العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

وقفاتٌ مع خطبة الجمعة الموحدة-أ.د. حسام الدين عفانة

إنضم
26 فبراير 2010
المشاركات
596
الكنية
أبو الفضل
التخصص
الفقه المقارن
المدينة
الخليل
المذهب الفقهي
فقه مقارن
وقفاتٌ مع خطبة الجمعة الموحدة
يقول السائل:ما قولكم في خطبة الجمعة الموحدة التي يُعمل بها جميع المساجد،أفيدونا؟
الجواب:خطبة الجمعة شعيرةٌ من شعائر الدين،ولها شأنٌ عظيمٌ عند الله عز وجل،فهي ذكرٌ لله كما سماها الله في كتابه الكريم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}سورة الجمعة الآية 9.قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى:[{ذِكْرِ اللَّهِ}أي الصلاة،وقيل الخطبة والمواعظ،قاله سعيد بن جبير.
قال ابن العربي:والصحيح أنه واجبٌ في الجميع،وأوله الخطبة.وبه قال علماؤنا إلا عبد الملك بن الماجشون فإنه رآها سنة.والدليل على وجوبها أنها تُحرم البيع ولولا وجوبها ما حرمته،لأن المستحب لا يحرم المباح.وإذا قلنا إن المراد بالذكر الصلاة،فالخطبة من الصلاة.والعبد يكون ذاكراً لله بفعله كما يكون مسبحاً لله بفعله]تفسير القرطبي18/107.
وخطبة الجمعة شرطٌ لصحة صلاة الجمعة عند جمهور الفقهاء،قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[إن الخطبة شرط في الجمعة لا تصح بدونها كذلك قال عطاء والنخعي‏ وقتادة والثوري والشافعي‏ وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي،ولا نعلم فيه مخالفاً‏ًً‏ًًً إلا الحسن...ولنا قول الله تعالى‏:‏{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}‏والذكر هو الخطبة‏،ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك الخطبة للجمعة في حال وقد قال‏:‏‏(‏صلوا كما رأيتمونى أصلي‏)‏وعن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏قُصرت الصلاة لأجل الخطبة،وقول عائشة نحو من هذا]المغني2/224،
وقد صح في الحديث أن الملائكة تشهد خطبة الجمعة،فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال صلى الله عليه وسلم:(من اغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة ثم راح فكأنما قرَّب بدنةً-ناقة-ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرةً،ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشاً أقرن،ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دجاجةً،ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرَّب بيضةً،فإذا خرج الإمام حضرت الملائكةُ يستمعون الذكر)رواه البخاري ومسلم..
والخطابة في الإسلام جزءٌ لا يتجزأ من كيان الأمة الشامخ، ولسانها الناطق،وحبر قلمها السيال،وحركات بنانها الحثيثة،لها شأنٌ جليل،ومقصدٌ نبيلٌ،وأثرٌ ليس بالقليل،هي منبر الواعظ،ومتكأ الناهض،وسلوان من هو على دينه كالقابض،لا يُعرف وسيلةٌ في الدعوة أقرب إلى التأثير منها،ولا وقعٌ أشدُّ–في التلقي بالقبول في نفوس الناس–من وقعها،وهي مهنةُ النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره،ومبتدؤه وخبره،بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه،كما أنها ميدان الدعاة الرحب،ومنهلُ الظامئين العذب،وسهل الواطئين الرطب.وبالنظر إلى ما لهذا الأمر من عظم،فإن التهاون بشأنه لخَطْبٌ جَللٌ،والنأي عنه فتوق وخلل،ولأنك إذا أردت الحكم على أمةٍ من الأمم في ثقافتها ووعيها،وفي صحتها وعيها،فانظر إلى خطبائها وما تحويه خطبهم،وإلى منابرها وأين منها هم] الشامل في فقه الخطيبِ والخُطبَةِ د.سعود الشريم.
إذا تقرر هذا فلنا وقفات مع خطبة الجمعة الموحدة كما يلي:
أولاً:عُرفت خطبة الجمعة الموحدة في العصر الحديث،حيث فُرضت على المساجد بقراراتٍ من الجهات الرسمية في بعض الدول الإسلامية،ولم تكن معروفة في السابق،فهي بدعةٌ ابتدعتها الحكومات لتحقيق أهدافٍ خاصة.
ثانياً:خطبة الجمعة الموحدة جاءت على خلاف الهدي النبوي،فمن المعلوم أن خطبة الجمعة جزءٌ لا يتجزأ من صلاة الجمعة،والأصل في العبادات التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،وقد صح في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:(صلوا كما رأيتموني أصلي)رواه البخاري.وصح في الحديث قول النبي صلي الله عليه وسلم:(من عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ)رواه مسلم.
