ابو البراء
:: مخالف لميثاق التسجيل ::
- إنضم
- 26 مارس 2008
- المشاركات
- 12
المرأة و دخول الحمّام
بسم اللّه و الحمد للّه ربّ العالمين، و الصّلاة و السّلام على محمّد خاتم النبيّين و إمام المرسلين، و على آله و أصحابه و أتباعه إلى يوم الدّين، أمّا بعد.
فإنّ مرادي بالحمّامات في هذا البحث؛ البيوت العامّة المشتركة الّتي يُسخّن فيها الماء للغسل، يدخلها عموم الناس للاغتسال و الاستشفاء، و قد اشتهرت باسم: (الحمّامات المغربيّة)، و ليس مرادي مِن ذلك ما اصطلح عليه المعاصرون مِن أهل المشرق على تسمية بيت الخلاء و ما يُقضى فيه الحوائج حمّاما.
و الحمّام كما ذكر اللّغويون؛ مذكَّر مشتقّ من الحَميم، و هو الماء الحار، و قد كان شائعا في بلدان المسلمين، و لا يزال موجودا في بعضها.
و قد كتب العلماء و الأدباء في الحمّام ما بين باحثٍ في الأحكام و مُبيِّنٍ للآداب و مُنشدٍ للأشعار، و ذلك عبر أوراق و مقالات و أبحاث، بل مِنهم من أفرد في الحمّام كتباً خاصّة؛ كـ: (تأنيس أرباب الاستحمام بما قيل مِن الأشعار في الحمّام) لمحمّد بن إبراهيم بن محمّد الخضرمي، و (مقالة في الحمّامات) لأبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن خالد المعروف بابن الجزّار، و (القول التّمام في آداب دخول الحمّام) لابن عماد الأفْقَهِسي الشّافعي، و (الإلمام بآداب الحمّام) لحافظ المغرب عبد الحيّ الكتاني، و (آداب الذّهاب إلى حمّام السّوق) للدّكتور قطب الريسوني.
و هذا كلّه لشهرة الحمّام تاريخيّا و فوائده صحّيا، و كذا أهمّية موضوعه و الأحكام المتعلّقة بمسائله.
و قد تكلّم العلماء ضمن ذلك في حُكم دخول كلٍّ مِن الرّجال و النّساء الحمّام، بتفصيلات و تفريعات موجودة في مظانّها، لكن الّذي يعنيني الآن في بحثي المتواضع هو استظهار الأقوال و استخراج الأحكام؛ ما تعلّق مِنها بالمرأة خاصّة و دخولها الحمّام، استعجلني إلى ذلك طلب أخت كريمة فاضلة أهمّها الموضوع أوّلا، و ما بدا لي مِن خطورة المسألة و حساسيّتها لما يحتلّه عِرض المرأة و شرفها مِن مكانة عالية لدى أهل الإسلام ثانيّا.
هذا؛ مع عِلمي أنّ الحمّام يُمثّل بالنّسبة لكثير مِن النّساء -لا سيّما نساء منطقة المغرب- شيئا لا يُستغنى عنه لما يقدّمه هذا البيت مِن المنافع و الفوائد الصّحية و الجسدية، فحرِصتُ مِن ثَمَّ أن أكون مُنصفا بين امرأة قد أُشرب قلبها حبّ الحمّام و بين أئمّة و علماء تكلّموا في ذلك بين مانع و مُشترِط، رائدي في ذلك دلالات النّصوص و مقاصد الشّريعة، فعلى الأخت الكريمة أنْ تكون مُنصفة بدورها بين ما يُمليه عليها ضميرها و بين ما يهواه قلبها؛ فأقول:
قد اختلف العلماء في حُكم دخول النّساء الحمّامات على أقوال، ما بين تأييد البعض لارتياد مثل هذه الأماكن بشرط ستر العورة و أمن الاطّلاع على عورات الآخرين، و بين فريق آخر أجاز بشروط الضرورة، و بين معارضة مطلقة من الآخرين مستدلّين بنصوص نبوية ناهية و عدم وجود ضرورة حقيقية من ورائها...
- فمِن العلماء مَن قال يُحرم مطلقاً. و هو قول بعض الحنابلة و إليه ذهب ابن الحاج في المدخل.
- و مِنهم مَن قال يُحرم و لا يباح إلا عند الضّرورة أو العذر؛ مِن حيض، أو نفاس، أو جنابة، أو مرض، أو حاجة إلى الغسل إذا لم يمكنها أن تغتسل في بيتها لانعدام الماء أو برودته مع خوفها مِن مرض أو ضرر. وهذا القول كالّذي قبله، إلاّ أنّه استثنى هذه الأحوال. و هذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموعة فتاويه، و الحافظ المنذري في كتابه: (التّرغيب و التّرهيب).
قال العلاّمة شمس الدّين ابن قدامة المقدسي في شرحه الكبير على المقنع: "فأمّا النساء فليس لهنّ دخولُه، مع ما ذكرنا من السِّتر، إلاّ لعذر؛ مِن حيض، أو نفاس، أو مرض، أو حاجة إلى الغُسل، و لا يُمكنها أن تغتسل في بيتها لِتَعذُّر ذلك عليها، أو خوفها مِن مرض أو ضرر، فيُباح لها ذلك، إذا غَضَّت بَصَرَها، و سَترَت عورتَها. و أمّا مع عدم العذر، فلا"(المغني [306/1]).
و استدلّ أصحاب هذا القول بما رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إنّها ستُفتح لكم أرض العجم، و ستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمّامات، فلا يدخلنها الرّجال إلا بالأزر، و امنعوها النّساء إلا مريضة أو نفساء )).
- و مِنهم مَن قال يُكره فقط؛ بناءً على ما يُتوقّع في الحمّام مِن الانكشاف و إنْ كان التستّر موجودا.
- و مِنهم مَن قال بالجواز مطلقاً مِن غير كراهة. ذكَر ابن نجيم الشّافعي في الأشباه و النّظائر أنّه القول المُعتمد، و اختاره الحافظ ابن القطّان.
- و مِنهم مَن قال يجوز للحاجة. قال صاحب (الدرّ المختار) الحَصْكَفي: "(و) جاز (بناؤه للرّجال و النّساء) هو الصّحيح للحاجة، بل حاجتهنّ أكثر لكثرة أسباب اغتسالهنّ" (مع حاشيته: ردّ المحتار على الدرِّ المختار شرح تنوير الأبصار، لابن عابدين [71/9]).
و قال الشّيخ الدّكتور يوسف القرضاوي: "و لهذا رأينا المذاهب المتبوعة تبيح للرجال و النّساء جميعا دخول الحمّامات العامة للحاجة، و لا سيما أنّ أكثر البيوت في الأزمنة السّابقة لم يكنْ فيها ما في أكثر بيوتنا اليوم مِن الحمّامات الخاصّة المزوَّدة بالماء السّاخن و البارد. على أنّ كثيرا من الناس لا ينعمون بذلك.
و بعض هذه الحمّامات يكون مِن مياه معدنيّة يحتاج إليها الكثيرون للاستشفاء، و قد تطوّرت كثيرا، و أصبح فيها الخاص و العام، و المُغلق و المفتوح".
و قد استدلّ مَن حرّم مطلقا بما يلي:
1) حديث ابن عباس أنّ رسول الله صلّى اللّه عليه و سلّم قال: (( احذروا بيتاً يُقال له الحمّام )).
