لمعرفة حُكم تقييد مُطلق الكتاب بخبر الواحد لا بُدَّ أولًا من التمهيد بذكر تعريف الخاص وحكمه، ومعنى المطلق والمقيد وحكم كل منهما.
تعريف الخاص: هو اللفظ الموضوع للدلالة على معنى واحد على سبيل الانفراد.
أي أنه اللفظ الذي يدل على معنى واحد لا يقبل الشركة في ذات المعنى المقصود، سواء أكان ذلك المعنى جنسًا كحيوان، أم نوعًا كإنسان وكرجل، أم شخصًا كزيد، فما دام المُسمى المراد واحدًا غير متعدد مقطوع الشركة فهو الخاص.
حكم الخاص: يدل الخاص على معناه الذي وضع له على سبيل القطع واليقين، ولا يحتاج إلى بيان، فخاص القرآن قطعي في دِلالته لا يحتاج إلى بيان، وكل تغيير في حكمه بنصٍّ آخر هو نسخٌ له، فلا بد أن يكون الناسخ في قوَّة المنسوخ من حيث قوة الثبوت، فإذا لم يكن كذلك لم يُقبل على وجه يُنسخ القرآن - راجع كشف الأسرار (1/ 30)، والتوضيح على التلويح (1/ 33)، وأصول السرخسي (1/ 24)، وأصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (1/ 205)، أبو حنيفة لأبي زهرة ص(217).
معنى المطلق: هو اللفظ الخاص الذي يدل على فرد شائع أو أفراد على سبيل الشيوع ولم يتقيّد بصفة من الصفات.
حكم المطلق: والمطلق يجري على إطلاقه ما لم يرد دليل يدلّ على التقييد، وذلك إذا ورد مطلقًا في موضع، دون أن يتقيَّد في موضع آخر؛ مثل قوله تعالى في كفارة اليمين: (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [المائدة: 89] فإن الرقبة بإطلاقها تدلُّ على إجزاء المؤمنة والكافرة.
فإن دلَّ الدليل على تقييد المطلق عُمِلَ بالقيد كما في قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء: 21] فإن الوصية وردت مطلقة عن التقييد بمقدار معين، ولكن قام الدليل على تقييدها بالثُلث في الحديث المشهور: أن سعد بن أبي وقاص سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصية فقال: (الثُلث والثلث كثير) -أخرجه البخاري (2744)، ومُسلم (4296)-.
معنى المقيد: لفظ خاص يدل على فرد شائع مقيد بصفة من الصفات؛ فالخاص قُيِّدَ بما قلَّلَ شيوعه، والواقع أن المقيد هو مطلق لحقه قيد أخرجه من الإطلاق إلى التقييد.
حكم المقيد: المقيد يُعمل به على تقييده ما لم يدل دليل على إلغاء القيد، فيُلغى حينئذٍ القيد اللاحق به، مثاله في كفارة الظهار: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) [المجادلة: 4] ورد الصيام مقيدًا بتتابع الشهرين، وبكونه قبل العودة إلى التَّماس والاستمتاع بالزوجة التي ظاهر منها، فلا يُجزئ في كفارة الظهار تفريق الصيام، كما لا يجزئ كونه بعد الاستمتاع بالزوجة وإن كان متتابعًا - أصول الفقه الإسلامي (1/ 208)، وراجع: مسلم الثبوت (1/ 360)، والبحر المحيط (3/ 413).
اختلف الأصوليّون في تقييد مُطلق الكتاب بخبر الواحد، فذهب الجمهور إلى جوازه، وذهب الحنفية إلى المنع من ذلك، وهذا الخلاف مبنيٌّ على مسألة أخرى؛ وهي: هل الزيادة الطارئة على النص نسخ له أولا؟ فقال الجمهور: الزيادة تقييد أو تخصيص لا نسخ. وقال الحنفية: هي نسخ. ومحلُّ الخلاف فيما إذا تعلّقت الزيادة غير المُستقلة بحُكم المزيد عليه ووردت متأخرة عن المزيد عليه بحيث يُمكن النسخ.
