى ما يكون من نتائج تَنتُج عن تنزيل هذا الحكم على واقع المكلف مع مراعاة الأحوال والملابسات المحيطة به، والعوارض التي قد تعرض له، والتي لها تأثير على الحكم.
ـ ثانيا: تعريف المآل
المآل لغة:
مَصْدَرٌ مِيمِيُّ مِنْ آلَ الشَّيْءُ، يَؤُولُ أَوْلاً ومَآلاً، إذا صارَ وانتهى ورَجع، وقد اسْتُعْمِلَ في المعاني فقيل: آلَ الأمرُ إلى كذَا، والمَوْئِلُ: المَرْجِعُ وَزْناً وَمَعْنىً.
وكل المعاجم اللغوية تَرُدُّ معنى المآل إلى المرجع والمصير والعاقبة والعَوْدِ[7]، أما معانيه الأخرى([8]) فلا علاقة لها بموضوع البحث، فلا موجب للتطويل بإيرادها. ومن هذا المعنى يَكُونُ مَعنى التأويل عاقبةَ الأَمْر وما يَؤُولُ إليه. قال ابن جرير الطبري: «وأَصْلُ التأويل من آلَ الشَّيْءُ إلى كذا إذا صار إليه، ورَجَعَ: يَؤُولُ أَوْلاً، وأَوَّلْتُهُ أَنَا: صَيَّرْتُهُ إِلَيْهِ»([9])، وهذه المعنى تُؤيِّدُه كثير من الآيات الكريمة، ومن ذلك قوله تعالى: ][FONT=Samir_Khouaja_Maghribi]وما يعلم تأويله إلا الله[/FONT]{([10])، وقوله سبحانه: ][FONT=Samir_Khouaja_Maghribi]هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا[/FONT]{([11])، فالتأويل في هذه الآيات معناه العاقبةُ والمَصِيرُ والمَرجِعُ.
المآل اصطلاحا:
من خلال المعنى اللغوي، يمكن استنتاج المعنى الاصطلاحي لمفهوم المآل، ذلك أنه إذا كان مفهومُه اللغوي يُفِيدُ معنى العاقبة، فإنَّ المرادَ بالمآل اصطلاحا هو: عاقبةُ ونتيجةُ الفعلِ المُتَرَتِّبةُ عليه سواء كانت خيراً أو شراً، وسواء كان مقصودةً لفاعل الفعل أم كانت غَيرَ مقصودةٍ منه
[12]، فذلك يعني رجوعَ الفعل إلى حالٍ ينتهي إليها من صَلاحٍ أو فسادٍ[13].
ثالثا: تعريف اعتبار المآل لقبا:
لا نجد في كتب الحدود والتعريفات[14] تعريفاً اصطلاحياً لمفهومِ اعتبارِ المآل، بالرغم من أن العلماء والفقهاء كانوا يعملون بمضمونه ومعناه ضمن القواعد الأصولية والفقهية التي كانوا يطبقونها في اجتهاداتهم مثل: سَدِّ الذريعةِ والاستحسانِ والحِيَلِ، وقواعدِ:"الأمور بمقاصدها"، أو"الأمور بعواقبها"
[15]، أو"إذا تقابل المبدأ والمنتهى فما المقدم منهما؟"[16]، و"المتوقع كالواقع"[17]، و"الضرر في المآل ينزل منزلة الضرر في الحال"[18].
وبسبب عدم وجود تعريف لاعتبار المآل، أو مراعاة المآل، أو مآلات الأفعال، فقد حاول بعض المعاصرين في أبحاثهم أن يضعوا حدّاً اصطلاحياً لهذا المفهوم الذي يعد منهجا أصيلا في النظر الاجتهادي؛ فاختلفت تعابيرهم وتباينت معانيهم، بين الموجِزِ والمُطيل، ولكنهم جميعاً لم يخرجوا عن الإطار النظري الذي خَلُصَ إليه الشاطبيفي تأصيله لهذا المبدأ الذي كان عليه عمل المفتين في فتاواهم. ونختار من هذه التعاريف[19]:
1- تعريف الدكتور عبد الرحمن السنوسي: عرفه فقال: «تحقيق مناط الحكم بالنظر في الاقتضاء التبعي الذي يكون عليه عند تنزيله من حيث حصول مقصده والبناء على ما يستدعيه ذلك الاقتضاء»[20].
2ـ تعريف الدكتور وليد بن علي الحسين: قال:«الاعتداد بما تفضي إليه الأحكام عند تطبيقها بما يوافق قصد الشارع»[21].
تحليل التعاريف:
1-تعريف الدكتور السنوسي:ينطلق من البعد المقاصدي والتنزيلي للأحكام، حيث إن مراعاة المآل عنده تتجاوز التعدية الآلية للأحكام دون النظر إلى الغايات والمقاصد، والتي قد تفضي إلى نقيض مقصود الشرع، لتشمل الاقتضاء التبعي الذي يجب أن يراعى كمعنى إضافي قائم بالأحكام، وذلك مثل الرُّخَص المشروعة مما يشعر بإمكانية الاجتهاد على وفق ذلك. والتنزيل يتعلق بالجزئيات التي تشكل العوارض الفعلية للأمر في الواقع بحيث يراعي عند التطبيق سلامة النتائج التي يجب بأي حال من الأحوال ألاَّ تُناقِضَ مَقصِدَ الشارع من الحكم الذي لا يمكن أن يكون إلا وسيلةً لتحقيق ذلك المقصد؛ والبِناءُ على الاقتضاء التبعي يعني بِناءَ الحكم على وفق ما يقتضيه قصدُ الشارع من التكليف بالأحكام سواء لمنع المآل الضرري أو لترتيب الجزاء عليه. وهذا التعريف أَدَقُّ من كُلِّ التعاريف السابقة، وذلك بالنظر إلى أنه يشمل تحقيق المناط الثابتَ بالنص أو الإجماع، وحتى الثابتَ بالاجتهاد مما يَجعلُ المجالَ واسعا للتعامل مع القضايا المستجدة والنوازل الطارئة، ولا يخفى هنا ما للشاطبي من أَثرٍ في صياغته للتعريف، فالشاطبي يقرر أنه: «لا بد من اعتبار المسبَّبات في الأسباب»[22]، ومن ثم فالواجب تكييفُ الفعل بالمشروعية أو عدمِها في ضوء نتيجتِه المترتبةِ عليه وَفق ما يقتضيه الشرع، ويظهر الأثر الشاطبي أيضا من خلال استعمال السنوسي لمفهوم تحقيق المناط الذي عرفه الشاطبي بقوله : «أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله»[23]، مما يعني أن مراعاةَ المآل هي تحقيقٌ لمناط الحكم سواء كان هذا المناط عاماً أو خاصاً.
2ـ تعريف الدكتور وليد الحسين:
عبَّر عن اعتبار المآل بمعنى الاعتداد الذي هو إحدى ضمائمه اللغوية، والمقصود عنده هو أن يُعتدَّ عند الحكم على المكلف بما يفضي إليه الفعل، فيَكونُ الحكمُ الشرعي على الفعل مبنيا على اعتبار الأثر الذي يَؤُولُ إليه الفعل عند تنزيله وتطبيقه سواء تعلق الأمر بمراعاة المآل عند استنباط الحكم فيما لا نص فيه، أو عند تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع والمكلفين بالنظر إلى القرائن والملابسات المحتفة بحال المكلف وواقعه، بما يتحقق به قصد الشارع من جلب المصالح ودرء المفاسد عن المكلفين، وبما تتحقق به موافقة قصد المكلف لقصد الشارع
[24] .