2) حديث عائشة الّذي أخرجه الحاكم: ((الحَمَّامُ حَرَامٌ عَلَى نِسَاءِ أُمَّتِي)).
3) ما رواه أحمد و التّرمذي و أخرجه الحاكم و الطّبراني في الأوسط؛ عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه؛ أنّ النّبي صلى الله عليه و سلّم قال: (( مَن كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يُدخل حليلتَه الحمّام )).
4) ما أخرجه الحاكم عن أبي أيّوب الأنصاري رضي اللّه عنه؛ أنّ رسول الله صلّى اللّه عليه و سلّم قال: (( مَن كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يدخل الحمّام إلاّ بمئزر، و مَن كان يؤمن بالله و اليوم الآخر مِن نسائكم فلا تَدخل الحمّام )).
5) حديث عائشة رضي الله عنها الّذي أخرجه أحمد و ابن ماجه و الحاكم أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم قال: (( أيّما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها، فقد هتكت سِتر ما بينها و بين الله عز و جلّ )).
فمفهوم هذا الحديث عند المحرّمين، حُرمة ذهاب المرأة إلى هذه الحمّامات لما يلزم من ذلك وضع ثيابها عنها، و هذا فيه هتك كل سترٍ بينها وبين ربها جلّ و علا.
6) ما رواه أحمد و أبو يعلى و الطّبراني في الكبير و الحاكم؛ أنّ نساءً دخلن على أمّ سلمة رضي اللّه عنها، فسألتهنّ من أنتنّ ؟ قُلن: مِن أهل حمص. قالت: مِن أصحاب الحمّامات ؟ قلُن: و ما بها بأس ؟ قالت: سمعت رسول صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: (( أيّما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها فقد خرق الله عنها ستره )).
و احتُجّ كذلك ببعض الآثار عن الصّحابة رضي اللّه عنهم.
ثمّ اختلف العلماء في تصحيح ما ورد مِن الأحاديث و الآثار في الحمّام، و ليس المقام مقام ذكر أقوالهم في هذه الأحاديث و أحكامهم عليها، و إنّما يكفينا الإشارة للخلاف الموجود حولها؛ بين مَن قال أنّه لا يصحّ في أحاديث الحمّام شيء و أنّ الأحاديث في ذلك كلّها معلولة، و بين مَن صحّح أسانيدها و حسّنها، و بين مَن توسّط فقال أنّ مجموع ما ورد في الحمّام يقوّي بعضه بعضا سَندا، و من أراد التّفصيل و الوقوف عند تلك الأقوال فليراجع: (العِلل المتناهية لابن الجوزي)، و (الاعتبار مِن النّاسخ و المنسوخ من الآثار للحافظ أبي بكر الحازمي)، و (الأحكام الوسطى للحافظ عبد الحقّ الإشبيلي)، و (كشف الخفاء للعجلوني)، و (زاد المعاد لابن القيّم)، و (النّظر في أحكام النّظر للحافظ علي بن القطّان)، و (صحيح التّرغيب و التّرهيب للألباني)، و (صحيح الجامع للألباني)، و (السّلسلة الصّحيحة للألباني).
لكن الّذي يعنينا في الموضوع مع افتراض صحّة الأحاديث الواردة، هو أنّ أمر النساء مبني على المبالغة في السّتر لما قد يترتب على خروجهنّ واجتماعهنّ مِن الفتنة، بل الأحاديث في ذلك مفهومة المعنى معلومة المغزى، فالمقصود مثلا مِن النّهي الوارد في الحديث عن خلع المرأة ملابسها خارج بيت زوجها كما ذكر بعض شرّاح الحديث؛ هو منعها من التّساهل في التكشّف في غير بيت زوجها على وجه تُرى فيه عورتها أو تظهر على هيئة فاضحة غير مُحتشمة سواء بين الرّجال أو بين النّساء، فالمنهيّ عنه هو خلعها ثيابها خلعاً قد يسبّب فتنة لها و لغيرها، أمّا خلع ثيابها في محل آمن كبيت أهلها و محارمها لإبدالها بغيرها، أو للتنفّس، أو للاستحمام، أو نحو ذلك مِن الحاجات و المقاصد المباحة البعيدة عن الفتنة -فلا حرج في ذلك-، فإنّ عِلّة منع نزع ثياب المرأة في غير بيتها هي حفظ العورات و سترها و أمن الفتنة.
فأقول أنّ مسألة الحمّام و حُكم دخول النّساء إليه؛ ترجع أساسا إلى مقصود المرأة مِن الدّخول أوّلا، و حالها عند الاغتسال ثانيا، و واقع ما يجري في الحمّام نفسه ثالثا، و هذا كلّه مع افتراض صحّة الأحاديث الّتي أشرتُ إلى اختلاف الحفّاظ و علماء الحديث فيها، ذلك أنّ حُكم مسألتنا و اللّه أعلم؛ لا يتوقف على ثبوت أو عدم ثبوت أحاديث الحمّام بقدر ما يتوقّف على تصوّر الأسس الثّلاثة المذكورة و الّتي ينبني عليها الحُكم، مِن باب قاعدة (الحُكم على الشّيء فرع عن تصوّرِه).
و لنُفرد الآن الكلام بالتّفصيل على كلٍّ مِن الأسس الثّلاثة، لنصل إلى معرفة الحُكم النّهائي بإذن اللّه تعالى؛ ألا و هو حُكم دخول النّساء الحمّام.
الأساس الأوّل: مقصود المرأة مِن الدّخول:
إنّما الأعمال بالنّيات و مدار الأمور بمقاصدها، فمَن كان قصدها التعرّي و إبداء مفاتنها مِن وراء دخول الحمّام، أو كان قصدها الاطّلاع على العورات و النّظر إليها، أو كان قصدها التفحّش و الدّعوة إلى الفاحشة، أو غير ذلك مِن المقاصد السيّئة...، فهنا لا يختلف اثنان في حُكم حُرمة القصد و إنزاله على حُكم دخول صاحبته الحمّام.
أمّا مَن كان قصدها التّنظّف أو التطهّر أو الاستشفاء و نحو ذلك مِن المقاصد الحَسنة، فقد فارقت الأولى في خُبثها و سوئها، لكنْ مع ذلك لا نتسرّع إلى إطلاق جواز دخول الحمّام في حقّها رغم المفارقة الواضحة بينهما، قبل النّظر في حال صاحبة القصد الحَسن عند الاغتسال في الحمّام (الأساس الثّاني)، و واقع ما يجري في الحمّام نفسه (الأساس الثّالث).
الأساس الثّاني: حال المرأة عند الاغتسال:
لا يجوز للمرأة أنْ تضع ملابسها في غير بيت زوجها على وجه تُرى فيه عورتها، لما قد يتسبّب ذلك في فتنة لها و لغيرها، أو في اتّهامها بقصد أمر سيّء و نحو ذلك، ذلك أنّ مِن محاسن الإسلام العظيمة، و توجيهاته الكريمة، و مقاصده الجليلة؛ صيانة الأعراض و حفظها مِن كلّ ما يُدنّسها، لذلك أمرَ بستر العورات و نهى عن إبدائها أو النّظر إليها لغير ضرورة أو حاجة شرعية تدعو إلى ذلك، و ما اشتدّ نكير كثير مِن العلماء في دخول الحمّامات إلاّ أنّ الكثير من النّاس يدخلون الحمّامات بغير ثياب - سواء الرّجال أم النساء-.