وتظهر ثمرة هذا الخلاف في إثبات تلك الزيادة بما لا يجوز النسخ به كخبر الواحد، فعند الحنفية الذي يَرَون أن تلك الزيادة نسخ لا تثبت الزيادة بخبر الواحد؛ لأن خبر الواحد لا ينسخ المتواتر وهو القرآن، وعند الجمهور الذين لا يرون أن تلك الزيادة نسخ يقولون: تثبت الزيادة بخبر الواحد - ويُراجع: أصول الفقه الإسلامي (2/ 1009)، والبحر المحيط (4/ 143)، وأصول السرخسي (2/ 82)، وكشف الأسرار (3/ 192)، والتقرير والتحبير (3/ 75).
وهذه الزيادة قد تكون بزيادة جزء في الواجب، كزيادة النفي في حدّ الزنا، عملًا بحديث: (البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة) -أخرجه مسلم (4509)- زيادة على قوله تعالى في حدّ الزنا: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ
) [النور: 2] فعند الحنفية النفي ليس من الحدّ، بل عقوبة تعزيرية موكولة للإمام، وجعله الجمهور جُزءًا من الحدّ - وفي تلك المسألة تفصيل يطول.
وقد تكون بزيادة شرط في الواجب كاشتراط النيَّة في الوضوء عملًا بحديث: (إنما الأعمال بالنيَّات) -أخرجه البخاري في فاتحة الجامع الصحيح، ومسلم (5036)- زيادة على مضمون قوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
) [المائدة: 6]؛ فعند الحنفية النية ليست شرطًا في الوضوء ولكنها مستحبة، وجعلها الجمهور شرطًا - وفي تلك المسألة تفصيل يطول أيضًا.
يقول صاحب فواتح الرحموت (2/ 91): وأما زيادة جزء في الواجب كالتغريب في حد الزنا أو زيادة شرط بعد إطلاق الواجب عنه، كاشتراط الإيمان في رقبة اليمين فهل هو نسخ لحكم المزيد عليه؟ فالحنفية قالوا: نعم نسخ. وهو المسمى عندهم بالنسخ بالزيادة، والشافعية والحنابلة وأكثر المعتزلة قالوا: لا نسخ.
ثم قال: لنا أن المطلق عن تلك الزيادة دلَّ على الإجزاء مطلقًا، سواء مع الزيادة أو مجردًا عنها بدلًا وليس هناك صارف عنه؛ لأن الكلام فيما لا صارف غير هذه الزيادة، وهي مفروضة الانتقاء زمان وجود المطلق فيحمل على الإطلاق ويدل عليه، والتقييد بجزء أو شرط يُنافيه فإنه يقتضي عدم الإجزاء بدونه، فيرفع هذا التقييد حكمًا شرعيًّا، وهو إجزاء الأفراد التي هي مجردة عن هذا التقييد، وهذا ظاهر جدًّا، ولأجل أن زيادة جزء أو شرط نسخ امتنع عندنا الزيادة بخبر الواحد على القاطع كالكتاب، وإلا لزم انتساخ القاطع بالمظنون. اهـ.
وقال صدر الشريعة -كما في شرح التلويح على التوضيح (2/ 75)-: أما زيادة الجزء فإنما تكون بثلاثة أمور: الأول: بالتخيير في اثنين بعدما كان الواجب واحدًا؛ فالزيادة هُنا ترفع حرمة ترك ذلك الواجب الواحد. والثاني: بالتخيير في الثلاثة بعدما كان الواجب أحد اثنين؛ فالزيادة هنا ترفع حرمة ترك أحد هذين الاثنين. والثالث: بإيجاب شئ زائد فالزيادة هنا ترفع إجزاء الأصل. وأما زيادة الشرط فإنها ترفع إجزاء الأصل. وحُرمة ترك الواجب الواحد وحرمة ترك أحد اثنين وإجزاء الأصل أحكام شرعية فرفعها عند الحنفية يُعَدُّ نسخًا. اهـ.