وهذا التعريف لا يكاد يغاير تعريف الدكتور السنوسي إلا من حيث الصياغة، وإلا فإن معناهما متقارب، غير أن تعريف الدكتور وليد أكثر بساطة، بينما تعريف الدكتور السنوسي مركب من عدة مصطلحات أصولية يقتضي فهم معنى اعتبار المآل إدراك معانيها، وقد تنوعت بين مفهوم تحقيق المناط والاقتضاء التبعي.
وأعتقد أن تعريف الدكتور وليد الحسين يمكن أن يكون تكملة لتعريف الدكتور السنوسي بل وشرحا له، خاصة وأن الدكتور وليد نفسه في كتابه اعتبار المآل لم يعترض على تعريف الدكتور السنوسي إلا من حيث الصياغة والإجمال والتفسير .
[FONT=FS_Free]المطلب الثاني [/FONT]
[FONT=FS_Free]التعريف بنظرية التعسف في استعمال الحق[/FONT]
1ـ مفهوم النظرية:
ـ النظرية لغة: مشتقة من معنى النظر، ومعناه: الإبصار، وتقليب البصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص، أو هو المعرفة الحاصلة بعد الفحص[25].
ـ النظرية اصطلاحا: عرفها الدكتور وهبة الزحيلي فقال : "النظرية بناء عام لقضايا ذات مفهوم واسع مشترك"[26].
وجاء في المعجم الفلسفي للدكتور مراد وهبة ما يفيد أنها تنطبق على مفهوم النسق، فقال:"النظرية مرادفة للنسق"، والنسق: «مجموعة من القضايا المترتبة على نظام معين، بعضها مقدمات لا يبرهن عليها في النسق ذاته، وبعضها الآخر يكون نتائج مستنبطة من هذه المقدمات»[27].
وفي المعجم الفلسفي لمجموعة من العلماء مفهوم النظرية هو: «فرض علمي يربط عدة قوانين بعضها ببعض، ويردها إلى مبدأ واحد يمكن أن يستنبط منه حتما: أحكام وقواعد»[28].
فالنظرية إذن في حقيقتها إطار عام يجمع بين جزئيات ترتبط فيما بينها رغم اختلاف مجالات تطبيقها واستعمالها، بحيث لا تفسر الوقائع بناء عليها إلا ضمن نسق محدد يقوم على ربط النتائج بمقدماتها.

2 ـ مفهوم التعسف:
ـ التعسف لغة:
يدل على معنى السّيُر على غير هُدى، وركوب الأمر من غير تدبير، وركوب مفازة بغير قصد
[29]، وعلى معنى الجور والظلم، وهو الأخذ على غير الطريق[30].
ـ التعسف اصطلاحا:
هذا المصطلح هو من استعمالات المعاصرين من رجال القانون، وانتقل إلى حقل الاصطلاح الشرعي، وقد اختلفت تعابيرهم في الدلالة على معناه، فمنهم من ربط بينه وبين مفهوم التعدي كما هو عند الشيخ محمد أبوزهرة، ومنهم من جعل مناطه هو التصرف غير المعتاد من الإنسان في حقه كالشيخ أبو سنة، لكن يبقى تعريف الدكتور فتحي الدريني رحمه الله أجود التعاريف وذلك حين يعرف التعسف بقوله: «هو مناقضة قصد الشارع في تصرف مأذون فيه بحسب الأصل»
[31].
وجودة هذا التعريف تكمن في توافقها مع طبيعة هذه الدراسة التي بين أيدينا، ذلك أن كل فعل من أفعال المكلفين يرتبط بحكم شرعي يناسبه، وقد قرر الأصوليون أن الحكم الشرعي هو : خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين[32] منعا وإطلاقا وصحة وفسادا[33]، وهو ليس بصفة للأفعال وإنما هو عبارة عن خطاب الله فيها[34].
فمناقضة قصد الشارع إما أن تكون هي الغاية من إقدام المكلف على الفعل، وإما أن يفضي فعله إلى مفسدة وإن لم يتحقق قصد المناقضة[35]، ولهذا قال الشاطبي:«النظر في مآلات الأفعال مقصود شرعا»[36]، والمآل إما مصلحة تستجلب ، وإما مفسدة تدفع، ولا بد من اعتبار السبب وهو مآل المسبَّب[37]، لكن ينبغي الانتباه إلى أن حديثنا هو عن التصرفات المأذون فيها شرعا سواء كانت قولية كمباشرة العقود أو فعلية كالتصرف في الممتلكات ، أما غير المأذون فيها فلا تخضع لمعايير هذه النظرية لأنها اعتداء وليس تعسفا[38].
3 ـ مفهوم الحق:
ـ الحق لغة:
من حق الشيء إذا وجب وثبت[39]، ومنه قوله تعالى: )[FONT=Samir_Khouaja_Maghribi]وَيُحِقُّ اللهُ الحَْقَّ بِكَلِمَاتِهِ[/FONT]([40]، وقوله تعالى: )[FONT=Samir_Khouaja_Maghribi]وَالَّذِينَ ِفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ[/FONT]([41].
ـ الحق اصطلاحا:
أورد الدكتور فتحي الدريني تعريفات متعددة وضعها عدد من الفقهاء المعاصرين لمفهوم الحق، ترددت بين كونه مصلحة في حد ذاته وكونه وسيلة إلى مصلحة، وبين كونه اختصاصا أو استيفاء، وكلها تعاريف تعقبها الدكتور الدريني ببيان أوجه القصور فيها ، ليخلص في الأخير إلى تعريف جامع مانع في نظره، حيث يقول: «الحق اختصاص يقر به الشرع سلطة على شيء أو اقتضاء أداء من آخر تحقيقا لمصلحة معينة»[42].
4 ـ مفهوم نظرية التعسف في استعمال الحق:
بناء على التعاريف السابقة، يمكننا القول أن نظرية التعسف في استعمال الحق هي:«النسق الجامع للقواعد الحاكمة على تصرفات المكلفين في ما اختصهم به الشرع من الحقوق منعا لها من مناقضة أصل التكليف». ـ -فقولي: «النسق الجامع»: هو بالاستناد إلى أن النظرية في أصلها نسق، والنسق معناه في اللغة ما كان على نظام واحد عام في الأشياء[43]، وهو نفس معناه في الاصطلاح[44]، فنظرية التعسف في استعمال الحق مجموعة من العناصر لها علاقات معينة تؤدي مهمة حفظ مقصد الشرع.
ـ وقولي: «الحاكمة على تصرفات المكلفين»، هو باعتبار أن تصرفات المكلفين تخضع لأحكام الشريعة التي هي وسائل تحقيق مقاصد الشارع، ومن الأدلة على هذا ما أخرج البخاري عن النُّعمان بن بشير أنه عليه السلام قال: {مثل القائم في حدود الله والواقع فيها؛ كمثل قومٍ استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا}[45].