و مِن النّصوص الواردة في مسألة حِفظ العورات:
1) قول اللّه عزّ و جلّ: [[ وَ قُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَىَ جُيُوبِهِنّ وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنّ أَوْ آبَائِهِنّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ أَبْنائِهِنّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ إِخْوَانِهِنّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنّ أَوْ نِسائِهِنّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىَ عَوْرَاتِ النّسَاءِ وَ لاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنّ وَتُوبُواْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ ]] (سورة النّور: الآية 31).
2) و قوله سبحانه: [[ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِبَاسُ التّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ) (سورة الأعراف: الآية 26).
3) قوله صلى الله عليه وسلم: (( نُهيت عن التعرّي ))، أخرجه الطّيالسي. (و يُنظر في تخريجه السلسلة الصحيحة برقم [ 2378]).
4) عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه قال: قلت: يا نبيَّ الله ! عوراتنا؛ ما نـأتي منها و ما نذر ؟ قال: (( احفظ عورتك إلاّ مِن زوجتك أو ما ملكت يمينك )). قلت: يا رسول الله ! إذا كان القوم بعضهم في بعض ؟ قال: (( إن استطعت أنْ لا يَرينَّها أحد فلا يرينّها )). قلت: يا نبيَّ الله ! إذا كان أحدنا خاليا ؟ قال: (( فالله أحقّ أن يُستحيا منه مِن النّاس )). أخرجه الترمذي و حسّنه، و الحاكم و صحّحه، و البيهقي و غيرهم، و صحّحه الألباني في صحيح الجامع برقم (203).
5) عن عبد الله بن الحارث الزّبيدي عن رسول الله صلى الله عليه و سلّم أنّه مرَّ و صاحب على فئة قد حلّوا أزرهم، فجعلوها مخاريق يجتلدون بها و هم عُراة، قال عبد الله: فلمّا مررنا بهم قيل: إنّ هؤلاء قِسِّيسون فدَعُوْهُم، ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم خرج عليهم، فلمّا أبصروه تبدّدوا، فرجع رسول الله صلى الله عليه و سلم مُغْضَبا حتّى دخل، و كنت وراء الحُجرة، فسمعته يقول: (( سبحان الله، لا مِن الله استحيوا، و لا مِن رسول الله استتروا )). أخرجه أحمد و البزّار و أبو يعلى و صحّحه الألباني في سلسلة الأحاديث الصّحيحة برقم (2991).
6) ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم قال: (( لا يَنظر الرّجل إلى عورة الرّجل، و لا المرأة إلى عورة المرأة، و لا يُفضي الرّجل إلى الرّجل في ثوب واحد، و لا تُفضي المرأة إلى المرأة في الثّوب الواحد )).
فهذه النّصوص و غيرها؛ بيانٌ لعموم الأمّة -رجالا و نساء- حول العورات و المحافظة عليها، و هي دالّة دلالة صريحة على وُجوب ستر العورة، و حُرمة التّساهل في إظهارها إلاّ فيما أذِن فيه الشّرع مِثل الرّجل مع زوجته، "و ما هذه العناية مِن الإسلام بشدّة المحافظة على العورات... و النّهي عن كشفها، إلاّ لِما في حفظ العورات و الابتعاد عن النّظر إلى الفروج الّتي لا تحلّ مِن الاحتشام، و صيانة العِرض، و قمع الفاحشة، و صلاح الأخلاق، و دَرْء المفاسد العظيمة المترتّبة على التّفريط في ذلك؛ فإنّ كشفها أمام الناس و التّساهل في ذلك مِن المُنكرات العظيمة... " (لباس الرّجل أحكامه وضوابطه:2/813).
و أمّا العناية بالمرأة على وجه الخصوص في ذلك؛ فـ"إنّ الدّين الإسلامي الحنيف بتوجيهاته السّديدة، و إرشاداته الحكيمة، صان المرأة و حفظ شرفها و كرامتها، و تكفّل بتحقيق عِزّها و سعادتها، و هيّأ لها أسباب العيش الهنيء، بعيدا عن مواطن الرّيب و الفتن، والشرّ و الفساد، و هذا كلّه مِن عظيم رحمة الله بعباده، حيث أنزل عليهم شريعة ناصحة لهم، و مُصلِحة لفسادهم، و مُقوِّمة لاعوجاجهم، و مُتكفِّلة بسعادتهم، و تلك التّدابير العظيمة الّتي جاء بها الإسلام تُعدّ صمّام أمان للمرأة بل للمجتمع بأسره مِن أنْ تَحلّ به الشّرور و الفتن، و أنْ تَنْزل به البلايا و المِحن، و إذا ترحَّلت ضوابط الإسلام المتعلّقة بالمرأة على المجتمع حَلَّ به الدَّمار، و توالت عليه الشُّرور و الأخطار... " (تكريم الإسلام للمرأة للشّيخ عبد الرزاق البدر: 26).
و هنا أجدني منقادا إلى الكلام حول عورة المرأة أمام المرأة -أو ما يجوز و ما لا يجوز أنْ تكشفه المرأة أمام المرأة-، و لا أريد التّفصيل في هذا الموضوع الغير المقصود بالطّرح، لكنْ لا بدّ من المرور عليه إيجازا، لصِلته الوثيقة بالموضوع الأمّ -دخول المرأة الحمّام-؛ فأقول:
قد اختلف أهل العِلم في عورة المرأة أمام المرأة على أقوال أربعة:
القول الأوّل: يذهب أصحابه إلى أنَّ المرأة لا تكشف أمام النّساء إلاّ ما تكشفه عند محارمها عادةً -كأبيها و أخيها-، و هو ما يظهر غالبًا كالقدمين و اليدين و الذّراعين و العنق و العضد، دون ما يُستر غالبًا كالبطن و الظّهر و الصّدر و الفخذ. ذهب إلى هذا القول أبو حنيفة، و هو رواية عند الشافعية، و اختاره كثير مِن العلماء المعاصرين.
القول الثّاني: هو أنّ عورة المرأة أمام المرأة ما بين السرّة إلى الركبة -ليس لها أن تكشف ما بينهما-، ذهب إلى هذا جمهور العلماء مِن الحنفية، و المالكية، و الشّافعية، و الحنابلة. و هذا رأي الأكثرين مِن قول الجمهور المخالف للقول الّذي سيأتي -القول الثّالث-.
القول الثّالث: أنّ عورة المرأة أمام المرأة كعورتها أمام الرّجل الأجنبي. و لم يُعلم أحد قال بهذا القول سوى الإمام القاضي أبو محمّد عبد الوهاب بن نصر المالكي -رحمه الله-، في شرحه الرّسالة لابن أبي زيد القيرواني على ما نقله الحافظ أبو الحسن علي ابن القطان -رحمه الله- في كتابه (النّظر في أحكام النّظر).
القول الرّابع: أنّ عورة المرأة أمام المرأة؛ الفرْج و الدّبر فقط. و هذا قول الظاهرية.