وأخبار الآحاد الواردة بزيادة على ما في القرآن تُعتبر كلها مردودة أو مُهملة عند الحنفية؛ لأنهم يمنعون أن تفيد هذه الأحاديث الإلزام بالفعل أو الترك على وجه الفرضية؛ لأن القول بالفرضية يقتضي نسخ إطلاق القرآن وهو لا يجوز عندهم، وهذا لا يمنع أن يُعمل بها في بعض الأحيان على جهة أخرى غير الفرضية، أي على وجه لا ينسخ القرآن، فإذا لم يكن هناك وجه لذلك لم يعملوا بها - راجع: التقرير والتحبير (2/ 218)، وفواتح الرحموت (2/ 92)، والتلويح على التوضيح (2/ 77).
فمثلًا جاء النص القرآني بالأمر بالطواف مطلقًا عن أي في قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] وجاء حديث النبي صلى الله عليه وسلم مشترطًا الطهارة لصحة الطواف وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (الطواف حول البيت مثل الصلاة) -أخرجه الترمذي (975)-. وهذا الشرط زيادة على ما ورد في النص القرآني، فلم يقولوا بفرضيّة الطهارة للطواف؛ لأن ذلك يُعتبر نسخًا لإطلاق القرآن، وقالوا بوجوبه بحيث لو أخلَّ به جبر بدم.
ومن ذلك قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل: 20] أفاد بإطلاقه فرضية قراءة أي جزء من القرآن في الصلاة فاتحة أو غيرها، وجاء حديث: (لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب) -أخرجه البخاري (756)، ومسلم (900)-، فأفاد أن الصلاة لا تصح بدون قراءة الفاتحة؛ وهذا نسخٌ لإطلاق الآية، فأثبتوا بالقرآن فرض قراءة ما تيسر، وبالخبر وجوب قراءة الفاتحة؛ لأن الزيادة بطريق الوجوب لا ترفع إجزاء الأصل فلا تكون نسخًا فلا تمتنع، بخلاف الزيادة بطريق الفرضية بمعنى عدم الصحة بدونها فإنها ترفع حكم الكتاب.
قال ابن أمير الحاج في التقرير والتحرير (2/ 219): (وعن لزوم الزيادة بالآحاد منعوا إلحاق الفاتحة والتعديل والطهارة بنصوص القراءة والأركان والطواف فرائض، بل ألحقوها وجابات للمذكورات) فلو قالوا: لا تجوز الصلاة بدون الفاتحة والتعديل والطواف بلا طهارة بهذه الأخبار الآحاد كان نسخًا لهذه الإطلاقات بها، وهو لا يجوز فرتبوا عليها موجبها من وجوبها فيأثم بالترك ويلزم الجابر فيما شرع فيه ولا تفسد. اهـ. وراجع: كشف الأسرار (3/ 196).
وقال الزركشي في البحر المحيط (4/ 147): واعلم أن فائدة هذه المسألة: أن ما ثبت أنه من باب النسخ وكان مقطوعًا به فلا يُنسخ إلا بقاطع كالتغريب، فإن أبا حنيفة لما كان عنده نسخًا نفاه؛ لأنه نسخٌ للقرآن بخبر الواحد، ولما لم يكن عند الجمهور نسخًا قبلوه؛ إذ لا معارضة، وقد ردوا بذلك أخبارًا صحيحةً لما اقتضت زيادة على القرآن، والزيادة نسخ ولا يجوز نسخ القرآن بخبر الآحاد، فردوا أحاديث تعيين الفاتحة في الصلاة ، والشاهد واليمين، وإيمان الرقبة، واشتراط النية في الوضوء. اهـ.
وقال عبدالعزيز البخاري في كشف الأسرار (3/ 192- 193): اتَّفق العلماء على أن الزيادة على النص إن كانت عبادة مستقلّة بنفسها كزيادة وجوب الصوم أو الزكاة بعد وجوب الصلوات لا يكون نسخًا لحكم المزيد عليه؛ لأنها زيادة حكم في الشرع من غير تغيير للأول.
