العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

منهج الامام مالك في التنكيت والتبكيت

إنضم
11 يوليو 2012
المشاركات
350
التخصص
أصول فقه
المدينة
قرن المنازل
المذهب الفقهي
الدليل
منهج الامام مالك في التنكيت والتبكيت
من القواعد المقررة في اصول العلم ، أنه يمتنع الافادة من الروايات دون الوقوف على العلامات .
فلكل رواية علامة . وسبر مناهج العلماء من أنفع السبل للافادة من علومهم ورواياتهم . وقد قال الباري سبحانه : "ولكل وجهة هو موليها " ( البقرة : 148 ) .
والمتأمل لسيرة الامام مالك (ت:179هـ) امام دار الهجرة ، رحمه الله تعالى، يلحظ أنه تميز عن غيره من الأئمة بثلاث خصال : الأولى : الحزم في التعليم ، والثانية : الصبر في بذل العلم ، والثالثة : نقد الناس . وقد أشار الى بعض تلك الخصال الليث بن سعد (ت: 175هـ ) رحمه الله تعالى، حين قال :" لقيتُ مالكا في المدينة فقلت له : إني أراك تمسح العرق عن جبينك ، قال : عرقت مع أبي حنيفة ، إنه الفقيه . ثم لقيتُ ابا حنيفة وقلت له : ما أحسن قبول هذا الرجل منك ، فقال ابو حنيفة : ما رأيت أسرع منه بجواب صادق ، ونقد تام " .
واذا كان الامام مالك قد جمع بين العلم والعمل ومعرفة الناس، فانه قد نال المهابة بسمته ودلِّه وطريقته، حتى تحدث بذلك القريب والبعيد . قال الشاعر :
يأبى الجواب فما يراجع هيبة والسائلون نواكس الاذقان
أدب الوقار وعز سلطان التقى فهو المطاع وليس ذا سلطان

وقد كان للامام مالك منهج فريد في التنكيت والتبكيت . والمقصود بهما : أن التنكيت الدلالة على العلم والفقه بأدنى اشارة . والتبكيت : التوبيخ والتقريع بلطف خفي . وهما منهج تربوي مستمد من القران المجيد .
· منهج الامام مالك في التنكيت والتبكيت :

1-التنبيه على وجوب الاخلاص في جميع الأحوال :
ويستدل على ذلك من تحريه للصدق في القول والعمل في سائر اموره ، وعدم اصغائه لمدح الناس أو ذمهم . ولما عكف على تصنيف الموطأ ، قيل لمالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب،وقد شركك فيه الناس،وعملوا أمثاله، فقال: ائتوني بما عملوا،فأتي بذلك فنظر فيه، ثم نبذه فقال: لتعلمن انه لايرتفع إلا ما أريد به وجه الله ،قال: فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار،وما سُمع لشيء منها بعدُ ذكر يذكر . وهذا تنكيت منه قدس الله روحه بوجوب قصد النية الصالحة في قلب كل مؤمن، مهما كانت الأسباب الموجبة لضد ذلك . وهي أيضا تبكيت لمن يتفاخرون بأعمالهم من أجل الذكر وحب الدنيا .

2- مراعاة عرف الناس وعاداتهم إذا كان في ذلك مصلحة شرعية :

ويستدل على ذلك برده على طلب الخليفة أبو جعفر المنصور أن يجمع الناس على علم واحد ، فقال الإمام مالك : "يا أمير المؤمنين ،إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – تفرقوا في البلاد ، فأفتى كلٌ في مصره بما رآه ، إن لأهل هذه البلاد قولاً ولأهل المدينة قولاً "، فقال أبو جعفر : "يضرب عليه عامتهم بالسيف، وتقطع عليه ظهورهم بالسياط " ، فقال مالك : "يا أمير المؤمنين لا تفعل؛ فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل وسمعوا أحاديث وروايات ، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به ، ودالوا له من اختلاف أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وغيرهم ، وإن ردهم عما اعتقدوا شديد ، فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم " ..
ففي جوابه تنكيت بمراعاة المصالح الشرعية ونبذ الفرقة ، ولأن بعض الاختلاف رحمة وسعة . وفيه تبكيت على المخالفين لشريعة الله بالتضييق على الناس فيما لم يُلزموا به .