و قبل التّرجيح بين الأقوال أقول؛ يظهر أنّ أبعد الأقوال عن الصّواب هما القولين الأخيرين -الثّالث و الرّابع- لما يلي:
إيجاب الاستتار على المرأة في جميع بدنها أمام النّساء -كما هو في القول الثّالث-؛ علاوة على مخالفته للأدلّة القولية و العملية، فإنّ فيه مِن التّشديد و الإحراج على المرأة ما لا يخفى، و هذا ينافي رفع الحرج في الدّين، قال تعالى: [[ وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ]] (سورة الحجّ: الآية 78).
أمّا القول الثّاني؛ فشذوذه و منافاته للذّوق السّليم ظاهران.
يبقى القولين الأوّلين؛ القول بأنّ المرأة لا تكشف أمام النّساء إلاّ ما تكشفه عند محارمها عادة، و القول أنّ عورة المرأة أمام المرأة هي ما بين السرّة إلى الرّكبة.
و أقول و اللّه أعلم؛ أنّ الأمر يرجع إلى الحال الّتي تكون عليه المرأة بين العادة و الحاجة؛ فإنّه يمكن توجيه القول الأوّل و تنزيله على أحوال المرأة العادية و الدّائمة، فيُقال لا ينبغي لها أن تكشف أمام النّساء في أحوالها العادية إلاّ ما تكشفه أمام محارمها -كأبيها و أخيها و نحوهم-، فيجوز لها كشف القدمين و السّاقين و اليدين و العنق و أعلى الصّدر و نحو ذلك، لكن لا يجوز لها كشف ما يُستر غالبًا كالبطن و الظَّهر و الفخذ و نحوه.
أمّا القول الثّاني فيمكن توجيهه و تنزيله على أحوال المرأة الغير العادية الّتي تفرضها الحاجة، فيُقال لا ينبغي للمرأة أن تكشف أمام النّساء ما تستره عادة و غالباً؛ كالبطن و الصّدر و الفخذ و نحوه، إلاّ عند الحاجة إلى ذلك، و مثاله إخراج المرأة ثديها أمام النّساء لإرضاع صغيرها.
و لعلّ هذا الاختيار هو الأوفق لمقاصد شريعتنا، و الأرْفق بنِسائنا و أمّهاتنا و أخواتنا، و الأحفظ لأعراضهنّ، لا سيما في زماننا الّذي تغيّرت فيه طبيعة كثير من النّساء -ليس أكثرهنّ و الحمد للّه- و انتكست فطرتهنّ، فأصبحن يشتهين و يمِلن جنسيّا إلى مثيلاتهنّ مِن النّساء، و فضيع جدّا أن يحدث هذا بين امرأتين لوجود المجانسة وانعدام الشّهوة غالبا، حتّى أصبحنا نسمع عن كثير مِن تلك العلاقات المحرَّمة بين النساء، و الّتي من أسباب نشوئها التّساهل في مسألة اللّباس و السّترة، فاقتضى هذا التّوجيه لأقوال الأئمّة لما فيه مِن سدٍّ لذريعة الفساد و غلقٍ لباب الفتنة.
هذا؛ و إنْ كانت المسألة -عورة المرأة أمام المرأة- تستحقّ أكثر ممّا ذكرت، لكنْ حسبي منها أنْ ذكرتُ القدْر الضّروري الّذي يحتاجه موضوعنا الرّئيس.
الأساس الثّالث: واقع ما يجري في الحمّام نفسه:
بالاستطلاع و الاستقراء و الاستخبار، وجدت أنّ أكثر الحمّامات؛ لا تُحفظ فيها العورات الّتي كثيرا ما يتمّ كشفها و إظهارها، لتساهل النّساء في موضوع التستّر أثناء الاغتسال، حتّى يصل الجهل إلى بعضهنّ إلى التعرّي الكامل !، دون حياء مِن الخالق أو استحياء مِن المخلوق.
و بعض الذّاهبات إلى هذه البيوت، ربّما تحفّظت مِن كشف عورتها لكنّها لم تَسْلَم مِن النّظر إلى غيرها مِن النّساء، بل قد تتعمّد بعضهنّ النّظر خاصّة إنْ كان مِن بين النّساء امرأة ذات جمال، و هذا لا شكّ أنّ فيه مخالفة صريحة لقول النّبي صلى الله عليه و سلّم: (( لا ينظر الرّجل إلى عورة الرجل ، و لا المرأة إلى عورة المرأة )).
و ضِمن هذا الواقع؛ أنّ هذه الأماكن لا تخلو من لمس العورات مِن قِبل المغسِّلات، و هذا فيه ما فيه من العواقب الوخيمة مِن مِثل حصول الفتنة بأجساد بعضِ النّساء، و ربّما أدّى ذلك إلى الوقوع فيما لا تُحمد عقباه مِن المباشرة المحرّمة بينهنَّ، خاصة إنْ وافق ذلك طواعية مِن الطّرفيين و خِفّةً في الدّيانة و ضعف في الإيمان، و إنْ سلِمت المرأة مِن ذلك فإنّها لنْ تسلم مِن أن تُوصَف لغيرها مِن النّساء، هذا إنْ لم يتعدّ وصفها إلى الرّجال الّذين على شاكلة أولئك المغسّلات، و في هذا كلّهِ ارتكاب لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: (( لا تباشر المرأةُ المرأةَ، فتنعتها لزوجها كأنّه ينظر إليها )) (أخرجه البخاري من حديث ابن مسعود صلى الله عليه وسلم).
و أخطر مِن هذا و ذاك؛ أنّ الخروج إلى الحمّامات مع التطوّر التّكنولوجي و استعماله السّلبي مِن طرف بعض ضِعاف الإيمان و مسلوبي العقل أضحى محفوفا بالشّبهات، حيث أصبحت المرأة معرّضة لما يخدش كرامتها و يهتك عِرضها، حتّى أصبحنا نسمع هنا و هناك في كثير من الأحيان عن تلك الأخبار الّتي صبّت جميعها في هذا الشرّ العظيم و البلاء الكبير، فهذه الحمّامات لم يَعد يُستبعد أن توجد بها كاميرات خفيّة مصغّرة تقوم بعملية تصوير اغتسال المرأة - سواء عبر كاميرات مستقلّة أو هواتف نقّالة و نحوها-، و هذا فيه سعي ظاهر للتّلاعب بأعراض نساء المسلمين و النّظر إلى عوراتهنّ، بل ربّما نُشَر ذلك و تُنوقِل بين الفَجَرة و الفَسَقة الّذين يتتبّعون عورات المسلمين، سواء عبر الشّبكة العنكبوتية (الإنترنت) أو غيرها مِن طرق الفساد.
بل قد ترامى إلى مسامعنا مثلا واقعة شهدتها مؤسّسة رسمية في إحدى البلاد العربية؛ حيث كشفت إحدى الموظّفات في مبنى ديوان عام بإحدى الوزارات، عن وجود كاميرا خفيّة داخل الحمّام المخصَّص للسيّدات، و بعد إبلاغ المسؤولين في الوزارة، وصل رجال التحرّيات و المباحث الجنائيّة في شرطة البلد إلى المكان، حيث وجدوا كاميرات صغيرة لا يزيد حجمها عن حجم الدّرهم، وُضعت بشكل خفي للتلصّص على السيّدات.