ثالثاً:خطبة الجمعة الموحدة مخالفةٌ لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم من حيث إنها تفرض موضوعاً معيناً،على جميع خطباء المساجد في كل البلاد،مع أن أحوال كل بلدٍ ومشكلاته وظروفه تختلف عن البلد الآخر،وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم مراعاة مقتضى أحوال الناس في خطبه،حيث كان يبين ما يحتاجونه إليه حسب تنوع الأحوال،قال الشيخ ابن القيم:[وكان صلى الله عليه وسلم يخطب في كل وقتٍ بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم] زاد المعاد1/189.وقال الشيخ ابن القيم أيضاً:[وكان صلى الله عليه وسلم يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته،فإذا رأى منهم ذا فاقةٍ وحاجةٍ أمرهم بالصدقة وحضَّهم عليها]زاد المعاد1/428.
ومن المعلوم أن ما يهم الناس في قريةٍ أو مدينةٍ في شمال البلاد يختلف بشكلٍ كبيرٍ عما يهم الناس في قرية أو مدينة في جنوب البلاد أو شرقها أو غربها.والمطلوب من خطيب الجمعة أن يعالج قضايا المجتمع الذي يعيش فيه خاصةً،وقضايا المسلمين عامةً.قال الدكتور عبد العظيم المطعني:[والخطباء كالأطباء كلٌ منهم يعالج مريضه حسب ما يراه،فيجب أن يهتم كل خطيبٍ بمشكلات الموقع الذي يخطب فيه ويتحدث فيما يهم الناس،فلو توحدت الخطبة لكانت مثل من يكلف وزير الصحة أن يكتب وصفةً طبيةً واحدةً لكل المرضى]عن الإنترنت بتصرف.
رابعاً:لاحظت أن بعض خطب الجمعة الموحدة صارت انعكاساً لمناسباتٍ بدعية،كخطب المولد النبوي والإسراء والمعراج ورأس السنة وغيرها،ومن المعلوم أن هذه المناسبات مبتدعةٌ ليس عليها دليلٌ صحيحٌ.وكذلك فإن بعض خطب الجمعة الموحدة صارت انعكاساً لمناسباتٍ لا تمت للإسلام بصلة،كخطب عيد الأم وعيد الحب وعيد العمال،فصارت الخطب في هذه المناسبات تدهن بدهان شرعي!!وهذا لا يعني أن الإسلام لم يهتم ببر الوالدين وخاصة الأم،أو لم يهتم بالحب بمفهومه الواسع،أو لم يعط العمال حقوقهم،وكلامي هو جعل هذه الأمور عنواناً لخطبة الجمعة الموحدة في تلك المناسبات غير الشرعية.خامساً: خطبة الجمعة الموحدة تقتل الإبداع عند الخطباء وتُضعف إلى حدٍ كبيرٍ تطوير أداء ولغة الخطباء وتُضعف مقدرتهم على البحث العلمي،وتقضي على مهارات الخطابة ورونقها،وصار خطيب الجمعة كالمذيع الممل الذي يقرأ نشرة الأخبار التي تُكتب له وهو مجرد ناقلٍ لها ليس له فيها أي دور،ويقول في آخر الخطبة:أقولُ قولَهم هذا وأستغفر الله لي ولكم!!
سادسا:خطبة الجمعة الموحدة تعتبر خرقاً سافراً لحرية التعبير،وتكميماً للأفواه،وحجراً على عقول الخطباء،وإجباراً لهم هم على تبني أقوالٍ وأفكارٍ لا يعتقدون صحتها،وخاصة إذا استغلت المنابر لتحقيق أهدافٍ سياسيةٍ،ومن الجدير بالذكر هنا أنه لا يجوز استغلال المنبر للسب والشتم والقدح والردح،وخاصة مع ذكر الأسماء،فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(ما بالُ أقوامٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله)رواه البخاري ومسلم،وقال صلى الله عليه وسلم:(ما بالُ أقوامٍ يتنزهون عن الشيء أصنعه)رواه البخاري ومسلم،وقال صلى الله عليه وسلم:(ما بالُ أقوامٍ قالوا كذا وكذا)رواه مسلم.وغير ذلك.
سابعاً:خطيبُ الجمعة له صفاتٌ خاصةٌ،وليس المنبر حمىً مستباحاً لكل من هبَّ ودبَّ،وإن كان مثقفاً،والواجب الشرعي على الجهات الرسمية أن تختار الخطباء الأكفاء من خريجي الكليات الشرعية،وأما أن يصعد المنبر من لا يحسن قراءة آيات من القرآن الكريم،ومن يحطم قواعد اللغة العربية،ومن يتكلم بالعامية ولا أقول يخطب. فكل ذلك منكرٌ عظيمٌ.
