كريم زروفي بن مصطفى
:: متابع ::
- إنضم
- 18 يناير 2013
- المشاركات
- 12
- التخصص
- فقه وأصول
- المدينة
- باتنة
- المذهب الفقهي
- مالكي
الأصول النافعة عند الإمام الشاطبي من خلال مقدماته
منذ زمن غير قصير وخط الدراسة الأصولية قد اتخذ مسارا غير الذي اختطه له الأئمة الأولون، وعلى رأسهم الشافعي رحمه الله، وما زال هذا المسار يتحول حتى اصبح الاجتهاد -الذي هو أعظم مرامي علم أصول الفقه- ليس داخلا في مقالات الأصوليين، إذ كيف يتسنى لمقلد–ومعظم الأصوليين مقلدة- أن يفتح لغيره طريق الاجتهاد.[SUP]([/SUP][1][SUP])[/SUP]
وفي هذا السياق يقول الإمام الذهبي (ت750هـ): «..فلا حاجة لك في أصول الفقه، ولا فائدة فيه إلا لمن يصير مجتهدا به، فإذا عرفه ولم فك تقييدا فإنه لم يصنع شيئا بل أتعب نفسه».[SUP]([/SUP][2][SUP])[/SUP]
لقد أسس الإمام الشاطبي منهجا خاصا به، أقامه على أساس نقد مسالك الأصوليين المتقدمين مع تصحيح مسار الدراسة الأصولية فصدر كتابه الموافقات بمقدمات منهجية سماها: "المقدمات العلمية المحتاج إليها في تمهيد المقصود".[SUP]([/SUP][3][SUP])[/SUP] ولا بدمن الإشارة إلى أن كتاب الموافقات مقسم إلى خمسة أقسام شكلت المقدمات القسم الأول منها.
فما يلاحظ من الوهلة الأولى هو ذلك التصور التكاملي لأصول الفقه عند الإمام الشاطبي من خلال مقدماته، التي تعتبر تنظيرا لمشروعه الأصولي ككل، فهو يؤكد على فكرة القطعية في أصول الفقه انطلاقا من المقدمة الأولى إلى غاية المقدمة الثالثة.
وبعد ذلك نجد الشاطبي يتجه لتكريس فكرة ربط الأصول بالمسائل العملية، ابتداء من المقدمة الرابعة.
وهذه النزعة الميالة للاهتمام بالجوانب العلمية نراها قد سادت المقدمة الخامسة التي أشار فيها إلى ضرورة ربط العلم بالعمل، والمقدمة السادسة التي رد فيها على الذين يهتمون بالحدود والماهيات المتلفة للعقل، والمقدمة السابعة التي أكد فيها على حتمية ربط العلم بالعمل، والمقدمة الثامنة التي أشار فيها إلى العلم المعتبر شرعا، والمقدمة التاسعة التي قسم فيها العلم إلى ثلاثة أقسام ما هو من صلب العلم والأشياء التي هي من مـُلح العلم، وأخير العلم الذي ليس من صلب العلم ولا من مُلحه.
أما المقدمة العاشرة فتكلم فيها عن تعاضد العقل والنقل، والمقدمة الحادية عشرة التي يعود فيها إلى التركيز على العلم المتعذر شرعا، والمقدمة الثالثة عشرة التي ينبه فيها إلى ضرورة أخذ العلم عن أهله مع الإشارة إلى أهمية كتب المتقدمين ، والمقدمة الثالثة عشرة التي تكلم فيها عن شروط الأصول العلمية.
فبهذا العمل التنظيري يكون للشاطبي ذلك الفضل الكبير بعد الإمام الشافعي لسلوكه علم الأصول الفقه ذلك المسلك وخروجه عن الجمود.[SUP]([/SUP][4][SUP]) [/SUP]
وللوقوف عند أهم الخصائص المنهجية لهذا العمل الذي قام به الإمام الشاطبي، لا بد من القيام بدراسة تحليلية لجل هذه المقدمات مع التركيز على أهمها:
المقدمة الأولى:
إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية، والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي.
بيان الأول ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع، وبيان الثاني من أوجه أحدهما أنها ترجع إلى أصول عقلية وهي قطعية، وإما إلى الاستقراء الكلي من أدلة الشريعة وذلك قطعي أيضا، ولا ثالث لهذين إلا المجموع منهما، والمؤلف من القطعيات قطعي، وذلك أصول الفقه...[SUP]([/SUP][5][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك يصرح قائلا: «لأن نسبة أصول الفقه من اصل الشريعة كنسبة أصول الدين وإن تفاوتت في المرتبة فقد استوت في أنها كليات معتبرة»[SUP]([/SUP][6][SUP])[/SUP]، ويستنتج قائلا: «ولو سلم ذلك كله فالاصطلاح اطرد على أن المظنونات لا تجعل أصولا وهذا كاف في اطّراح الظنيات من الأصول بإطلاق».[SUP]([/SUP][7][SUP]) [/SUP]
وقد علق الشيخ دراز على عبارة الشاطبي: "أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية" بقوله: « تطلق الأصول على الكليات المنصوصة في الكتاب والسنة، كلا ضرر ولا ضرار، وما عليكم في الدين من حرج، وإنما الأعمال بالنيات، وهذه تسمى أدلة، كالكتاب والسنة والإجماع، وهي قطعية بلا نزاع، وتطلق أيضا على القوانين المستنبطة من الكتاب والسنة التي توزن بها الأدلة الجزئية عند استنباط الأحكام الشرعية منها، وهذه فن الأصول، فمنها ما هو قطعي باتفاق، ومنها ما فيه النزاع بالقطعية والظنية».[SUP]([/SUP][8][SUP]) [/SUP]
وقد أشاد الدكتور عبد المجيد الصغير بهذا المنهج الذي سطره الشاطبي فقال: «أصول الفقه قطعية لا ظنية، تلك هي القاعد الذهبية التي يستهل بها الشاطبي طرحه المنهجي... فإن أولى الخطوات المنهجية لعقلنة التكليف ورفع الخلاف ونشدان الوحدة والاتفاق، لا تتم من غير قطع دابر للشك والظن المهيمنين على المعرفة الفقهية والأصولية القديمة، ولا يتحقق هذا دون الرجوع بتلك المعرفة إلى قواطع الأدلة باعتبار هذه الأخيرة كليات يقينية.. ».[SUP]([/SUP][9][SUP]) [/SUP]
ولكن الإمام الشاطبي نُوزع في هذه القاعدة من حيث التفصيل[SUP]([/SUP][10][SUP])[/SUP]، وهناك من اعترض عليه جملة وفي هذا السياق يقول ابن عاشور: «وقد يظن ظان أن في مسالك علم أصول الفقه غُنية لمن يطلب هذا الغرض، بيد أنه إذا تمكن من علم الأصول رأى رأي اليقين أن معظم مسائله مختلف فيها بين النّظار، مستمر بينهم الخلاف في الفروع تبعا للاختلاف في تلك الأصول».[SUP]([/SUP][11][SUP]) [/SUP]
وأضاف مشككا في قطعية أصول الفقه: «فلم نر أهل الأصول قد دونوا في أصول الفقه أصولا قواطع.. بل نجد القواطع نادرة مثل ذكر الكليات الضرورية لحفظ الذين والنفس، والعقل والنسب والمال والعرض، وما عدا ذلك فمعظم أصول الفقه مظنونة... وقد حاول أبو إسحاق الشاطبي في المقدمة الأولى من كتاب "الموافقات" الاستدلال على كون أصول الفقه قطعية فلم يأت بطائل»[SUP]([/SUP][12][SUP]) [/SUP]
وذهب ابن عاشور أبعد من ذلك إذ قال: «فنحن إذا أردنا أن ندون أصولا قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعتمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة وأن نعيد ذوبها في بوثقة التدوين، ونعيرها بمعيار النظر والنقد.. ثم نعيد صوغ ذلك العلم»[SUP]([/SUP][13][SUP]) [/SUP]
والملاحظ أن هذا المنهج الذي اعتمده الشاطبي في اعتبار أصول الفقه قطعية لا ظنية قد سبقه إليه أعلام من علماء الأصول، يقول أبو الحسين البصري: «لا يجوز التقليد في أصول الفقه والمخطئ في أصول الفقه ملوم غير معذور، بخلاف الفقه فإنه معذور.. فأصول الفقه ملحق بأصول الدين لأن المطالب قطعية»[SUP]([/SUP][14][SUP])[/SUP]. كما أن إمام الحرمين قد أثار قضية القطعية والظنية في أصول الفقه[SUP]([/SUP][15][SUP])[/SUP]. ونجد كذلك كتابات أصولية حديثية قد طرقت هذا الموضوع.[SUP]([/SUP][16][SUP])[/SUP]، وما يمكن استنتاجه هو أن الشاطبي ربط بين القطع والاستقراء، معتبرا المنهج الاستقرائي هو السبيل أو الطريق المعتمدة في الاستدلال على القضايا والمسائل ، استنادا إلى التتبع والتصفح للجزئيات، واستقراء خصوصياتها وحالاتها، للوصول إلى الكليات والقواعد.
المقدمة الثانية:
يقول الإمام الشاطبي : «المقدمات المستعملة في هذا العلم والأدلة المعتمدة فيه لا تكون إلا قطعية، لأنها لو كانت ظنية لم تفد القطع.. وهي أما عقلية، كالراجعة إلى أحكام العقل الثلاثة: الوجوب والجواز والاستحالة، وإما عادية.. اذ من العادي ما هو واجب في العادة أو جائز أو مستحيل، وإما سمعية، وأجلها المستفاد من الأخبار المتواترة في اللفظ، بشرط أن تكون قطعية الدلالة، أو من الأخبار المتواترة في المعنى، أو المستفاد من الاستقراء في موارد الشريعة. فإذا الأحكام المتصرفة في هذا العلم لا تعدو الثلاثة: الوجوب، والجوار. والاستحالة.. أما كون الشيء فرضا أو مندوبا أو مباحا أو مكروها أو حراما، فلا مدخل له في مسائل الأصول من حيث هي أصول، فمن ادخلها فيها فمن باب خلط بعض العلوم ببعض».[SUP]([/SUP][17][SUP])[/SUP]
فما سطره الإمام الشاطبي في هذه المقدمة يعتبر تتمة لما جاء به في المقدمة الأولى، وذلك باعتباره الأدلة المستعملة في أصول الفقه لا تكون إلا قطعية.
كما عمد إلى تصنيف هذه الأدلة إلى عقلية، وعادية، وسمعية، جامعا بين مفهوم التواتر كما استعمله علماء الحديث، ومفهوم الاستقراء كما استثمره علماء الأصول.
وخلص إلى أن الأحكام المتصرفة في هذا العلم لا تخرج عن الوجوب والجواز والاستحالة، مستبعدا الأحكام الفقهية المرتبطة بالفروع.
