العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

حصري بيع الإنسان ما لايملك وعلاقته ببيع المرابحة/ خالد ولد أحمدو

خالد أحمد محمد

:: متابع ::
إنضم
2 يناير 2012
المشاركات
3
الكنية
ابن الصحراء
التخصص
الاقتصاد الإسلامي
المدينة
نواكشوط
المذهب الفقهي
مالكي
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام علي النبي الكريم
مقدمة
المرابحة عقد من العقود المسماة في الفقه الإسلامي عرفتها المجتمعات الإسلامية كافة علي طول تاريخها، وهي عقد أجمع الفقهاء علي إباحته. وبعد ظهور المصارف الإسلامية التي كانت بديلا للتعامل الربوي في المصارف التقليدية، ولأن الناس كانوا محتاجين إلي قروض قصيرة الأجل تقدمها المصارف التقليدية لحل بعض المشاكل الآنية لعملائها فقد ابتكر بعض الباحثين طريقة جديدة من التمويل يتم بصيغة المرابحة،ومن خلال تفاصيل جديدة تقوم فكرتها علي أن يتقدم عميل إلي المصرف لشراء سلعة معينة، فيقوم المصرف بشرائها بناء علي طلبه ثم يبيعها له بيعا آجلا مقسطا علي دفعات. وهي مركبة من عدة خطوات تتمثل في الآتي:
1-طلب الشراء الذي يتقدم به العميل إلي المصرف لشراء سلعة محددة المواصفات
2-عند الموافقة علي طلبه يوقع العميل مع المصرف علي نموذج وعد يلزمه بشراء السلعة، وقد يكون هناك وعد أيضا من المصرف بأن لا يبيع السلعة المشتراة إلا لهذا العميل.
3- يقوم البنك بشراء السلعة، وحيازتها حقيقة أو حكما.
4-يوقعان عقد بيع بالتقسيط علي السلعة المطلوبة.
و منذ ظهور المرابحة للآمر بالشراء كمعاملة في المصارف الإسلامية، عرفت انتشارا واسعا في المصارف الإسلامية علي امتداد العالم الإسلامي حتى أصبحت التعامل بها يقدر بنحو أكثر من تسعين بالمائة من التعامل في المصارف الإسلامية.
غير أن ذلك لم يمنع من وجود من ينتقدها من الفقهاء المعاصرين ويشبهها بعقود ورد تحريمها في النصوص الشرعية
منها علي سبيل المثال بيعتان في بيعة وبيع العينة وبيع الإنسان ما لا يملك وحتي من يجعلها قرضا بفائدة أعلي من فوائد البنوك التقليدية.
وبدراستنا لهذه الخطوات سنحاول معرفة ما إذا كان بيع المرابحة يدخل في إطار بيع الإنسان ما لا يملك، من خلال دراسة خطوتي الوعد بالشراء أو المواعدة، وكذا ما يتعلق بتملك المصرف للسلعة وضمانها من طرفه. علي أن نبدأ قبل ذلك بدراسة حقيقة بيع الإنسان ما لا يملك وحكمه.
وذلك من خلال المخطط الآتي:
المبحث الأول: بيع الإنسان ما لا يملك ماهيته وحكمه:
المطلب الأول: حقيقة بيع الإنسان مالا يملك.
المطلب الثاني: النهي عن بيع ما لا يملك الإنسان.
المبحث الثاني: المرابحة في المصارف الإسلامية
المطلب الأول: بين الوعد والعقد.
المطلب الثاني: تملك السلعة وضمانها من قبل المصرف.
والله الموفق
المبحث الأول: بيع الإنسان مالا يملك ماهيته وحكمه
المطلب الأول: حقيقة بيع الإنسان ما لا يملك
البيع في اللغة مصدر باع إذا أخذ شيئا في مقابل شيء آخر"وهو من الأضداد"[1] "فالبيع إعطاء الثمن وأخذ المثمن والشراء إعطاء الثمن وأخذ المثمن ويقال للبيع الشراء وللشراء البيع"[2]
وهو في اصطلاح الفقهاء "عرفه القليوبي بأنه: عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين أو منفعة علي وجه التأبيد لا علي وجه القربة"[3]
والملك هو الاستبداد في التصرف في مال معين والمكلية هي "علاقة بين المال والإنسان أقرها الشرع تجعله مختصا به ويتصرف فيه بكل التصرفات ما لم يوجد مانع من التصرف"[4]
