العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مفهوم السفر، وأقل تحديد شرعي له يبيح القصر للعلامة ابن عقيل الظاهرى

إنضم
16 ديسمبر 2007
المشاركات
290
****هذه مجموعة مقالات فى الموضوع نشرت بمجلة الجزيرة*******
المصدر http://www.suhuf.net.sa/writers/200079
مفهوم السفر، وأقل تحديد شرعي له يبيح القصر
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
(1) التحديد بأقل ما نُقِل شرعاً:
قال أبو عبدالرحمن: أحكام السفر قصراً وإتماماً، وصياماً وفطراً، وإفراداً وجمعاً من أمهات المسائل التي كثرت فيها المذاهب وتدافعت,, وسر هذا الاضطراب الاعتقاد بأن السفر غير محدد الزمان أو المقدار لا لغة ولا شرعاً بنص صحيح، والاختلاف في الاعتداد بالمشقة هل هي مؤثرة في الحكم أو غير مؤثرة؟,, ثم المختلفون في حكمي السفر في الصلاة والصيام قام اختلافهم على ثلاثة أركان:
1 تلقي ما ورد من حكاية فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وفعل بعض أصحابه رضي الله عنهم في حالات قصروا فيها الصلاة، وأفطروا في صيام الفرض,, وهي حالات متعددة مختلفة التقدير زماناً أو مسافة؛ فكل مذهب رجح حالة من الحالات,, ومن مجامع الترجيح مراعاة المشقة، والأخذ بأكثر ما قيل احتياطاً للبراأة الأصلية، أو الأخذ بأقل ما قيل احتياطاً للأحكام الشرعية.
2 مراعاة مفهوم السفر لغة، وفي هذا الفهم اضطراب؛ لأن اللغة لم تحدد مقدار زمان أو مسافة أو حالة.
3 مراعاة مفهوم السفر عرفاً، وفي هذا الفهم أيضاً اضطراب؛ لأن العرف غير محدد بتحديد قاطع.
قال أبو عبدالرحمن: وهذه العجالة ليست تحقيقاً شاملاً لاختلاف العلماإ في أحكام السفر قصراً وجمعاً وفطراً، إذ هذا يقتضي تفرغاً أكثر، وجهداً أشق,, وإنما هو تناول لمفهوم السفر لغة وعرفاً وشرعاً بمراعاة أقل تحديد شرعي روُي عمن تقوم الحجة بقوله وفعله,, ومراعاة أقل ما قيل هو الاحتياط لأحكام الديانة، وهو مقدم على الاحتياط للبراأة الأصلية بمراعاة أكثر ما قيل.
قال أبو عبدالرحمن: وعُنيت بهذا الجانب من أحكام السفر المتشعبة، لأنني لا أعلم فيه قولاً شافياً في كتب الفروع، ولأن في عنايتي به منهجاً معرفياً مشرقاً في تحقيق الثبوت والدلالة واللطافة للأخذ بأقوى طرق الترجيح، وهو منهج نذرت له حياتي,, وبما أن العبرة بأقل ما قيل؛ لأجل ما أسلفته من تقديم الاحتياط للشرع على الاحتياط للبراأة,, ولأن التحديد الشرعي مقدم على التحديد اللغوي والعرفي: رأيت أن أحقق ما ورد شرعاً، وهو أقل تحديد مأثور، وليس ذلك إلا في سُنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأن القرآن علَّق الحكم بمطلق السفر، والضرب في الأرض,, والسنة مبيّنة لأحكام القرآن، وقد ورد التحديد بثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ، وورد بأقل من ذلك,, إلا أن التحديد بالثلاثة هو أصح ما روي؛ لهذا أبدأ بما روي في التحديد بثلاثة أميال، وذلك في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد تشعبت الأقوال والآراأُ في تحقيق دلالته؛ فأفرغت جهدي لتحقيقه دلالة وثبوتاً,, والحديث أسنده الحافظ عبدالله بن محمد بن أبي شيبة العبسي الكوفي ( 235) فقال: حدثنا شعبة: عن يحيى بن يزيد الهُنائي قال: سألت أنس بن مالك (رضي الله عنه) عن قصر الصلاة؟,, فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ (شعبة الشاك) صلى ركعتين (1)
وقال الإمام مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن بشار كلاهما: عن غندر: عن شعبة: عن يحيى بن يزيد الهنائي قال : سألت أنس بن مالك (رضي الله عنه) عن قصر الصلاة؟,, فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ وشعبة الشاك صلى ركعتين (2) .
ورواه أبو داوود عن محمد بن بشار بنفس المتن والإسناد بصيغة حدثنا في الرواية عن محمد بن جعفر (غندر) (3) .
وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر: حدثنا شعبة: عن يحيى بن يزيد الهُنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؟,, قال (4) كنت أخرج إلى الكوفة فأصلي ركعتين حتى أرجع,, وقال أنس: كان رسول الله صلى عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ شعبة الشاك صلى ركعتين,,و الإسناد بصيغة حدثنا عن غندور وشعبة (5) .
ورواه أبو يعلى عن ابن أبي شيبة بإسناده ومتنه (6) .