المقدمة الثالثة:
جاء في هذه المقدمة: «الأدلة العقلية إذا استعملت إنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية، أو معينة في طريقها، أو محققة لمناطها.. لا مستقلة بالدلالة، لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع، وهذا مبين في علم الكلام.[SUP]([/SUP][18][SUP])[/SUP]
ثم أشار إلى الأدلة المعتبرة قائلا: «والأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تظافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق».[SUP]([/SUP][19][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك استطرد قائلا: «وإذا تأملت أدلة كون الإجماع حجة أو خبر الواحد أو القياس حجة فهو راجع إلى هذا المساق، لأن أدلتها مأخوذة من موانع تكاد نفوت الحصر، وهي مع ذلك مختلفة لا ترجع إلى باب واحد، إلا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه.
وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضا فصارت بمجموعها مفيدة للقطع؛ فكذلك مآخذ الأدلة في هذا الكتاب. وهي مآخذ الأصول. إلا أن المتقدمين من الأصوليين ربما تركوا هذا المعنى والتنبيه عليه، فحصل إغفاله من بعض المتأخرين، فيستشكل الاستدلال بالآيات على حدتها وبالأحاديث على انفرادها، اذ لم يأخذها مأخذ الاجتماع فكرَّ عليها بالاعتراض نصا نصا، واستضعف الاستدلال بها على قواعد الأصول المراد منها القطع».[SUP]([/SUP][20][SUP])[/SUP]
وختم هذه المقدمة بقوله: وبهذا امتازت الأصول من الفروع، إذ كانت الفروع مستندة إلى آحاد الأدلة وإلى مآخذ معينة، فبقيت على أصلها من الاستناد إلى الظن، بخلاف الأصول فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الدلالة بإطلاق، لا من آحادها على الخصوص.
وينبني على هذه المقدمة معنى آخر، وهو أن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائما لتصرفات الشرع ومأخوذا معناه من أدلته، فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه، إذا كان ذلكم الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به، لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم.. ويدخل تحت هذا الضرب الاستدلال المرسل..».[SUP]([/SUP][21][SUP])[/SUP]
هذه المقدمة الثالثة وضحت لنا مسألة ارتباط التأصيل بالمذهب على مستوى العقيدة، وفي هذا السياق يقول علاء الدين الحنفي (ت730هـ): «اِعلم أن أصول الفقه فرع لأصول الدين، فكان من الضرورة أن يقع التصنيف على اعتقاد مصنف الكتاب».[SUP]([/SUP][22][SUP])[/SUP]
وبناء عليه نجد الشاطبي يسطر قاعدة مضمونها "أن العقل ليس بشارع"، وهذا ما يتماشى مع أشعريته..[SUP] ([/SUP][23][SUP])[/SUP]
كما بسط الشاطبي من خلال هذه المقدمة مفهوم الأدلة عنده والتي يجب أن تكون مستقرأة من جملة أدلة ظنية تظافرت على معنى قطعين وركز على أهمية اعتبار المسافات في فهم النصوص والاستدلال بها ليخلص في النهاية إلى التفريق بين الأصول والفروع، مع التنصيص على أن كل اصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائما لتصرفات الشرع؛ فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه.
المقدمة الرابعة:
يقول الإمام الشاطبي: «كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية، أو لا تكون عونا في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية... ولا يلزم من هذا أن يكون كل ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه، وإلا أدى ذلك إلى أن يكون سائر العلوم من أصول الفقه: كعلم النحو، واللغة، والاشتقاق، والتصريف والمعاني، والبيان والعدد، والمساحة، والحديث، وغير ذلك من العلوم...»[SUP] ([/SUP][24][SUP])[/SUP]
وبناء على ذلك فليس كل ما يفتقر اليه الفقه يعد من أصوله، وإنما اللازم أن كل اصل يضاف إلى الفقه لا ينبني عليه فقه فليس بأصل له.
وعلى هذا يخرج عن أصول الفقه كثير من المسائل التي تكلم عليها المتأخرون وأدخلوها فيها، كمسألة ابتداء الوضع، ومسألة الإباحة هل هي تكليف أم لا، ومسألة أمر المعدوم، ومسألة هل كان النبي e متعبدا بشرع أم لا، ومسألة لا تكليف إلا بفعل.[SUP] ([/SUP][25][SUP])[/SUP]
ويضيف قائلا: «كما أنه لا ينبغي أن يعد منها ما ليس منها ثم البحث فيه في علمه وإن انبنى عليه فقه، كفصول كثيرة من النحو، نحو معاني الحروف، وتقاسيم الاسم والفعل والحرف، والكلام على الحقيقة والمجاز.. وشبه ذلك غير أنه يتكلم من الأحكام العربية في أصول الفقه على مسألة هي عريقة في الأصول: وهي أن القرآن عربي والسنة عربية...».[SUP]([/SUP][26][SUP])[/SUP]
وفيما يخض المسائل التي ينبني عليها فقه، يقول الشاطبي في شأنها: «وكل مسألة في أصول الفقه ينبني عليها فقه، إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه فوضع الأدلة على صحة بعض المذاهب أو أبطاله عارية أيضا، كالخلاف مع المعتزلة في الواجب المخير، والمحرم المخير، فإن كل فرقة موافقة للأخرى في نفس العمل، وإنما اختلفوا في الاعتقاد بناء على اصل محرر في علم الكلام، وفي أصول الفقه له تقرير أيضا، وهو: هل الوجوب والتحريم أو غيرهما راجعة إلى صفات الأعيان أو إلى خطاب الشرع؟ وكمسألة تكليف الكفار بالفروع عند الفخر الرازي».[SUP]([/SUP][27][SUP])[/SUP]
أثار الإمام الشاطبي في هذه المقدمة عدة إشكالات مرتبطة بمسألة استمداد أصول الفقه، ومسألة الأصول النافعة.
فمن خلال مطلع هذه المقدمة نلاحظ التركيز على ضرورة ارتباط الأصول بالفروع، مع بيان علاقة الأصول بالفقه، وقد أكد الشاطبي على أنه لا يلزم عن هذا الارتباط أن يكون كل ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه.
وبناء على ذلك فقد أخرج عدة مسائل من أصول الفقه، هذه المسائل التي أدخلها بعض المتأخرين، فعبارة الشاطبي "المسائل التي تكلم عليها المتأخرون" تشير إلى هذه المباحث لم تكن ضمن المواد الأساسية لعلم أصول الفقه عند المتقدمين، ومن هذه المسائل ما يلي:
1- مسألة ابتداء الوضع: الملاحظ أن هذه المسألة ترتبط بجذور كلامية ولغوية[SUP]([/SUP][28][SUP])[/SUP]، كما ذكرها بعض المتأخرين من علماء الأصول[SUP]([/SUP][29][SUP])[/SUP]. فإقصاء الشاطبي لهذا المبحث يتفق مع ما انتهى إليه الدرس اللغوي الحديث[SUP]([/SUP][30][SUP])[/SUP].
2- مسألة الإباحة هل هي تكليف أم لا؟
وقد ارتبطت هذه المسألة كذلك بجذور كلامية متعلقة بالتحسين والتقبيح، وحكم الأشياء قبل ورود الشرع.[SUP]([/SUP][31][SUP])[/SUP]
3 - مسألة أمر وتكليف المعدوم:
وهي قضية وثيقة الصلة بالكلام النفسي والخلاف مع المعتزلة.[SUP]([/SUP][32][SUP])[/SUP]
4 - مسالة هل كان النبي e متعبدا بشرع أم لا؟
هناك من ترجم لذلك بحال رسول الله e قبل البعثة، وهي من المسائل الكلامية[SUP]([/SUP][33][SUP])[/SUP]، وقد أدرجها علماء الأصول عند كلامهم عن شرع من قبلنا.[SUP]([/SUP][34][SUP])[/SUP]
5 - مسألة لا تكليف إلى بفعل: "المقتضى من التكليف" :
وهي كذلك من المسائل الكلامية[SUP]([/SUP][35][SUP])[/SUP]. وأخرج الإمام الشاطبي من أصول الفقه كذلك عدة فصول من النحو، وإن انبنت على ذلك بعض الفروع الفقهية.[SUP]([/SUP][36][SUP])[/SUP]
وفي نفس الوقت نجده يدافع عن مبحث عربية القرآن الكريم والسنة النبوية.
وجاء في الشق الثاني من هذه المقدمة أن كل مسألة في أصول الفقه ينبني عليها فقه، إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه، فوضع الأدلة على صحة بعض المذاهب أو أبطاله عارية أيضا، مثل:
أ - الخلاف مع المعتزلة في الواجب المخير : يقول ابن السبكي: فالمعتزلة قالت: «الكل واجب، لأن الحكم يتبع الحسن والقبح»[SUP]([/SUP][37][SUP])[/SUP]
ب – المحرم المخير : وهذه المسألة مثل الواجب المخير.[SUP] ([/SUP][38][SUP])[/SUP]
ج – مسألة: هل الوجوب والتحريم راجع إلى صفات الأعيان ؟: الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى الخلاف في المأمور به، هل الحسن فيه من قضايا الشرع أم من قضايا العقل؟.[SUP]([/SUP][39][SUP])[/SUP]
5 – مسألة تكليف الكفار بالفروع عند الفخر الرازي: فالشاطبي هنا قيد كلامه بما جاء عند الإمام الرازي في هذه المسألة، لأن تأثيرها هو في الآخرة.[SUP]([/SUP][40][SUP])[/SUP]
أما الجانب الفقهي في هذه المسألة فغني بالفروع الفقهية.[SUP] ([/SUP][41][SUP])[/SUP]
فهذا الكلام للإمام الشاطبي يحيلنا على مقاصد التأليف عند المتقدمين، ولعل رسالة الإمام الشافعي تبقى من أحسن النماذج لأنه ركز على المثمر من الأدلة بطريقة موجزة.[SUP]([/SUP][42][SUP])[/SUP]
وبذلك يتبين أن أصول الشافعي تتجه اتجاها نظريا وعلميا، فهو لا يهيم في صور وفروض، ولكن يضبط أمورا واقعة، وموجودة، وبذلك ترى أصولا حية، وقواعد مطبقة، لا قواعد مطلقة مجردة، ولا صورا ذهنية بعيدة عن الوقوع. فلا ترى في قواعده مثلا بحث اشتراط القدرة للتكليف، وكون التكليف بغير المقدور جائز، ولا إمكان النسخ قبل العمل بالمنسوخ وعدم إمكانه، ونحوز ذلك من الصور الذهنية المجردة التي لا تستمد من الواقع.
وفي نفس السياق يقول ابن حزم عن الهدف من تأليفه الإحكام: «وجعلنا هذا الكتاب بتأييد خالقنا عز وجل، مستوعبا للحكم فيما اختلف فيه الناس من أصول الأحكام في الديانة مستوفى، مستقصى محذوف الفضول، محكم الفصول».[SUP]([/SUP][43][SUP])[/SUP]
وخلاصة الأمر أن المقدمة الرابعة التي سطرها الإمام الشاطبي تعتبر لب لباب تنظيره الأصولي المعتمد على الاقتصار من البحث على ما فيه منفعة، مع نقد مسالك الأصوليين وتصحيح مسار الدراسة الأصولية.