واختلفوا في غير هذه الزيادة إذا ورد متأخرًا عن المزيد عليه تأخرًا يجوز القول بالنسخ في ذلك القدر من الزمان؛ كزيادة شرط الإيمان في رقبة الكفارة، وزيادة التغريب على الجلد في جلد الزاني، بعد اتِّفاقهم على أن مثل هذه الزيادة لو وردت مقارنة للمزيد عليه لا تكون نسخًا؛ كورود رد الشهادة في حدِّ القذف مقارنًا للجَلد فإنه لا يكون نسخًا له للقرآن -يُشير إلى قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 4]-، فقال عامة العراقيين من مشايخنا وأكثر المتأخرين من مشايخ ديارنا: إنها تكون نسخًا معنًى وإن كان بيانًا صورةً، وقال أكثر أصحاب الشافعي: إنها لا تكون نسخًا.
ثم قال: تمسك من قال بأن الزيادة ليست بنسخ أصلًا بوجوهٍ من الكلام:
أحدها/ أنهم بنوا على أصلهم أن المطلق من أنواع العام عندهم وأن العام لا يوجب العلم قطعًا؛ بل يجوز أن يُراد به البعض وبالمطلق المقيد، وإذا كان كذلك ظهر بورود الزيادة المقيدة للمطلق أن المراد من العام البعض ومن المطلق المقيد، فيكون تخصيصًا وبيانًا لا نسخًا؛ وذلك مثل الرقبة المذكورة في كفارة اليمين والظِهار، فإنها اسمٌ عام يتناول المؤمنة والكافرة والزمنة وغيرها، فإخراج الكافرة منها بزيادة قيد الإيمان يكون تخصيصًا لا نسخًا، كإخراج الزمنة والعمياء منها وكإخراج أصل الذمة من لفظ المشركين.
والثاني/ أن حقيقة النسخ لم توجد في الزيادة؛ لأن حقيقة تبديل ورفع للحكم المشروع والزيادة تقرير للحكم المشروع وضم حكم آخر إليه، والتقرير ضد الرفع فلا يكون نسخًا، ألا ترى أن إلحاق صفة الإيمان بالرقبة لا يُخرجها من أن تكون مستحقة للإعتاق في الكفارة وإلحاق النفي بالجلد لا يخرج الجلد من أن يكون واجبًا؛ بل هو واجب بعده كما كان قبله فيكون وجوب التغريب ضم حكم إلى حكم وذلك ليس بنسخ كوجوب عبادة بعد عبادة.
والثالث/ أن الزيادة على النص لو كان نسخًا لكان القياس باطلًا؛ لأن القياس إلحاق غير امنصوص وزيادة حكم لم يوجبه بصيغته وحين كان القياس جائزًا ودليلًا شرعيًّا علم أن الزيادة ليست بنسخ.
والرابع/ أن النسخ أمر ضروري؛ لأن الأصل في أحكام الشرع هو البقاء، والقول بالتخصيص والتقييد يوجب تغير الكلام من الحقيقة إلى المجاز ومن الظاهر إلى خلافه، لكنه متعارف في اللغة فكان الحمل عليه أَوْلَى من الحمل على النسخ.
واحتجَّ من قال بأن الزيادة نسخ معنًى بأن النسخ بيان انتهاء حكم بابتداء حكم آخر. وهذا عند من شرط البدل في النسخ، فأما عند من لم يشترط ذلك فلا حاجة إلى قوله بابتداء حكم آخر، وهذا المعنى موجود في الزيادة على النص فيكون نسخًا، وبيانه أن الإطلاق معنى مقصود من الكلام وله حكم معلوم، وهو الخروج عن العُهدة بالإتيان بما يُطلق عليه الاسم من غير نظر إلى قيد، والتقييد معنى آخر مقصود على مضادة المعنى الأول؛ لأن التقييد إثبات القيد والإطلاق رفعه وله حكم معلوم، وهو الخروج عن العهدة بمباشرة ما وجد فيه القيد دون ما لم يوجد فيه ذلك، فإذا صار المطلق مُقيَّدًا لا بد من انتهاء حكم الإطلاق بثبوت حكم التقييد، لعدم إمكان الجمع بينهما للتنافي؛ فإن الأول يستلزم الجواز بدون القيد، والثاني يستلزم عدم الجواز بدونه. وإذا انتهى الحكم الأول بالثاني كان الثاني ناسخًا له ضرورة. اهـ.