وفي إسناد البيهقي أن الذي يقصر إذا خرج إلى الكوفة إنما هو يحيى لا أنس رضي الله عنهما، وعلى هذا يكون قول أحمد رحمه الله : قال كنت أخرج,, مسنداً إلى شعبة، بدليل قوله بعد ذلك: وقال أنس ، ليدل على أن القول السابق قول غير أنس,, ويحيى رحمهم الله من أهل العراق,, ثم دل على ذلك قول البيهقي : أخبرنا أبو علي الروذباري: أنبأنا أبو بكر بن داسة: حدثنا أبو داوود: حدثنا ابن بشار ح (7) ,, وأخبرنا أبو عبدالله الحافظ: أنبأ أبو الفضل ابن إبراهيم: حدثنا أحمد بن سلمة: حدثنا محمد بن بشار العبدي: حدثنا محمد بن جعفر: حدثنا شعبة: عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك (رضي الله عنه) عن قصر الصلاة وكنت أخرج إلى الكوفة فأصلي ركعتين حتى أرجع ؟,, فقال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ قصر الصلاة (شك شعبة),, لفظ حديث ابن سلمة؛ وفي رواية أبي داوود: ركعتين,, ولم يذكر قوله: وكنت أخرج إلى الكوفة فأصلي ركعتين (8) ,, وجعل الحديث شاهداً للعنوان الذي عنون به، وهو باب لا يقصر الذي يريد السفر حتى يخرج من بيوت القرية ثم يقصر حتى يدخل أدنى بيوتها .
وقال أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفرائني ( 316ه):
حدثنا عمار بن رجاإ قال: حدثنا أبو داوود قال : حدثنا شعبة: عن يحيى بن يزيد الهُنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؟,, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ شعبة الشاك صلى ركعتين,, وكذا رواه غندر (9),
قال أبو عبدالرحمن: هذا إسناد إلى سنن أبي داوود، وإلى المستخرج لأحمد بن سلمة بن عبدالله النيسابوري البزار ( 286ه).
وقال ابن حبان: أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة,, ثم ساقه بمتنه وسنده (10) ,, وجعله شاهداً للباب الذي ذكره بعنوان: ذكر الخبر الدال على أن الناوي سفراً يكون قصده ما ذكرنا (11) : له قصر الصلاة إذا خلَّف دور البلدة وراأه .
قال أبو عبدالرحمن: الهنائي بضم الهاء هو أبو نصر أو يزيد يحيى بن يزيد البصري,, قال أبو حاتم: شيخ,, وذكره ابن حبان في الثقات,, وقيل : إنه يحيى بن أبي إسحاق الهنائي,, وعزا ابن حجر إلى إعلام الموقعين لابن القيم الجوزية: أنه يزيد بن أبي يحيى الهنائي (12) .
ويحيى مضطرب في اسمه واسم أبيه وكنيته، وهو من المستورين، وتوثيق ابن حبان جار على هذا الأساس، إذ الأصل عنده عدالة المسلم,, ومدار الحديث على شعبة عن يزيد,, ويُثبت أنه يحيى بن يزيد رواية كل من شعبة، ومحمد بن دينار الطاحي، وخلف بن خليفة، وابن علية عنه,, رواية ابن عياش: عن عتبة بن حميد الضبي كانت عن يحيى بن أبي اسحاق الهنائي: عن أنس في سنن ابن ماجه، وعن يزيد بن أبي اسحاق كما في سنن سعيد بن منصور، وعن يزيد بن أبي يحيى عند البخاري في تاريخه الكبير,, فأما عتبة بن حميد فلا يقبل تفرده؛ لأن الإمام أحمد رحمه الله قال: كان من أهل البصرة، وكتب شيأً كثيراً، وهو ضعيف ليس بالقوي، ولم يشته الناس حديثه (13) .
وهكذا إسماعيل بن عياش الأصل فيه النقد إذا حدث عن غير الشاميين إذا لم يضطرب، فكيف وقد اضطرب؟!,, قال عنه مضر بن محمد الأسدي: إذا حدث عن الشاميين، وذكر الخبر، فحديثه مستقيم,, وإذا حدث عن الحجازيين والعراقيين خلط ما شئت.
وقال يحيى بن معين: ليس به في أهل الشام بأس، والعراقيون يكرهون حديثه.
وقال أبو داوود عن حديثه عن غير الشاميين: عنده مناكير,, وهكذا قال علي بن المديني، والفلاس,, وقال أحمد أيضاً: ولكنه خلط في حديثه عن أهل العراق.
وحكم بسوإ حفظه ووهمه الحاكم، وعلي بن حجر، وابن حبان (14) .
وذهب ابن التركماني في الجوهر النقي إلى أن حديث: إذا أقرض أحدكم قرضاً فأهدى له,, إلخ برواية إسماعيل : عن عتبة: عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي: أنه من رواية يحيى بن أبي إسحاق,, وقال المعمري: عن هشام بن عمار: إنه من رواية يحيى بن يزيد الهنائي، وان ابن أبي إسحاق وَهمٌ,, وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في إبطال التحليل: إنما هو يحيى بن يزيد الهنائي، واحتمل أن أبا أسحاق كنية أبيه,, وهكذا رجح المزي ذلك في تهذيب الكمال (15) .
قال أبو عبدالرحمن يهمنا حديث ما تقصر فيه الصلاة فلا اضطراب في أنه يحيى بن يزيد,, وأما حديث القرض فوهم من عتبة أو ابن عياش؛ وأحرى أن يكون الوهم من ابن عياش، لأن ذلك من روايته عن العراقيين، ويحيى عراقي بصري,, ورواية مسلم في صحيحه عن يحيى تدل على أن عنده زيادة علم عن توثيق يحيى؛ فيرتفع عن حال المساتير الذين يوثقهم ابن حبان في كتابه؛ وبهذا يكون الحديث صحيحاً,, إلا أن هناك من لم يتجاوز به حال المساتير فجعله حسناً؛ ولهذا حسنه محققو مسند الإمام أحمد، ومحقق مسند أبي يعلى (حسين سليم أسد),, والصواب صحته,, صححه مسلم، وابن حبان، وأبو عوانة، وابن سلمة، والشيخ الألباني (16) ,, وهذا هو الصواب إن شاء الله.