وارتباطا بهذا المعنى يقول الدكتور طه عبد الرحمن: «لقد قام الشاطبي بالتمييز في المعارف المندرجة في أصول الفقه بين المعارف الخادمة لغيرها، ويسميها بالمسائل العارية، وبين المعارف غير الخادمة لغيرها أو المسائل المتأصلة، فهو يخرج من المسائل المتداخلة مع الأصول كل المعارف التي تدخل في الفقه ولا تدخل في أصوله، مثل بعض المباحث الكلامية واللغوية والنحوية التي أقحمت في هذا العلم والتي تبحث فيها علوم مستقلة معتبرة، بقوله: ليس كل ما يفتقر إليه الفقه يعد من أصوله. وبناء على ما تقدم يشترط الشاطبي ما يلي:
أ - أن يكون المبحث العلمي المتداخل مع أصول الفقه أقرب المباحث إلى مجال التداول الإسلامي.
ب – أن يكون هذا المبحث مفيدا للفقه بحيث تنبني عليه بعض فروعه.
ج – أن يكون نقل هذا المبحث من المجال العلمي الخاص به إلى علم الأصول غير مانع من قيام نسبة أصيلة بينه وبين الأصول»[SUP]([/SUP][44][SUP])[/SUP].
المقدمة الخامسة :
يقول الإمام الشاطبي: كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا.
والدليل على ذلك استقراء الشريعة: فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملا "مكلفا به".[SUP]([/SUP][46][SUP])[/SUP]
ومثل لذلك بأمثلة كثيرة من القرآن والأحاديث، فيها النهي عن كثرة السؤال فيما لا يفيد ولا ينبني عليه عمل. وعزز ذلك بآثار وردت عن الأئمة الأعلام، وفي هذا المعنى يقول: «وقد كان الإمام مالك بن أنس يكره الكلام فيما ليس تحته عمل.. وبيان عدم الاستحسان فيه من أوجه متعددة:
· منها أنه شغل عما يعني من أمر التكليف.. إذ لا ينبني على ذلك فائدة لا في الدنيا ولا في الآخرة؛
· ومنها أن الشرع قد جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها».[SUP]([/SUP][47][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك صنف الشاطبي العلوم إلى ما يتعلق بها عمل، وما لا يتعلق بها عمل، وربط ذلك بمفهوم الواجب الكفائي. كما أشار إلى علاقة العلوم الشرعية بالعلوم الطبيعية وغيرها قائلا: «فقد تكلف أهل العلوم الطبيعية وغيرها الاحتجاج على صفة الأخذ في علومهم بآيات من القرآن، وأحاديث عن النبيe».[SUP]([/SUP][48][SUP])[/SUP]
ووصف الفلسفة بقوله: «والفلسفة صعبة المأخذ، وعرة المسلك، بعيدة الملتمس..».[SUP] ([/SUP][49][SUP])[/SUP]
وختم هذه المقدمة مقررا ما يلي: «إذا ثبت هذا فالصواب أن ما لا ينبني عليه عمل غير مطلوب في الشرع، فإن كان ثم ما يتوقف عليه المطلوب كألفاظ اللغة، وعلم النحو، والتفسير، وأشباه ذلك فلا إشكال أن ما يتوقف عليه المطلوب مطلوب، إما شرعا، وإما عقلا..».[SUP]([/SUP][50][SUP])[/SUP]
المقدمة السادسة:
هذه المقدمة لها ارتباط بالمقدمة التي سبقتها، يقول الشاطبي: «وذلك أن ما يتوقف عليه معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبي ويليق بالجمهور، وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور.
فأما الأول فهو المطلوب المنبه عليه.. وقد بين عليه السلام الصلاة والحج بفعله وقوله على ما يليق بالجمهور، وكذلك سائر الأمور؛ وهي عادة العرب والشريعة عربية، لأن الأمة أمية، فلا يليق بها من البيان إلا الأمي... فإذا التصورات المستعملة في الشرع إنما هي تقريبات بالألفاظ المترادفة وما قام مقامها من البيانات القريبة.
وأما الثاني وهو ما لا يليق بالجمهور، فعدم مناسبته للجمهور أخرجه عن اعتبار الشرع له،لأن مسالكه صعبة المرام، وما جعل عليكم في الدين من حرج...».[SUP] ([/SUP][51][SUP])[/SUP]
ثم استطرد قائلا: «فظهر أن الحدود على ما اشترطه أرباب الحدود يتعذر الإتيان بها. ومثل هذا لا يجعل من العلوم الشرعية التي يستعان بها فيها. وهذا المعنى تقرر: وهو أن ماهيات الأشياء لا يعرفها على الحقيقة إلا باريها، فتسور الإنسان على معرفتها رمى في عماية، هذا كله في التصور.
وأما التصديق فالذي يليق بالجمهور ما كانت مقدمات الدليل فيه ضرورية، أو قريبة من الضرورية. حسبما يتبين في آخر هذا الكتاب بحول الله وقوته.. وهذا إذا احتيج إلى الدليل في التصديق، وإلا فتقرير الحكم كاف. وعلى هذا النحو مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف. ومن نظر في استدلالهم على إثبات آيات الأحكام التكليفية على أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين، لكن من غير ترتيب متكلف، ولا نظم مؤلف، بل كانوا يرمون بالكلام على عواهنه، ولا يبالون كيف وقع في ترتيبه، إذا كان قريب المأخذ، سهل الملتمس...».[SUP]([/SUP][52][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك خلص إلى ما يلي: «وأما إذا كان الطريق مرتبا على قياسات مركبة أو غير مركبة، إلا أن في إيصالها إلى المطلوب بعض التوقف للعقل، فليس هذا الطريق بشرعي، ولا تجده في القرآن، ولا في السنة، ولا في كلام السلف الصالح، فإن ذلك متلفة للعقل ومحاورة له قبل بلوغ المقصود، وهو بخلاف وضع التعليم، ولأن المطالب الشرعية إنما هي –في عامة الأمر-» وقتية، فاللائق بها ما كان في الفهم وقتيا، وأيضا فإن الإدراكات ليست على أفق واحد، ولا هي جارية على التساوي في كل مطلب إلا في الضرورات وما قاربها، فإنها لا تتفاوت فيما يعتد به، فلو وضعت الأدلة عير غير ذلك لتعذر هذا المطلب، ولكان التكليف خاصا لا عاما، وأدى إلى تكليف ما لا يطاق، أو ما فيه حرج، وكلاهما منتف عن الشريعة.[SUP] ([/SUP][53][SUP])[/SUP]
فمن خلال هذه المقدمة نسجل انتقاد الشاطبي لأرباب الحدود المنطقية، ونقف عند بعض الإشارات التربوية المتعلقة بمناهج التعليم، وفكرة واجب الوقت.
المقدمة السابعة:
جاء في هذه المقدمة أن "كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى، فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى في التبع والقصد الثاني، لا بالقصد الأول، والدليل على ذلك أمور:
· أحدها: أن كل علم لا يفيد عملا فليس في الشرع ما يدل على استحسانه.
· والثاني: أن الشرع جاء بالتعبد.[SUP] ([/SUP][54][SUP])[/SUP]
· والثالث: ما جاء من الأدلة على أن روح العلم هو العمل، وإلا فالعلم عارية وغير منتفع به.[SUP]([/SUP][55][SUP])[/SUP]
المقدمة الثامنة:
يقول الشاطبي: «العلم الذي هو العلم المتعبد شرعا هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلى صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه.. وأهل العلم في طلبه وتحصيله على ثلاث مراتب:
· المرتبة الأولى: الطالبون له ولما يحصلوا على كماله بعد، وإنما هم في طلبه في رتبة التقليد.
· المرتبة الثانية: الواقفون منه على براهينه، ارتفاعا عن حضيض التقليد، واستبصارا فيه.[SUP]([/SUP][56][SUP])[/SUP]
· المرتبة الثالثة: الذين صار لهم العلم وصفا من الأوصاف الثابتة.[SUP]([/SUP][57][SUP])[/SUP]
وقد ذيل هذه المقدمة بمجموعة من الآثار التي تربط العلم بالعمل.
المقدمة التاسعة:
في هذه المقدمة يستمر الشاطبي في تصنيف مراتب العلوم قائلا: من العلم ما هو من صلب العلم، ومنه ما هو من مُلح العلم، لا من صلبه؛ ومنه ما ليس من صلبه ولا من مُلحه. فهذه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: هو الأصل المعتمد، والذي عليه مدار الطلب، وإليه تنتمي مقاصد الراسخين، وذلك ما كان قطيعا أو راجعا إلى أصل قطعي.[SUP]([/SUP][58][SUP])[/SUP]
ثم يتابع قائلا: ولهذا القسم خواص ثلاث، بهن يمتاز عن غيره:
· إحداهما: العموم والاطراد.
· والثانية: الثبوت من غير زوال؛ فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخا، ولا تخصيصا لعمومها، ولا تقييدا لإطلاقها، ولا رفعا لحكم من أحكامها...[SUP] ([/SUP][59][SUP])[/SUP]
· والثالثة: كون العلم حاكما لا محكوما عليه، بمعنى كونه مقيدا لعمل يترتب عيله مما يليق به. فلذلك انحصرت علوم الشريعة فيما يفيد العمل...[SUP]([/SUP][60][SUP])[/SUP]
أما القسم الثاني: «هو المعدود في ملح العلم لا من صلبه ما لم يكن قطعيا، ولا راجعا إلى اصل قطعي، بل إلى ظني. أو كان راجعا إلى قطعي إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص أو اكثر من واحدة...
فأما تخلف الخاصية الأولى وهي الاطراد والعموم فقادح في جعله من صلب العلم، لأن عدم الاطراد يقوي جانب الاطراح، ويضعف جانب الاعتبار...
أما تخلف الخاصية الثانية وهو الثبوت، فيأباه صلب العلم وقواعده».[SUP]([/SUP][61][SUP])[/SUP]
وأما تخلف الخاصية الثالثة وهو كونه حاكما، ومبنيا عليه، فقادح أيضا.[SUP]([/SUP][62][SUP])[/SUP]
وجاءت هذه المقدمة غنية بالأمثلة التطبيقية فيما يخص هذه الأنواع من العلم.