ـ وقولي: «ما اختصهم الشرع به من الحقوق»[46] فبالنظر إلى أن الحكم الشرعي هو الذي أنشأ الحقوق، وبه تثبت، ولما كان الأمر كذلك، فإن الحق مقيد بغايات التكليف، وعلى هذا فإن الحق إذا منحه الشرع للمكلف فإنما حباه إياه لمصلحة يتغياها، فلا بد وأن يتقيد تصرف هذا المكلف في الحق الممنوح له بما يحقق هذه الغاية أداء وقصدا لأنها لا تتحقق إلا بهما[47]، وإلا فكل من ابتغى في التكاليف غير ما شرعت له فقصده في المناقضة باطل[48].
ـ قولي: «منعا لها من مناقضة أصل التكليف»، فلأن تتبع ضوابط المشروعات في الشرع مؤداه إلى أن الإذن في الفعل أو المنع منه منوط بغلبة المصلحة فيه، فالفعل الاجتهادي مبني على النظر المادي للوقائع والأحداث، وعلى هذا المبدأ الواقعي تأسست نظرية التعسف في استعمال الحق، التي على المفتي أو الحاكم اعتبارها متى كان لفعل المكلف وتصرفه فيما هو حق مشروع له أثر يناقض أصل التكاليف، جريا على سنن الشارع في اعتبار مسبَّبات الأسباب[49]. ذلك أن المكلف وهو يتصرف في حقه ، قد ينتج عن هذا التصرف إضرار بالغير، فيكون الأمر بين النظر إلى الأصل، باعتبار أن المكلف إنما أتى ما هو مشروع له، ولم يقصد الإضرار الحاصل، أو النظر إلى المفسدة اللاحقة بإنسان آخر، أو بحقٍّ آخر[50].
[FONT=FS_Free]المطلب الثالث[/FONT]
[FONT=FS_Free]علاقة نظرية التعسف في استعمال الحق بمراعاة المآل[/FONT]
إن نظرية التعسف في استعمال الحق لا تخرج عن قواعد المقاصد والوسائل، والدليل على هذا أن الحق ليس هو المصلحة، بل المصلحة هي المقصد والحق هو وسيلة تحقيقه، فمتى سقط المقصد سقطت معه وسيلته ولم تعتبر، فلا ينبغي أن يُفهم أن الحق هو المقصود بذاته من الشرع، ولذلك فحماية الشرع للحق تبقى مبسوطة ما دام هذا الحق خادما للمصلحة، و«المشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد، فإذا خولفت لم يكن في تلك الأفعال التي خولفت بها جلب مصلحة ولا درء مفسدة»[51].. وبذلك يتقرر أن نظرية التعسف في استعمال الحق تقوم على مسلكين:
ـ أولا: المسلك الوقائي :
وهو يقوم على عنصرين :

- تقييده للحق الفردي بإناطة صفة المشروعية في أفعال المكلفين بمدى تحقيقها لمقاصد الشريعة، وذلك باعتبار أن الحقوق في الشريعة لا تعدو أن تكون وسائل إلى غايات توخاها الشارع من وضع الأسباب والأحكام، فإذا انحرفت الوسائل عن غاياتها فقدت مشروعيتها[52].
- توجيه استعمال الحق الفردي، فمن منطلق الحرص على إفضاء الوسائل إلى ما أنيطت به من المقاصد، فلا بد عند النظر في مآل ممارسة الحق المشروع من مراعاة أمرين والاحتياط لهما
[53]: * أن يكون القصد الفاسد هو الباعث على الفعل المأذون فيه شرعا، وتتحقق إرادة الإضرار وتثبت من خلال قرائن الأحوال، فلا إِشكال هنا في أنه يمنع صاحب الحق من حقه مراعاة للمآل . * أن ينتج عن الفعل ضرر مع انتفاء نية الإضرار والقصد إليه، فهنا لا اعتبار لعدم القصد، بل يجب درء التعسف في الفعل ورفع أثره ما دام قائما، وهو ما يفضي إلى المسلك الثاني.
ـ ثانيا: المسلك العلاجي:
وهنا تدخل قواعد الضمان وجبر المتضرر إذا تعذرت إزالة الضرر دون لزوم مفسدة وذلك سواء نتج الضرر عن تسبب أو مباشرة لأن النتيجة في النهاية واحدة وهي أيلولة الفعل إلى ضرر.
من كل ما سبق يظهر أن نظرية التعسف في استعمال الحق وثيقة الصلة بمبدأ مراعاة المآل، وذلك بالنظر إلى القواعد والأصول التي تأسس عليها هذا المبدأ، والمقصود بها هنا: قاعدة الذرائع ، وقاعدة الحيل وذلك باعتبار هاتين القاعدتين ميزان لنظرية التعسف في استعمال الحق في جانب من معاييرها الموضوعية، حيث إذا قصر العامل النفسي في نية إحداث الضرر، جاء المعيار الموضوعي المبني على حدوث الضرر بغض النظر عن نية إحداثه، ومنه تنطلق الموازنة بين المصلحة والضرر وبين المقارنة بين الأضرار[54].
ويمكن زيادة في التوضيح بيان العلاقة بين اعتبار المآل ونظرية التعسف في استعمال الحق من خلال بيان العلاقة بين قاعدتي سد الذريعة والحيل ومبدأ اعتبار المآل. ـ فمن جهة العلاقة بين مبدأ النظر في المآلات وقاعدة سد الذرائع، فهي علاقة سَبَبٍ ومُسَبَّبٍ، هذه العلاقة تجد امتدادها في ارتباط الوسائل بالمقاصد إباحة ومنعا، على اعتبار أن كل وسيلة تَوَقَّفَ تحقيق قصد الشارع عليها فهي مشروعة وإن كانت ممنوعة، وكل وسيلة أدت إلى مناقضة مؤكدة لقصد الشارع فهي باطلة وإن كان الأصل فيها الإذن، يقول الشاطبي رحمه الله: «وقد تقرر أن الوسائل من حيث هي وسائل غير مقصودة لأنفسها وإنما هي تبع للمقاصد؛ بحيث لو سقطت المقاصد سقطت الوسائل، وبحيث لو تُوُصل إلى المقاصد دونها لم يُتوسل بها، وبحيث لو فرضنا عدم المقاصد جملة لم يكن للوسائل اعتبار، بل كانت تكون كالعبث»[SUP][SUP][55][/SUP][/SUP]. فالأصل في سد الذرائع هو النظر في الفعل ونتيجته، فيأخذ كل فعل حكم نتيجته ارتباطا بالواقع، وبالعوارض الطارئة التي يجب مراعاتها عند النظر حفاظا على المصالح التي يُخشى فواتُها، ذلك أنه «لما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك، فإذا كان الأمر في ظاهره وباطنه على أصل المشروعية فلا إشكال، وإن كان الظاهر موافقا والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح وغير مشروع، لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت من أجلها ، فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع، فليس على وضع المشروعات»[SUP]([SUP][56][/SUP])[/SUP].