والحديث رواه عن شعبة غندر (محمد بن جعفر)، فمداره على غندر أيضاً إلا في رواية أبي عوانة؛ فإنه جعل أبا داوود موافقاً لغندر في الرواية عن شعبة,, والمراد أبو داوود الطيالسي، وليس ذلك في مسنده.
أما فقه الحديث واختلاف العلماإ في تأويله فقد ذهب الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله إلى أن رواية أنس رضي الله عنه هذه مذهب له,, قال لا يجوز أن يجيب أنس إذ سئل إلا بما يقول به (17) .
وجعل أبو محمد هذا الحديث دليلاً له,, مع أن القصر عنده في أقل من ذلك,, قال: وبكل هذا نقول، وبه يقول أصحابنا في السفر إذا كان على ميل فصاعداً (18) .
ولا ريب أن الحديث غير متعيِّن الدلالة على مذهب أبي محمد الذي جعل أقل السفر ميلاً، وقد طرح هذا الاعتراض ودفعه بقوله: فإن قيل: فهلا جعلتم الثلاثة الأميال كما بين المدينة وذي الحليفة حداً للقصر والفطر، إذ لم تجدوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قصر ولا أفطر في اقل من ذلك؟ : قلنا: ولا وجدنا (عنه) (19) عليه السلام منعاً من الفطر والقصر في أقل من ذلك، بل وجدناه عليه السلام أوجب عن ربه تعالى الفطر في السفر مطلقاً، وجعل الصلاة في السفر ركعتين مطلقاً، فصح ما قلناه ولله تعالى الحمد (20) .
قال أبو عبدالرحمن: الأصل أن إخبار أنس رضي الله عنه للمستفتي بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم مذهب له حتى يصح نقل خلاف ذلك، فحينئذٍ يكون اجتهاده تغيَّر إن كان النقل عنه بعد ذلك، أو يكون اجتهاده تغيَّر بفتواه إن كان النقل عنه قبل ذلك,, أما أن يكون إخباره غير مذهب له فلا يجوز لمتورِّع أن يتصوره، فيفتي سائله بنقل ليس عليه العمل عنده.
والأصل في حديث أنس أنه لا يجوز القصر في اقل من ذلك في نقله عن رسول الله صلى عليه وسلم، وفي فتواه ، لأنه محال في حق صحابي جليل كأنس رضي الله عنه أن يكون عنده علم بالقصر في أقل من ذلك ثم لا يحتاط لأحكام الديانة في مقدار ما يُقصر فيه، فيخبر السائل بأقل ما ورد به الشرع,, وأما احتمال ثبوت القصر في أقل من ذلك فممكن، لأن أنساً رضي الله عنه أخبر بعلمه في الغالب من أسفاره صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغه القصر فيما دون ذلك.
وأما جعل أبي محمد ابن حزم مذهب أنس رضي الله عنهم مذهباً له هو فلا يستقيم، لأنه ليس من مذهب أنس القصر في ميل كما قال أبو محمد، وإنما بعض مذهب أبي محمد لا جميعه وافق مذهب أنس لا عن قصد للموافقة، بل عن ضرورة مذهب، لأنه إذا كان أدنى السفر ميلاً فببديهة العقل والحساب أن مازاد على ذلك أولى بمفهوم السفر.
واحتجاج أبي محمد بقوله: إنه لم يجد في الشرع منعاً فيما دون ما ورد في حديث أنس رضي الله عنه: استدلال ضعيف، لأن الأصل التقيُّد ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم لمقدار السفر المطلق عرفاً، والرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن بفعله أنه لا قصر فيما دون ذلك، ولا نخالفه بعدم العلم عن المنع من القصر فيما دون ذلك، إذن الاحتجاج الصحيح أن يقول: الأصل المنع من القصر فيما دون ثلاثة أميال حتى يصح نص بالقصر فيما دون ذلك، وحينئذ تكون الحجة فيما دون ذلك بالعلم بالنقل، وليس بعدم العلم.
وإذا صح أن مذهب داوود القصر في ميل واحد فلا يكون مذهبه مذهباً لأنس رضي الله عنه كما أسلفت بيان ذلك في دعوى الإمام ابن حزم أنه موافق لأنس,, على أن النقل عن أهل الظاهر مختلف، ويأتي بيان ذلك في مناسبة قادمة إن شاء الله.
الحواشي:
(1) المصنف في الأحاديث والآثار 2/332/ المكتبة التجارية لمصطفى الباز، ط دار الفكر ومراجعة وتصحيح وإشراف مكتب الدراسات بها سنة 1414ه بتحشية سعيد محمد اللحام.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 5/207 ط دار القلم الطبعة الثالثة بمراجعة الشيخ خليل الميس.
(3) سنن أبي داوود 2/3 رقم 1201 ط المكتبة العصرية عام 1416ه بتحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد.
(4) القائل يحيى بن يزيد.
(5) مسند الإمام أحمد 19/324 رقم 12313 ط مؤسسة الرسالة طبعتهم الأولى 1418ه بتحقيق عدة من المشايخ بإشراف الشيخ شعيب الأرنؤوط,, وذكر الحافظ في فتح الباري 3/270 أن خروج يحيى كان من البصرة.