وبعد ذلك تكلم الشاطبي عن القسم الثالث: وهو ما ليس من الصلب ولا من الملح، ما لم يرجع إلى اصل قطعي ولا ظني.[SUP] ([/SUP][63][SUP])[/SUP]
وختم هذه المقدمة بقوله: «ومن هنا لا يسمح بالناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظرة مفيد أو مستفيد، حتى يكون ريان من علم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب، فإنه إن كان هكذا خيف عليه أن ينقلب عليه ما أودع فيه فتنة بالعرض ، وإن كان حكمة بالذات».[SUP]([/SUP][64][SUP])[/SUP]
المقدمة العاشرة:
جاء فيها: «إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا، ويتأخر العقل فيكون تابعا، فلا يسرح العقل في مجال النظر، إلا بقدر ما يسرحه النقل. والدليل على ذلك أمور:
الأول: أنه لو جاز للعقل تخطي مأخذ النقل، لم يكن للحد الذي حده النقل فائدة... فإذا جاز تعديه صار الحد غير مفيد، وذلك في الشريعة باطل.
والثاني: ما تبين في علم الكلام والأصول من أن العقل لا يحسن ولا يقبح.[SUP]([/SUP][65][SUP])[/SUP]
والثالث: أنه لو كان كذلك لجاز إبطال الشريعة بالعقل وهذا محال باطل».[SUP]([/SUP][66][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك بين حدود استعمال العقل عند الأصوليين، وخاصة في مجال القياس والتخصيص.
وختم هذه المقدمة بقوله: «فالعقل لا يحكم على النقل[SUP]([/SUP][67][SUP])[/SUP]. فما يمكن استنتاجه أن هذه المقدمة ترتبط ارتباطا وثيقا بما سطره الشاطبي في المقدمة الثانية، عند حديثه عن علاقة العقل بالنقل.
المقدمة الحادية عشر:
صدرها الشاطبي بقوله: «لما ثبت أن العلم المعتبر هو ما ينبني عليه عمل، صار ذلك منحصرا فيما دلت عليه الأدلة الشرعية، فما اقتضته فهو العلم الذي طلب من المكلف أن يعمله في الجملة، وهذا ظاهر، غير أن الشأن إنما هو في حصر الأدلة الشرعية فإذا انحصرت انحصرت مدارك العلم الشرعي».[SUP]([/SUP][68][SUP])[/SUP]
فتحليل هذه المقدمة يرتبط بمفهوم الدليل عند الشاطبي، ففي كتاب الأدلة حدد الدليل بقوله: «الأدلة الشرعية ضربان: أحدهما ما يرجع إلى النقل المحض. والثاني ما يرجع إلى الرأي المحض،وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة، وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل.
فأما الضرب الأول فالكتاب والسنة. وأما الثاني فالقياس والاستدلال. ويلحق بكل واحد منهما وجوه، إما باتفاق وإما باختلاف. فيلحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه قيل به، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا.. ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إذا قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري، وترجع إلى الضرب الأول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية...».[SUP]([/SUP][69][SUP])[/SUP]
المقدمة الثانية عشرة :
أشار فيها الشاطبي إلى أنجع طرق العلم قائلا: من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن لأهله المتحققين به على الكمال والتمام.[SUP]([/SUP][70][SUP])[/SUP]
ثم تكلم عن العلم الضروري، وبين ما يفتقر إلى نظر وتبصر فقال: «فلا بد من معلم فيها. وإن كان الناس قد اختلفوا: هل يمكن حصول العلم دون معلم أولا؟ فأجاب: فالواقع في مجاري العادات أن لا بد من المعلم، وهو متفق عليه في الجملة، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، كاختلاف جمهور الأئمة والإمامية
–وهم الذين يشترطون المعصوم- والحق مع السواد الأعظم الذي لا يشترط العصمة؛ من جهة أنها مختصة بالأنبياء عليه السلام، ومع ذلك فهو مقرون بافتقار الجاهل إلى المعلم.. وقد قالوا: "إن العلم كان في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال" وهذا الكلام يقضي بأن لا بد في تحصيله من الرجال..
فإذا تقرر هذا فلا يؤخذ إلا ممن تحقق به .. وهو أيضا متفق عليه بين العقلاء؛ إذ من شروطهم في العالم، بأي علم اتفق، أن يكون عارفا بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم، قادرا على التعبير عن مقصوده فيه، عارفا بما يلزم عنه، قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه.. غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ البتة، لأن فروع كل علم إذا انتشرت وانبنى ببعضها على بعض اشتبهت..[SUP] ([/SUP][71][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك يشير الشاطبي إلى شروط التحقق، وأمارات العالم قائلا:
«وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق مع ما تقدم.. وهي ثلاث:
إحداها: العمل بما علم حتى يكون قوله مطابقا لفعله.
والثانية: أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم، لأخذه عنهم، وملازمته لهم؛ فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك.[SUP]([/SUP][72][SUP])[/SUP]
واستطرد في الكلام عن فوائد الملازمة، منتزعا أمثلة حية من حياة الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين ومن جاء بعدهم ثم قال: «وبهذا وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدب بآدابهم.[SUP]([/SUP][73][SUP])[/SUP]
والثالثة: الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدب بأدبه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي e، واقتداء التابعين بالصحابة، وهكذا في كل قرن.[SUP]([/SUP][74][SUP])[/SUP]
ثم انتقل للحديث عن طرق أخذ العلم قائلا:
«وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله فلذلك طريقان:
أحدهما: المشافهة، وهي انفع الطريقتين وأسلمهما، وهذه خاصية جعلها الله تعالى بين العالم والمتعلم، يشهدها كل من زوال العلم؛ فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب، ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة، وحصل له العلم بها بالحضرة..»[SUP] ([/SUP][75][SUP])[/SUP]
أما الطريق الثاني لأخذ العلم حسب الشاطبي فهو: مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين، وهو أيضا نافع في بابه بشرطين:
الأول: أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله، ما يتم له بالنظر في الكتب..
والثاني: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد، فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين. وأصل ذلك التجربة والخبر: أما التجربة فهو أمر مشاهد في أي علم كان؛ فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما بلغه المتقدم.[SUP] ([/SUP][76][SUP])[/SUP]
ثم يختم قائلا: فلذلك صارت كتب المتقدمين، وكلامهم، وسيرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم، على أي نوع كان، وخصوصا علم الشريعة.[SUP]([/SUP][77][SUP])[/SUP]
المقدمة الثالثة عشر:
تكلم فيها عن الشروط العلمية للأصول فقال: «كل أصل علمي يتخذ إماما في العمل فلا يخلو إما أن يجري به العمل على مجاري العادات في مثله، بحيث لا ينخرم منه ركن ولا شرط، أو لا فإن جرى فذلك الأصل صحيح؛ وإلا فلا.[SUP] ([/SUP][78][SUP])[/SUP]
ثم مثل لذلك بقوله: «ومثاله في علم الشريعة الذي نحن في تأصيل أصوله أنه قد تبين في أصول الدين امتناع التخلف فيخبر الله تعالى، وخبر رسول الله e. وثبت في الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يطاق، وألحق به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد. فإذا كل اصل شرعي تخلف عن جريانه على هذه المجاري فلم يطرد، ولا استقام بحسبها في العادة، فليس بأصل يعتمد عليه، ولا قاعدة يستند إليها...».[SUP]([/SUP][79][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك ركز على مسألة الدخول في العمل قائلا: وأما الدخول في الأعمال فهو العمدة في المسألة وهو الأصل في القول بالاستحسان والمصالح المرسلة؛ لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن شرعا أو عقلا، فهو غير جار على استقامة ولا اطراد..[SUP] ([/SUP][80][SUP])[/SUP]
وفي ختام هذه المقدمة شدد الشاطبي على مسألة الورع للخروج عن الخلاف قائلا: هناك مسألة الورع بالخروج عن الخلاف، فإن كثيرا من المتأخرين يعدون الخروج عنه في الأعمال التكليفية مطلوبا، وأدخلوا في المتشابهات المسائل المختلف فيها».[SUP]([/SUP][81][SUP])[/SUP]
خلاصات واستنتاجات :
مع الإمام الشاطبي يمكن الحديث عن نظرية متكاملة، أي نظرية ارتباط المباحث الأصولية بالمسائل العملية، فكأن الشاطبي أراد صياغة علم أصول الفقه من جديد، وبناء عليه يكون هذا الإمام من أعلام التجديد.
ولا بد من الإشارة إلى أن الإشادة بالشاطبي قديما وحديثا ترتبط بكتابه "الموافقات"، هذا الكتاب الذي وصفه الخضري بقوله: «وهو كتاب عظيم الفائدة سهل العبارة، لا يجد الإنسان معه حاجة إلى غيره».[SUP]([/SUP][82][SUP])[/SUP]
واعتبر الدكتور عبد المجيد النجار كتاب الموافقات "مدونات راقية".[SUP]([/SUP][83][SUP])[/SUP]
وفي هذا السياق يقول الشيخ محمد الغزالي عند حديثه عن مدرسة الأصوليين: وهي مدرسة فيها دقة وضبط للنظر واستنباط الأحكام، ولكنه يوشك أن يقال: إن آخر من ظهر فيها وجمدت بعده حتى كادت تموت هو الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات، وهو كتاب جيد، ولكن الرجل توقف عنده علم الأصول عن العطاء...».[SUP]([/SUP][84][SUP])[/SUP]
وعن أهمية هذا العمل التنظيري الذي قام به الشاطبي يقول علال الفاسي: «ثم جاء الإمام النظار أبو إسحاق الشاطبي، فألف كتاب الموافقات، وكأنه أعاد وضع علم أصول الفقه من جديد».[SUP]([/SUP][85][SUP])[/SUP]
وبعد هذه الرحلة العلمية الشيقة مع مقدمات الشاطبي، يمكن تسجيل الخلاصات الآتية:
· ارتباط عملية التأصيل عند الشاطبي بالمنهج الاستقرائي، سواء الاستقراءات الكلية أو الجزئية، قصد الوصول إلى أصول قطعية.
· أهمية الشروط والقيود التي سطرها الشاطبي فيما يتعلق بالأصول العلمية.
· تمييزه لمراتب الأدلة الشرعية، مع بيان موقعها ضنن ثنائية السمع والعقل.
· النظرة العملية للأصول عند الشاطبي، وتركيزه على ما يسمى بـ«الأصول النافعة».
· استعماله لمصطلحي "المتقدمين" و"المتأخرين"، ونقده لمسالك الأصوليين، وتصحيح مسار الدراسة الأصولية.
· توضيحه لحدود ونوعية العلاقة بين علمي الفقه والأصول.
· ضبطه الممارسة العقلية في العلوم الشرعية، مع إبراز التكامل بين الأدلة السمعية والعقلية، وجعل العقل تابعا للنقل.
· نقده للمنطق، واعتباره الحدود المنطقية متلفة للعقل، ومحارة له قبل بلوغ المقصود.
· تحديده للطرق المعتمدة لأخذ العلم، وتصنيفه لمراتب العلوم، ومنازل الناس في طلبهم وتحصيلهم للعلم.
· إشاراته التربوية القيمة، عند حديثه عن العلم ووسائل التعلم والتعليم.
· منزعه الصوفي من كلامه عن علاقة العلم بالعمل، واعتداده بالأعمال القلبية، وتركيزه على القصد التعبدي عند طلب العلم.