ـ أما من جهة العلاقة بين مبدأ النظر في المآلات وقاعدة الحيل، فإن الشرع أباح للمكلف أن يسعى لتحقيق مصالحه، وأن يدفع الضرر عن نفسه، لكن هل كل طريق يسلكه المكلف اعتبارا لهذا الحق هو مسلك معتبر شرعا؟ لقد التفت الشرع إلى الباعث باعتباره المحرك لإرادة القصد إلى الفعل الذي يقوم به المكلف قاصدا منفعة نفسه، لكن هذا القصد ليس دائم الاعتبار من طرف الشرع، حتى ولو استجمع كل شروط الصحة الشرعية، وحتى ولو كانت وسيلته إلى هذا القصد سالمة الظاهر. ذلك أن المكلف إذا ركب الصفة الشرعية لفعله من أجل الوصول إلى غاية تتعارض والقصد الشرعي من إعطائه هذا الحق -أي السعي إلى ما فيه نفعه-، فإن هذه الصفة لا تشفع له في إضفاء المشروعية مادام القصد الباطني باطلا أصلا، لأن هذا الحق مجرد وسيلة لتحقق القصد الشرعي، ومن هنا يتقرر أن الباعث النفسي والنتيجة المادية لقصد المكلف هما الحاكمان ببقاء مشروعية تصرفه أو إبطاله كلية، إذ المعتبر في حكم الشرع أن يتوافق الظاهر مع الباطن، وهذا ما يؤيده الشاطبي حين يقول: «ما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك؛ لأنه مقصود الشارع فيها كما تبين، فإذا كان الأمر في ظاهره وباطنه على أصل المشروعية؛ فلا إشكال، وإن كان الظاهر موافقًا والمصلحة مخالفة؛ فالفعل غير صحيح وغير مشروع؛ لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها؛ فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع؛ فليس على وضع المشروعات»[SUP][SUP][57][/SUP][/SUP].
لهذا فحكمة الشرع تأبى أن تكون أحكامه والحقوق التي منحها للمكلفين سبيلا إلى هدم مقاصده، وأن يكون مآل هذه المنحة الإلهية في نهاية الأمر وسيلة إلى التعسف على العباد. من هنا تأتي علاقة قاعدة الحيل بمبدأ اعتبار المآل، فتحكيم المفتي لهذه القاعدة هو عمل بمقاصد الشريعة في الوقت ذاته، فما دام اتخاذ المباحات والحقوق وسيلة إلى تحصيل المفاسد الممنوعة، فلا مناص من أن يطبق المفتي قاعدة الشرع الحنيف باعتبار أن الحكمة من منح الحق أصبحت منتفية، وانتفاؤها يعني أن المكلف لم يعد له الحق في استعمال حقه ما دام هذا الحق مرتبطا بمصلحة أخرى ترجح على مصلحته هو، أي مصلحة من استُعمل الحق للإضرار به، فمتى ما صار قصد الشارع وسيلة عند المكلف إلى قصده هو صار ذلك نقضا لما أبرمه الشارع وهدما لما بناه[SUP][SUP][58][/SUP][/SUP].
وتبرز العلاقة بين المآل والحيل أكثر من خلال ذلك الترابط القائم بين سد الذرائع والمآلات، فما دام الشرع سَدَّ الذريعة نظرا لما تفضي إليه حتى ولو لم يكن المآل مقصودا للمكلف، فإن من باب أَوْلَى وأحرى أن يكون المنع مما قصد إليه المكلف مخالفا به ما وضع في أصل الشرع. وثمة وجه آخر للصلة بين هذين الأصلين؛ تظهر في العلاقة الوطيدة بين "سد الذرائع" و"إبطال الحيل"، من حيث اشتراكهما في السياسة الوقائية التي تتكفل بمنع المفاسد قبل وقوعها عبر التدخل الاحتياطي لتعطيل الوسائل غير المساوقة لمقاصد التصرفات، انطلاقا من مسلمات السياسة التشريعية التي تقضي بوجوب مشروعية الوسائل؛ وضرورة تجانسها مع مقاصدها، وإعطاء الوسائل حكم المقاصد في الاعتبار والإلغاء"[SUP][SUP][59][/SUP][/SUP].
[FONT=FS_Free]المطلب الرابع[/FONT]
[FONT=FS_Free]تطبيقات عملية لعلاقة نظرية التعسف في استعمال الحق واعتبار المآل [/FONT]
[FONT=FS_Free] في فتاوى مالكية الغرب الإسلامي [/FONT]
1ـ سئل الصائغ[60] عن سانية بين شريكين أو شركاء يريدون قسمتها بينهم وفيها بئر واحدة فهل يعطى كل واحد منهما نصيبه بالقرعة والقيمة وتترك البئر والجابية، وهو مجتمع الماء والموضوع الذي تدور فيه الدابة، مشتركا بينهم ويسقي هذا يوما أو يومين، وكذا شريكه إن كانا اثنين ، وإن كانوا ثلاثة قسموا أثلاثا، وتبقى البئر بينهم كذلك على الإشاعة أو تباع عليهم ولا تقسم لأجل عدم قسمة البئر؟ فأجاب: إذا كانت القسمة على التراضي فيجوز على ما تراضوا عليه ويصححه الشرع، وإما بالجبر وليس فيه كبير ضرر جبروا على القسم وتبقى البئر مشاعة بينهم، والقسمة يُغلَّب فيها أشد الضررين فإن كانت القسمة أضر من خروج الملك غلب خروج الملك، والعكس على العكس، فمن دعا إلى أخف الضررين فالقول قوله[61].
وجه اعتبار المآل في النازلة:
ينطلق الإمام عبد الحميد من مبدأ الموازنة بين الأضرار المترتبة عن بقاء الحال على ما هو عليه بين الشركاء في هذه السانية، وبين الضرر المترتب من القسمة، بحيث يراعى ما ينتج عن بقاء الشركة قائمة إذا لم يتراض الشركاء بينهم، ذلك أن عدم التراضي يلزم إجبارهم على قسمة السانية، مع بقاء البئر، والقسمة لا تخلو من غرر([62])، وعلى اعتبار أنه لا يمكن لأحدهم الاستبداد بالبئر فإنه تقسم منفعتها بينهم، وهنا يوازن بين بقاء الملك مشاعا وبين القسمة، فإذا كان بقاء الملك مشاعا مضرا بأحد الشركاء فإن القسمة واجبة حتما، مراعاة لمعايير التعسف في استعمال الحق، وذلك بالنظر إلى أن ضررها أخف، لكن إذا زاد ضرر القسمة بحيث تعدى ضرر بقاء الملك مشاعا فإن بقاء الملك هو أخف الضررين فيحكم به اعتبارا للمآل، ومنعا للضرر، والحديث قرر أنه " لا ضرر ولا ضرار"، والضرر يزال .
سئل الإمام أبو القاسم العبدوسي[SUP]([SUP][63][/SUP])[/SUP]: عن امرأة أمتعت أباها سنين مسماة في دار لا تملك سواها ، أو هي أكثر من ثلثها ، فقام زوجها يرد فعلها ، وقال : تفويتها للمنافع تفويت للأصل، هل له لك؟ وتكون كمسألة الوصايا أم هي بخلافها لاستحقاق الورثة المال بموت الميت ، والزوج إنما استحقاقه مرتقب ، وهي لم تفوت أصلا .
فأجاب: تصفحت سؤالك هذا، ووقفت عليه، وإن كانت أمتعته الدار السنين الكثيرة التي تستغرق مدة معترك زوجها ، فتبين من فعلها أنها إنما قصدت إلى الإضرار به بتفويت الدار عليه، فله رد ذلك إن توفيت، ولا كلام له في ذلك ما دامت حية ، وبالله التوفيق[SUP][SUP][64][/SUP][/SUP].
