رد: استفسار حول معيار التفريق بين الفرض والواجب
لم يستخدم المتقدمون اصطلاح المشروعية وإنما استخدموا اصطلاح الثبوت، وظاهر كلامهم أنهم يتكلمون عن ثبوت الفعل، وثبوت الفعل هو ما يسميه المعاصرون بالمشروعية.
أخي الكريم د. نعمان بارك الله فيكم:
أخالفكم الرأي بأن الحنفية عنوا بالثبوت المشروعية، بل عنوا الوجوب لا غير.
وكلامهم واضحٌ بل صريح في الدلالة على ذلك. وكثير ممن نقلوا مذهب الحنفية صرحوا بذلك. وهذه بعض النقول التي تبين ذلك:
جاء في أصول البزدوي (2/ 301)
(الواجب ) وهو في الشرع اسم
لما لزمنا بدليل فيه شبهة مثل تعيين الفاتحة وتعديل الأركان والطهارة في الطواف...
وقال صدر الشريعة في شرح التلويح على التوضيح (1/ 405)
الفرض اسم
لما ألزمنا الله تعالى إياه، وثبت ذلك بطريق قطعي
وقال في ثنايا مسألة (2/ 78)
فإن الفرض عندكم ما ثبت
لزومه بدليل قطعي والواجب ما ثبت
لزومه بدليل ظني
وجاء في التقرير والتحبير علي تحرير الكمال بن الهمام (2/ 80):
(فإن ثبت
الطلب الجازم بقطعي) دلالة من كتاب أو وثبوتا أيضا من سنة أو إجماع (فالافتراض) إن كان المطلوب فعلا غير كف (والتحريم) إن كان المطلوب فعلا هو كف (أو) ثبت
الطلب الجازم (بظني) دلالة من كتاب أو دلالة أو ثبوتا من سنة أو إجماع (فالإيجاب) إن كان المطلوب فعلا غير كف (وكراهة التحريم) إن كان المطلوب فعلا هو كف
وقال أبو الحسين في المعتمد (1/ 340):
وحكى الشيخ أبو عبد الله عن أهل العراق أن الفرض هو الواجب ا
لذي طريق وجوبه مقطوع به وأن الواجب الذي ليس بفرض هو ما كان
طريق وجوبه يدخله الأمارات والظنون
وقال الغزالي (=الجويني) في المنخول (ص: 138):
مسألة قال أبو حنيفة رحمه الله الفرض هو ما يقطع
بوجوبه والواجب ما يتردد فيه وعندنا لا فرق
وقال السمعاني في قواطع الأدلة في الأصول (1/ 131):
مسألة: الفرض والواجب واحد عندنا
وزعم أصحاب أبي حنيفة أن الفرض ما
ثبت وجوبه بدليل مقطوع به والواجب ما
ثبت وجوبه بدليل مظنون
وقال الرازي في المحصول (1/ 97):
اعلم أنه لا فرق عندنا بين الواجب والفرض والحنفية خصصوا اسم الفرض بما
عُرف وجوبه بدليل قاطع والواجب بما
عُرف وجوبه بدليل مظنون قال
أبو زيد رحمه الله: الفرض عبارة عن التقدير قال الله تعالى فنصف ما فرضتم أي قدرتم وأما الوجوب فهو عبارة عن السقوط قال الله تعالى فإذا وجبت جنوبها أي سقطت إذا ثبت هذا فنحن خصصنا اسم الفرض
بما عُرف وجوبه بدليل قاطع لأنه هو الذي يعلم من حاله أن الله تعالى قدره علينا
وقال الأصفهاني في بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 337):
وفي الشرع الفرض والواجب لفظان مترادفان عندنا.
وقالت الحنفية: الفرض: المقطوع به، وهو ما
عرف وجوبه بدليل قاطع. والواجب: المظنون، وهو ما
عرف وجوبه بدليل مظنون.
ومن المعاصرين قال الجديع في تيسير علم أصول الفقه (ص: 23)
(الفَرْضُ) هوَ (الواجبُ) عند جمهورِ الفُقهاءِ، فيقولونَ: (صومُ رمضانَ واجبٌ) كما يقولونَ: (فرضٌ) ، ويقولونَ: (زكاةُ الفِطرِ فرضٌ) كما يقولونَ: (واجبةٌ) .