· إسهامه في "تخليق" الممارسة الفقهية، بتركيزه على الورع للخروج عن الخلاف.
منذ زمن غير قصير وخط الدراسة الأصولية قد اتخذ مسارا غير الذي اختطه له الأئمة الأولون، وعلى رأسهم الشافعي رحمه الله، وما زال هذا المسار يتحول حتى اصبح الاجتهاد -الذي هو أعظم مرامي علم أصول الفقه- ليس داخلا في مقالات الأصوليين، إذ كيف يتسنى لمقلد–ومعظم الأصوليين مقلدة- أن يفتح لغيره طريق الاجتهاد.[SUP]([/SUP][1][SUP])[/SUP]
وفي هذا السياق يقول الإمام الذهبي (ت750هـ): «..فلا حاجة لك في أصول الفقه، ولا فائدة فيه إلا لمن يصير مجتهدا به، فإذا عرفه ولم فك تقييدا فإنه لم يصنع شيئا بل أتعب نفسه».[SUP]([/SUP][2][SUP])[/SUP]
لقد أسس الإمام الشاطبي منهجا خاصا به، أقامه على أساس نقد مسالك الأصوليين المتقدمين مع تصحيح مسار الدراسة الأصولية فصدر كتابه الموافقات بمقدمات منهجية سماها: "المقدمات العلمية المحتاج إليها في تمهيد المقصود".[SUP]([/SUP][3][SUP])[/SUP] ولا بدمن الإشارة إلى أن كتاب الموافقات مقسم إلى خمسة أقسام شكلت المقدمات القسم الأول منها.
فما يلاحظ من الوهلة الأولى هو ذلك التصور التكاملي لأصول الفقه عند الإمام الشاطبي من خلال مقدماته، التي تعتبر تنظيرا لمشروعه الأصولي ككل، فهو يؤكد على فكرة القطعية في أصول الفقه انطلاقا من المقدمة الأولى إلى غاية المقدمة الثالثة.
وبعد ذلك نجد الشاطبي يتجه لتكريس فكرة ربط الأصول بالمسائل العملية، ابتداء من المقدمة الرابعة.
وهذه النزعة الميالة للاهتمام بالجوانب العلمية نراها قد سادت المقدمة الخامسة التي أشار فيها إلى ضرورة ربط العلم بالعمل، والمقدمة السادسة التي رد فيها على الذين يهتمون بالحدود والماهيات المتلفة للعقل، والمقدمة السابعة التي أكد فيها على حتمية ربط العلم بالعمل، والمقدمة الثامنة التي أشار فيها إلى العلم المعتبر شرعا، والمقدمة التاسعة التي قسم فيها العلم إلى ثلاثة أقسام ما هو من صلب العلم والأشياء التي هي من مـُلح العلم، وأخير العلم الذي ليس من صلب العلم ولا من مُلحه.
أما المقدمة العاشرة فتكلم فيها عن تعاضد العقل والنقل، والمقدمة الحادية عشرة التي يعود فيها إلى التركيز على العلم المتعذر شرعا، والمقدمة الثالثة عشرة التي ينبه فيها إلى ضرورة أخذ العلم عن أهله مع الإشارة إلى أهمية كتب المتقدمين ، والمقدمة الثالثة عشرة التي تكلم فيها عن شروط الأصول العلمية.
فبهذا العمل التنظيري يكون للشاطبي ذلك الفضل الكبير بعد الإمام الشافعي لسلوكه علم الأصول الفقه ذلك المسلك وخروجه عن الجمود.[SUP]([/SUP][4][SUP]) [/SUP]
وللوقوف عند أهم الخصائص المنهجية لهذا العمل الذي قام به الإمام الشاطبي، لا بد من القيام بدراسة تحليلية لجل هذه المقدمات مع التركيز على أهمها:
المقدمة الأولى:
إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية، والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي.
بيان الأول ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع، وبيان الثاني من أوجه أحدهما أنها ترجع إلى أصول عقلية وهي قطعية، وإما إلى الاستقراء الكلي من أدلة الشريعة وذلك قطعي أيضا، ولا ثالث لهذين إلا المجموع منهما، والمؤلف من القطعيات قطعي، وذلك أصول الفقه...[SUP]([/SUP][5][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك يصرح قائلا: «لأن نسبة أصول الفقه من اصل الشريعة كنسبة أصول الدين وإن تفاوتت في المرتبة فقد استوت في أنها كليات معتبرة»[SUP]([/SUP][6][SUP])[/SUP]، ويستنتج قائلا: «ولو سلم ذلك كله فالاصطلاح اطرد على أن المظنونات لا تجعل أصولا وهذا كاف في اطّراح الظنيات من الأصول بإطلاق».[SUP]([/SUP][7][SUP]) [/SUP]
وقد علق الشيخ دراز على عبارة الشاطبي: "أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية" بقوله: « تطلق الأصول على الكليات المنصوصة في الكتاب والسنة، كلا ضرر ولا ضرار، وما عليكم في الدين من حرج، وإنما الأعمال بالنيات، وهذه تسمى أدلة، كالكتاب والسنة والإجماع، وهي قطعية بلا نزاع، وتطلق أيضا على القوانين المستنبطة من الكتاب والسنة التي توزن بها الأدلة الجزئية عند استنباط الأحكام الشرعية منها، وهذه فن الأصول، فمنها ما هو قطعي باتفاق، ومنها ما فيه النزاع بالقطعية والظنية».[SUP]([/SUP][8][SUP]) [/SUP]
وقد أشاد الدكتور عبد المجيد الصغير بهذا المنهج الذي سطره الشاطبي فقال: «أصول الفقه قطعية لا ظنية، تلك هي القاعد الذهبية التي يستهل بها الشاطبي طرحه المنهجي... فإن أولى الخطوات المنهجية لعقلنة التكليف ورفع الخلاف ونشدان الوحدة والاتفاق، لا تتم من غير قطع دابر للشك والظن المهيمنين على المعرفة الفقهية والأصولية القديمة، ولا يتحقق هذا دون الرجوع بتلك المعرفة إلى قواطع الأدلة باعتبار هذه الأخيرة كليات يقينية.. ».[SUP]([/SUP][9][SUP]) [/SUP]
ولكن الإمام الشاطبي نُوزع في هذه القاعدة من حيث التفصيل[SUP]([/SUP][10][SUP])[/SUP]، وهناك من اعترض عليه جملة وفي هذا السياق يقول ابن عاشور: «وقد يظن ظان أن في مسالك علم أصول الفقه غُنية لمن يطلب هذا الغرض، بيد أنه إذا تمكن من علم الأصول رأى رأي اليقين أن معظم مسائله مختلف فيها بين النّظار، مستمر بينهم الخلاف في الفروع تبعا للاختلاف في تلك الأصول».[SUP]([/SUP][11][SUP]) [/SUP]
وأضاف مشككا في قطعية أصول الفقه: «فلم نر أهل الأصول قد دونوا في أصول الفقه أصولا قواطع.. بل نجد القواطع نادرة مثل ذكر الكليات الضرورية لحفظ الذين والنفس، والعقل والنسب والمال والعرض، وما عدا ذلك فمعظم أصول الفقه مظنونة... وقد حاول أبو إسحاق الشاطبي في المقدمة الأولى من كتاب "الموافقات" الاستدلال على كون أصول الفقه قطعية فلم يأت بطائل»[SUP]([/SUP][12][SUP]) [/SUP]
وذهب ابن عاشور أبعد من ذلك إذ قال: «فنحن إذا أردنا أن ندون أصولا قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعتمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة وأن نعيد ذوبها في بوثقة التدوين، ونعيرها بمعيار النظر والنقد.. ثم نعيد صوغ ذلك العلم»[SUP]([/SUP][13][SUP]) [/SUP]
والملاحظ أن هذا المنهج الذي اعتمده الشاطبي في اعتبار أصول الفقه قطعية لا ظنية قد سبقه إليه أعلام من علماء الأصول، يقول أبو الحسين البصري: «لا يجوز التقليد في أصول الفقه والمخطئ في أصول الفقه ملوم غير معذور، بخلاف الفقه فإنه معذور.. فأصول الفقه ملحق بأصول الدين لأن المطالب قطعية»[SUP]([/SUP][14][SUP])[/SUP]. كما أن إمام الحرمين قد أثار قضية القطعية والظنية في أصول الفقه[SUP]([/SUP][15][SUP])[/SUP]. ونجد كذلك كتابات أصولية حديثية قد طرقت هذا الموضوع.[SUP]([/SUP][16][SUP])[/SUP]، وما يمكن استنتاجه هو أن الشاطبي ربط بين القطع والاستقراء، معتبرا المنهج الاستقرائي هو السبيل أو الطريق المعتمدة في الاستدلال على القضايا والمسائل ، استنادا إلى التتبع والتصفح للجزئيات، واستقراء خصوصياتها وحالاتها، للوصول إلى الكليات والقواعد.
المقدمة الثانية:
يقول الإمام الشاطبي : «المقدمات المستعملة في هذا العلم والأدلة المعتمدة فيه لا تكون إلا قطعية، لأنها لو كانت ظنية لم تفد القطع.. وهي أما عقلية، كالراجعة إلى أحكام العقل الثلاثة: الوجوب والجواز والاستحالة، وإما عادية.. اذ من العادي ما هو واجب في العادة أو جائز أو مستحيل، وإما سمعية، وأجلها المستفاد من الأخبار المتواترة في اللفظ، بشرط أن تكون قطعية الدلالة، أو من الأخبار المتواترة في المعنى، أو المستفاد من الاستقراء في موارد الشريعة. فإذا الأحكام المتصرفة في هذا العلم لا تعدو الثلاثة: الوجوب، والجوار. والاستحالة.. أما كون الشيء فرضا أو مندوبا أو مباحا أو مكروها أو حراما، فلا مدخل له في مسائل الأصول من حيث هي أصول، فمن ادخلها فيها فمن باب خلط بعض العلوم ببعض».[SUP]([/SUP][17][SUP])[/SUP]
فما سطره الإمام الشاطبي في هذه المقدمة يعتبر تتمة لما جاء به في المقدمة الأولى، وذلك باعتباره الأدلة المستعملة في أصول الفقه لا تكون إلا قطعية.
كما عمد إلى تصنيف هذه الأدلة إلى عقلية، وعادية، وسمعية، جامعا بين مفهوم التواتر كما استعمله علماء الحديث، ومفهوم الاستقراء كما استثمره علماء الأصول.
وخلص إلى أن الأحكام المتصرفة في هذا العلم لا تخرج عن الوجوب والجواز والاستحالة، مستبعدا الأحكام الفقهية المرتبطة بالفروع.
