العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

التحقيق في أحكام ومعاني عبارة : انتهى كلامه

إنضم
11 يوليو 2012
المشاركات
350
التخصص
أصول فقه
المدينة
قرن المنازل
المذهب الفقهي
الدليل
التحقيق في أحكام ومعاني عبارة انتهى كلامه
تُذيَّل كثير من النصوص والمنقولات بعبارة انتهى كلامه . وهي عبارة لطيفة مليحة وفي معانيها دلائل فصيحة، قد لا تظهر لبعض القراء الا بعد تأمل ونظر . وقد ظهر لي منها فوائد منيفة، لم أقف على من أشار إليها . وقد أحببتُ نشرها لتعميم الافادة . والله ولي التوفيق وبه نستعين على مزيد التحقيق .
1- معنى انتهى كلامه : المقصود بلغ الكلام غايته واستوفى معناه واستقر إلى مراده، قال الله تعالى : "انتهوا خيراً لكم " ( النساء: 171 ) . وقال سبحانه :
" لئن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم " ( المائدة : 73) .

2-يجب أن يكون الكلام المنقول مفهوما ، له معاني وفيه دلالات مفيدة . وقد أشار مالك إمام النحاة الأندلسي (ت: 672هـ ) رحمه الله تعالى في الكافية إلى شرط الكلام حين قال :
كلامنا لفظ مفيد كاستقم .
ولا يكفي أن يكون الكلام له معنى، بل لا بد أن يكون اللفظ المركب مفيدا بالوضع ، وهذه القاعدة هي التي وافق فيها النحويون مذهب السلف وحاد عنها اللغويون ووافقهم عليها الاشاعرة ،فجعلوا المعنى القائم بالنفس كلاما ، وهو غلط باتفاق عقلاء أهل العلم.

3-لا يصح الحكم على خاتمة كلام أحد من المتبوعين دون النظر في أول كلامه ، خشية أن يكون المتبوع نقل كلاماً معزوا لغيره، لتفنيده أو التعقيب عليه . وهذا يقع كثيراً في الردود ونقض الشُّبه في كلام الأئمة . فينبغي الحذر والتحرُّز عند النقل ، والا لكان الحال كما قال ابن زيدون(ت: 463هـ ) رحمه الله تعالى : يدٌ أدماها سوارها .

4-إذا جاء في الكلام المنقول ما يصح أن يكون اجتهادا في مسألة أو قولٍ ثم نقضه كاتبه أو قائله في آخر كلامه وثبت عليه، فلا يصح التعويل على قوله أو ترجيحه الأول، بل الثاني هو الملزم . وهذا ينطبق على كلام الخصوم والمخالفين وكلام غيرهم من الأتباع . وهذا ما يسميه أهل البلاغة : ردُّ العجز على الصدر . وكان الجاحظ المعتزلي( ت: 255هـ ) عفى الله تعالى عنه يقول : " إن الفروع لا محالة راجعة إلى اُصولها ، والأعجاز لاحقة بصدورها " .

5-ترد في المصنفات عبارة : " لا يخلو كلامه من اضطراب " ، ويقصد بها ما يلحظه المتأمل من عدم تحرير محل النِّزاع . وأسبابه كثيرة : منها الغلط والحيدة عن الحق والحيرة . من ذلك ما يلاحظ في أقوال ابن حزم رحمه الله تعالى في مسألة اباحة الملاهي و القول بعدم وقوع الطلاق المعلَّق وإبطال القياس .

6-نهاية الكلام المنقول قد يتبين منها عقيدة ومدرسة ومذهب المتبوع ، ويندر أن يخفى ذلك على المتأمل .
ومن عجائب الفخر الرازي( ت: 606هـ ) عفا الله عنه ، في خواتيم كلامه أنه يورد الشبهة ويستدل لها، ثُمَّ لا يستطع أن ينقضها، ولهذا قال بعض العلماء : إنه يأتي بالشبهة نقداً، ويجعل الجواب عنها نسيئة، فالذي يتأمل كتبه قد يتشكك من إيراد الشبهات؛ ولكنه لا يجد الرد عليها، فـهو يطيل النَّفس في الكتابة ثُمَّ ينقطع، فطول نفسه يذهب في إيراد الشبهات، فإذا أراد أن يُجيب كَانَ قد تعب، فلا ينقض هذه الشبهات .