وبيع الإنسان ما لا يملك هو مفهوم رود النهي عنه في عدة أحاديث وردت بألفاظ مختلفة منها حديث حكيم بن حزام النبي صلي الله عليه وسلم، فقد روي أحمد وأصحاب السنن عن حكيم بن حزام قال: قلت يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي أبتاع له من السوق، ثم أبيعه؟ فقال صلي الله عليه وسلم "لا تبع ما ليس عندك".[5]
كما ورد أيضا في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك"[6]
ففي الحديثين النهي عن بيع الرجل لسلعة معينة خارجة عن ملكه ثم يشتريها ويسلمها، فالتاجر عندما يقف من يسأله عن سلعة ليست فيحاول أن يربح فيها منه، فيساومه عليها أو يرابحه فيها إلي غير ذلك ثم يذهب ليحضرها وهو في الحقيقة،سيشتريها من غيره، وقد تكون السلعة داخلة في ملكه ولكنها غائبة عن مجلس العقد حسب تفسير بعض العلماء للحديث.
كذلك فإن العلماء اختلفوا في ما إذا كانت السلعة غير معينة بل محددة الأوصاف فقط، فالشافعية اعتبروا هذا من السلم الحال الذي هو جائز عندهم، بينما الجمهور علي عدم جواز ذلك لأنهم لا يجيزون السلم إلا إذا كان بأجل.
"قال البغوي: في الحديث النهي عن بيوع الأعيان التي لا يملكها"[7] ويفسر ابن القيم هذا النوع من البيع بأنه"مطابق لنهيه صلي الله عليه وسلم عن بيع الغرر لأنه إذا باع ما ليس عنده فليس هو علي ثقة من حصوله بل قد يحصل وقد لا يحصل فيكون غررا كبيع الآبق والشارد"[8]
وهو أمر يندرج تحت مسمي آخر وهو ربح ما لم يضمن المنهي عنه في حديث آخر، فأنت أخذت السلعة حالا دون أن تدخل في حوزك وضمانك وأخذت عليها ربحا.فإنه"لم يقع عليه استيلاء ولم تنقطع علق البائع عنه فهو يطمع في الفسخ والامتناع من الإقباض إذا رأي المشتري قد ربح"[9]
وقد توسع بعض الباحثين في تفسير اللفظ الوارد في الحديث"لا تبع ما ليس عندك" ليشمل ثلاثة أنواع:
-أن يكون البائع مالك للمبيع، لكن سلعته غائبة دون أن يصفها، فلا يدري أيقدر علي تسليمها للمشتري أم لا.
-أن يبيع شيئا مملوكا للغير علي أن يشتريه له من صاحبه.
-أن يبيع قدرا محددا من طعام أو غيره، وهو غير معين وليس في ملكه بل يذهب ليحصله من غيره.[10]
وهذا ما نجد مثله عند الإمام الشوكاني حيث: "لاتبع ما ليس عندك أي ما ليس في ملكك وقدرتك فيخرج عن هذا ما كان غائبا خارجا عن الملك أو داخلا فيه خارجا عن الحوزة "[11]
ومن هذا المعني بيع الفضولي أو بيع الافتيات وهو بيع من لا يملك عينا حاضرة أو غائبة، فالفضولي كما يعرفه الفقهاء "هو الذي يبيع شيئا لغيره أو يشتريه له من غير إذنه ويسمي فعل الفضولي افتياتا ويسمي الفضولي مفتاتا"[12]
لكن الفرق بين بيع الفضولي ومن يبيع ما لا يملك حسب تفسير العلماء للحديث(مع أن كلا هما باع ما لا يملك) إلا أن الفضولي لا يبغي ربحا من وراء العملية فهو ليس تاجرا بل إنه تصرف تصرفا قد يكون سببه السعي وراء مصلحة المالك وقد يكون غير ذلك لكنه سيسلم الثمن والربح إلي المالك إذا أجاز الصفقة، أما في بيع الإنسان ما لا يملك فصاحب التصرف هو تاجر يبغي الربح ولا يريد أن يخسر زبونه، فيشتري له سلعة بثمن، ويبيعها له بثمن آخر لا علاقة له بالثمن الأول، أعلي أو أخفض.