و كذلك حادثة مشابهة في منطقة أخرى؛ أين اعتُقل مهندس صَوَّر عشرات الموظّفات بالحمّامات في إحدى الشّركات الّتي يعمل فيها، بواسطة كاميرات موصولة بكمبيوتره الشّخصي تسمح له بالمشاهدة المباشرة قبل تسجيلها، قبل أن يفتضح أمره و يُقبض عليه متلبّسا و يُكتشف لديه عشرات الأقراص المدمجة و المسجّل عليها مئات المشاهد لموظّفات الشّركة داخل الحمّامات.
و وضعت في بعض البلاد العربية الأخرى جهات أمنية يدها على واحدة مِن مثل هذه القضايا الأخلاقية الخطيرة، بعد أن وصلتها معلومات تتعلّق ببعض التصرّفات المشبوهة لصاحب أحد الحمّامات المشهورة، و هي المعلومات التي تؤكد أنّ هذا الحمّام الذي تقصده نساء الطّبقة الرّاقية، وُضعت به كاميرات تصوير سريّة تقوم بالتقاط صور فاضحة للنّساء و هنّ ياْخذن حمّامهن، ثم تُطبع تلك الصور و المشاهد السّاخنة جدّا على أشرطة فيديو، لا أحد يعلم الاتّجاه الّذي أخذته و لا الأمكنة التي وصلت إليها.
كما نشرت الصّحف و وسائل الإعلام خبر فتاة كانت تتنقّل بين غرف الاستحمام في حمّام شعبي، و هي تخفي هاتفا محمولا مُزوَّدا بكاميرا للتّصوير، تحاول تصوير النّساء عاريات، و بعد التّحقيق مع الفتاة، تَبيَّن أنّها ملأت ذاكرة هاتفها بصور النّسوة العاريات تلبية لنزوة صديقها الّذي طلب منها أنْ تتسلّل إلى حمّام النّساء، بُغية استغلال الصّور في مواقع إلكترونية إباحية.
و ذكرت صحيفة عربية؛ أنّ طالبتين في مدرسة ثانوية أدخلتا معهما هاتفا محمولا مجهّزا بكاميرا إلى حمّام النّساء، حيث استعملته إحداهما في تصوير صديقتها و نساء عاريات أثناء الاستحمام. و قالت الصّحيفة إنّ إحدى النّساء فوجئت بفتاة تصوّر جسد صديقتها العاري قبل أنْ تتحوّل إلى تصوير مفاتن بعض النّسوة...، فهبّت مِن مكانها و حاولت منعها ثمّ دخلت معها في نِقاش حاد داخل الحمّام، و تمّ إبلاغ الشّرطة الّتي باشرت التّحقيق مع الفتاتين، فاعترفت الفتاتان بأنّ الهدف مِن تصوير النّساء عاريات التّسلية لا غير، و أنّهما لم تكونا تنويان من وراء ذلك عملا إجراميا !.
كذلك وقع مثل ذلك كثيرا عبر كاميرات الهواتف النّقالة.
بل أفضع مِن هذا كلّه؛ أنْ وصل الأمر إلى جريمة قتل أودت بحياة امرأة، سببه مثل هذه المخالفات الشّرعية في الحمّامات...؛ و القصّة أنّ امرأة التقت بجارتها في الحمّام الشّعبي لحيّها، و بعد العودة تحدّثت المرأة مع زوجها في شأن الجارة، و وصفت له دون قصد عورتها و قِوامها و بعض الأمور الخاصّة في مناطق مِن جسدها، فما كان مِن هذا الرّجل إلاّ أنْ سرد كلّ ما عرفه لزوج المرأة في جلسة جمعتهما في إحدى المقاهي، و وصف له بعض ما قالت له زوجته ممّا رأته في الحمّام، فتسرّع زوج الموصوفة و فار غضبه و ظنّ سوءً بزوجته، فما كان مِنه إلاّ أنْ هبّ مسرعا إلى بيته، حيث انقضّ على زوجته المسكينة و انهال عليها ضربا بالسّلاح الأبيض...، إلى أن فارقت الحياة، و السّبب اطّلاع النّساء على عورات بعضهنّ داخل تلك الحمّامات !.
كما تحدّثت بعض المواقع الإلكترونية عن وجود غزل و غرام بين بعض البنات بأجساد بعضهنّ؛ إعجاب و حبّ بين العاملات في الحمّام و الفتيات اللّواتي يرتدنه، ذاكرةً أنّ المُكيِّسة تشترك أحيانا في هذه العلاقات من خلال الإعجاب الّذي تبديه بأجساد الفتيات. و ذهبت بعض هذه المواقع إلى حدّ الحديث عن عشقٍ مِثلي بين الفتيات يقع في الحمّامات.
تُضاف إلى كل هذه الحوادث؛ ما يحدث بشكل دائم بين بعض مرتادات الحمّامات، و ما يُثار فيها مِن خصومات و كلام فاحش، و سِباب ساقط و شتم بذيء؛ بسبب التّسابق بين النّساء نحو الأماكن المفضّلة في الحمّام، أو بسبب حسابات سابقة بينهنّ، أو نحو ذلك مِن الأسباب...، كذلك فإنّ الحمّام يُعتبر مكانا للغيبة و النّميمة و الثّرثرة و انتهاك حرمات الغير...
هذا كلّه وقع و لايزال، خاصّة و أنّه ليس للحمّامات ضوابط أو مقاييس معيّنة تحدِّد نوعيّة الدّاخلات، ممّا سمح بكثرة ارتياد الفاسقات، و لا يخفى ما يحمله ارتيادهنّ مِن البلايا و الويلات، و لعلّ ما سبق يغني عن الحِكايات !.
القول الرّاجح على ضوء ما سبق:
بعد إيرادي النّصوص الشّرعية في مسألة دخول المرأة الحمّام و في ما يتّصل بها مِن مسألة عورتها أمام المرأة، و بعد ذِكري أقوال الأئمّة في كلٍّ مِن المسألتين، و سردِ واقع ما يجري في الحمّام و تصويره، أظنّني قد أتيت على الموضوع مِن كلّ جوانبه، و لم يبقى لي مِنه إلاّ إبراز القول المختار بإذن اللّه تعالى؛ فأقول و اللّه المُستعان و عليه التُّكلان:
لا يشكّ أحد أنّ الأصل في الأشياء الجواز و الإباحة حتّى يرد ما يدلّ على التّحريم؛ قال تعالى: [[ وَ سَخّرَ لَكُمْ ما فِي السّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ ]] (سورة الجاثية: الآية 13)، فاللّه خلق السّموات و الأرض و ما فيها لمصلحة بني آدم و جعلها في متناولهم، و ما ذلك إلاّ لتحقيق المقصد مِن التّعمير في الأرض و الاستخلاف، فمن ادّعى شيء مِن التّحريم لهذه الأشياء سواء كانت أطْعِمَة أو أشْرِبَة أو مَراكب أو أدوات أو عادات؛ فهو مُطالب بالدّليل على تحريمه، فإنْ لم يكُن معه دليل لادّعائه؛ فقوله مرفوض مردود عليه.
فهل يدخل ضِمن هذه القاعدة الكبرى -الأصل في الأشياء الجواز و الإباحة حتّى يرد ما يدلّ على التّحريم- دخول المرأة الحمّام ؟
نعم و لا شكّ في هذا !، ذلك أنّ الحمّام مِن جملة المَرافق و البنايات الموجودة و المسخَّرة على هذه الأرض، هذا مِن حيث الأصل و الابتداء، لكن يبقى الشّأن في تماسك هذا الأصل و بقائه في مسألة حُكم دخول المرأة الحمّام مع نصوص الأحاديث الواردة في موضوعها بالخصوص، و الوقائع الجارية في حمّام النّساء.