7-الفاظ أوآخر الكلام المنقول قد تكون حمالة أوجه، مبهمة لا يفهمها كل سامع ، فلا بُّد من إيضاحها ، كقول بعض الحكماء :" من هوان الدنيا على الله، أن أخرج نفائسها من خسائسها، وأطايبها من أخابثها : فالذهب والفضة من حجارة، والمسك من فارة، والعنبر من روث دابة، والعسل من ذبابة، والسكر من قصب، والخز من كلبة، والديباج من دودة، والعالم من نطفة قذرة " ! . ويقاس على ذلك مدائح المتنبي(ت: 354هـ ) لكافور الاخشيدي(ت: 357هـ) التي هي في حقيقتها هجاء لاذع .

8-يُنقد أوآخر الكلام المنقول بعبارة : كلامه متعقَّب ، ويقصد به : أنه خالف نصا أو أصلا أو دليلا اتفق الأئمة على ترجيحه . من ذلك ما زعمه الزمخشري(ت: 538هـ) عفى الله تعالى عنه ، في كشافه من أن معنى قول الله تعالى : "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا"( الاسراء: 16 ) : أمرناهم بالفِسق ففسقوا ، وأن هذا مجاز تنزيلاً لإسباغ النِّعم عليهم، الموجب لبطرهم وكفرهم منزلة الأمر بذلك ، وقد حقق المفسرون أن كلامه وتفسيره هذا ظاهر السقوط فلا يصح التعويل عليه .

9-لا يجوز الاحتجاج بأواخر الأقوال المنقولة، على اختلاف طبقات مورديها، قبل وزنها بميزان الشرع .
والقاعدة المنوطة بهذا المعنى : أنه ليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة النصُّ والإجماع ودليل مستنبط من ذلك تقرر مقدماته بالأدلة الشرعية، لا بأقوال بعض العلماء، فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية ولا يحتج بها على الأدلة الشرعية" .

10-الوقوف على متعلَّق الكلام يعين على فهمه وسبره على المنهج الصحيح . ومتعلق الكلام هو الفعل الذي نسب إلى غير فاعله ، واسم الفعل ، والمصدر والاسم المشتق ، والاسم الجامد . وهي مبسوطة في كتب النحو .
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوصى بالتحرُّز في أسباب الحدود قبل انفاذ عقوباتها حين قال : " فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ‏ " أخرجه الترمذي بإسناد صحيح ، فإن التحرز في فهم الكلام الذي يثمر إلى الحكم على قائله أولى وأحرى ، كما يفهم من تخريج المناط في العقوبات .

11-يجب التحقق من نسبة قول من أقوال المشهورين قبل نقل كلامهم ،كمن ينقل أقوالا عن عليِّ رضي الله عنه وينسبها له، كما في كتاب نهج البلاغة وغيره، بل بعض كتب الفقه والأدب لم تسلم من ذلك ،كمن يعزو لعليِّ أنه يقول بصحة نكاح الربيبة البعيدة التي لم تكن في الحِجر ! . وكمن ينقل عن جحا الشخصية الفكاهية أقوالا وينسبها له على جهة الاستظراف ، ويزعم أنه كان من التابعين وأن أُمه كانت خادمة عند أنس بن مالك !! ، ويقاس على هذا نسبة فتاوى مجهولة وتعميمها على الناس قبل التحقق من مصدرها .


12-لا يجوز الاغترار بفصاحة الكلام المنقول دون النظر إلى موقعه من الميزان الشرعي . وقد وقع الامام الهروي (ت: 481هـ ) عفى الله تعالى عنه في مسألة الغلو في فهم التوحيد ،واغترَّ بفصاحته الصوفية قديما وحديثا ، وظنوا أن توحيدهم توحيد الخاصة وتوحيد غيرهم هو توحيد العامة !، فمن شعره في التوحيد :
ما وحَّد الواحد من واحدٍ
إذ كُّل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته
عارية أبطلها الواحد

نسأل الله أن يصلح أقوالنا وأعمالنا ونياتنا . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

المصادر :
1-أدب الكاتب / لابن قتيبة / ص/ 54 .
2-إحكام صنعة الكلام / للكلاعي / ص/ 39 .
3-رسالة في تحقيق المشاكلة / لابن كمال باشا / ص/ 68 .
4-حسن التوسل في صناعة الترسل / لشهاب الدين الحلبي / ص/ 88 .
5-كتاب الصناعتين / للعسكري / ص/ 127 .
 
أعلى