أما إذا كان الشيء المبيع محدد الأوصاف فقط دون أن يكون معينا فإن الشافعي يري جوازه لأنه داخل عنده في السلم الذي يجيزه حالا "فالسلف(السلم) بيع مضمون بصفة فإن اختار أن يكون إلي أجل جاز وأن يكون حالا وكان الحال أولي أن يجوز."[13] وأما الجمهور فإنهم يشترطون في السلم أن يكون مؤجلا فالأجل عند أبي حنيفة"هو شرط صحة بلا خلاف عنه في ذلك وأما مالك فالظاهر من مذهبه والمشهور عنه أنه من شرط السلم"[14]
غير أن هناك من يرجح تفسير العندية بمعني الملكية، وليس العندية الظاهرة، مثل رأي ابن حزم في تفسير هذا الحديث فهو يري أن النهي" إنما هو نهي عن بيع ما ليس في ملكك-كما هو في الخبر نصا- وإلا فكل ما يملكه المرء فهو عنده ولو أنه بالهند"[15]. ويقول ابن القيم فالعندية هنا ليست "عندية الحس والمشاهدة فإنه يجوز أن يبيعه ما ليس تحت يده ومشاهدته وإنما هي عندية الحكم والتمكين وهذا واضح"[16]
وسياق حديث حكيم بن حزام يسند هذا فحكيم شرح للنبي صلي الله عليه وسلم ممارسة واضحة وعليها أصدر حكمه فتعلقه بها واضح، كما أن ربطها بربح مالم يضمن في الحديث الآخر يفهم منه أيضا رجحان هذا التفسير، وهذا ما رجحه من المعاصرين الدكتور علي القره داغي حيث يقول: "فالعندية هنا هي عندية الملك والتمكين وليست عندية المشاهدة، ولذلك لو كان المال حاضرا لكنه كان أمانة عنده أو مستأجرا عنده أو معارا لما جاز بيعه لآخر ولما لزم بالاتفاق"[17]
المطلب الثاني: النهي عن بيع الإنسان ما لا يملك.
يشترط الفقهاء في المبيع أن يكون ملكا للبائع حتى يكون ونافذا، فلا بد من ملك أو ولاية، فلا بد للبيع لكي يكون نافذا أن تكون هناك ولاية بالملك أو بالوكالة، ولا يتم هذا البيع إلا بإجازة المالك ف"أما الشروط التي ترجع إلي النفاذ فنوعان أحدها الملك أو الولاية"[18]، هذا رأي الجمهور، ويوردون هنا مسألة بيع الفضولي: وهو من يبيع ما ليست له مالكا له أو موكلا عليه، والجمهور علي أن بيعه موقوف علي إجازة المالك،ف"بيع ملك غير المالك موقوف علي رضا المالك"[19] لكن الشافعية يجعلون هذا الشرط شرط انعقاد وليس شرط نفاذ فحتي لو أجاز المالك هذا البيع فإنه لا يعتبر منعقدا فيشترطون "أن يكون (المعقود عليه) مملوكا لمن وقع العقد له فبيع الفضولي مال الغير لا يقف علي إجازته"[20]
وبيع الفضولي من ناحية الحكم هناك من يحرمه مطلقا ومن يجيزه إلا في العقار وما شابهه، ومن العلماء من يربطه بمقصد الفضولي فإن كان يقصد النفع للمالك جاز وإلا كان حراما.[21]
أما بيع الإنسان ما لا يملك بالصفة التي وردت سابقا فقد ورد النهي عنه في عدة أحاديث، منها حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلي الله عليه وسلم قال:"لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح مالم يضمن ولا بيع ما ليس عندك"[22]
وحديث حكيم بن حزام قال: قلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ليس عندي ما أبيعه منه، ثم ابتاعه من السوق، فقال: لاتبع ما ليس عندك"[23]
وقد قام الدكتور علي القره داغي بدراسة ألفاظ هذا الحديث وطرقة وتوصل إلي خلاصة مفادها أن"حديث لاتبع ماليس عندك حديث صحيح حكم بصحته كبار النقاد من علماء الجرح والتعديل"[24]
وعليه فإن هذا الحديث هو مستند العلماء في تحريم هذا النوع من البيع وقد عللوا النهي بما فيه من الغرر حيث أن البائع يبيع عينا معينة ليست في ملكه فلا يدري أيتمكن من أن يسلمها للمشتري أم لا. ومن جانب آخر فإن البائع مادام لم يضمن البضاعة فبيعه لها داخل في النهي عن ربح ما لم يضمن الوارد في حديث عبد الله بن عمرو المتقدم، ويعلق عليه ابن القيم بقوله: "فمن كمال الشريعة ومحاسنها النهي عن الربح فيه حتى يستقر عليه ويكون من ضمانه فييأس البائع من الفسخ وتنقطع علقه عنه"[25] وإن كان العلماء يفسرون الحديث علي أنه يتعلق بما تم شراءه ولم يتسلمه البائع إلا هذه العلة أوضح في بيع الإنسان مالا يملكه فهو غير داخل في ضمانه من باب أولي.