وخالفهم في ذلكَ الحنفيَّةُ ـ وهو رِوايةٌ عن الإمامِ أحمد ـ ففرَّقوا بينَ (الفرضِ) و (الواجبِ) لا من جهَّة التَّعريفِ المتقدِّم، وإنما من جهةِ طريقِ ورودِ الدَّليل
الدَّال على الوجوبِ أو الفرضيَّةِ، فكان عندهم ما وردَ الدَّليل الدَّالِّ على الوجوبِ أو الفرضيَّةِ، فكان عندهُم ما وردَ بدليلٍ قطعيِّ الورودِ كالقرآن والحديثِ المتواترِ فهو فرضٌ، وما وردَ بدليلٍ ظنِّيِّ الوُرودِ كحديثِ الآحادِ الصَّحيحِ فهو واجبٌ، وعليه فـ (الواجبُ) أدنَى في الحتميَّةِ عندهُم من (الفرضِ) بهذهِ الحيثيَّةِ.
أما الدليل، فمنه قول عبد العزيز البخاري في شرحه على البزدوي: "والصحيح ما قيل: الفرض ما ثبت بدليل قطعي واستحق الذم على تركه مطلقا من غير عذر. فقوله: ما ثبت بدليل قطعي يتناول المندوب والمباح إذ قد يثبت كل واحد منهما بدليل قطعي أيضا..." (كشف الأسرار، ج2، ص439) والكلام في غاية الصراحة أن المراد قطعية ثبوت الدليل (المشروعية)، وليس قطعية الوجوب.
بل هذا دال على عكس المدعى. وبذكر تمام كلام البخاري، يظهر أنه لم يعن ما تبادر إلى الذهن من أنه يُدخل المندوب والمباح في حد الواجب. فإنه قال: كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (2/ 302):
((والصحيح ما قيل الفرض: ما ثبت بدليل قطعي واستحقق الذم على تركه مطلقا من غير عذر. فقوله "ما ثبت بدليل قطعي" يتناول المندوب والمباح إذ قد يثبت كل واحد منهما بدليل قطعي أيضا كقوله تعالى {وافعلوا الخير} [الحج: 77] {وكلوا واشربوا} [البقرة: 187] . واحترز بقوله "واستحق الذم على تركه" عنهما [أي المندوب والمباح]....))
فظهر بهذا أن البخاري لا يدخل المندوب والمباح الثابتين بدليل قطعي في حد الواجب بل على العكس احترز عنهما بعبارة "استحق الذم عى تركه" والمندوب والمباح لا ذم على تركهما. إذن هو لا يعني مجرد المشروعية كما تبادر إليكم. وكلامه ينسجم مع كلام بقية الحنفية. والله أعلم.
والحاصل من هذا أن قولكم:
نعم، لو قالوا إن الفرض ما ثبت وجوبه قطعا، والواجب ما كان ثبوت وجوبه ظنيا، لكان المعيار معقولا ومنضبطا إلى حد كبير
هو الصواب لا غير وأن الحنفية بريئون من تهمة الخلط الفاحش التي لزمت عن تفسير الثبوت بالمشروعية.
والقول بأنه ينقل عن الدبوسي لا ينهض لوحده دليلا وهو يحتاج إلى تحقيق؛ لأنه قد يكون العكس، أي الدبوسي هو الذي نقل عن الشاشي
جاء في أصول الشاشي (ص: 108)بحث كَون الْمُقْتَضى زِيَادَة على النَّص:
وعَلى اعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى قَلِيل يدارالحكم على تِلْكَ الْعلَّة
قَالَ الإِمَام القَاضِي أَبُو زيد لَو أَن قوما يعدون التأفيف كَرَامَة لَا يحرم عَلَيْهِم تأفيف الْأَبَوَيْنِ
وجاء أيضا:
أصول الشاشي (ص: 373)
فصل:
قَالَ القَاضِي الإِمَام أَبُو زيد الْمَوَانِع أَرْبَعَة أَقسَام
مَانع يمْنَع انْعِقَاد الْعلَّة
ومانع يمْنَع تَمامهَا
ومانع يمْنَع ابْتِدَاء الحكم
ومانع يمْنَع دَوَامه
أظنه الآن بات واضحا أن مؤلف هذا الكتاب متأخر عن أبي زيد الدبوسي. وليس هو الشاشي (نظام الدين أبو علي أحمد بن محمد بن إسحاق الشاشي (المتوفى: 344هـ). وأن محقق الكتاب غش الناس بدعوى نسبة هذا الكتاب إلى الشاشي المتقدم
وأدنى تأمل في الكتاب يظهر لك أن لغته الأصولية ليست لغة طبقة القرن الثالث وأوائل الرابع من الأصوليين.