3- التحري والتدقيق في جميع الأحوال :
ويستدل على ذلك بقوله :"لقد أدركتُ في هذا المسجد (المسجد النبوي) سبعين ممن يقول: قال فلان قال رسول الله، فما أخذتُ عنهم شيئا، وإن أحدهم لو أؤتمن على بيت مال لكان أمينا عليه ،إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن" . ففي قوله هذا تنكيت بوجوب وزن أقوال الرجال بميزان العدل . وفيه تبكيت لمن يروي عن كل من هب ودب . ويوضح هذا قوله الآخر :" لايؤخذ العلم من أربعة ، ويؤخذ ممن سواهم: لا يؤخذ من سفيه وإن كان أروى الناس ،
ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الى بدعته، ولا من كذاب يكذب فى أحاديث الناس وان كان لا يتهم على حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ،ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة اذا كان لا يعرف ما يحمل وما يحدث به " .

4-التنبيه على ضرورة التفكير في النوازل وأدلتها ووجوب الورع في جوابها :
ويستدل على ذلك بقوله : " إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة ، ما اتفق لي فيها رأيٌ الى الآن " .


وقوله : " ربما وردت عليَّ مسألة فأسهر فيها عامة ليلتي " . وكان تلاميذه يلاحظون عليه التردد في بعض المسائل ، ويستفهمون منه عن سبب ذلك ، فيبكي رحمه الله ويقول : إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم . ففي أجوبته هذه تنكيت بوجوب التعقل في أجوبة أسئلة الناس . وفيها تبكيت لمن يجيب عن كل شاردة وواردة في المسائل بلا ورع .

5- نبذ المداراة في انزال الناس منازلهم :
ويستدل على ذلك بقول ابن المنذر( ت:318هـ ) رحمه الله تعالى : كانت لمالك حلقة يجالسه فيها فقهاء المدينة ، ولم يكن يوسع لأحدهم ولا يرفعه ، بل يدع أحدهم حيث انتهى به المجلس . ففي فعل الامام مالك تنكيت بأن منزلة المسلم بتقواه وورعه لا بكثرة روايته ومعارفه ، وفيها تبكيت لمن يقدمون أهل الدنيا على غيرهم من أهل التقى والصلاح . وعمله بهذا الأصل من أسباب حدته وشدته رحمه الله .

6-التقعيد في جواب الأسئلة المشكله :
ويستدل على ذلك بالأثر المشهور حين سُئل عن الاستواء ، فقال : " الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والايمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ". وقد جمع مالك في الموطأ كثيرا من المراسيل والبلاغات والموقوفات والاستنباطات ، مما يندرج تحت هذا الأصل . ولما سئل عن أهل السنة من هم ؟ قال : "الذين ليس لهم لقب يعرفون به ، لا جهمي ، ولا رافضي ، ولا قدري ". وهذا من دقة فهمه في اختصار الجواب .

7- العلم الشرعي اذا كان ممزوجا بالهزل قل الانتفاع به، وقل توقير اهله :
ويستدل على ذلك بقول ابن وهب ( ت: 197هـ ) رحمه الله تعالى : قدمتُ المدينة فسألني الناس أن اسأل لهم مالكا عن الخنثى ، وقد اجتمعوا وكنتُ أنا الذي اسأله لهم، فهبتُ ان اسأله ،وهابه كل من في المجلس أن يسأله . وكان الشافعي( ت: 204هـ ) رحمه الله تعالى ، يقول :" ما هبتُ أحدا قطُّ، هيبتي من مالك بن أنس " . وهذا الأصل من السنن المهجورة في باب العلم ، فإلى الله المشتكى .