وجه مراعاة المآل في النازلة:
يظهر وجه اعتبار المآل في هذه النازلة فيما يلي: ـ أولا: النظرُ إلى قَصْدِ المرأة من إعمارها أباها دارَها كل تلك السنين، فتبَيَّنَ أنها ما أمتعت أباها منافعَ دارها إلا بغرض أن تَمنع الزوجَ استحقاقَه الإرث منها بعد وفاتها، ولهذا فرق بين حياتها ووفاتها، فحياتها تمنع زوجها من القيام عليها، وبقاء الأمر على ما هو عليه إلى موتها، قرينة على أن تفويتها منفعة دارها لأبيها إنما مآله إلى تفويت الأصل كما خشي الزوج، مع العلم أن مجرد الإمتاع لا يعتبر تمليكا ولا هبة، ولهذا كان للزوج أن يرد ذلك بعد وفاة الزوجة، خاصة إذا لم تكن أشهدت على أن قصدها كان هو الإمتاع، لأنها إذا لم تكن أشهدت على إمتاعها أباها، فهذا يعني أنها تختصه بالدار ولا يشاركه فيها أحد من الورثة، وخاصة أنها أمتعته سنين كثيرة . ـ ثانيا: هذا التصرف من هذه المرأة وإن كان في أصله مشروعا ، فإنه قد تعارضت مصلحة الأصل مع مفسدة المآل، فألغيت الأولى واعتبرت الثانية ورجحت لأن مآلها هدم مصلحة اطرحتها المتحيلة لتصل إلى غاية غير مشروعة وهي حرمان زوجها من استحقاقه نصيبه منها . ـ ثالثا: يكون إمتاع المرأة أباها وسكوتها عنه كل تلك السنين قرينة على القصد السيء، لأن إمتاعها له لم تقصد به قصد البر الذي هو حق الوالد على ولده بل قصدت غير ذلك مما يناقض المقصد الشرعي، والتضاد بين القصدين واضح .
سئل ابن زيتون[SUP][SUP][65][/SUP][/SUP]عن امرأة ليس لها إلا ابنة واحدة، فباعت من ابنتها نصف النصف الذي على ملكها من الدار الفلانية بمائة دينار حالة ، ذكرت أنها قاصَّتها من ذلك بستين دينارا فيها خمسون دينارا كانت الأم التزمتها من مطلِّق ابنتها قبل البناء، وذلك في ما ذكرت الأم من غير إبراز الصداق الذي ذكرت أن ذلك الالتزام كان فيه، والعشرة الباقية من الستين ذكرت أن ذلك من سلف لابنتها، واعترفت بقبض عشرين دينارا، وعشرون باقية في ذمة المشترية، فماتت البائعة بعد نحو عشرة أعوام فورثتها ابنتها المذكورة وعصبتها، فطعن العصبة الآن في البيع وأنه توليج إذ لم تزل البائعة ساكنة في الدار إلى موتها، وأن ثمن البيع في غبن كثير، وأنها إنما أرادت البعد عن العصبة والميل للابنة، واستظهرت الابنة بعقد تضمن إشهاد الأم بأنها النفقة عليها في جميع مدتها منذ عشرة أعوام متقدمة ومتمادية على ذلك لترجع به عليها متى أحبت ، وقال العصبة ورثة الأم : إنها لم تكن محتاجة لابنتها بل الابنة محتاجة إليها ، وأن ما أشهدت به الأم توليجا[SUP][SUP][66][/SUP][/SUP]من العصبة ، فهل لهم مقال أم لا؟.
فأجاب : لإقرار الأم بدين عليها للابنة في صحتها نافذ إلا أن تكون الابنة المقرُّ لها غير معروفة بكسب ولا فائدة من ميراث أو غيره، وأقرت لها بحال ما يشبه البنت، فإقرارها توليج، وإن أقرت بما يشبه حال البنت ووقع البيع بما لا يشبه أن يكون ثمنا للبيع أو يشبه ولم يعاين البينة الثمن كما ذكر في السؤال ، ولم يزل المبيع في يد البائعة إلى مدتها ، فهو توليج[SUP]([SUP][67][/SUP])[/SUP].
وجه اعتبار المآل في النازلة:
الأصل أن «كل بالغ حر جائز الفعل رشيد فإقراره جائز على نفسه في كل ما يقر به في ماله في صحته...وكل من أقر لوارث أو غير وارث في صحته بشيء من الأموال والديون أو البراءة أو قبض أثمان المبيعات فإقراره جائز عليه لا تلحقه فيه تهمة ولا يظن به توليج»[SUP][SUP][68][/SUP][/SUP]، لكن ليس كل فعل يوقعه المكلف سالما من التهمة، وعلى هذا أسس الإمام ابن زيتون : فتواه هذه ، فقد ابتدأ فتواه أولا باعتبار الأصل، وهو أن تصرف الأم في أصله محمول على السداد والجواز، إلا أن فعلها أحاطت به قرائن دلت على قصد الفاسد، ونية في استعمال حق الإقرار الذي منحه الشرع في غير ما شرع له وهذه القرائن هي:
ـ أولا: المقاصة التي وقعت بين الأم وابنتها ، وفيها الخمسون دينارا التي التزمتها الأم من مطلق ابنتها ولم تقم حجة عليها . ـ ثانيا: أنها أسقطت من الستين عشرة دنانير ادعت أنها سلف لابنتها ولا دليل على ذلك أيضا .
ـ ثالثا: أن الأم بقيت ساكنة الدار موضوع البيع بعد عقد البيع وذلك بقصد إبطال الحيازة، ونصوص المذهب تبطل هذا التصرف[SUP][SUP][69][/SUP][/SUP]، خاصة وأن البيع لم يتضمن معاينة القبض، وبذلك جاءت الرواية عن ابن القاسم: "سئل مالك رضي الله تعالى عنه عمن أشهد في صحته إني قد بعت منزلي هذا من امرأتي أو ابني أو وارثي بمال عظيم ولم ير أحد من الشهود الثمن ولم يزل بيد البائع إلى أن مات فقال : لا يجوز هذا وليس بيعا وإنما هو توليج وخديعة ووصية لوارث "وهذا نص في النازلة.
ـ رابعا: أن الثمن المسمى بين الأم وابنتها لا يبلغ أن يكون قيمة نصيب الأم فيها.
ـ خامسا: إقرار الأم بالتزام ابنتها النفقة عليها طيلة عشرة أعوام. ـ
سادسا: حال البنت لا يمكن معه بحال أن تدفع القيمة المسماة لما ثبت أنها كانت محتاجة لأمها
. كل هذه القرائن تفيد وجود القصد الفاسد في استعمال هذا الحق الذي سمح به الشرع، ألا وهو حق الإقرار ، لكن هذا استعمال هذا الحق صار ذريعة إلى الإضرار بالورثة، وحيلة بإيقاعه في صورة معاوضة مشروعة تفتقر إلى الحوز ولا يلام فيها غالبا ، فكانت المعاملة بنقيض القصد هي سبيل منع المآل الضرري الذي سيقع على الورثة من وراء هذا التوليج الذي قصدت إليه الأم، وبهذا فالفقيه حكم على فعل هذه المرأة بالمنع ، لأنها اتخذت وسيلة مباحة إلى مقصد حرام والقاعدة تقرر أنه : إذا سقطت المقاصد سقطت الوسائل.