(6) مسند أبي يعلى 7/206 برقم 4198 ط دار المأمون للتراث بدمشق طبعتهم الأولى 1406ه بتحقيق الشيخ حسين سليم اسد.
(7) الحاء رمز التحول إلى إسناد آخر ينتهي إلى شيخ قبل العلامة، ويمر الإسناد الثاني من طريقة.
(8) السنن الكبرى للبيهقي 3/209 ط دار الكتب العلمية ببيروت طبعتهم الأولى سنة 1414ه بتحقيق محمد عبدالقادر عطا.
(9) مسند أبي عوانة ويسمى الصحيح,, استخرجه على صحيح مسلم 2/77 رقم 2368 طبع دار المعرفة ببيروت طبعتهم الأولى سنة 1419ه بتحقيق أيمن بن عارف الدمشقي.
(10) صحيح ابن حبان بترتيب علاء الدين علي بن بلبان الفارسي ( 739ه) 6/453 برقم 2745 ط مؤسسة الرسالة طبعتهم الثالثة سنة 1418ه بتحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط.
(11) يعني ما ذكره ص 452 بعنوان ذكر الاباحة للناوي السفر الذي يكون منتهى قصده ثمانية وأربعين ميلا بالهاشمية أن يقصر الصلاة في أول مرحلته .
(12) انظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 9/198، والثقات 5/530، وتهذيب التهذيب 6/112 و186.
(13) تهذيب التهذيب 4/61 62 ط دار المعرفة طبعتهم الأولى سنة 1417ه تحقيق الشيخ خليل مأمون شيحا وزميليه.
(14) تهذيب التهذيب 1/264 265، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/303 307.
(15) تهذيب التهذيب 6/186.
(16) انظر إرواأ الغليل 3/15.
(17) المحلى بالآثار 3/199 ط دار الفكر تحقيق الدكتور عبدالغفار سليمان البنداري، وقد وضع علامة استفهام بعد نهاية الكلام الذي نقلته عن أبي محمد,, قال أبو عبدالرحمن : لا معنى لهذا الاستفهام الا ان كان المحقق ينكر ان يكون ذلك هو مذهب أنس رضي الله عنه، فعليه حينئذ أن يبين وجهة نظره وحجته في الحاشية بدل الاستفهام العائم.
(18) المحلى 3/200 ط دار الفكر.
(19) ما بين القوسين من المحلى ط دار إحيار التراث العربي ببيروت 5/16 طبعتهم الأولى سنة 1448ه.
(20) المحلى 3/213 214 ط دار الفكر.
 
إنضم
16 ديسمبر 2007
المشاركات
290
(2) تحقيق مذهب أهل الظاهر في القصر:
حكى الإمام أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر في كتابه الأوسط خلاف العلماء، وذكر ضمن ذلك مذهب من كان يقصر إذا كان سفره ساعة من نهار، ولكنه لم يذكر مذهب أهل الظاهر (1)، ولم يذكر حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
وقال أبو الحسن علي بن محمد الماوردي 364 450 ه :وقال داوود بن علي : يجوز القصر والفطر في طويل السفر وقصيره، تعلقاً بقوله تعالى:وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة سورة النساء / 101 ، فأطلق ذلك على ظاهره، ولم يقدره بحد، فوجب حمله على ظاهره,, ورواية أبي سعيد الخدريرضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر فرسخاً فقصر,, وروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه خرج إلى الحلبة فرجع من يومه وقصر، وقال: إنما فعلت هذا لأعلمكم سنة نبيكم (2), ,, ثم رد مذهبهم بقوله:وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في القصر على قولين، فقال ابن مسعود: لا يجوز في أقل من أربعة أيام,, وقال ابن عمر وابن عباسرضي الله عنهم : لا يجوز في أقل من يومين,, فقد أجمعوا على أنه محدود وإن اختلفوا في قدر حده، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم علق القصر بالسفر ومنع منه في الحضر، فكان من الفرق بينهما لحوق المشقة في السفر وعدمها في الحضر,, والسفر القصير لا تلحق المشقة فيه غالباً، فاقتضى أن لا يتعلق به القصر,, فأما عموم الآية فمحمول على السفر المحدود بدليلنا,, وأما الخبر فالجواب عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان سفره طويلاً، وإنما قصر في الفرسخ الأول ليعلم جوازه قبل قطع المسافة المحدودة,, وأما حديث علي عليه السلام فالمروي عنه غيره، فلم يصح الاحتجاج به للروايتين (3).
وقال الإمام أبو محمد ابن حزم383 456 ه : ومن خرج عن بيوت مدينته، أو قريته، أو موضع سكناه، فمشى ميلاً فصاعداً: صلى ركعتين ولا بد إذا بلغ الميل، فإن مشى أقل من ميل صلى أربعا (4) , ,, وقال:ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة: حدثنا علي بن مسهر : عن أبي إسحاق الشيباني هو سليمان بن فيروز عن محمد بن زيد بن خليدة عن ابن عمررضي الله عنهما قال: تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال؟,, قال علي: محمد بن زيد هذا طائي ولاه علي بن أبي طالبرضي الله عنه القضاء بالكوفة، مشهور من كبار التابعين.
ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيع: حدثنا مسعر هو ابن كدام : عن محارب ابن دثار قال:سمعت ابن عمررضي الله عنهما يقول: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر، يعني الصلاة,, محارب هذا سدوسي قاضي الكوفة من كبار التابعين، أحد الأئمة، ومسعر أحد الأئمة.