8- الأعمال التي لا تستند الى دليل صحيح لا يجوز العمل بها :
ويستدل على ذلك بقول الامام مالك :" من ابتدع في الاسلام بدعه يراها حسنة ، فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم ، خان الرسالة، لان الله يقول ( اليوم أكملت لكم دينكم ) فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا ". وفي قوله تنكيت بوجوب العمل بالأصول المتبعة عند السلف . وفيها تبكيت للمتأخرين من المالكية وغيرهم ممن خالفوا أُصول المذهب .

9- عزو الفوائد الى مصادرها من بركة العلم :
ويستدل على ذلك بروايته في الموطأ وفي دروسه : على هذا أدركت أهل العلم ببلدنا ،
وأخبرني من لا أتهم من أهل العلم ، أخبرني الثقة ، هذا أحسن ما سمعت . ففي ذلك تنكيت بأن العلم رحم بين أهله ، وتستجلب بركته بعزوه لمصدره . وفيه تبكيت لمن يكتم مسائل العلم أو ينتقص أهلها .

10- تأديب المعاند في أبواب العلم اذا تبين ميله للباطل :
ويستدل على ذلك بقول الامام مالك للرجل الذي سال عن الاستواء : " ما اظنك الا ضالا ، أو مبتدعا ، اخرج من المسجد ". ففي زجره للسائل تنكيت بأن فهم سلف الأمة هو ما يبنى عليه في الرواية والدلالة . وفيه تبكيت للخائضين في مسائل العلم بدون استصحاب الأصل الوارد في نصوص الشرع .
نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا . وأن يرزقنا العمل بما علمنا ، هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله أولا وآخرا .

المصادر :


1- ترتيب المدارك وتقريب المسالك / للقاضي عياض .
2- شفاء السالك في ارسال مالك / لعلي القاري .

3- الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب / ابن فرحون .
4- حجة الله البالغة / للدهلوي .
5- مسائل العقيدة التي قررها ائمة المالكية / للحمادي .

 
إنضم
21 فبراير 2010
المشاركات
456
الإقامة
الإمارات العربية المتحدة
الجنس
ذكر
الكنية
أبو حاتم
التخصص
أصول الفقه ومقاصد الشريعة
الدولة
الإمارات العربية المتحدة
المدينة
أبوظبي
المذهب الفقهي
المذهب المالكي
رد: منهج الامام مالك في التنكيت والتبكيت

رائع!!!
أحسنت أيما إحسان، أحسن الله إليك.
 
إنضم
16 أبريل 2013
المشاركات
78
الكنية
أبو الحسن
التخصص
الفقه المالكي وأصوله
المدينة
الدار البيضاء
المذهب الفقهي
الفقه المالكي
رد: منهج الامام مالك في التنكيت والتبكيت

مشاركة حميدة أخي أحمد، حفظ الله أناملك وسدد فهمك وصوّب قلمك.
ورد في أثناء كلامكم أخينا بارك الله فيكم اتصاف الإمام مالك بالحزم في تعليمه وفتياه، من القصص الدالة على ذلك: أنه رحمه الله مرة سئل عن مسألة فقال لا أدري ! فقال له السائل: إنها مسألة خفيفة سهلة !! فغضب الإمام وقال: مسألة خفيفة وسهلة !! ليس في العلم شيء خفيف. أما سمعت قول الله تعالى: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا. فالعلم كله ثقيل، وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة. ترتيب المدارك: 1/ 185.
وفي المصدر نفسه: قال ابن وهب: جاء رجل يسأل مالكاً عن مسألة.
فبادر ابن القاسم فأفتاه فأقفل عليه مالك كالمغضب وقال له: جسرت على أن تفتي يا عبد الرحمن؟ يكررها عليه، ما أفتيت حتى سألت هل أنا للفتيا موضع. فلما سكن غضبه قيل له من سألت؟ قال: الزهري وربيعة الرأي. 1/ 143.
وفقكم الله تعالى أخي لمزيد من العطاء وزادكم علما نافعا وعملا صالحا مباركا.
 
أعلى