وقد استدل الحنفية لصحة عرض الحديث على القرآن بأدلة نقلية، وسوف أعرض لتلك الأدلة مع ذكر ما اعتُرض به عليها:
الدليل الأول: حديث: (تكثر لكم الأحاديث من بعدي، فإذا رُوي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى، فما وافق كتاب الله فاقبلوه وما خالفه فردوه). راجع: أصول البزدوي (3/ 10)، وأصول السرخسي (1/ 364)، وفواتح الرحموت (1/ 350).
وهذا الحديث رُوي بألفاظ مختلفة من طرق لا تخلو من مقال، وسوف أذكر بعض طرقه مع بيان عللها، وذكر ما قاله أهل العلم فيه:
1- روى أبو يوسف عن خالد بن أبي كريمة عن أبي جعفر الباقر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا اليهود فسألهم فحدَّثوه حتى كذبوا على عيسى عليه السلام، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فخطب الناس فقال: (إن الحديث سيفشو عني، فما آتاكم عني يوافق القرآن فهو عني، وما آتاكم عني يُخالف القرآن فليس عني). الرد على سير الأوزاعي ص(25).
قال الإمام الشافعي في الرسالة ص(225) فقرة (618، 619): ما رَوَى هذا أحدٌ يَثْبُتُ حديثُه صَغُرَ ولا كَبُرَ، وإنما هي روايةٌ منقطعةٌ عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شئ. اهـ.
قال البيهقي في المدخل إلى السنن: خالد مجهول، وأبو جعفر ليس بصحابيٍّ فالحديث منقطع، وقد رُوي الحديث من أوجهٍ أُخر كلها ضعيفة. اهـ. مفتاح الجنة ص(21) نقلًا عن المدخل إلى السنن، ولم أجده في القطعة المطبوعة منه.
فقد بيَّن البيهقي أن الشافعيَّ يُضَعِّفُ هذه الرواية بأمرين: جهالة خالد، وإرسال أبي جعفر. فأما جهالة خالد فلا يُوافَق عليها، فقد رَوَى عنه جماعة من الرواة، وتكلَّم عنه الأئمة جرحًا وتعديلًا -خالد بن أبي كريمة روى عنه إسرائيل والسفيانان وشريك وشُعبة ووكيع وغيرهم، ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو داود، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال النسائي: ليس به بأس. راجع: تهذيب الكمال (8/ 156)، والجرح والتعديل (3/ 349)-، فانتفت عنه جهالة العين والحال، وثبتت عدالته بتوثيق أحمد وابن معين وأبي داود،
وأما الإرسال فإن المُرسل مما يحتج به عند الحنفية كما هو معلوم.
2- رَوَى الطبراني في المعجم الكبير من طريق يزيد بن ربيعة عن أبي الأشعث عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أن رحا الإسلام دائة). قالوا: فكيف نصنع يا رسول الله، قال: (اعرضوا حديثي على الكتاب، فما وافقه فهو منه وأنا قلته) -المعجم الكبير (2/ 97)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 170): رواه الطبراني في الكبير، وفيه يزيد بن ربيعة وهو متروك منكر الحديث. انتهى-.
وهذا الإسناد له علِّتَان: يزيد بن ربيعة ضعيف -يزيد بن ربيعة قال عنه البخاري: أحاديثه مناكير. وقال أبو حاتم وغيره: ضعيف. وقال النسائي: متروك. وقال الجوزجاني: أخاف أن تكون أحاديث موضوعة. وقال ابن عدي: أرجوا أنه لا بأس به. راجع ترجمته في ميزان الاعتدال (4/ 422) والكامل (7/ 259)-، ولا يُعرف له سماع من أبي الأشعث، وشرحبيل بن آدَهْ أبو الأشعث الصنعاني عامة أحاديثه عن ثوبان بواسطه أبي أسماء الرحبي؛ ولذلك قال ابن الجوزي: روايته عن ثوبان منقطعة. راجع: معالم السنن (4/ 276)، وتهذيب التهذيب (4/ 280)، وتهذيب الكمال (12/ 408).
