رد: علم المقاصد بين الشاطبي والمعاصرين ... دعوة للمقارنه والتأمل !
ألم يقل النووي في القرن السادس:"الناس اليوم كالمجمعين على أنه لا مجتهد"[روضة الطالبين 4/114]؟؟..
فكيف تريد الاجتهاد بالكتاب والسنة في عصرنا؟؟.
ما أجمل ما نقض به شيخ الإسلام الشوكاني رحمه الله هذه الدعوى حيث يقول:" : قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ بِخُلُوِّ الْعَصْرِ عَنِ الْمُجْتَهِدِ، مِمَّا يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ، فَإِنَّهُمْ إِنْ قَالُوا ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمُعَاصِرِينَ لَهُمْ، فَقَدْ عَاصَرَ الْقَفَّالَ، وَالْغَزَالِيَّ، وَالرَّازِيَّ، وَالرَّافِعِيَّ، مِنَ الْأَئِمَّةِ الْقَائِمِينَ بِعُلُومِ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْوَفَاءِ وَالْكَمَالِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، وَمَنْ كَانَ لَهُ إِلْمَامٌ بِعِلْمِ التَّارِيخِ، وَاطِّلَاعٍ عَلَى أَحْوَالِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ عَصْرٍ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا، بَلْ قَدْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْعُلُومِ فَوْقَ مَا "اعْتَبَرَهُ"** أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الِاجْتِهَادِ.وَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ لَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَفَعَ مَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى مَنْ قَبْلَ هَؤُلَاءِ مِنْ هَذِهِ "الْأُمَّةِ مِنْ كَمَالِ الْفَهْمِ، وَقُوَّةِ الْإِدْرَاكِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْمَعَارِفِ، فَهَذِهِ دَعْوَى مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلَاتِ، بَلْ هِيَ جَهَالَةٌ مِنَ الْجَهَالَاتِ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ تَيَسُّرِ الْعِلْمِ لِمَنْ قَبْلَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ، وَصُعُوبَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى أَهْلِ عُصُورِهِمْ، فَهَذِهِ أَيْضًا دَعْوَى بَاطِلَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٍ أَنَّ الِاجْتِهَادَ قَدْ يسره الله.
لِلْمُتَأَخِّرِينَ تَيْسِيرًا لَمْ يَكُنْ لِلسَّابِقِينَ؛ لِأَنَّ التَّفَاسِيرَ لِلْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَدْ دُوِّنَتْ، وَصَارَتْ فِي الْكَثْرَةِ إلى حد لا يكن حَصْرُهُ، وَالسُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ قَدْ دُوِّنَتْ، وَتَكَلَّمَ "الْأَئِمَّةُ"* عَلَى التَّفْسِيرِ وَالتَّرْجِيحِ، وَالتَّصْحِيحِ، وَالتَّجْرِيحِ بِمَا هُوَ زِيَادَةٌ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَمَنْ قَبْلَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ يَرْحَلُ لِلْحَدِيثِ الْوَاحِدِ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، فَالِاجْتِهَادُ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ أَيْسَرُ وَأَسْهَلُ مِنَ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ، وَلَا يُخَالِفُ فِي هَذَا مَنْ لَهُ فَهْمٌ صَحِيحٌ، وَعَقْلٌ سَوِيٌّ.
وَلَمَّا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ صَرَّحُوا بِعَدَمِ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِينَ شَافِعِيَّةً، فَهَا نَحْنُ "نُوَضِّحُ لَكَ مَنْ وُجِدَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بَعْدَ عَصْرِهِمْ، مِمَّنْ لَا يُخَالِفُ مُخَالِفٌ فِي أَنَّهُ جَمَعَ أَضْعَافَ عُلُومِ الِاجْتِهَادِ، فَمِنْهُمُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، ثُمَّ تِلْمِيذُهُ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ1، ثُمَّ تِلْمِيذُهُ زَيْنُ الدَّيْنِ الْعِرَاقِيِّ2، ثُمَّ تِلْمِيذُهُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ3، ثم تلميذه السيوطي4؛ فهؤلاء ستة
أَعْلَامٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تِلْمِيذُ مَنْ قَبْلَهُ، قَدْ بَلَغُوا مِنَ الْمَعَارِفِ الْعِلْمِيَّةِ مَا يَعْرِفُهُ من يعرف مصنفاتهم حق معرفتنا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِمَامٌ كَبِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مُحِيطٌ بِعُلُومِ الِاجْتِهَادِ إِحَاطَةً مُتَضَاعِفَةً، عَالِمٌ بِعُلُومٍ خَارِجَةً عَنْهَا.
ثُمَّ فِي الْمُعَاصِرِينَ لِهَؤُلَاءِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُمَاثِلِينَ لَهُمْ، وَجَاءَ بَعْدَهُمْ مَنْ لَا يَقْصُرُ عَنْ بُلُوغِ مَرَاتِبِهِمْ، وَالتَّعْدَادُ لِبَعْضِهِمْ، فَضْلًا عَنْ كُلِّهِمْ يَحْتَاجُ إِلَى بَسْطٍ طَوِيلٍ.
وبالجملة فتطويل الْبَحْثِ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يَأْتِي بِكَثِيرِ إفادة، فَإِنَّ أَمْرَهُ أَوْضَحُ مِنْ كُلِّ وَاضِحٍ، وَلَيْسَ مَا يَقُولُهُ مَنْ كَانَ مِنْ أُسَرَاءِ التَّقْلِيدِ بلازم لمن فتح الله على أَبْوَابَ الْمَعَارِفِ، وَرَزَقَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ تَقْلِيدِ الرِّجَالِ، وَمَا هَذِهِ بِأَوَّلِ فاقرة جاء بها المقلدون، ولا هي أول مقالة قَالَهَا الْمُقَصِّرُونَ.
وَمَنْ حَصَرَ فَضْلَ اللَّهِ عَلَى بَعْضِ خَلْقِهِ، وَقَصَرَ فَهْمَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ عَصْرُهُ، فَقَدْ تَجَرَّأَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ عَلَى شَرِيعَتِهِ الْمَوْضُوعَةِ لِكُلِّ عِبَادِهِ، ثُمَّ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ تَعَبَّدَهُمُ الله بالكتاب والسنة" ا.هـ.