سئل السيوري[70] عمن تصدقت بديون على بني ابنها، ودفعت الوثائق لأبيهم وجَدَّدَتْه، وذلك في صِحَّتها، ثم مَرِضت فأوصت بثلثها لبني ابنها، ثم توفيت ولا وارث إلا هذا الابن وبِنْتٌ لهِجرانها لها في حياتها وبُغضها فيها، وفَعلت هذا بشهود قصد حرمانها وإيثار الابن وبنيه.
فأجاب:ما تقدم في الصحة من هِبَةٍ مَحُوزَةٍ، فالأظهرُ من المذهب إمضاؤها، وأما الوصية في المرض المُخَوِّفِ بالثُّلُث ففيه قولان مشهوران، وما ذكرتَ عن الشهود أنها إنما فعلتْ هذا إيثاراً لولدها وبنيه، إنما يُتلقى من قرائن الأحوال، والعلمُ منها إنما يَحصل للحُذَّاق وأهل الفِطنة، وربما اختَلَفَتْ على من لا يَعرف الإحسان، لأجل إحسانه وخدمته لها وحِرمان من تُعَاديه، فبعد تحقيق هذه النُّكتة يقع الجواب بعدها، قيل: إذا قَصَد الضرر بالوصية أو العطية من ذات الزوج، فمذهب ابن القاسم إمضاؤه ولابن الماجشون خلافه[71].
وجه اعتبار المآل في النازلة :
في المسألة نظر إلى مآلين ، لكل منهما مستنده من التعليل. أولا: في هذه النازلة اعتمد السيوري مشهور مذهب من مالك وقول ابن القاسم في جواز فعل الموصي بثلثه في مرض موته[72]، على اعتبار أن ذلك حقه فله التصرف فيه كيف شاء[73]، والمسألة مبنية على الاحتياط، ذلك أن اقتران القصد الفاسد وقيام القرائن على ذلك لا يمنع من نفاذ الوصية أو العطية بالثلث في المرض المخوف، ما دام أن قدر الوصية لم يتجاوز الحد المشروع، ومنع المرأة من تصرفها ذاك هو منع لها من قصد الأجر والبر، وقد أشار السيوري رحمه الله إلى عدم اعتبار القصد الفاسد هنا حين قال: «والعلم منها إنما يحصل للحذاق وأهل الفطنة ، وربما اختلفت على من لا يعرف الإحسان لأجل إحسانه ...». ثانيا: وهذا النظر مخالف للنظر الأول من حيث تعلق المناط بالنازلة، وذلك أن المرأة تعلق تصرفها الثاني - أي الوصية بثلثها لبني ابنها في مرض موتها بما يلي : ـ بالباعث على التصرف الذي أقدمت عليه المرأة، وهو قصد فاسد، أي قصد المضارة بابنتها التي بينها وبينها قطيعة وهجران، وهي قد أقرت بثبوت قصدها بإشهادها الشهود عليه، وقامت عليه قرائن الأحوال، وقد يصاحب هذا القصد قصد آخر خفي ، وهو منفعة ابنها، فباعتباره وارثا لا تجوز الوصية له، فيكون تصرفها بذلك احتيالا غير مشروع . قال ابن عطية[74]في المحرر الوجيز: «ووجوه المضارة كثيرة لا تنحصر وكلها ممنوعة يقر بحق ليس عليه ويوصي بأكثر من ثلثه أو لوارثه أو بالثلث فرارا عن وارث محتاج وغير ذلك ومشهور مذهب مالك وابن القاسم أن الموصي لا يعد فعله مضارة ما دام في الثلث فإن ضار الورثة في ثلثه مضى ذلك وفي المذهب قوله إن المضارة ترد وإن كانت في الثلث إذا علمت بإقرار أو قرينة ويؤيد هذا قوله تعالى :][FONT=Samir_Khouaja_Maghribi]فَمَنْ خَافَ مِنْ [/FONT][FONT=Samir_Khouaja_Maghribi]مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [/FONT]{[75]. وفي تفسير هذه الآية يقول الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله : «وفي هذا دليل على الحكم بالظن ; لأنه إذا ظن قصد الفساد وجب السعي في الصلاح، وإذا تحقق الفساد لم يكن صلح ، إنما يكون حكم بالدفع وإبطال للفساد وحسم له»[76]، فوجب إذن إقامة المظنة[77] مقام المئنة[78]. ـ بالتعسف في استعمال الحق، وذلك بأن قصدت المرأة من فعلها الثاني المضارة بابنتها، والوصية بالثلث حق أعطاه الشرع للمكلف لكن لم يبح له استعماله في الإضرار بالغير، وهذه المرأة قصدت البرور بأحفادها، لكن هذا القصد صاحبه قصد آخر أبطله، فتمنع منه سدا للذريعة .
سئل الإمام أبو الضياء مصباح[79] في مسائل ثلاث من بينها مسألة عن طريق عام لجميع المسلمين يمرون عليها بما يحتاجون إليه من دواب وغيرها، إلا أنه ليس بطريق تسرح عليه المواشي في الغدو والرواح للراعي، ونفذت هذه الطريق في أرض لرجل وبإزاء الطريق أرض لرجل آخر فأراد البناء في أرضه، ويتخذ الطريق المذكور مسرحا لماشيته للراعي في الغدو والرواح، فمنعه صاحب الأرض الذي نفذ الطريق في أرضه من المرور عليه بالماشية فهل له منعه من ذلك أم لا ؟ فكان جواب الشيخ: «أنه ليس لصاحب الأرض المذكورة منعُ من أراد أن يحدث في الطريق المذكورة مسرحا لماشيته، ويمنع هو من الضرر بصاحب الأرض، ويومر أن يمر بماشيته على وجه لا يضر إما أن يمر بها مكممة أو واحدة واحدة، أو الزرب على جانبي الطريق إن انكف ضرره بذلك».