3- وروى الطبراني أيضًا -في معجمه الكبير (12/ 316)- من طريق أبي حاضر عن الوضين عن سالم بن عبدالله عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سُئِلتْ اليهود عن موسى فأكثروا وزادوا ونقصوا حتى كفروا، وسُئلتْ النصارى عن عيسى فأكثروا وزادوا ونقصوا حتى كفروا، وإنه سيفشو عني أحاديث فما آتاكم من حديثي فاقرؤوا كتاب الله واعتبروه، فما وافق كتاب الله فأنا قلته، وما لم يوافق كتاب الله فلم أقله) -قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 170): رواه الطبراني في الكبير، وفيه أبو حاضر عبدالملك بن عبدربه منكر الحديث. وراجع : الجرح والتعديل (5/ 359)، والتاريخ الكبير (5/ 424)-.
4- وَرَوَى الدارقطني من طريق عاصم بن أبي النجود عن زر بن حُبيش عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون بعدي روة يروون عني الحديث، فاعرضوا حديثهم على القرآن. فما وافق القرآن فخذوا به، وما لم يوافق القرآن فلا تأخذوا به).
قال الدارقطني في سننه (4/ 208): هذا وهمٌ والصواب عن عاصم عن زيد ن علي بن الحسين مُرسلًا. اهـ.
5- وروى الدارقطني أيضًا من طريق صالح بن موسى عن عبدالعزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيأتيكم عني أحاديث مختلفة فما جاءكم موافقًا لكتاب الله ولسنتي فهو مني، وما جاءكم مخالفًا لكتاب الله ولسنتي فليس مني).
قال الدارقطني في سننه (4/ 208): صالح بن موسى ضعيف لا يُحتجُّ به. اهـ. وصالح بن موسى قال عنه ابن معين: ليس بشئ. وفي رواية: ليس بثقة. وقال ابن أبي حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث جدًّا. وقال النسائي: لا يُكتب حديثه ضعيف. وفي موضع آخر: متروك الحديث. راجع ترجمته في تهذيب الكمال (13/ 95).
ورواه الدارقطني أيضًا -في سننه (4/ 208)- من طريق يحيى بن آدم عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة. قال البخاري في التاريخ الكبير (3/ 474): وهو وهم ليس فيه أبو هريرة. اهـ.
6- وأخرج البيهقي في المدخل إلى السنن -كما في مفتاح الجنة ص(25)- من طريق أبي الحويرث عن محمد ابن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حدثتم عني مما تعرفون فصدقوا، وما حدثتم عني مما تنكرون فلا تصدقوا، فإني لا أقول المنكر).
قال عبدالعزيز البخاري في كشف الأسرار (3/ 10): وإنما يُعرف ذلك بالعرض على الكتاب. اهـ.
وأبو الحويرث هو عبدالرحمن بن معاوية مُتكلَّمٌ فيه -أبو الحويرث قال عنه مالك: ليس بثقة. وقال أحمد: رَوى عنه سفيان وشعبة وأنكر قول مالك. وقال ابن معين: ليس يُحتجّ بحديثه. وقال النسائي: ليس بذاك. راجع: تهذيب الكمال (17/ 414)-، والحديث مرسل أيضًا.
هذه بعض طرق الحديث، وقد جمع طرقه البيهقي في كتابه المدخل إلى السنن، ولخّصها عنه السيوطي في مفتاح الجنة ص(21- 27)، كما استوعب طرقه شيخنا المحدث عبدالله ابن الصديق الغمّاري في كتابه الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج للبيضاوي.
وَسُئِلَ الحافظ ابن حجر عن هذا الحديث فقال: جاء من طرق لا تخلو من مقال. اهـ. المقاصد الحسنة ص(37).