ويقول الخطابي:"وإنما نهي عن بيع ما ليس لدي البائع من قبل الغرر... ويدخل في ذلك كل شيء ليس بمضمون عليه مثل أن يشتري مثل أن يشتري سلعة فيبعها قبل أن يقبضها[26]
ومن الممارسات الحديثة ما يقوم به البعض من عرض عينات من سلع معينة للبيع وهو لا يملكها فإن وجد من يرغب في الشراء اتفق معه علي السعر ثم اشتري الكمية التي يطلب من المصنع أو الشركة وسلمها له فقد عده الشيخ ابن باز من قبيل بيع الإنسان ما لا يملك المنهي عنه في الحديث[27]
المبحث الثاني: الوعد بالشراء في المرابحة في المصارف الإسلامية
المطلب الأول:بين الوعد والعقد
الوعد في اللغة كما يقول ابن فارس"العين والواو والدال كلمة صحيحة يدل علي ترجية بقول"[28]
والوعد في الاصطلاح الفقهي يعرفه ابن عرفة بقوله: "إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل"[29]
وطبيعة الوعد تقتضي أنه التزام من طرف واحد، يلتزم لطرف آخر بأن يقدم له مزية معينة في تاريخ مستقبلي.
وقد أجمع المسلمون علي أن الوفاء بالوعد محمود فقد مدح الله نبيه إسماعيل بوفائه بالوعد فقال: "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيئا" وأخبر النبي صلي الله عليه وسلم بأن إخلاف الوعد من صفات المنافق: "آية المنافق ثلاث:... ومنها: إذا وعد أخلف"
غير أن الوعد في مجال المعاوضات كان محل خلاف بين الفقهاء ومجمل الآراء فيه هي ثلاث، وهي:
1-أن الوفاء به واجب:وهو رأي عمر بن عبد العزيز وابن شبرمة، وابن تيمية[30]
2-أن الوفاء به مستحب غير واجب وهو رأي جمهور العلماء[31]
3- التفصيل: فالوفاء به واجب إذا أدخل الموعود في أمر علي أساس الظن بتحققه، وهو مروي عن الإمام مالك وهو مشهور المذهب[32] ويري الأحناف أن الوفاء به واجب إذا علق علي شرط[33]
وفي هذا السياق فإنه قد يتحول الوعد في بعض العقود من وعد من طرف واحد إلي مواعدة يلتزم فيها طرفان بأن يقوم كل منهما بأمر معين من طرفه ويقوم الطرف الآخر بأمر مقابل. والمواعدة هي مفاعلة من الوعد تختلف عن الوعد في احتوائها علي طرفين، وهي مثل الوعد ليست ملزمة حسب رأي الجمهور.
أما العقد فهو في اللغة الشد والتوثق ف"العين والقاف والدال أصل واحد يدل علي شد وشدة وثوق"[34]
وقد عرف بأنه ارتباط إيجاب بقبول علي وجه يظهر أثره في المحل
والعقد ينتج عن تلاقي إرادتين ومن خصائصه الإلزام لكلا المتعاملين.
والإلزام بالوعد في عقود المعاوضات يطرح الكثير من الجدل بين الفقهاء خاصة إذا كان الأمر يتعلق بطرحه كبديل عن عقد محرم.
فمسألة المواعدة علي الصرف
المطلب الثاني: الوعد في المرابحة كبديل عن عقد محرم
لما كان التعاقد علي ما لا يملكه البائع هو أمر محرم فقد لجأ الفقهاء المعاصرون إلي إبدال هذا العقد في الخطوة الأولي من المرابحة بوعد ملزم لطالب الشراء من المصرف، واستندوا إلي أن تخلي العميل عن شراء السلعة من المصرف فيه إضرار به فهو ليس متخصصا بمثل هذا النوع من التعامل التجاري، فهو بالتالي مضطر إلي آلية تمكنه من التأكد من أن طالب الشراء لن يتخلف عن الشراء. وقد تطور الأمر فأصبح الفقهاء يتحدثون عن مواعدة بين المصرف والعميل يلتزم فيها المصرف بالبيع للعميل ويلتزم العميل بالشراء من المصرف.