أمّا النّصوص؛ فقد تقدّم قولي أنّ مسألة الحمّام و حُكم دخول النّساء إليه؛ ترجع أساسا إلى مقصود المرأة مِن الدّخول أوّلا، و حالها عند الاغتسال ثانيا، و واقع ما يجري في الحمّام نفسه ثالثا، و أنّ هذا كلّه مع افتراض صحّة الأحاديث الّتي أشرتُ إلى اختلاف الحفّاظ و علماء الحديث فيها، ذلك أنّ حُكم المسألة و اللّه أعلم؛ كما قلتُ لا يتوقف على ثبوت أو عدم ثبوت أحاديث الحمّام بقدر ما يتوقّف على تصوّر الأسس الثّلاثة المذكورة و الّتي ينبني عليها الحُكم، ذلك أنّ تلك النّصوص ليست تعبّدية إلى درجةٍ غير مفهومة المعنى و لا معلومة المغزى، بل مَقصَد الشّارع مِنها بيّنٌ للنّاظر و المتأمّل -و قد ذكرتُه في هذا البحث-، و أُذكِّر به قائلا أنّ مَقصَد الشّارع في مثل هذا الموضوع على ما بيَّنه بعض فقهائنا؛ هو حِفظ العورات و سترها و أمن الفتنة.
و بعد إثبات أصل إباحة دخول المرأة الحمّام و تقريره، لم يبقى إلاّ النّظر في مدى تماسك ما أثبتناه بالنّظر إلى تحقُّق مَقصَد الشّارع و عدم مخالفته.
فأقول أنَّ قول مَن أجاز مِن العلماء دخول الحمّام بالنّسبة للنّساء؛ لا أعلم أحدٌ مِنهم ذكر الجواز مطلقا، بل احتاطوا لقولهم بشروط وضعوها مقابل ذلك، و هذا القول هو ما أَختارُه و أَرتَضيه مِن بقيّة الأقوال مع الشّروط الّتي أشرتُ إليها و سأذكرها، ذلك أنّ هذا القول يُبقِي على قاعدة الإباحة الأصلية، أمّا شروطه فتحفظه مِن التصدّع و الانهيار، لما تُحقِّقه مِن مقصَد الشّريعة مِن تلك النّصوص الواردة في حمّام النّساء.
أمّا شروط جواز دخول المرأة الحمّام كما استفدتُها متفرّقة مِن كلام بعض الفقهاء؛ فهي كالتّالي:
الشّرط الأوّل: حاجة المرأة إلى دخول الحمّام؛ كأنْ تكون محتاجة إلى الاستشفاء مِن بعض الأمراض فتجد في الحمّام بُغيتها -خاصّة الحمّامات المعدنية-، أو تكون مُحتاجة إلى النّظافة أو التطهّر مِن الحيض و النّفاس و نحو ذلك و لا تملك حمّاما في بيتها، أو كانت تملك ذلك لكنّها تنْعدم وسائل تسخين الماء لديها، فاستعماله باردا قد يضرّ و قد لا يُتمكَّن مِن الاستيعاب به و إزالة الوسخ، أو غير ذلك من الحاجات.
الشّرط الثّاني: عدم الاختلاط بين الجنسين -الرّجال و النّساء-؛ فيجب أنْ يكون الحمّام الّذي تدخله المرأة خاصّا بالنّساء مع الأمن مِن اطّلاع الرّجال عليه أثناء الاغتسال. و ذَكَر الشّيخ يوسف القرضاوي قولا عند المالكيّة؛ أنّ منع النّساء مِن دخول الحمّامات، إنّما كان حين لم يكن لهنّ حمّامات منفردة عن الرّجال. فأمّا مع انفرادهن فلا بأس.
الشّرط الثّالث: عدم كشف العورات؛ فعليه أنْ تستر عورتها و ذلك بأنْ تكون مُئْتَزِرة لتأْمَن مِن اطّلاع غيرها مِن النّساء على عورتها، فإذا لم تَأمَن لا يجوز الدّخول لحُرمة كشف العورة و النّظر إليها، و لِما في ذلك من الفتنة و مجافاة الأخلاق الفاضلة.
الشّرط الرّابع: عدم النّظر إلى العورات؛ و ذلك بأنْ تكن بقيّة النِّساء مُئْتَزِرات، فتحفظ بذلك المرأة بصرها عن الاطّلاع على العورات، كما لا ينبغي أن تتعمّد النّظر إلى شيء مِن ذلك إذا انكشف، بل يجب عليها غضّ البصر حالتئذ.
الشّرط الخامس: الأمن مِن لَمْس العورات؛ فلا تُمَكِّن امرأة مِن تدليك مواضع عورتها.
الشّرط السّادس: الأمْن مِن حصول التّصوير بجميع وسائله و أنواعه؛ و ذلك بأنْ يُعلم أنّ الحمّام مثلا قد وُضعت فيه وسائل صارمة لمنع ذلك، و أنّه لم يحصُل شيء مِن هذه الآفات فيه مِن قبل و نحو ذلك. صحيح أنّ حصول مثل هذا نادر و قليل الوقوع، لكنْ بمجرّد تصوّره و توقّع حدوثه يدفع الغيورين على أعراضهم و الحافظات لشرفهنّ إلى أخذ الاحتياط الشّديد، لما يترتّب على وقوع المرأة فريسة و ضحيّة لمثل هذا المكر مِن عواقب وخيمة قد تنساها ذاكرة الإنسان لكن لنْ تنساها ذاكرة الكاميرا أو آلة التّصوير !، و في هذا الصّدد قال الشّيخ محمّد بولوز: "العوارض و الطّوارئ كاحتمال التّصوير و غيره لا تُبنى عليها الأحكام، لأنّها تبقى مُحْتمَلَة حتّى في الأوضاع العاديّة و الطّبيعية الّتي لا شُبهة فيها، و تكون في حُكم النّادر فلا يُلتفت إليها، و إلاّ دخل المرء في الضّيق و الحرج و تحريم المباحات و ما أحلّ الله لعباده مِن الطيّبات، مع وجوب الاحتياط و الانتباه، و الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، و الإبلاغ عن المفسدين، حتّى يوضَع حدّ لفسادهم و يُعاقبون على صنيعهم".
الشّرط السّابع: عدم انتشار المعاصي أو المشاركة فيها؛ كالغيبة و النّميمة و الاستهزاء و فاحش الكلام و قبيحه، أمّا إنْ نَدر حصول مثل هذا في الحمّام فالنّادر لا حُكم له، لكن يجب الإنكار إذا وقع على كلّ حال. و هذا لورود النّهي عن مجالسة أهل الباطل مِن كلّ نوع عند خوضهم في باطلهم، و إلاّ كان المُجالس مُشاركا لهم في المأثم؛ كما في قوله تعالى: [[ وَ قَدْ نَزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَ يُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ إِنّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَ الكَافِرِينَ فِي جَهَنّمَ جَمِيعاً ]] (سورة النّساء: الآية 140)، و في حديث جابر عن النبي صلى الله عليه و سلّم أنّه قال: (( مَن كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يُدار عليها الخمر )) (رواه الترمذي[الأدب/2725]، و حسّنه الألباني في صحيح سنن الترمذي [2246])؛ فنُهي عن الجلوس و إنْ لم يشرب معهم لأنّه يتضمّن إقراراً على منكرهم، فكذلك الأخت المسلمة لا ينبغي أنْ تشهد تلك المنكرات الّتي تقع في الحمّام و إنْ لم تشارك صاحباتها.