وقال العلامة أحمد شاكر في تعليقه على الرسالة ص(224): هذا المعنى لم يرد فيه حديث صحيح ولا حسن؛ بل وردت فيه ألفاظ كثيرة كلها موضوع أو بالغ الغاية في الضعف حتى لا يصلح شئ منها للاحتجاج أو الاستشهاد. اهـ.
وقد عارض الإمام الشافعي في رسالته ص(225، 226) فقرة (622) هذا الحديث بما رُوي عن المقدام ابن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسمل أنه قال: (ألا إني أُوتِيتُ الكتابَ ومثلَه معه، ألا يُوشِكُ رجلٌ شبعانُ على أريكتِهِ يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فَأَحِلُّوهُ، وما وجدتم فيه من حرا فَحَرِّمُوُه) -سُنن أبي داود (4604)-.
وقال الخطابي في شرحه -معالم السنن (4/ 276)-: وفي هذا الحديث دليل على أنه لا حاجة بالحديث أن يُعرض على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ كان حجة بنفسه، وأما ما رواه بعضهم أنه قال: (إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فخذوه، وإن خالفه فدعوه). فإنه حديث باطل لا أصل له، وقد حكى زكريا بن يحيى الساجي عن يحيى بن معين أنه قال: هذا حديث وضعه الزنادقة. اهـ.
وقال العجلوني في كشف الخفاء (2/ 569): وباب (إذا سمعتم عني حديثصا فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه) لم يثبت فيه شئ، وهذا الحديث من أوضع الموضوعات؛ بل صحّ خلافه: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه). اهـ.
وقال ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 233): وقد أمر الله عز وجل بطاعته وأتباعه أمرًا مطلقًا مجملًا لم يقيد بشئ كما أمرنا باتباع كتاب الله، ولم يقل وافق كتاب الله كما قال بعض أهل الزيغ. قال عبدالرحمن بن مهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث. يعني ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فلم أقله، وإنما أن موافق كتاب الله وبه هداني الله).
وهذه الألفاظ لا تصح عنه صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل العلم وقالوا: نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شئ ونعتمد على ذلك. قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفًا لكتاب الله؛ لأنا لم نجد في كتاب الله ألا يقبل من حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما وافقه؛ بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به والأمر بطاعته ويُحِّر من المخالفة عن أمره جملة على كل حال. اهـ.
وقال الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام (2/ 474): وما ذكروه من الخبر فإنما يمنع من تخصيص عموم القرآن بالخبر أن لو كان الخبر المخصص مخالفًا للقرآن وهو غير مُسلَّم؛ بل هو مبين للمراد منه فكان مقررًا لا مخالفًا، ويجب اعتقاد ذلك حتى لا يُفضي إلى تخصيص ما ذكروه من الخبر بالخبر المتواتر من السنة، فإنه مخصص للقرآن من غير خلاف. اهـ.
وقد وَهِمَ عبدالعزيز البخاري في عزوه هذا الحديث للإمام البخاري وهو في معرض الرد على من ضَعَّفَ الحديث فقال -كما في كشف الأسرار (3/ 10)-: والجواب أن الإمام أبا عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري أورد هذا الحديث في كتابه، وهو الطود المنيع في هذا الفن، وإمام أهل هذه الصنعة، فكفى بإيراده دليلًا على صحّته، ولم يُلتفت إلى طعن غيره بعد. اهـ.
الدليل الثاني: ما رواه البخاري (2563)، ومسلم (3852) عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيُّما شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل).
قال السرخسي في أصوله (1/ 364): والمراد كل شرط هو مُخالف لكتاب الله تعالى، لا أن يكون المراد ما لا يوجد عينه في كتاب الله تعالى، فإن عين هذا الحديث لا يوجد في كتاب الله تعالى، وبالإجماع من الأحكام ما هو ثابت بخبر الواحد والقياس وإن كان لا يوجد ذلك في كتاب الله تعالى، فعرفنا أن المراد ما يكون مخالفًا لكتاب الله تعالى، وذلك تنصيص على أن كل حديث هو مُخالف لكتاب الله تعالى فهو مردود. اهـ.