المقدمة الثالثة:
جاء في هذه المقدمة: «الأدلة العقلية إذا استعملت إنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية، أو معينة في طريقها، أو محققة لمناطها.. لا مستقلة بالدلالة، لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع، وهذا مبين في علم الكلام.[SUP]([/SUP][18][SUP])[/SUP]
ثم أشار إلى الأدلة المعتبرة قائلا: «والأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تظافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق».[SUP]([/SUP][19][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك استطرد قائلا: «وإذا تأملت أدلة كون الإجماع حجة أو خبر الواحد أو القياس حجة فهو راجع إلى هذا المساق، لأن أدلتها مأخوذة من موانع تكاد نفوت الحصر، وهي مع ذلك مختلفة لا ترجع إلى باب واحد، إلا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه.
وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضا فصارت بمجموعها مفيدة للقطع؛ فكذلك مآخذ الأدلة في هذا الكتاب. وهي مآخذ الأصول. إلا أن المتقدمين من الأصوليين ربما تركوا هذا المعنى والتنبيه عليه، فحصل إغفاله من بعض المتأخرين، فيستشكل الاستدلال بالآيات على حدتها وبالأحاديث على انفرادها، اذ لم يأخذها مأخذ الاجتماع فكرَّ عليها بالاعتراض نصا نصا، واستضعف الاستدلال بها على قواعد الأصول المراد منها القطع».[SUP]([/SUP][20][SUP])[/SUP]
وختم هذه المقدمة بقوله: وبهذا امتازت الأصول من الفروع، إذ كانت الفروع مستندة إلى آحاد الأدلة وإلى مآخذ معينة، فبقيت على أصلها من الاستناد إلى الظن، بخلاف الأصول فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الدلالة بإطلاق، لا من آحادها على الخصوص.
وينبني على هذه المقدمة معنى آخر، وهو أن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائما لتصرفات الشرع ومأخوذا معناه من أدلته، فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه، إذا كان ذلكم الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به، لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم.. ويدخل تحت هذا الضرب الاستدلال المرسل..».[SUP]([/SUP][21][SUP])[/SUP]
هذه المقدمة الثالثة وضحت لنا مسألة ارتباط التأصيل بالمذهب على مستوى العقيدة، وفي هذا السياق يقول علاء الدين الحنفي (ت730هـ): «اِعلم أن أصول الفقه فرع لأصول الدين، فكان من الضرورة أن يقع التصنيف على اعتقاد مصنف الكتاب».[SUP]([/SUP][22][SUP])[/SUP]
وبناء عليه نجد الشاطبي يسطر قاعدة مضمونها "أن العقل ليس بشارع"، وهذا ما يتماشى مع أشعريته..[SUP] ([/SUP][23][SUP])[/SUP]
كما بسط الشاطبي من خلال هذه المقدمة مفهوم الأدلة عنده والتي يجب أن تكون مستقرأة من جملة أدلة ظنية تظافرت على معنى قطعين وركز على أهمية اعتبار المسافات في فهم النصوص والاستدلال بها ليخلص في النهاية إلى التفريق بين الأصول والفروع، مع التنصيص على أن كل اصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائما لتصرفات الشرع؛ فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه.
المقدمة الرابعة:
يقول الإمام الشاطبي: «كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية، أو لا تكون عونا في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية... ولا يلزم من هذا أن يكون كل ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه، وإلا أدى ذلك إلى أن يكون سائر العلوم من أصول الفقه: كعلم النحو، واللغة، والاشتقاق، والتصريف والمعاني، والبيان والعدد، والمساحة، والحديث، وغير ذلك من العلوم...»[SUP] ([/SUP][24][SUP])[/SUP]
وبناء على ذلك فليس كل ما يفتقر اليه الفقه يعد من أصوله، وإنما اللازم أن كل اصل يضاف إلى الفقه لا ينبني عليه فقه فليس بأصل له.
وعلى هذا يخرج عن أصول الفقه كثير من المسائل التي تكلم عليها المتأخرون وأدخلوها فيها، كمسألة ابتداء الوضع، ومسألة الإباحة هل هي تكليف أم لا، ومسألة أمر المعدوم، ومسألة هل كان النبي e متعبدا بشرع أم لا، ومسألة لا تكليف إلا بفعل.[SUP] ([/SUP][25][SUP])[/SUP]
ويضيف قائلا: «كما أنه لا ينبغي أن يعد منها ما ليس منها ثم البحث فيه في علمه وإن انبنى عليه فقه، كفصول كثيرة من النحو، نحو معاني الحروف، وتقاسيم الاسم والفعل والحرف، والكلام على الحقيقة والمجاز.. وشبه ذلك غير أنه يتكلم من الأحكام العربية في أصول الفقه على مسألة هي عريقة في الأصول: وهي أن القرآن عربي والسنة عربية...».[SUP]([/SUP][26][SUP])[/SUP]
وفيما يخض المسائل التي ينبني عليها فقه، يقول الشاطبي في شأنها: «وكل مسألة في أصول الفقه ينبني عليها فقه، إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه فوضع الأدلة على صحة بعض المذاهب أو أبطاله عارية أيضا، كالخلاف مع المعتزلة في الواجب المخير، والمحرم المخير، فإن كل فرقة موافقة للأخرى في نفس العمل، وإنما اختلفوا في الاعتقاد بناء على اصل محرر في علم الكلام، وفي أصول الفقه له تقرير أيضا، وهو: هل الوجوب والتحريم أو غيرهما راجعة إلى صفات الأعيان أو إلى خطاب الشرع؟ وكمسألة تكليف الكفار بالفروع عند الفخر الرازي».[SUP]([/SUP][27][SUP])[/SUP]
أثار الإمام الشاطبي في هذه المقدمة عدة إشكالات مرتبطة بمسألة استمداد أصول الفقه، ومسألة الأصول النافعة.
فمن خلال مطلع هذه المقدمة نلاحظ التركيز على ضرورة ارتباط الأصول بالفروع، مع بيان علاقة الأصول بالفقه، وقد أكد الشاطبي على أنه لا يلزم عن هذا الارتباط أن يكون كل ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه.
وبناء على ذلك فقد أخرج عدة مسائل من أصول الفقه، هذه المسائل التي أدخلها بعض المتأخرين، فعبارة الشاطبي "المسائل التي تكلم عليها المتأخرون" تشير إلى هذه المباحث لم تكن ضمن المواد الأساسية لعلم أصول الفقه عند المتقدمين، ومن هذه المسائل ما يلي:
1- مسألة ابتداء الوضع: الملاحظ أن هذه المسألة ترتبط بجذور كلامية ولغوية[SUP]([/SUP][28][SUP])[/SUP]، كما ذكرها بعض المتأخرين من علماء الأصول[SUP]([/SUP][29][SUP])[/SUP]. فإقصاء الشاطبي لهذا المبحث يتفق مع ما انتهى إليه الدرس اللغوي الحديث[SUP]([/SUP][30][SUP])[/SUP].
2- مسألة الإباحة هل هي تكليف أم لا؟
وقد ارتبطت هذه المسألة كذلك بجذور كلامية متعلقة بالتحسين والتقبيح، وحكم الأشياء قبل ورود الشرع.[SUP]([/SUP][31][SUP])[/SUP]
3 - مسألة أمر وتكليف المعدوم:
وهي قضية وثيقة الصلة بالكلام النفسي والخلاف مع المعتزلة.[SUP]([/SUP][32][SUP])[/SUP]
4 - مسالة هل كان النبي e متعبدا بشرع أم لا؟
هناك من ترجم لذلك بحال رسول الله e قبل البعثة، وهي من المسائل الكلامية[SUP]([/SUP][33][SUP])[/SUP]، وقد أدرجها علماء الأصول عند كلامهم عن شرع من قبلنا.[SUP]([/SUP][34][SUP])[/SUP]
5 - مسألة لا تكليف إلى بفعل: "المقتضى من التكليف" :
وهي كذلك من المسائل الكلامية[SUP]([/SUP][35][SUP])[/SUP]. وأخرج الإمام الشاطبي من أصول الفقه كذلك عدة فصول من النحو، وإن انبنت على ذلك بعض الفروع الفقهية.[SUP]([/SUP][36][SUP])[/SUP]
وفي نفس الوقت نجده يدافع عن مبحث عربية القرآن الكريم والسنة النبوية.
وجاء في الشق الثاني من هذه المقدمة أن كل مسألة في أصول الفقه ينبني عليها فقه، إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه، فوضع الأدلة على صحة بعض المذاهب أو أبطاله عارية أيضا، مثل:
أ - الخلاف مع المعتزلة في الواجب المخير : يقول ابن السبكي: فالمعتزلة قالت: «الكل واجب، لأن الحكم يتبع الحسن والقبح»[SUP]([/SUP][37][SUP])[/SUP]
ب – المحرم المخير : وهذه المسألة مثل الواجب المخير.[SUP] ([/SUP][38][SUP])[/SUP]
ج – مسألة: هل الوجوب والتحريم راجع إلى صفات الأعيان ؟: الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى الخلاف في المأمور به، هل الحسن فيه من قضايا الشرع أم من قضايا العقل؟.[SUP]([/SUP][39][SUP])[/SUP]
5 – مسألة تكليف الكفار بالفروع عند الفخر الرازي: فالشاطبي هنا قيد كلامه بما جاء عند الإمام الرازي في هذه المسألة، لأن تأثيرها هو في الآخرة.[SUP]([/SUP][40][SUP])[/SUP]
أما الجانب الفقهي في هذه المسألة فغني بالفروع الفقهية.[SUP] ([/SUP][41][SUP])[/SUP]
فهذا الكلام للإمام الشاطبي يحيلنا على مقاصد التأليف عند المتقدمين، ولعل رسالة الإمام الشافعي تبقى من أحسن النماذج لأنه ركز على المثمر من الأدلة بطريقة موجزة.[SUP]([/SUP][42][SUP])[/SUP]
وبذلك يتبين أن أصول الشافعي تتجه اتجاها نظريا وعلميا، فهو لا يهيم في صور وفروض، ولكن يضبط أمورا واقعة، وموجودة، وبذلك ترى أصولا حية، وقواعد مطبقة، لا قواعد مطلقة مجردة، ولا صورا ذهنية بعيدة عن الوقوع. فلا ترى في قواعده مثلا بحث اشتراط القدرة للتكليف، وكون التكليف بغير المقدور جائز، ولا إمكان النسخ قبل العمل بالمنسوخ وعدم إمكانه، ونحوز ذلك من الصور الذهنية المجردة التي لا تستمد من الواقع.
وفي نفس السياق يقول ابن حزم عن الهدف من تأليفه الإحكام: «وجعلنا هذا الكتاب بتأييد خالقنا عز وجل، مستوعبا للحكم فيما اختلف فيه الناس من أصول الأحكام في الديانة مستوفى، مستقصى محذوف الفضول، محكم الفصول».[SUP]([/SUP][43][SUP])[/SUP]
وخلاصة الأمر أن المقدمة الرابعة التي سطرها الإمام الشاطبي تعتبر لب لباب تنظيره الأصولي المعتمد على الاقتصار من البحث على ما فيه منفعة، مع نقد مسالك الأصوليين وتصحيح مسار الدراسة الأصولية.