الشّرط الثّامن: عدم استعمال مواد نجسة أو ضارة.
الشّرط التّاسع: إذْن وليّ الأمر أو الزّوج بذهاب المرأة.
و بعد سَرْدي لشروط جواز دخول المرأة الحمّام؛ أقول:
القول بجواز دخول المرأة الحمّام مع إردافه بالشّروط التّسعة؛ في الحقيقة فيه جواب على من حرَّم الحمّام على النّساء أو كرهه، فيُقال له هو كذلك إذا اختلّ شرط من هذه الشّروط أو ضابط من هذه الضوابط، بل و تُحمل أدلّة المنع على هذا المعنى، لذلك قال ابن عابدين مجيبا على بعض المستشهدين ببعض آثار الصّحابة في الحمّام: "وكراهة عثمان محمول على ما فيه كشف عورة" (مع حاشيته: ردّ المحتار على الدرِّ المختار شرح تنوير الأبصار، لابن عابدين [71/9]).
بل صرّح بعض الفقهاء بمنع دخول الحمّام في زمانه و كان قد أجازه قبل ذلك؛ لما رآه مِن وقوع المخالفات و تخلّف بعض شروط الجواز؛ فقال الحَصْكَفي معقِّبا على كلامٍ لصاحب إحكامات الأشباه: "قلت: و في زماننا لا شكّ في الكراهة لتحقّق كشف العورة"(ردّ المحتار على الدرِّ المختار شرح تنوير الأبصار [72/9])، و على نحو ذلك قال البرزلي: "و قد ذاع أنّ النّساء لا يستترن إلاّ القليل و ذلك القليل يرى عورة غيره فأراه اليوم مُجْمَعا على تحريمه إلاّ أنْ يخلو لها أو تكون مع من يجوز له الاطّلاع عليها"(مواهب الجليل لشرح مختصر خليل [114/1]).
و الحقيقة أنّ هذا الّذي ذكرتُه؛ هو نفس الحُكم الّذي ينطبق على حمّام الرّجال، إذْ شروط جواز دخولهم الحمّام لا تختلف كثيرا عن شروط دخول النّساء، بل ظاهر ما نقلته مِن بعض كلام العلماء يشمل الرّجال و النّساء جميعا؛ و يُؤكِّدُ هذا المعنى قول صاحب (ردّ المحتار) في سياق كلامه حول بعض أحكام حمّام النّساء: "و لا يختصّ ذلك بحمّام النّساء، فإنّ في ديارنا كشف العورة الخفيفة أو الغليظة متحقّق مِن فَسَقَة العوام الرّجال، فالّذي ينبغي التّفصيل، و هو إنْ كان الدّاخل يغضّ بصره بحيث لا يرى عورة أحد و لا يَكشِف عورتَه لأحد، فلا كراهة مطلقاً، و إلاّ فالكَراهة في دخول الفريقين حيث كانت العِلّة ما ذُكر"(ردّ المحتار على الدرِّ المختار شرح تنوير الأبصار [72/9]). و جاء في كتاب (مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل): "و أمّا دخول النّساء فقال في المقدمات: الّذي يوجبه النظر أنهن بمنزلة الرجال"(مواهب الجليل لشرح مختصر خليل [114/1]).
و بعد هذا كلِّه؛ يبقى أنْ أطرح هذا السّؤال: هل حمّاماتنا النّسائية بيوت آمنة على الأعراض سالمة مِن الأمراض مُستبقية لأصل الجواز ؟ أم طرأ عليها ما اختلّت به شروط الجواز ؟ و هل هذه الحمّامات على واقعها أحسن حالاً مِن حمّامات أيّامٍ كانت فيها الفضيلة تاجا على الرّؤوس، و مع ذلك قد أُنكِر على تلك الحمّامات كما رأينا مِن طرف أكابر علماء ذلك الزّمان !، و كيف إذا عاش هؤلاء زماننا و رأوا ما آلت إليه حمّامتنا ؟!
قال الإمام الحافظ ابن القطّان: "لا خلاف بين الأمّة في منع بعضهنّ، مِن النّظر إلى عورة بعض، و لا في منعهنّ مِن تجريد العورات للنّساء أمثالهنّ كتجريدهنّ إيّاها للرّجال، هذا ما لا نزاع فيه، فإذا قدّرناهنّ يدخلن الحمّام متجرّدات العورات، فلا يَتَخالَج أحداً شكّ في تحريم ذلك، و تحريم ترك الأزواج لهنّ يفعلنه، فإنّه إقرار على منكر لا خلاف فيه، فإنْ قدّرنا مِنهنّ مَن تدخل متستّرة العورة، و مِنهنّ مَن تدخل متكشّفتها فكذلك، لأنّه لا فائدة مِن استتارها، و هي ترى غيرها منكشفة"(النّظر في أحكام النظر [237-238]).
قال الشّيخ بدر بن ناصر بن بدر البدر: "قرار المرأة في بيتها وبقاؤها فيه هو الواجب، وبإمكانها أن تنظّف نفسها في بيتها بالأدوات المعروفة، أو تدلك نفسها أو مع أختها في البيت؛ لأنّ خروجها من بيتها مَدْعاة إلى الفتنة و سبب شرّ و بلاء، والسّعيد من وُعِظ بغيره لا مَن وَعظ نفسه".
و قال الشّيخ يوسف بن حسن بن محمّد الحمّادي: "و امتناع المرأة عن الذّهاب إلى هذه الأماكن و ما شابهها فيه مصالح عظيمة تجنيها المرأة في دينها، و عِرضها، وخُلقها، و كذلك فإنّ امتناعها دفعٌ للتّهمة عن نفسِها أو سوء الظنّ بها من قِبَلِ الآخرين، فإنّ هذه الأماكن لا يَرِدُها -في الغالب- إلاّ رقيق الدين".