ومن طريق محمد بن المثنى: حدثنا عبدالرحمن بن مهدي قال:حدثنا سفيان الثوري قال: سمعت جبلة بن سحيم يقول: سمعت ابن عمررضي الله عنهما يقول: لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة, جبلة بن سحيم تابع ثقة مشهور.
وحدثنا عبدالله بن يوسف: حدثنا أحمد بن فتح: حدثنا عبدالوهاب بن عيسى : حدثنا أحمد بن محمد: حدثنا أحمد بن علي : حدثنا مسلم بن الحجاج: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن بشار كلاهما: عن غندر هو محمد بن جعفر عن شعبة عن يحيى بن زيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن قصر الصلاة؟,, فقال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ شك شعبة صلى ركعتين ,, قال علي: لا يجوز أن يجيب أنس إذا سئل إلا بما يقول به؟.
ومن طريق أبي داوود السجستاني: أن دحية بن خليفة الكلبي أفطر في مسير له من الفسطاط إلى قرية على ثلاثة أميال منها (5).
ولما ذكر مذاهب العلماء بين مقل ومكثر قال:وبكل هذا نقول، وبه يقول أصحابنا في السفر إذا كان على ميل فصاعداً في حج، أو عمرة ، أو جهاد، وفي الفطر، في كل سفر (6) !, ,, وقال :وروي عن شرحبيل بن السمط، ومحمد بن زيد بن خليدة، ومحارب بن دثار، وجبلة بن سحيم وكلهم أئمة القصر في أربعة أميال، وفي ثلاثة أميال، وفي ميل واحد، وفي سفر ساعة,, وأقصى ما يكون سفر الساعة من ميلين إلى ثلاثة (7).
,, وقال فلو أن مسافرة خرجت تريد سفر ميل فصاعداً لم يجز لها أن تخرجه إلا مع ذي محرم إلا لضرورة؟,, ولو أن مسافراً سافر سفراً يكون ثلاثة أميال يمشي في كل يوم ميلاً لكان له أن يمسح؟,, ولو سافر يوماً وأقام آخر وسافر ثالثاً لكان له أن يمسح الأيام الثلاثة كما هي,, وحتى لو لم يأت عنه عليه السلام إلا خبر الثلاثة فقط لكان القول: أن المرأة إن خرجت في سفر مقدار قوتها فيه أن لا تمشي إلا ميلين من نهارها أو ثلاثة، لما حل لها إلا مع ذي محرم,, فلو كان مقدار قوتها أن تمشي خمسين ميلاً كل يوم لكان لها أن تسافر مسافة مئة ميل مع ذي محرم لكن وحدها (8) ,, وقال:قال الله عز وجل:وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا سورة النساء/ 101 ,, وقال عمر، وعائشة، وابن عباس رضي الله عنهم : إن الله تعالى فرض الصلاة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في السفر ركعتين (9) ,, ولم يخص الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا المسلمون بأجمعهم سفراً من سفر، فليس لأحد أن يخصه إلا بنص أو إجماع متيقن؟!.
فإن قيل: بل لا يقصر ولا يفطر إلا في سفر أجمع المسلمون على القصر فيه والفطر، قلنا لهم: فلا تقصروا ولا تفطروا إلا في حج، أو عمرة، أو جهاد,,, وليس هذا قولكم، ولو قلتموه لكنتم قد خصصتم القرآن والسنة بلا برهان، وللزمكم في سائر الشرائع كلها أن لا تأخذوا في شيء منها لا بقرآن ولا بسنة إلا حتى يجمع الناس على ما أجمعوا عليه منها,,, وفي هذا هدم مذاهبكم كلها، بل فيه الخروج على الإسلام، وإباحة مخالفة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في الدين كله,, إلا حتى يجمع الناس على شيء من ذلك,, وهذا نفسه خروج عن الإجماع !,, وإنما الحق في وجوب اتباع القرآن والسنن حتى يصح نص أو إجماع في شيء منهما أنه مخصوص أو منسوخ، فيوقف عند ما صح من ذلك، فإنما بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ليطاع,, قال تعالى:وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله سورة النساء/ 64 ، ولم يبعثه الله تعالى ليعصى حتى يجمع الناس على طاعته، بل طاعته واجبة قبل أن يطيعه أحد وقبل أن يخالفه أحد، لكن ساعةَ يأمر بالأمر,, هذا مالا يقول مسلم خلافه حتى نَقَض من نقض!!.
والسفر هو البروز عن محلة الإقامة، وكذلك الضرب في الأرض,, هذا الذي لا يقول أحد من أهل اللغة التي بها خوطبنا وبها نزل القرآن سواه، فلا يجوز أن يخرج عن هذا الحكم إلا ما صح النص بإخراجه، ثم وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى البقيع لدفن الموتى، وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصروا ولا أفطروا ولا أفطر ولا قصر، فخرج هذا عن أن يسمى سفراً، وعن أن يكون له حكم السفر، فلم يجز لنا أن نوقع اسم سفر وحكم سفر إلا على من سماه من هو حجة في اللغة سفراً، فلم نجد ذلك في أقل من ميل، فقد روينا عن ابن عمررضي الله عنهما أنه قال: لو خرجت ميلاً لقصرت الصلاة، فأوقعنا اسم السفر، وحكم السفر في الفطر والقصر على الميل فصاعداً، إذ لم نجد عربياً ولا شريعياً عالماً أوقع على أقل منه اسم سفر وهذا برهان صحيح وبالله تعالى التوفيق,.