وارتباطا بهذا المعنى يقول الدكتور طه عبد الرحمن: «لقد قام الشاطبي بالتمييز في المعارف المندرجة في أصول الفقه بين المعارف الخادمة لغيرها، ويسميها بالمسائل العارية، وبين المعارف غير الخادمة لغيرها أو المسائل المتأصلة، فهو يخرج من المسائل المتداخلة مع الأصول كل المعارف التي تدخل في الفقه ولا تدخل في أصوله، مثل بعض المباحث الكلامية واللغوية والنحوية التي أقحمت في هذا العلم والتي تبحث فيها علوم مستقلة معتبرة، بقوله: ليس كل ما يفتقر إليه الفقه يعد من أصوله. وبناء على ما تقدم يشترط الشاطبي ما يلي:
أ - أن يكون المبحث العلمي المتداخل مع أصول الفقه أقرب المباحث إلى مجال التداول الإسلامي.
ب – أن يكون هذا المبحث مفيدا للفقه بحيث تنبني عليه بعض فروعه.
ج – أن يكون نقل هذا المبحث من المجال العلمي الخاص به إلى علم الأصول غير مانع من قيام نسبة أصيلة بينه وبين الأصول»[SUP]([/SUP][44][SUP])[/SUP].
المقدمة الخامسة :
يقول الإمام الشاطبي: كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا.
والدليل على ذلك استقراء الشريعة: فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملا "مكلفا به".[SUP]([/SUP][46][SUP])[/SUP]
ومثل لذلك بأمثلة كثيرة من القرآن والأحاديث، فيها النهي عن كثرة السؤال فيما لا يفيد ولا ينبني عليه عمل. وعزز ذلك بآثار وردت عن الأئمة الأعلام، وفي هذا المعنى يقول: «وقد كان الإمام مالك بن أنس يكره الكلام فيما ليس تحته عمل.. وبيان عدم الاستحسان فيه من أوجه متعددة:
· منها أنه شغل عما يعني من أمر التكليف.. إذ لا ينبني على ذلك فائدة لا في الدنيا ولا في الآخرة؛
· ومنها أن الشرع قد جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها».[SUP]([/SUP][47][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك صنف الشاطبي العلوم إلى ما يتعلق بها عمل، وما لا يتعلق بها عمل، وربط ذلك بمفهوم الواجب الكفائي. كما أشار إلى علاقة العلوم الشرعية بالعلوم الطبيعية وغيرها قائلا: «فقد تكلف أهل العلوم الطبيعية وغيرها الاحتجاج على صفة الأخذ في علومهم بآيات من القرآن، وأحاديث عن النبيe».[SUP]([/SUP][48][SUP])[/SUP]
ووصف الفلسفة بقوله: «والفلسفة صعبة المأخذ، وعرة المسلك، بعيدة الملتمس..».[SUP] ([/SUP][49][SUP])[/SUP]
وختم هذه المقدمة مقررا ما يلي: «إذا ثبت هذا فالصواب أن ما لا ينبني عليه عمل غير مطلوب في الشرع، فإن كان ثم ما يتوقف عليه المطلوب كألفاظ اللغة، وعلم النحو، والتفسير، وأشباه ذلك فلا إشكال أن ما يتوقف عليه المطلوب مطلوب، إما شرعا، وإما عقلا..».[SUP]([/SUP][50][SUP])[/SUP]
المقدمة السادسة:
هذه المقدمة لها ارتباط بالمقدمة التي سبقتها، يقول الشاطبي: «وذلك أن ما يتوقف عليه معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبي ويليق بالجمهور، وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور.
فأما الأول فهو المطلوب المنبه عليه.. وقد بين عليه السلام الصلاة والحج بفعله وقوله على ما يليق بالجمهور، وكذلك سائر الأمور؛ وهي عادة العرب والشريعة عربية، لأن الأمة أمية، فلا يليق بها من البيان إلا الأمي... فإذا التصورات المستعملة في الشرع إنما هي تقريبات بالألفاظ المترادفة وما قام مقامها من البيانات القريبة.
وأما الثاني وهو ما لا يليق بالجمهور، فعدم مناسبته للجمهور أخرجه عن اعتبار الشرع له،لأن مسالكه صعبة المرام، وما جعل عليكم في الدين من حرج...».[SUP] ([/SUP][51][SUP])[/SUP]
ثم استطرد قائلا: «فظهر أن الحدود على ما اشترطه أرباب الحدود يتعذر الإتيان بها. ومثل هذا لا يجعل من العلوم الشرعية التي يستعان بها فيها. وهذا المعنى تقرر: وهو أن ماهيات الأشياء لا يعرفها على الحقيقة إلا باريها، فتسور الإنسان على معرفتها رمى في عماية، هذا كله في التصور.
وأما التصديق فالذي يليق بالجمهور ما كانت مقدمات الدليل فيه ضرورية، أو قريبة من الضرورية. حسبما يتبين في آخر هذا الكتاب بحول الله وقوته.. وهذا إذا احتيج إلى الدليل في التصديق، وإلا فتقرير الحكم كاف. وعلى هذا النحو مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف. ومن نظر في استدلالهم على إثبات آيات الأحكام التكليفية على أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين، لكن من غير ترتيب متكلف، ولا نظم مؤلف، بل كانوا يرمون بالكلام على عواهنه، ولا يبالون كيف وقع في ترتيبه، إذا كان قريب المأخذ، سهل الملتمس...».[SUP]([/SUP][52][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك خلص إلى ما يلي: «وأما إذا كان الطريق مرتبا على قياسات مركبة أو غير مركبة، إلا أن في إيصالها إلى المطلوب بعض التوقف للعقل، فليس هذا الطريق بشرعي، ولا تجده في القرآن، ولا في السنة، ولا في كلام السلف الصالح، فإن ذلك متلفة للعقل ومحاورة له قبل بلوغ المقصود، وهو بخلاف وضع التعليم، ولأن المطالب الشرعية إنما هي –في عامة الأمر-» وقتية، فاللائق بها ما كان في الفهم وقتيا، وأيضا فإن الإدراكات ليست على أفق واحد، ولا هي جارية على التساوي في كل مطلب إلا في الضرورات وما قاربها، فإنها لا تتفاوت فيما يعتد به، فلو وضعت الأدلة عير غير ذلك لتعذر هذا المطلب، ولكان التكليف خاصا لا عاما، وأدى إلى تكليف ما لا يطاق، أو ما فيه حرج، وكلاهما منتف عن الشريعة.[SUP] ([/SUP][53][SUP])[/SUP]
فمن خلال هذه المقدمة نسجل انتقاد الشاطبي لأرباب الحدود المنطقية، ونقف عند بعض الإشارات التربوية المتعلقة بمناهج التعليم، وفكرة واجب الوقت.
المقدمة السابعة:
جاء في هذه المقدمة أن "كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى، فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى في التبع والقصد الثاني، لا بالقصد الأول، والدليل على ذلك أمور:
· أحدها: أن كل علم لا يفيد عملا فليس في الشرع ما يدل على استحسانه.
· والثاني: أن الشرع جاء بالتعبد.[SUP] ([/SUP][54][SUP])[/SUP]
· والثالث: ما جاء من الأدلة على أن روح العلم هو العمل، وإلا فالعلم عارية وغير منتفع به.[SUP]([/SUP][55][SUP])[/SUP]
المقدمة الثامنة:
يقول الشاطبي: «العلم الذي هو العلم المتعبد شرعا هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلى صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه.. وأهل العلم في طلبه وتحصيله على ثلاث مراتب:
· المرتبة الأولى: الطالبون له ولما يحصلوا على كماله بعد، وإنما هم في طلبه في رتبة التقليد.
· المرتبة الثانية: الواقفون منه على براهينه، ارتفاعا عن حضيض التقليد، واستبصارا فيه.[SUP]([/SUP][56][SUP])[/SUP]
· المرتبة الثالثة: الذين صار لهم العلم وصفا من الأوصاف الثابتة.[SUP]([/SUP][57][SUP])[/SUP]
وقد ذيل هذه المقدمة بمجموعة من الآثار التي تربط العلم بالعمل.
المقدمة التاسعة:
في هذه المقدمة يستمر الشاطبي في تصنيف مراتب العلوم قائلا: من العلم ما هو من صلب العلم، ومنه ما هو من مُلح العلم، لا من صلبه؛ ومنه ما ليس من صلبه ولا من مُلحه. فهذه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: هو الأصل المعتمد، والذي عليه مدار الطلب، وإليه تنتمي مقاصد الراسخين، وذلك ما كان قطيعا أو راجعا إلى أصل قطعي.[SUP]([/SUP][58][SUP])[/SUP]
ثم يتابع قائلا: ولهذا القسم خواص ثلاث، بهن يمتاز عن غيره:
· إحداهما: العموم والاطراد.
· والثانية: الثبوت من غير زوال؛ فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخا، ولا تخصيصا لعمومها، ولا تقييدا لإطلاقها، ولا رفعا لحكم من أحكامها...[SUP] ([/SUP][59][SUP])[/SUP]
· والثالثة: كون العلم حاكما لا محكوما عليه، بمعنى كونه مقيدا لعمل يترتب عيله مما يليق به. فلذلك انحصرت علوم الشريعة فيما يفيد العمل...[SUP]([/SUP][60][SUP])[/SUP]
أما القسم الثاني: «هو المعدود في ملح العلم لا من صلبه ما لم يكن قطعيا، ولا راجعا إلى اصل قطعي، بل إلى ظني. أو كان راجعا إلى قطعي إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص أو اكثر من واحدة...
فأما تخلف الخاصية الأولى وهي الاطراد والعموم فقادح في جعله من صلب العلم، لأن عدم الاطراد يقوي جانب الاطراح، ويضعف جانب الاعتبار...
أما تخلف الخاصية الثانية وهو الثبوت، فيأباه صلب العلم وقواعده».[SUP]([/SUP][61][SUP])[/SUP]
وأما تخلف الخاصية الثالثة وهو كونه حاكما، ومبنيا عليه، فقادح أيضا.[SUP]([/SUP][62][SUP])[/SUP]
وجاءت هذه المقدمة غنية بالأمثلة التطبيقية فيما يخص هذه الأنواع من العلم.
وبعد ذلك تكلم الشاطبي عن القسم الثالث: وهو ما ليس من الصلب ولا من الملح، ما لم يرجع إلى اصل قطعي ولا ظني.[SUP] ([/SUP][63][SUP])[/SUP]
وختم هذه المقدمة بقوله: «ومن هنا لا يسمح بالناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظرة مفيد أو مستفيد، حتى يكون ريان من علم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب، فإنه إن كان هكذا خيف عليه أن ينقلب عليه ما أودع فيه فتنة بالعرض ، وإن كان حكمة بالذات».[SUP]([/SUP][64][SUP])[/SUP]
المقدمة العاشرة:
جاء فيها: «إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا، ويتأخر العقل فيكون تابعا، فلا يسرح العقل في مجال النظر، إلا بقدر ما يسرحه النقل. والدليل على ذلك أمور:
الأول: أنه لو جاز للعقل تخطي مأخذ النقل، لم يكن للحد الذي حده النقل فائدة... فإذا جاز تعديه صار الحد غير مفيد، وذلك في الشريعة باطل.