الدليل الثالث: ما رواه مسلم في صحيحه (37833) من طريق أبي إسحاق السبيعي قال: كنت مع الأسود بن يزيد جالسًا في المسجد الاعظم ومعنا الشعبي، فحدَّث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سُكنى ولا نفقة. ثم أخذ الأَسود كفًّا من حصى فحصبه به فقال: ويلك تحدث بمثل هذا، قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أم نسيت، لها السُّكنى والنفقة، قال الله عز وجل: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [الطلاق: 1].
وَرَوَى مسلم أيضًا (3790) عن عروة: أنه أخبر عائشة بحديث فاطمة فقالت: ما لفاطمة بنت قيس خير في أن تذكر هذا الحديث.
وفي البخاري (5323، 5324): ما لفاطمة ألا تتقي الله يعني في قولها لا سُكنى ولا نفقة.
وأخرج الطحاوي -في شرح معاني الآثار (3/ 68) عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال: كانت فاطمة بنت قيس تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لها: (اعتدي في بيت ابن أم مكتوم). وكان محمد بن أسامة بن زيد يقول: كان أسامة إذا ذكرت فاطمة من ذلك شيئًا رماها بما كان في يده.
وَرَوَى أبو داود في سننه (2296) عن ميمون بن مهران قال: قدمت المدينة فدُفعت إلى سعيد بن المسيب فقلت: فاطمة بين قيس طلقت فخرجت من بيتها. فقال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس إنها كانت لَسِنَةً فوُضعت على يدي بن أم مكتوم.
وقد أيَّد الحنفية مذهبهم بهذا الحديث فقالوا: إن عمر وعائشة وأسامة وسعيد ابن المسيب لم يخصّوا قوله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) [الطلاق: 6] بحديث فاطمة؛ لأنهم كانوا يَرَوْنَ عدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد.
وقد أجاب صاحب فواتح الرحموت على ذلك فقال -(1/ 350)-: وهذا الخبر كان مشكوك الصحة عند أمير المؤمنين، والخبر المشكوك الصحة للريبة في صدق الراوي غير حجة فضلًا عن التخصيص به، ولا يلزم منه انتفاء التخصيص بالخبر الصحيح. اهـ.
يقول الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام: وأما ما ذكروه من تكذيب عمر لفاطمة بنت قيس فلم يكن ذلك؛ لأن خبر الواحد في تخصيص العموم مردود عنده؛ بل لتردده في صدقها؛ ولهذا قال: كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت -أخرجه بهذا اللفظ محمد بن الحسن في كتاب الآثار (1/ 132)-. ولو كان خبر الواحد في ذلك مردودًا مطلقًا لما احتاج إلى هذا التعليل. اهـ.
وقد تقرر بما سبق أن الحنفية لا يقبلون الأخبار المخالفة للكتاب، وقد ذكروا أمثلة عملية لذلك، وسأسرد بعض الأمثلة سردًا من غير الوقوف عليها من ناحية التفصيل فيها بذكر الخلاف الفقهي في كل مسألة منها مع الأدلة خشية الإطالة، وإنما نعرج على بعض الأمثلة سريعًا لإظاهر كيفية التطبيق العملي لهذه القواعد عند الحنفية بشئ من الوضوح.
-المثال الأول: متروك التسمية عمدًا.
-المثال الثاني: النفقة والسُكنى للمطلقة ثلاثًا.
-المثال الثالث: القضاء باليمين مع الشاهد.
-المثال الرابع: الطهارة للطواف بالبيت.
(مَسْأَلَةُ الطَّهَارَةِ لِلطّوَافِ بِالْبَيتِ)
-المثال الخامس: اشتراط النية في الوضوء.
(اشْتِرَاطُ النِيَّةِ فِي الوُضُوءِ)
ويُراجع: كتاب منهج الحنفية في نقد الحديث ص(164- 175 [الأمثلة175- 192]).
والله أعلم.