نتحدث هنا كذلك عن مواعدة تتم بين طرفين يلزمان أنفسهما بالتزامات معينة ليس لهما التراجع عنها، وقد طرح الفقهاء المعاصرون المتحمسون لتطبيق هذا النوع من العقود في المصارف الإسلامية - كتيسير وتوسعة تناسب سماحة ويسر هذا الدين- مسألة إلزام المتقدم لطلب الشراء من المصرف بالتعهد بشراء السلعة التي سيشتريها المصرف من أجله،حتي لا يسبب للمصرف خسارة تلزمه بأن يعرض السلعة لمن يشتريها وهو ليس متخصصا في هذا النوع من الأعمال التجارية. وقد اعتمد هؤلاء علي رأي المالكية الذين يلزمون بالوعد إذا كان علي شرط ودخل الموعود فيه.
غير أن هنالك من يري أن هذا الرأي غير وارد لأن رأي المالكية هذا لايرد علي بيع المرابحة لأن المالكية أنفسهم يحرمون هذا النوع من البيع في صور بيوع الآجال عندهم، حيث يقسمون بيوع الآجال إلي ثلاثة أنواع:
1- نوع جائز: وصورته أن يمر المشتري بالتاجر فيسأله عن سلعة يريد شراءها فيخبره بأنها ليست موجودة عنده، ثم يشتريها ويعلمه بذلك قصد أن يشتريها من عنده.
2- نوع مكروه: حيث يعده في الصورة السابقة بأن يشتري السلعة بربح إذا كان سيشتريها منه
3- نوع محرم: وهو ما إذا تواعدا علي شراء السلعة وحددا الربح بينهما.[35]
وعن هذا يقول العلامة بكر أبو زيد" أما هذا النوع الجديد من (الوعد التجاري) الذي يريد به العميل مع المصرف: تداول سلعة بالثمن والربح ولما تحصل ملكيتها بعد، فإن خلافهم في (الوعد) لا ينسحب على هذا بل هو يتنزل على حد حديث حكيم بن حزام وما في معناه (لا تبع ما ليس عندك)، وعلى مسألة ( البيع المعلق )." [36]
بالإضافة إلي ذلك ينص الشافعي في النص الذي يعتبر المستند الأول لبيع المرابحة في التطبيق المصرفي علي أن الإلزام بالوعد مبطل للعقد" وإن تبايعا به علي أن ألزما علي ألزما أنفسها الأمر الأول فهو مفسوخ"[37]
غير أن كلام الشافعي هذا قد يكون منصبا علي ما إذا كان المتعاقدان عند تنفيذ الوعد لا يعقدون عقدا جديدا بل يكتفون بمجرد الوعد السابق ويشهد لهذا أن الشافعي في مجال آخر أجاز المواعدة في الصرف بشرط أن يقوما بعقد جديد"وإذا تواعد الرجلان الصرف فلا بأس أن يشتري الرجلان الفضة ثم يقرانها عند أحدهما حتى يتبايعاها"[38] وعليه فما دام العميل والمصرف سيقومان بعد شراء المصرف للبضاعة المطلوبه بعقد بيع جديد سيكون أساس العلاقة بينهما فالفسخ الذي تحدث عنه الشافعي لا يتطرق لهذا البيع، فالدكتور سامي حمود يشترط في المرابحة الصحيحة" أن يكون هناك تفريق بين التواعد والتبايع بحيث لا تتم المبايعة إلا بعد ثبوت التملك لدى البائع"[39]
وهكذا فإن الوعد في بيع المرابحة للآمر بالشراء ليس عقدا علي ما لا يملك الإنسان بل هي كما يقول أهل القانون وعد بعقد الذي يعرف بأنه هو الاتفاق الذي يعد بموجبه كلا المتعاقدين أو أحدهما بإبرام عقد معين في المستقبل[40] وهو وإن يكن عقدا إلا أنه وسيلة إليه، وينقسم إلي ماهو ملزم للطرفين وما هو ملزم لأحدهما فقط.
كما أنه من الواجب القول أن الحاجة تدعو إلي مثل هذا النوع من العقود حتي لا يضطر الناس إلي الاستدانة بفائدة عندما تسد عليهم الأبواب في حاجاتهم الضرورية "فعلى أقل الأحوال فإن الحاجة في التعامل داعية إليه كما دعت إلى السلم ، والاستصناع واغتفر ما يعتريهما من الغرر تقديرا للحاجة، والحاجة هنا داعية لاتساع رقعة التعامل وتضخم رؤوس الأموال وحاجة المنشآت إلى دعمها بالآلات والمباني التي لا قوام لها إلا بها، فإن لم تتم تلك المعاملة وقع المسلم في حرج ومشقة الفوات لمصالح يريد تحقيقها[41]