والثاني: ما تبين في علم الكلام والأصول من أن العقل لا يحسن ولا يقبح.[SUP]([/SUP][65][SUP])[/SUP]
والثالث: أنه لو كان كذلك لجاز إبطال الشريعة بالعقل وهذا محال باطل».[SUP]([/SUP][66][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك بين حدود استعمال العقل عند الأصوليين، وخاصة في مجال القياس والتخصيص.
وختم هذه المقدمة بقوله: «فالعقل لا يحكم على النقل[SUP]([/SUP][67][SUP])[/SUP]. فما يمكن استنتاجه أن هذه المقدمة ترتبط ارتباطا وثيقا بما سطره الشاطبي في المقدمة الثانية، عند حديثه عن علاقة العقل بالنقل.
المقدمة الحادية عشر:
صدرها الشاطبي بقوله: «لما ثبت أن العلم المعتبر هو ما ينبني عليه عمل، صار ذلك منحصرا فيما دلت عليه الأدلة الشرعية، فما اقتضته فهو العلم الذي طلب من المكلف أن يعمله في الجملة، وهذا ظاهر، غير أن الشأن إنما هو في حصر الأدلة الشرعية فإذا انحصرت انحصرت مدارك العلم الشرعي».[SUP]([/SUP][68][SUP])[/SUP]
فتحليل هذه المقدمة يرتبط بمفهوم الدليل عند الشاطبي، ففي كتاب الأدلة حدد الدليل بقوله: «الأدلة الشرعية ضربان: أحدهما ما يرجع إلى النقل المحض. والثاني ما يرجع إلى الرأي المحض،وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة، وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل.
فأما الضرب الأول فالكتاب والسنة. وأما الثاني فالقياس والاستدلال. ويلحق بكل واحد منهما وجوه، إما باتفاق وإما باختلاف. فيلحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه قيل به، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا.. ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إذا قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري، وترجع إلى الضرب الأول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية...».[SUP]([/SUP][69][SUP])[/SUP]
المقدمة الثانية عشرة :
أشار فيها الشاطبي إلى أنجع طرق العلم قائلا: من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن لأهله المتحققين به على الكمال والتمام.[SUP]([/SUP][70][SUP])[/SUP]
ثم تكلم عن العلم الضروري، وبين ما يفتقر إلى نظر وتبصر فقال: «فلا بد من معلم فيها. وإن كان الناس قد اختلفوا: هل يمكن حصول العلم دون معلم أولا؟ فأجاب: فالواقع في مجاري العادات أن لا بد من المعلم، وهو متفق عليه في الجملة، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، كاختلاف جمهور الأئمة والإمامية
–وهم الذين يشترطون المعصوم- والحق مع السواد الأعظم الذي لا يشترط العصمة؛ من جهة أنها مختصة بالأنبياء عليه السلام، ومع ذلك فهو مقرون بافتقار الجاهل إلى المعلم.. وقد قالوا: "إن العلم كان في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال" وهذا الكلام يقضي بأن لا بد في تحصيله من الرجال..
فإذا تقرر هذا فلا يؤخذ إلا ممن تحقق به .. وهو أيضا متفق عليه بين العقلاء؛ إذ من شروطهم في العالم، بأي علم اتفق، أن يكون عارفا بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم، قادرا على التعبير عن مقصوده فيه، عارفا بما يلزم عنه، قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه.. غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ البتة، لأن فروع كل علم إذا انتشرت وانبنى ببعضها على بعض اشتبهت..[SUP] ([/SUP][71][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك يشير الشاطبي إلى شروط التحقق، وأمارات العالم قائلا:
«وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق مع ما تقدم.. وهي ثلاث:
إحداها: العمل بما علم حتى يكون قوله مطابقا لفعله.
والثانية: أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم، لأخذه عنهم، وملازمته لهم؛ فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك.[SUP]([/SUP][72][SUP])[/SUP]
واستطرد في الكلام عن فوائد الملازمة، منتزعا أمثلة حية من حياة الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين ومن جاء بعدهم ثم قال: «وبهذا وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدب بآدابهم.[SUP]([/SUP][73][SUP])[/SUP]
والثالثة: الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدب بأدبه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي e، واقتداء التابعين بالصحابة، وهكذا في كل قرن.[SUP]([/SUP][74][SUP])[/SUP]
ثم انتقل للحديث عن طرق أخذ العلم قائلا:
«وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله فلذلك طريقان:
أحدهما: المشافهة، وهي انفع الطريقتين وأسلمهما، وهذه خاصية جعلها الله تعالى بين العالم والمتعلم، يشهدها كل من زوال العلم؛ فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب، ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة، وحصل له العلم بها بالحضرة..»[SUP] ([/SUP][75][SUP])[/SUP]
أما الطريق الثاني لأخذ العلم حسب الشاطبي فهو: مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين، وهو أيضا نافع في بابه بشرطين:
الأول: أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله، ما يتم له بالنظر في الكتب..
والثاني: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد، فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين. وأصل ذلك التجربة والخبر: أما التجربة فهو أمر مشاهد في أي علم كان؛ فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما بلغه المتقدم.[SUP] ([/SUP][76][SUP])[/SUP]
ثم يختم قائلا: فلذلك صارت كتب المتقدمين، وكلامهم، وسيرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم، على أي نوع كان، وخصوصا علم الشريعة.[SUP]([/SUP][77][SUP])[/SUP]
المقدمة الثالثة عشر:
تكلم فيها عن الشروط العلمية للأصول فقال: «كل أصل علمي يتخذ إماما في العمل فلا يخلو إما أن يجري به العمل على مجاري العادات في مثله، بحيث لا ينخرم منه ركن ولا شرط، أو لا فإن جرى فذلك الأصل صحيح؛ وإلا فلا.[SUP] ([/SUP][78][SUP])[/SUP]
ثم مثل لذلك بقوله: «ومثاله في علم الشريعة الذي نحن في تأصيل أصوله أنه قد تبين في أصول الدين امتناع التخلف فيخبر الله تعالى، وخبر رسول الله e. وثبت في الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يطاق، وألحق به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد. فإذا كل اصل شرعي تخلف عن جريانه على هذه المجاري فلم يطرد، ولا استقام بحسبها في العادة، فليس بأصل يعتمد عليه، ولا قاعدة يستند إليها...».[SUP]([/SUP][79][SUP])[/SUP]
وبعد ذلك ركز على مسألة الدخول في العمل قائلا: وأما الدخول في الأعمال فهو العمدة في المسألة وهو الأصل في القول بالاستحسان والمصالح المرسلة؛ لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن شرعا أو عقلا، فهو غير جار على استقامة ولا اطراد..[SUP] ([/SUP][80][SUP])[/SUP]
وفي ختام هذه المقدمة شدد الشاطبي على مسألة الورع للخروج عن الخلاف قائلا: هناك مسألة الورع بالخروج عن الخلاف، فإن كثيرا من المتأخرين يعدون الخروج عنه في الأعمال التكليفية مطلوبا، وأدخلوا في المتشابهات المسائل المختلف فيها».[SUP]([/SUP][81][SUP])[/SUP]
خلاصات واستنتاجات :
مع الإمام الشاطبي يمكن الحديث عن نظرية متكاملة، أي نظرية ارتباط المباحث الأصولية بالمسائل العملية، فكأن الشاطبي أراد صياغة علم أصول الفقه من جديد، وبناء عليه يكون هذا الإمام من أعلام التجديد.
ولا بد من الإشارة إلى أن الإشادة بالشاطبي قديما وحديثا ترتبط بكتابه "الموافقات"، هذا الكتاب الذي وصفه الخضري بقوله: «وهو كتاب عظيم الفائدة سهل العبارة، لا يجد الإنسان معه حاجة إلى غيره».[SUP]([/SUP][82][SUP])[/SUP]
واعتبر الدكتور عبد المجيد النجار كتاب الموافقات "مدونات راقية".[SUP]([/SUP][83][SUP])[/SUP]
وفي هذا السياق يقول الشيخ محمد الغزالي عند حديثه عن مدرسة الأصوليين: وهي مدرسة فيها دقة وضبط للنظر واستنباط الأحكام، ولكنه يوشك أن يقال: إن آخر من ظهر فيها وجمدت بعده حتى كادت تموت هو الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات، وهو كتاب جيد، ولكن الرجل توقف عنده علم الأصول عن العطاء...».[SUP]([/SUP][84][SUP])[/SUP]
وعن أهمية هذا العمل التنظيري الذي قام به الشاطبي يقول علال الفاسي: «ثم جاء الإمام النظار أبو إسحاق الشاطبي، فألف كتاب الموافقات، وكأنه أعاد وضع علم أصول الفقه من جديد».[SUP]([/SUP][85][SUP])[/SUP]
وبعد هذه الرحلة العلمية الشيقة مع مقدمات الشاطبي، يمكن تسجيل الخلاصات الآتية:
· ارتباط عملية التأصيل عند الشاطبي بالمنهج الاستقرائي، سواء الاستقراءات الكلية أو الجزئية، قصد الوصول إلى أصول قطعية.
· أهمية الشروط والقيود التي سطرها الشاطبي فيما يتعلق بالأصول العلمية.
· تمييزه لمراتب الأدلة الشرعية، مع بيان موقعها ضنن ثنائية السمع والعقل.
· النظرة العملية للأصول عند الشاطبي، وتركيزه على ما يسمى بـ«الأصول النافعة».
· استعماله لمصطلحي "المتقدمين" و"المتأخرين"، ونقده لمسالك الأصوليين، وتصحيح مسار الدراسة الأصولية.
· توضيحه لحدود ونوعية العلاقة بين علمي الفقه والأصول.
· ضبطه الممارسة العقلية في العلوم الشرعية، مع إبراز التكامل بين الأدلة السمعية والعقلية، وجعل العقل تابعا للنقل.
· نقده للمنطق، واعتباره الحدود المنطقية متلفة للعقل، ومحارة له قبل بلوغ المقصود.
· تحديده للطرق المعتمدة لأخذ العلم، وتصنيفه لمراتب العلوم، ومنازل الناس في طلبهم وتحصيلهم للعلم.
· إشاراته التربوية القيمة، عند حديثه عن العلم ووسائل التعلم والتعليم.
· منزعه الصوفي من كلامه عن علاقة العلم بالعمل، واعتداده بالأعمال القلبية، وتركيزه على القصد التعبدي عند طلب العلم.
· إسهامه في "تخليق" الممارسة الفقهية، بتركيزه على الورع للخروج عن الخلاف.