فإن قيل: فهلا جعلتم الثلاثة أميال كما بين المدينة وذي الحليفة حداً للقصر والفطر، إذ لم تجدوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قصر ولا أفطر في أقل من ذلك؟: قلنا: ولا وجدنا عنه عليه السلام منعاً من الفطر والقصر في أقل من ذلك، بل وجدناه عليه السلام أوجب عن ربه تعالى الفطر في السفر مطلقاً، وجعل الصلاة في السفر ركعتين مطلقاً، فصح ما قلناه ولله تعالى الحمد,,, والميل هو ماسمي عند العرب ميلاً، ولا يقع ذلك على أقل من ألفي ذراع.
فإن قيل: لو كان هذا ما خفي على ابن عباس، ولا على عثمان، ولا على من لا يعرف ذلك من التابعين والفقهاء، فهو مما تعظم به البلوى!: قلنا: قد عرفه عمر، وابن عمر، وأنس وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين,, ثم نعكس عليكم قولكم (10) ، فنقول للحنفيين: لو كان قولكم في هذه المسألة حقاً ماخفي على عثمان، ولا على ابن مسعود، ولا على ابن عباس، ولا على من لا يعرف قولكمكمالك، والليث، والأوزاعي، وغيرهم ممن لا يقول به من الصحابة والتابعين والفقهاء وهو مما تعظم به البلوى؟,, ونقول للمالكيين : لو كان قولكم حقاً ما خفي على كل من ذكرنا من الصحابة والتابعين والفقهاء، وهو مما تعظم به البلوى؟,,, إلا أن هذا الإلزام لازم للطوائف المذكورة لا لنا، لأنهم يرون هذا الإلزام حقاً ومن حقق شيئاً لزمه,, وأما نحن فلا نحقق هذا الإلزام الفاسد بل هو عندنا وسواس وضلال، وإنما حسبنا اتباع ما قال الله تعالى ورسوله عليه السلام عرفه من عرفه، وجهله من جهله ,, وما من شريعة اختلف الناس فيها إلا قد علمها بعض السلف وقال بها، وجهلها بعضهم فلم يقل بها,, وبالله تعالى التوفيق!.
قال علي: وقد موه بعضهم بأن قال: إن من العجب ترك سُآل الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه العظيمة، وهي حد السفر الذي تقصر فيه الصلاة ويفطر فيه في رمضان؟!,,, فقلنا: هذا أعظم برهان، وأجل دليل، وأوضح حجة لكل من له أدنى فهم وتمييز: على أنه لاحد لذلك أصلاً إلا ماسمي سفراً في لغة العرب التي بها خاطبهم عليه السلام، إذ لو كان لمقدار السفر حد غير ما ذكرنا لما أغفل عليه السلام بيانه ألبتة، ولا أغفلوا هم سُآله عليه السلام عنه، ولا اتفقوا على ترك نقل تحديده في ذلك إلينا، فارتفع الإشكال جملة ولله الحمد، ولاح بذلك أن الجميع منهم قنعوا بالنص الجلي، وأن كل من حد في ذلك حداً فإنما هو وهم أخطأ فيه.
قال علي: وقد اتفق الفريقان على أنه إذا فارق بيوت القرية وهو يريد: إما ثلاثة أيام وإما أربعة برد : أنه يقصر الصلاة.
فنسألهم: أهو في سفر تقصر فيه الصلاة، أم ليس في سفر تقصر فيه الصلاة بعد,, لكنه يريد سفراً تقصر فيه الصلاة بعد، ولا يدري أيبلغه أم لا؟,, ولابد من أحد الأمرين؟.
فإن قالوا: ليس في سفر تقصر فيه الصلاة بعد,, ولكنه يريده، ولا يدري أيبلغه أم لا؟ : أقروا بأنهم أباحوا له القصر وهو في غير سفر تقصر فيه الصلاة، من أجل نيته في إرادته سفراً تقصر فيه الصلاة، ولزمهم أن يبيحوا له القصر في منزله وخارج منزله بين بيوت قريته، من أجل نيته في إرادته سفراً تقصر فيه الصلاة ولا فرق.
وقد قال بهذا القول عطاء، وأنس بن مالك، وغيرهما,, إلا أن هؤلاء يقرون أنه ليس في سفر، ثم يأمرونه بالقصر,, وهذا لا يحل أصلاً!
وإن قالوا: بل هو في سفر تقصر فيه الصلاة: هدموا كل ما بنوا، وأبطلوا أصلهم ومذهبهم، وأقروا بأن قليل السفر وكثيره تقصر فيه الصلاة، لأنه قد ينصرف قبل أن يبلغ المقدار الذي فيه القصر عندهم.
وأما نحن فإن مادون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر، فلا يقصر فيه ولا يفطر، فإذا بلغ الميل فحينئذٍ صار في سفر تقصر فيه الصلاة ويفطر فيه، فمن حيئنذ يقصر ويفطر,, وكذلك إذا رجع فكان على أقل من ميل فإنه يتم، لأنه ليس في سفر يقصر فيه بعد (11) .