المطلب الثاني: تملك البنك السلعة وضمانها:
يعتبر تملك السلعة من قبل المصرف خطوة أساسية في صيغة المرابحة للآمر بالشراء حيث بدونها تكون الصيغة محرمة يبيع فيها المصرف ما لا يملك، حيث يبيع المصرف سلعة في ملك غيره ويحصل علي ربح منها.
وهو أمر يجمع عليه الكاتبون في المرابحة للآمر بالشراء علي وجوب أن يقوم المصرف بشراء السلعة موضوع المرابحة لنفسه، ولو تولي ذلك العميل فإنما يتولاه نيابة عن المصرف الذي لا بد أن يحوز السلعة حقيقة أو حكما قبل بيعها للعميل.
فخطوات المعاملة تتضمن أن يتملك المصرف السلعة قبل أن يبيعها، ويشترطون لصحة البيعة الثانية للعميل صحة البيعة الأولي التي يجريها المصرف مع مورده.
كما أن المصرف يضمن السلعة ضمانا كاملا قبل تسليمها للعميل، وهو ما يؤكد استقرارها في ذمته ويجيز أن يأخذ عليها ربحا.
وهذه الضوابط الثلاثة هي التي يضعها العلامة بكر أبو زيد لصحة المرابحة حيث يقول عن الضوابط التي تجعل بيع المرابحة جائزا:
1- خلوها من الالتزام بإتمام البيع كتابة أو مشافهة قبل الحصول على العين بالتملك والقبض.
2- خلوها من الالتزام بضمان هلاك (السلعة) أو تضررها من أحد الطرفين: العميل أو المصرف بل هي على الأصل من ضمان المصرف.
3- أن لا يقع العقد للمبيع بينهما إلا بعد قبض المصرف للسلعة واستقرارها في ملكه.[42]
وهذا ما يؤكد أن هذه المعاملة في هذا المستوي بعيدة كل البعد عن بيع الإنسان ما لا يملك فما دام المصرف يتملك السلعة بعقد صحيح لنفسه ولو وكل عليه غيره، ويحوزها ويضمنها حتى يسلمها للعميل فلا علاقة لهذا ببيع الإنسان ما لا يملك أو ربحه ما لم يضمن.
خاتمة
وبعد فإن بيع الإنسان ما لا يملك أو ما ليس عنده بالمنطق النبوي هو أمر محرم تضافرت النصوص علي تحريمه وأجمع الفقهاء علي ذلك.
وبيع المرابحة في التطبيق المصرفي المعاصر أثار عليه بعض العلماء شبهة مطابقته لبيع الإنسان ما لا يملك، وهو أمر قد يجد بعضا من الوجاهة في مسألة الوعد الذي قد يشتبه بالعقد خصوصا إذا كان ملزما، فليس بين الوعد والعقد إلا الإلزام، لكن هذا الأمر ليس مسلما فالوعد وإن كان ملزما ليس بعقد، كما نجده عند بعض الفقهاء المتقدمين، ثم إن عملية بيع السلعة تتم بعقد منفصل لا مطعن في صحته شرعا. من جانب آخر فإن شراء المصرف للسلعة قد يراه هؤلاء صوريا، وهو أمر يجد الرد عليه في أن المصرف يشتري السلعة لنفسه ولو وكل غيره بذلك فإن الأمر يتم من قبله وليس من قبل العميل أو أي طرف ثالث، ثم إنه يحوز السلعة: حقيقة أو حكما، وكذلك يضمنها حتي يسلمها للبائع.
والمرابحة للآمر بالشراء هي باب تيسير وتسهيل مباح يجب أن لا يسد علي من يضطر إلي مثل هذا النوع من المعاملة، وإلا فهو سيتجه تحت ضغط الحاجة إل الاقتراض بفائدة محرمة، لكنه ينبغي علي المصرفيين والفقهاء المسلمين اتخاذ كل أنواع الاحتياط حتي لا يصبح هذا النوع من المعاملات صوريا، يتحول في حقيقته إلي قرض بفائدة، مثل دراسة وضعية المتقدم للمرابحة هل هو ذو حاجة لهذه السلعة التي يرغب فيها أم أنه يريد قرضا لا أكثر.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وصلي الله وسلم علي نبينا محمد وعلي آله وصحبه.
لسان العرب 5 /401[1]