ثامناً:مطلوبٌ من الجهات الرسمية أن تعمل على تطوير قدرات خطباء المساجد من خلال برامج علميةٍ وعمليةٍ تهتم بفن الإلقاء،وكيفية التأثير في الناس،وإلزام خطباء المساجد بحضور دوراتٍ تدريبية متخصصة في علم التجويد والترتيل وعلم النحو،وأن يكون هناك متابعة لمن يثبت عدم صلاحيته للخطابة احتراماً لمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديراً لعقول ومشاعر المصلين.
تاسعاً:الاستعانة بخطباء من غير الموظفين كأستاذة كليات الدعوة والشريعة وأصحاب الكفاءات من غيرهم.
عاشراً:إلزام خطباء المساجد بتحضير خطبة الجمعة قبل يوم الجمعة بوقتٍ كافٍ،قال د. سعود الشريم خطيب المسجد الحرام:[الخطيب قد يلقي خطبته إما بعد تحضيرٍ وإعدادٍ،وإما على المجازفة والبديهة لاسيما في حق المرتجل.والحق أن الكلام الذي لا يُعدُّ له قد لا يُقيم حقّاً،ولا يخفض باطلاً،ولا يجذب نفساً،ولا ينفر من أمر،لاسيما إذا كان الخطيب بين قوم فيهم من يتسقط هفواته،ويتتبع سقطاته،ويحصيها عليه إحصاءً.والواجب على الخطيب ألا يتوهم أن تحضير الخطبة قد ينقص من قدره،بل الصحيح هو أن الكلام المبتذل الذي لا يُعدًّ له،ولا يزول في النفس ابتداءً؛هو الذي فيه مظنة العيب.والملاحظ أن بعض الخطباء لا يُعدُّ للخطبة إلا في صبح الجمعة أو قبلها بسويعات،والذي يفعل مثل هذا إن كان فعله له سببٌ يبيح ذلك له فالضرورة لها أحكامها،أما إذا كان ديدنه ذلك أو يقتلع إحدى الخطب من بعض الدواوين قبل الجمعة بزمن يسير دون النظر في ماهية الخطبة أو مدى مناسبتها لوقتها.ثم يلقيها من على المنبر من باب الأداء الوظيفي فحسب أو من باب الكسل وقلة الاكتراث بأمور المسلمين وأحوالهم؛فهذا ممن لا يهتم بحمل الدعوة إلى الله على وجهها الذي ينبغي،وإنما اتخذ المنبر عادة أو تكسباً.فلا حول ولا قوة إلا بالله.فالواجب على الخطيب أن يضع جلَّ همِّه وتفكيره في خطبة الجمعة،ويفرغ لها الوقت الطويل لإعدادها الإعداد المناسب،وينظر في حاجات الناس ومقتضى حالهم كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم] الشامل في فقه الخطيبِ والخُطبَةِ.
أحد عشر:أُفضلُ أن تكون خطبةُ الجمعة مكتوبةً لا ارتجالية،وخاصةً في أيامنا هذه نظراً لأن كثيراً من خطباء المساجد هم خطباء بحكم الوظيفة،ولا يملكون مقومات الخطابة الحقيقية،فعندما يرتجل أمثال هؤلاء خطبة الجمعة،فإنهم لا يحسنونها أبداً وترى العجب العجاب منهم،كأخطاءٍ في الآيات القرآنية وأحكام التجويد وأخطاءٍ شنيعة في اللغة العربية،وخلطٍ في الأحكام الشرعيةٍ،وأفكار ينقصها الترتيبُ والتنسيق.
وخلاصة الأمر أن خطبة الجمعة من شعائر دين الإسلام،وأن قدرها عظيم،وأن خطبة الجمعة الموحدة بدعةٌ ابتدعتها الحكومات لتحقيق أهدافٍ خاصة،وأنها على خلاف الهدي النبوي،والأصل في العبادات التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،وأنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب في كل وقتٍ بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم،وخطبة الجمعة الموحدة على خلاف ذلك.وكذلك فإنها تقتل الإبداع عند الخطباء وتقضي على مهارات الخطابة ورونقها،وصار خطيب الجمعة كمذيع نشرة الأخبار.وخطبة الجمعة الموحدة تعتبر خرقاً سافراً لحرية التعبير،وتكميماً للأفواه،وحجراً على عقول الخطباء،وإن البديل عنها هو تنمية قدرات خطباء المساجد-الشرعية واللغوية والفكرية-وأن يُختار الخطباء الأكفاء من خريجي الكليات الشرعية،وأن يستعان في الخطابة بأستاذة كليات الدعوة والشريعة وأصحاب الكفاءات من غيرهم،وأن يُلزم خطباء المساجد بتحضير خطبة الجمعة.والله الهادي إلى سواء السبيل
 
أعلى