قال أبو عبدالرحمن : هاهنا عدة وقفات:
الوقفة الأولى: أن مسألة السفر هذه من عويص المسائل الفقهية، ولا تكون الفتوى فيها بتسامح، بل لابد من اجتهاد مضنٍ لأن هذه المسألة من المسائل التي اختبر الله بها رجال العلم، ليرفع بعضهم على بعض درجات، لخفاء البيان فيها,, ومع هذا أجزم بأن كل من بذل وسعه في الاجتهاد والتحري بصدق دون عصبية واتباع هوى فإنه على أجر ومعذرة إن لم يصب,, سواء أكان مأخذ اجتهاده الاحتياط لتمام الفرض، أم الاحتياط لبراءة الذمة عن التمام فيما استجد من حكم القصر.
الوقفة الثانية: في سياق الترجيحات الفقهية من مال إلى مذهب أهل الظاهر من غير أهل الظاهر وإن لم يذكرهم بالتعيين، وهذا مُرجأ إلى مناسبة عن مفهوم السفر لغة وعرفاً، وإنما عنايتي بمذهب أهل الظاهر أنفسهم.
الوقفة الثالثة: أن الماوردي ذكرجواز القصر عند داوود الظاهري في قصير السفر، ولم يحدد قصيره,, وفهم من احتجاج داوود الذي ذكره الماوردي أن القصر عنده في كل ما يسمى سفراً أخذاً بظاهر وعموم وإطلاق الآية الكريمة من سورة النساء,, وأما احتجاجه بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر فرسخاً فقصر,, فقد فهم منه كثير من الناس أن أقل القصر عنده ثلاثة أميال، لأن ذلك هو مقدار الفرسخ,, وعندي أن السفر عنده يجوز في اقل من ذلك، وإنما احتج بحديث أبي سعيد رضي الله عنه وغيره من الآثار لمعارضة من قال بأكثر من مضمون الروايات التي أوردها.
الوقفة الرابعة: احتج الماوردي على داوود رحمهما الله بأن ظاهر الآية الكريمة وإطلاقها مبيّن ومقيد بمقتضى الإجماع,, ومعنى الإجماع الذي ذكره الماوردي دعوى إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تحديد السفر فيما بين أربعة أيام ويومين، فخرج مذهب داوود عن إجماعهم، وزال الإطلاق في الآية الكريمة.
قال أبو عبدالرحمن: تُسلَّم دعوى الإجماع هذه وتصح إذا صح أن الصحابة رضي الله عنهم لم ينقل عنهم من روايتهم أو فقههم ما يوافقه مذهب داوود,, وبحثي هذا مرهون لهذه المسألة.
الوقفة الخامسة: استدل الماوردي على داوود بأن الحكم معلق بالمشقة، ولا مشقة فيما ذهب إليه داوود,, قال أبو عبدالرحمن: هاهنا أمور:
أولها: أن المشقة مصلحة للأمة ملحوظة في أحكام الشريعة المطهرة، وإنما الخلاف في تأسيس الحكم بها زمناً أو مسافة أو عدداً أو حالة، ولذلك مناسبة تأتي إن شاء الله.
وثانيها: لابد من التسليم بأن المشقة غير موجودة فيما ذهب إليه داوود، ولهذا مناسبة تأتي إن شاء الله.
وثالثها: على التسليم بتأسيس الحكم بمصلحة المشقة فلا يكون ذلك مع النص، لأن التأسيس بالمشقة اجتهاد، ولا اجتهاد من النص.
الوقفة السادسة: احتج الماوردي على داوود بتأويل حديث أنس,, والصواب أنه لا يقبل التأويل، ولتحقيق ذلك مناسبة تأتي إن شاء الله.
الوقفة السابعة: من مسائل هذا البحث التحقيق في طرق من روي عنه روايتان فأكثر، وإذن فأثر علي رضي الله عنه الذي دفعه الماوردي بتعدد الرواة مُرجأ إلى أوانه.
الوقفة الثامنة: مذهب أبي محمد ابن حزم رحمه الله حدد قليل السفر بأنه ميل.
الوقفة التاسعة: مذهب ابن عمر، ودحية بن الخطاب، وحديث أنس رضي الله عنهم الذي حكاه أبو محمد ابن حزم: دليل له على من حدد بأكثر من مضمونهن، وهذا يرجح ما أسلفته في الوقفة الثالثة، وهكذا ما ذكره من مذهب: سعيد بن المسيب، وجابر بن زيد ، والشعبي، والقاسم بن محمد، وسالم، وكلثوم بن هانئ، وعبدالله بن محيريز وقبيصة بن ذؤيب,, وبذلك يفسر قولهوبكل هذا نقول .
الوقفة العاشرة: يفهم من نص ابن حزم أن مذهب داوود وجميع الظاهرية: أن أقل السفر ميل، لأنه عزاه إلى الأصحاب ولم يذكر عنهم خلافاً (12) .
الوقفة الحادية عشرة: علم من عزو أبي محمد إلى كل من شرحبيل بن السمط، ومحمد بن زيد بن خليفة ، ومحارب بن دثار، وجبلة بن سحيم: أن أحدهم سبق إلى المذهب الذي قال به داوود.
الوقفة الثانية عشرة: نص أبي محمد ابن حزم عن اشتراط المحرم لسفر ميل احتواء منه لدليل أبي حنيفة ليوافق مذهب الظاهرية,, وهو احتواء صحيح لا لبس فيه,, ومع اضطراب الحديث عن اشتراط المحرم سفر ثلاث فهو مناسب لبعض مقادير السفر عند أبي حنيفة ، ومناسب لكل ما يسمى سفراً عند الظاهرية، ولكنه غير مؤسس لتحديد السفر مقداراً أو زماناً.