المفردات للراغب الأصفهاني 86[2]

الموسوعة الفقهية الكويتية 9 /5[3]

الفقه الإسلامي وأدلته وهبه الزحيلي 4 / 56[4]

سنن الترمذي بأحكام الألباني ص 293 حديث رقم 1232 وصححه الألباني وتوجد ألفاظ قريبة من هذا في سنن أبي دواوود والنسائي وابن ماجه. [5]

[6]

الشوكاني نيل الأوطار 1/453 [7]

ابن القيم تعليق علي عون المعبود شرح سنن أبي دوود 9/411[8]

ابن القيم تعليق علي عون المعبود شرح سنن أبي داوود 9/410[9]

علي بن عباس الحكمي البيوع المنهي عنها نصا في الشريعة الإسلامية 127[10]

الشوكاني نيل الأوطار 1/453[11]

الصادق الغرياني مدونة الفقه المالكي وأدلته 3/240[12]

الأم الإمام الشافعي 4/192[13]

بداية المجتهد ابن رشد 2/203[14]

[15]

ابن القيم مصدر سابق 9/412[16]

الدكتور علي القره داغي : بحث بعنوان حديث لاتبع ماليس عندك سنده وفقهه منشور علي موقعه علي الرابط التالي[17]: http://qaradaghi.com/portal/index.p...:-l-r-&catid=51:2009-07-07-08-22-29&Itemid=35

الكاساني بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 5/148[18]

حاشية الدسوقي علي الشرح الكبير 3/12[19]

الإمام الغزالي الوجيز في فقه الشافعية 1/279[20]

حاشية الدسوقي3/13 ومدنة الفقه المالكي وأدلته 3/240 [21]

سنن النسائي باب بيع ما ليس عند البائع حديث رقم 4612 وسنن أبي داوود باب الرجل يبيع ما ليس عنده حديث رقم 3486 .[22]