أمّا دخول المريضة و السّقيمة الحمّام بُغية الاستشفاء و العلاج؛ فلم أجد أحسن ممّا قاله شيخنا الدّكتور أبو عبد المُعزّ محمّد علي فركوس، قال -حفظه اللّه-: "غير أنّه إذا ثبت أنّ الحمّام له تأثير-بإذن الله- في علاج السَّقم العالق بالمريضة بتقرير أهل الخبرة مِن أهل الطبّ الثّقات، و ليس لها طريق للعلاج إلاّ به فإنّه يجوز لها أن تدخله ضرورةً تقصّداً لعلاجها، و قد جاء في سنن أبي داود بسند ضعيف عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قال: (( ستُفتح لكم أرض العَجَم، و ستجدون فيها بيوتاً يُقال لها الحمّامات، فلا يدْخُلْنَها الرِّجال إلاّ بالأُزُر، و امنعوها النّساء إلاّ مريضة أو نفساء )) (أخرجه أبو داود في الحمام [4013]، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. و ضعّفه الألباني في ضعيف الجامع [2079]. و في المشكاة (4476])، و نَقَل البغوي عن جبير بن نُفير قال: "قُرئ علينا كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالشّام: لا يدخل الرّجل الحمّام إلاّ بمئزر، و لا تَدْخله المرأة إلاّ مِن سَقَم.."(شرح السنة للبغوي: [12/125]). و هذا المعنى يُقوّيه النّظر و الاعتبار في أنّه إذا كان الأصل أنّ المرأة مأمورة بالتستّر و التحفّظ مِن أن يراها أجنبي و يجوز لها ضرورةً أنْ تكشف بعض أعضائها في الجِراحة أو الولادة أو التّطبيب عامّةً فيجوز لها أيضا في مسألتنا إلحاقا قياسيا، غير أنّ هذه الضّرورة تُقدَّر بقدْرها، فإذا كانت قادرةً على استحمامها بمفردها اسْتغْنَت عنْ غيرها، و إذا احتاجت إلى إحداهنّ لإعانتها على الاغتسال لعَجْزِها فلا يجوز لغيرها الدّخول عليها إذا كُفيَت بالأولى، و إذا ارتفع عنها سقمها و عُفِيَت مِن مَرضِها أو وجدت وسيلة طبّية أخرى تغنيها عنها، فإنّ حُكم المنع يعود لانتفاء الضّرورة و الحاجة عملاً بقاعدة: (إذا زال الخطر عاد الحظر)".
و قريب مِن المريضة و السّقيمة؛ المرأة الصّحيحة الّتي تعوّدت دخول الحمّام و شقّ عليها تركه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "و أمّا المرأة فتدخلها للضّرورة مستورة العورة.
و هل تدخلها إذا تعوّدتها و شقّ عليها ترك العادة ؟ فيه وجهان في مذهب أحمد و غيره.
أحدهما: لها أن تدخلها، كقول أبي حنيفة و اختاره ابن الجوزي.
و الثّاني: لا تدخلها، و هو قول كثير من أصحاب الشّافعي، و أحمد، و غيرهما. و اللّه أعلم"(مجموعة الفتاوى 195/21).
و في كلّ الأحوال يتعيّن على النّساء طاعة أزواجهنّ و أولياء أمورهنّ إذا هم منعوهنّ مِن الذّهاب إلى هذه الحمّامات، لا سيما إذا كان المَنع للأسباب الظّاهرة المذكورة، فإنّهم مسؤولون عنهنّ يوم القيامة. كما ينبغي على الأزواج و الأولياء أْنْ يتلطّفوا معهنّ في ذلك بمحاولة إقناعهنّ و ذكر الأسباب، و أنْ يتساهلوا معهنّ إذا أردْن الذّهاب لغرض الاستشفاء مِن مرض ينفع معه الحمّام، كما ينبغي على المرأة أنْ تفهم موقف زوجها أو وليّها أنّه حبٌّ لها و غيرةٌ عليها، و لا تفهمه تسلّطاً و قَهراً، ذلك أنّ عِرضها عِرضُه و شَرفُها شَرَفُه.
مع الإشارة أنَّهُ صار بالإمكان للمرأة إنشاء حمّامٍ خاصٍّ في بيتها يوفّر لها إلى حدّ بعيد ما يوفّره لها الحمّام العام، خاصّة مع الوسائل الحديثة، ممّا يُغنيها عن تكليف نفسها التنقّل إلى الخارج و ما يُمكن أن ينجرّ عنه، و قد تُحُدّث عن مخطّط هذا الحمّام البيتي و وسائله بالتّفصيل في بعض الكتب و المجلاّت و المواقع الالكترونية، و مراجعته مِن طرف الأخت المسلمة سهل ميسور و الحمد للّه.
و في الأخير؛ لن نجد مثلكِ أختي المسلمة لإتحافنا برأيكِ في موضوع دخولكِ هذه الحمّامات، و أنتِ تعلمين عِلم اليقين ما يجري فيها مِن الوقائع و الأحداث، الّتي قد رآها بصركِ قبل أنْ تسمع عنها آذاننا، ثمّ أعيدي النّظر في الشّروط التِّسعة -شروط جواز دخول المرأة الحمّام-، و انظري بعد ذلك هل ثمّةَ أخلاق مَوفورة أو أعراض مَصونة أو عورات مَحفوظة ؟، ليعود إليكِ الأمر في النّهاية و أنتِ صاحبة الشّأن، فتحكمين بين ما يهواه قلبكِ و يُمليه عليكِ ضميركِ، و ها هي أبواب الحمّامات مفتّحة الأبواب لكِ لنْ تُغلق دونكِ إلاّ أن تُغلقَها يديكِ الطّالبتان للحقّ و عقلكِ الباحث عن الصّواب. و إنّ عِرضكِ أختاه أنفس و أغلى عندنا مِن وزن الجبال ذهباً و فِضّة، و ما تحرُّك جيوش الإسلام عبر تاريخنا المجيد دفاعاً عنه و صيانةً له إلاّ دليل على هذا، فلا يليق أن يرخص اليوم ما سالت مِن أجله الدّماء بالأمس !.
هذا؛ و اعلمي أختي أنّ ربّنا اللّه الرّحمان الرّحيم، ما شرّع الشّرائع و حدّ الحدود، إلاّ لسعادة البشر و دفع الشرّ عنهم و الضّرر، و العاقل هو مَن يطيع ربّه فيهنأ عيشه في الدّنيا و يسعد مُقامه في الجنّة، و الغبيّ مَن يعصي ربّه فتضنك معيشته هنا و يشقى حاله هناك، و ما الحياة الدّنيا إلاّ قنطرة تُعبر بسير قصير، و السّعيد من صبر عمّا يلقاه في سفره مِن سهام لإبليس تعترض طريقه، حتّى يصل إلى بَرّ الأمان و بلاد الأفراح الدّائمة، فلا يضرّه بعد ذلك ما فاته مِن أهواء و ما وجده مِن أحزان.
و أختم قائلا؛ اللّهم استر عوراتنا و عورات أمّهاتنا و زوجاتنا و بناتنا و أخواتنا و عمّاتنا و خالاتنا و سائر نساء المسلمين، و صُن اللّهم أعراضهنّ، و أكرِم منزلتهنّ، و احفظْ حقوقهنّ، و زَيِّنهنّ بالإيمان، و جَمِّلهنّ بالتّقوى، و اغمرهنّ بالعفاف و العافية، و يسّر لهنّ الأزواج الطيّبين، و لا تذرهنّ اللّهم فرادات و أنت خير الوارثين، و أقرّ أعينهنّ بالذّرية الصّالحة، و أَرِهنّ اللّهمّ الحقّ حقّا و ارزقهنّ اتّباعه، و أرِهنّ الباطل باطلا و ارزقهنّ اجتنابه.
ما كان مِن صوابٍ فيما كتبتُ؛ فمِن اللّه وحده الّذي أسأله الإخلاص و السّداد في الأقوال و الأفعال، و أسأله المغفرة و حُسن الثّواب لي و لوالدي و لسائر المسلمين و المسلمات.
و سبحانك اللّهم و بِحَمْدِك، أشهد أنْ لا إله إلاّ أنت، أستغفرك و أتوب إليك. و صَلِّ و سلِّم اللّهم على نبيّك محمّد.
أخوكم محمّد بن حسين حدّاد الجزائري
الأحد 24 رجب 1429هـ، الموافق لـ: 27 جويلية 2008م
http://www.merathdz.com/play.php?catsmktba=1729