وجه اعتبار المآل في النازلة: إن الشيخ أبا الضياء رحمه الله ارتباطا بحكمة التشريع لم ينظر إلى الفعل في حد ذاته، بل نظر إلى ما ترتب على مآله من مصلحة أو مفسدة، وبالنظر إلى معايير التعسف في استعمال الحق فإنها متوفرة، فرغم أن الباعث على الفعل غير سيء ولا ممنوع، وهو حق الفاعل، فإن استعمال هذا الحق قد ترتب عنه ضرر، فمنع صاحب الأرض الراعي من المرور إضرار به لا مبرر له إلا أنه أراد مصلحة لنفسه، من غير اعتبار لمصلحة الجانب الثاني، وهي مصلحة خاصة، لكن المفسدة اللازمة عن إدراكها واللاحقة بالغير أرجح من المصلحة، ولا عبرة بالمرجوح. ومن هنا فإن الحق الفردي في الشريعة الإسلامية ليس على إطلاقه، ما دام حق الغير مرتبطا به،ويدخل في هذا قصة محمد بن مسلمة رضي الله عنه مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإجراء الماء في أرضه لمصلحة جاره[80][SUP].[/SUP] سئل مالك عن رجل له داران وهما في رحبة وأهل الطريق ربما ارتفقوا بذلك الفناء إذا ضاق الطريق على الأحمال وما أشبهها ، فدخلوا فيه، فأراد أن يجعل عليه نجافاً وباباً حتى تكون الرحبة له فناء ولم يكن على الرحبة باب ولا نجاف قال ليس ذلك له، قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إنه ليس له أن يجعل على الرحبة نجافاً وباباً ليختص بمنفعتها، ويقطع ما للناس من الحق في الارتفاق بها، لأن الأفنية لا تتحجر، إنما لأربابها الانتفاع بها ، وكراؤها فيما لا يضيقها على المارة فيه من الناس ، ولا يضر بهم"[81]. هذا جانب، أما الجانب الثاني، فهو ما ترتب على القول بمنع صاحب الأرض من قطع أرضه، فكما حكم المفتي عليه بذلك منعا للتعسف في استعمال الحق، حكم على صاحب الماشية أن يعمل ما في وسعه كي لا يترتب على ممارسته حقه الذي أعطي ضرر لصاحب الأرض عملا بقاعدة " لا ضرر ولا ضرار"[82]. 5ـ سئل القاضي أبو عمرو ابن منظور[83]بما نصه:
«الحمد لله، لسيادتكم الفضلُ في الجواب على قضية، هي المُتَمَعِّشون بالخدمة في الفَحْصِ بعمل المقاثي وخدمة الكروم وضُروب الأشجار، يقومون على ذلك كله بالعمل الذي لا يتم فائدها إلا به من أول أوان الخدمة أكتبر أو ينير[84] إلى وقت جَنَا الفائدة في أملاكهم وأملاك مكتراة بيدهم أو مساقاة عندهم ، فإذا نَضَجَ ما حملته تلك الشجرات، وحَلَّ وقت جنا المقاثي وأشباهها، جَمع ما تيسر له جمعه مُيَاَوَمةً، وأدخله سوق المسلمين يَتَكَيَّسُ في بيعها من الناس بما يتراضى به المبتاع، فأراد صاحب السوق أن يُسَعِّر عليه سلعه التي استفادها لنفسه أو جَلَبَها ، ويُخْرِجَ له القيمة من رأسه ولا يُعتبر بالقيمة التي يبرزها السوق مكايسة على حسب ما قدره قابض الرزق وباسطه لا إله إلا هو، ويجعل حكم من ذكر في التسعير عليهم كمثل الذي يدخل سلعة في الأطعمة والفواكه والخضر والعصير والجبن والزيت والسمن يبيعها من الباعة في السوق المنتصبين لبيع ذلك من الناس، هؤلاء الباعة يشترون من الجلاب ومن أصحاب الفوائد من غير سعر فيسعر عليهم صاحب السوق، بعدما يعرف واجب ما اشتروا، ولا يدعهم يتشططون على الناس في الأرباح ، جرى العمل قديما على هذا. فهل الباعة في السوق منتصبون به للشراء والبيع من الناس، مثل الجالسين وأصحاب الفوائد المتمعشين في حكم التسعير؟ أو ليسوا كذلك ويكون اعتراض المحتسب للتسعير على الجالب من الظلم الذي لا يحل له والمنكر الذي يجب القيام بتغييره والنهي عنه ، بينوا لنا ذلك بمقتضى الشرع العزيز أبقاكم الله حجة لإيضاح الحق وتبيينه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».
فأجاب رحمه الله بعد الديباجة : «...والذي ظهر لي من الجواب هو ما نص عليه القاضي الإمام ابن رشد رحمه الله، أن جالب السلع لا خلاف أنه لا يسعر عليه شيء مما جَلَبَ للبيع، وإنما يقال لمن اشترى منهم وباع بأعلى ما يبيع به عامة من يجلب: بع بما تبيع به العامة، أو ارتفع من السوق كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحاطب بن أبي بلتعة، إذ مر به وهو يبيع زبيبا له في السوق، فقال له: إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا[85]، لأنه كان يبيع بالدرهم أقل مما كان يبيع به أهل السوق، فعلى هذا فهؤلاء الذين يجلبون من أملاكهم مثل ما ذكر أعلاه لا يسعر عليهم، وأكثر ما ينظر فيه صاحب أحكام السوق إذا رأى شططا كما فعل عمر رضي الله عنه ، وكذلك، إذا رأى فسادا في السلعة ودخول ضرر ببقائها، يحكم بما يرفع الضرر عن المسلمين. وأهل الحوانيت والأسواق الذين يشترون من الجلاب وغيرهم جملا ويبيعون ذلك على أيديهم قيل: هم كالجلاب، الحكم واحد في كل ما مضى لا فرق، وقيل إنهم بخلاف الجلاب، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا غلبوا على الناس، وأن على صاحب السوق أن يعرف ما اشتروا ويجعل لهم من الربح ما يشبه، وينهى عن الزيادة ويتفقد السوق فيمنع من الزيادة على ما حد ومن خالف أمره عوقب بما يراه من الأدب أو الإخراج من السوق إن كان البائع معتادا لذلك مستترا به، وهو قول مالك في سماع أشهب، وإليه ذهب ابن حبيب، وقاله من السلف جماعة ، ولا يجوز عند واحد من العلماء أن يقول لهم: بيعوا بكذا وكذا ربحتم أو خسرتم ، من غير نظر إلى ما يشترون به، ولا أن يقول لهم فيما اشتروه : لا تبيعوه إلا بكذا وكذا، مما هو مثل الثمن الذي اشتروا به أو أقل، وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون فلا يتركهم أن يغلوا في الشراء، ولو لم يزيدوا في الربح ، إذ قد يفعلون ذلك لأمر ما مما يكون نتيجته ما فيه ضرر. اه[86].
وجه اعتبار المآل في النازلة: هذه الفتوى تضمنت نقلا لقولين:
- الأول: أخذ بأصل أنه لا يسعر على الجالب ولا على من يشتري منه. - الثاني: أخذ بالتسعير على من يشتري من الجلاب دونهم . وكلا القولين أخذ بمبدأ الذرائع، وسعي إلى درء الضرر، فالقول الأول باعتبار أن التراضي شرط بين البائع والمشتري، وهذا الرضى ينتفي بفرض سعر محدد ، وهذا إكراه للبائع مآله أن المشتري يأكل مال البائع بالباطل، وقد علم في أصل الشرع أن أكل أموال الناس بالباطل حرام، وكل وسيلة تؤدي إليه حرام كذلك. وإذا كان لولي الأمر دخل في التسعير، فهو من باب رفع الضرر عن المسلمين إذا رأى شططا، كما جاء في نص الفتوى، إذ الأصل أنه لا يسعر على أحد ماله ولا يكره على بيع سلعته ممن لا يريد ولا بما يريد[87].
أما القول الثاني، فينطلق من الصبغة الوقائية لمبدأ مراعاة المآل عموما وسد الذرائع خصوصا، وذلك من باب تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، فقد يقصد أهل الحوانيت والأسواق الذين يشترون من الجلاب أمرا يكون نتيجته ما فيه ضرر، والمستند هنا هو أن التسعير فيه رعاية مصلحتين: دفع الضرر عن الناس بمنع تعدي التجار في الأسعار تعديا فاحشا، ورعاية حق الفرد بإعطائه ثمن المثل. قال الباجي رحمه الله:«وَوَجْهُهُ -أي التسعير- ما يجب من النظر في المصالح العامة، والمنعِ من إغلاء السعر عليهم والإفساد عليهم، وليس يجبر الناس على البيع، وإنما يمنعون بغير السعر الذي يحدده الإمام على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمبتاع، لا يمنع البائع ربحا، ولا يسوغ له ما يضر الناس»[88].