سنن أبي داوود باب الرجل يبيع ماليس عنده حديث رقم 3485 وغيره من أصحاب السنن الأربع.[23]

[24] علي القره داغي مصدر سابق

عون المعبود مصدر سابق 9/410[25]

محمد بن علي الأيتوبي شرح سنن النسائي 35/64[26]

موسوعة الأحكام الشرعية 3/57[27]

أحمد بن فارس معجم مقاييس اللغة 6/126[28]

[29] بكر عبد الله أبو زيد المرابحة في المصارف الإسلامية وحديث لا تبع ماليس عندك بحث منشور علي الرابط التالي: http://www.islamfeqh.com/Nawazel/NawazelItem.aspx?NawazelItemID=1505

الموسوعة الفقهية الكويتية 44/74[30]

بكر عبد الله أبو زيد مصدر سابق[31]

الموسوعة الكويتية 44/77[32]

نفس المصدر44/75-77[33]

أحمد بن فارس مصدر سابق 4/76[34]

حاشية الدسوقي علي الشرح الكبير ج3 ص 88[35]

بكر عبد الله أبو زيد مصدر سابق[36]

الإمام الشافعي الأم 461[37]

الشافعي مصدر سابق 456[38]

[39] الدكتور سامي حمود المرابحة للآمر بالشراء مقال منشور علي الرابط: http://iefpedia.com/arab/?p=1871

سيف رجب قرمل الوعد بالتعاقد 6[40]

بكر أبو زيد مصدر سابق[41]

بكر أبو ريد مصدر سابق[42]بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام علي النبي الكريم
 

حمزة عدنان الشركسي

:: مطـًـلع ::
إنضم
3 يونيو 2011
المشاركات
189
التخصص
اقتصاد إسلامي
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
الشافعي
رد: بيع الإنسان ما لايملك وعلاقته ببيع المرابحة/ خالد ولد أحمدو

حصل كثير من الإشكال حول الوعد الملزم ، ولذلك أقول : إن الذي منعه الإمام الشافعي هو الوعد الملزم من الطرفين ، أما الملزم من طرف واحد فليس بممنوع عنده ، أما عند السادة المالكية فالمرابحة للآمر بالشراء مع الوعد الملزم صورة من صور العينة المحرمة
قال الإمام الشافعي : (وإذا أَرَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ السِّلْعَةَ فقال اشْتَرِ هذه وَأُرْبِحْك فيها كَذَا فَاشْتَرَاهَا الرَّجُلُ فَالشِّرَاءُ جَائِزٌ، وَاَلَّذِي قال أُرْبِحْك فيها بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَحْدَثَ فيها بَيْعًا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَهَكَذَا إنْ قال اشْتَرِ لي مَتَاعًا وَوَصَفَهُ له أو مَتَاعًا أَيَّ مَتَاعٍ شِئْت وأنا أُرْبِحْك فيه، فَكُلُّ هذا سَوَاءٌ يَجُوزُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ، وَيَكُونُ هذا فِيمَا أَعْطَى من نَفْسِهِ بِالْخِيَارِ، وَسَوَاءٌ في هذا ما وَصَفْتُ إنْ كان قال أَبْتَاعُهُ وَأَشْتَرِيهِ مِنْك بِنَقْدٍ أو دَيْنٍ، يَجُوزُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ وَيَكُونَانِ بِالْخِيَارِ في الْبَيْعِ الْآخَرِ، فَإِنْ جَدَّدَاهُ جَازَ، وَإِنْ تَبَايَعَا بِهِ على أَنْ أَلْزَمَا أَنْفُسَهُمَا الْأَمْرَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مَفْسُوخٌ من قِبَلِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَبَايَعَاهُ قبل أَنْ يَمْلِكَهُ الْبَائِعُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ على مُخَاطَرَةِ أَنَّك إنْ اشْتَرَيْتَهُ على كَذَا أُرْبِحْك فيه كَذَا)اهـ [1].


[1] الشافعي ، محمد بن إدريس ، الأم ، ج3 ص39
 
أعلى