والتفريق بين الجالب وغيره في التسعير هو ما عليه المالكية، وهو ما نقله ابن رشد الجد في البيان اتفاقا من غير تفصيل، وتعليل هذا التفصيل نجده في كلام للباجي في المنتقى إذ يقول: «وجه ما في كتاب محمد: أن الجالب يسامح ويستدام أمره ليكثر ما يجلبه ، مع أن ما يجلبه ليس من أقوات البلد ، وهو يدخل الرفق عليهم بما يجلبه ، فربما أدى التحجير عليه إلى قطع الميرة، والبائع بالبلد إنما يبيع أقواتهم المختصة بهم، ولا يقدر على العدول عنهم في الأغلب، ولهذا فرقنا بينهما في الحُكرة وقت الضرورة، ووجه ما قاله ابن حبيب : أن هذا بائع في السوق، فلم يكن له أن يحط عن سعره ، لأن ذلك مفسد لسعر الناس كأهل البلد، قال: فأما جالب القمح والشعير، فقال ابن حبيب : يبيع كيف شاء، إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق، وإن أرخص بعضهم تركوا إن قل من حط السعر، وإن كثر المرخصون، قيل لمن بقي: إما أن تبيع كبيعهم وإما أن ترفع»[89].
فيُفهم بهذا أن فقهاء المالكية باختلاف أنظارهم راعوا في ذلك أكثر من مآل:
- الأول: السماح للجالب بالبيع دون تسعير عليه، لما في ذلك من توسيع على الناس، والتسعير على الجالب فيه تضييق عليهم لأن ذلك يفضي إلى قطع الميرة عنهم .
- الثاني: مراعاة حق الجالب لأن التسعير عليه فيه حرج، ومبدأ الشريعة وأسها رفع الحرج.
- الثالث: مراعاة المصلحة العامة بالتسعير على البائع في السوق منعا للمآل الفاسد ، حتى ولو لم يقصده البائع، وهذا منع للتعسف في استعمال الحق الذي تؤدي ممارسته إلى الإضرار بالعامة، وهو الأرجح على اعتبار أنه إذا تعارضت مصلحتان رجحت أعظمهما، والمصلحة العامة هنا أرجح ، فإنه يدفع الضرر العام ولو بإثبات الضرر الخاص. وخلاصة هذا كله يجملها الشاطبي رحمه الله في كلمات يسيرة فيقول:«إن أمكن انجبار الاضرار ورفعه جملة فاعتبار الضرر العام أولى، فيمنع الجالب أو الدافع مما هم به ، لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة ...»[90].
خــــاتمــــة
بعد هذا الإبحار في بيان مفهوم اعتبار المآل ونظرية التعسف فياستعمال الحق، وإثبات العلاقة بينهما نظريا وعمليا في فتاوى مالكية الغرب الإسلامي، نخلص إلى مجموعة من الخلاصات منها:
1ـ أن المذهب المالكي يتميز بأنه أكثر المذاهب الفقهية استثمارا لنظرية التعسف في استعمال الحق، وذلك بالنظر إلى طبيعة أصوله التي تتميز بالطابع المقصدي المحض.
2ـ أن نظرية التعسف في استعمال الحق في المذهب المالكي ترتكز على نظرية الباعث التي هي إحدى النظريات الفقهية ذات الارتباط بمبدأ اعتبار المآل.
2ـ أن المذهب المالكي يتعدى الفعل إلى النيات والمقاصد، سواء تم التصريح بها أو استفيدت من القرائن والأحوال المحيطة بالفعل، ومن ثم يكون الحكم عند المالكية على الفعل بإضفاء المشروعية عليه أو سلبها عنه.
3ـ أن الحق الممنوح من الشرع لا يستقيم في الذهن تصور إفضائه إلى مفسدة، ومتى وقعت هذه المفسدة قصدا أو مآلا فهي من ممارسة المكلف لهذا الحق لا من الحق ذاته.
4ـ أن نظرية التعسف في استعمال الحق في المذهب المالكي مبناها على أن الشريعة حين أباحت الحقوق فإنها قد راعت المآل والثمرة المتفصية عنها، ومن ثم فإن المكلف ملزم بمراعاة هذا المقصد وعدم مناقضته حتى لا يعود ذلك على تصرفه بالبطلان حفاظا على مقصدين جوهريين: أولهما العدل، وثانيهما المصلحة، وهما مقصدان جوهريان بمثابة الحاكم على أفعال المكلفين وتصرفاتهم.
5ـ أن المفتين في الغرب الإسلامي كانوا يحرصون على أن يكون فعل المكلف سالما من المناقضة لقصد الشارع، ومن هنا يأتي توظيفهم لقاعدتي سد الذرائع والحيل اللتين هما قوام نظرية التعسف في استعمال الحق، وهما آليات التدخل الوقائي للمفتي أو المجتهد اعتبارا للمآل.
6ـ أن ارتباط نظرية التعسف في استعمال الحق باعتبار المآل في المذهب المالكي عموما وفي فتاوى مالكية الغرب الإسلامي خصوصا هو امتزاج المعيار الذاتي المتمثل في التعسف، بالمعيار الموضوعي المتمثل في مراعاة النتائج.
7ـ أن المفتين في الغرب الإسلامي ترجموا في عملهم الإفتائي خصوصيات المذهب المالكي كما أسس له إمام دار الهجرة رحمه الله، سواء في التصور التجريدي للأحكام، أو في تكييف الأحكام ومقاصدها على أفعال المكلفين وواقعهم.
8ـ أنه لا اعتبار في فتاوى مالكية الغرب الإسلامي للمعنى المجرد للحق، إذ الحق لا يحفظ صفته إلا إذا كانت ممارسته ضمن الإطار المقصدي لأحكام الشريعة.
9ـ أن المفتين من مالكية الغرب الإسلامي طبقوا نظرية التعسف في استعمال الحق ضمن إطار الفهم السليم للواقع المحيط بالنوازل المعروضة عليهم، وفتاواهم تثبت عدم انعزالهم عن واقعهم، وجمعهم بين معرفة واقعهم ومعرفة الواجب فيه، وهذا يثبت البعد التنزيلي للأحكام في أمثل صوره، خاصة في جانب منع الضرر قبل وقوعه أو رفعه حال وقوعه، مما يجسد واقعية الفقه المالكي وريادته في صياغة النظريتين معا، وأقصد نظرية اعتبار المآل، ونظرية التعسف في استعمال الحق.
 

بشاير السعادة

:: فريق طالبات العلم ::
إنضم
13 ديسمبر 2008
المشاركات
1,232
التخصص
فقه
المدينة
...........
المذهب الفقهي
الحنبلي
رد: صلة مبدأ اعتبار المآل بنظرية التعسف في استعمال الحق - العدد 12 من مجلة المذهب المالكي

نفع الله بكم وبعلمكم يا دكتور يوسف
 
أعلى