الوقفة الثالثة عشرة: استدل ابن حزم بعموم وإطلاق وظاهر الآية الكريمة من سورة النساء على نحو ما حكاه الماوردي عن داوود.
الوقفة الرابعة عشرة: سلك أبو محمد رحمه الله مسلك المعارضة الملزمة الناقضة لمذهب المخالف على أصول مذهبه حيث ألزمهم بقيد وظاهر الآية في نوع السفر وهو سفر الجهاد كما أخذوا بدعوى الإجماع من خارج الآية في تقييد مقدار السفر.
قال أبو عبدالرحمن: هذه المعارضة صحيحة إذا علم أنه ليس لهم دليل على التفريق بين نوع السفر ومقداره,, ويكفي من الدليل ماكان على أصول مذهبهم,, وحينئذ تسقط المعارضة وتبقى الدعوى مرهونة بالدليل المعتبر.
الوقفة الخامسة عشرة: لا يلزمهم ما ألزمهم إياه أبو محمد من تعطيل النصوص حتى يجمع على شيء من مدلولها، لأن دعواهم هاهنا عن نص مجمل في مذهبهم، وهو آية الضرب في الأرض.
الوقفة السادسة عشرة: قول أبي محمد:الحق وجوب اتباع القرآن والسنن حتى يصح نص,, إلخ قول صحيح بالنسبة للنصوص المفسرة,, أما المجمل فيطلب مقتضاه من برهان آخر,, وآية الضرب عندهم مجملة، فالرد الصحيح أن ينفي الإجمال.
الوقفة السابعة عشرة: لا يلزمهم إلزام أبي محمد بأنهم يعصون النص حتى يجمع الناس على طاعته، لأنهم لا يخالفون في وجوب الطاعة، وإنما يبحثون عن تحديد المراد الشرعي الذي تجب طاعته.
الوقفة الثامنة عشرة: البروز مدلول سفر، وليس مدلول سافر الذي يقتضي متابعة إسفار,, ولهذا مناسبة تأتي إن شاء الله.
الوقفة التاسعة عشرة: ليس بصحيح أن الضرب في الأرض هو مجرد البروز.
الوقفة العشرون: قول ابن عمر رضي الله عنهما:لو خرجت ميلاً لقصرت الصلاة بيان لمقدار القصر وليس تحديداً لمفهوم السفر لغة.
الوقفة الحادية والعشرون: نفي القول بإيقاع اسم السفر على أقل من متر مرهون بتحقيق المسألة لغة وعرفاً.
الوقفة الثانية والعشرون: الخلاف في مقدار الميل والفرسخ له مناسبة تأتي إن شاء الله.
الوقفة الثالثة والعشرون: مناقشة كلام أبي محمد رحمه الله مرهون بالكلام على نصوص الرازي، والله المستعان.
الحواشي
1 قال أبو عبدالرحمن : وهكذا فعل الخطابي في معالم السنن، والرافعي في فتح العزيز، والقرافي في الذخيرة.
2 الحاوي الكبير في فقه الإمام الشافعي رحمه الله وهو شرح لمختصر المزني 2/359 تحقيق الشيخين: علي محمد معوض، وعادل أحمد عبدالموجود/ طبع دار الكتب العلمية طبعتهم الأولى عام 1414ه.
3 الحاوي الكبير 2/360.
4 المحلى 3/192 ط دار الكتب العلمية / تحقيق البنداري.
5 المحلى 3/198 199.
6 المحلى 3/200.
7 المحلى 3/202, 8 المحلى 3/210 211.
9 النقطتان الأفقيتان ضروريتان لاستئناف الكلام، وتمييز كلام أبي محمد عن كلام من ذكرهم من الصحابة رضوان الله عليهم.
10 في الأصل المطبوع بعد هذا هذه العلامة: ,, قال أبو عبدالرحمن: الشرطة فضول، والنقطتان الرأسيتان لا مكان لهما هاهنا، لأن مابعد قولكم ليس هو مقول القول.
11 المحلى 3/212 215.
12 انظر المحلى 3/199 200.
 
إنضم
16 ديسمبر 2007
المشاركات
290
(3) تحقيق مذهب أهل الظاهر في القصر:
قال الحافظ أبو عمر بن عبدالبر (368 463ه ) : وقالت طائفة من أهل الظاهر: يقصر الصلاة كل مسافر في كل سفر قصيرا كان أو طويلاً ولو ثلاثة أميال,, وقال داوود: إن سافر في حج أو عمرة أو غزو قصر الصلاة في قصير السفر وطويله,, ومن حجتهم من ظاهر قول الله عز وجل: (وإذا ضربتم في الأرض) سورة النساء /101 : (أنه) لم يجد مقداراً من المسافة,, وقد نقض داوود (و) من قال بقوله من أهل الظاهر أصلهم هذا، لأنه عز وجل لم يقل: وإذا ضربتم في الأرض في حج أو عمرة.
واحتج بعضهم بحديث أبي هارون العبدي: عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه): أن الني صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فرسخاً ثم نزل قصر الصلاة,, والحديث حدثناه سعيد قال: حدثنا قاسم قال: حدثنا محمد قال: حدثنا أبو بكر قال: حدثنا هشيم: عن أبي هارون: عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فرسخاً قصر الصلاة,,وأبو هارون العبدي اسمه عمارة بن جوين منكر الحديث عند جميعهم، متروك، لا يكتب حديثه، وقد نسبه حماد بن زيد إلى الكذب,, قال: وكان يروي بالغداة شيئا وبالعشي شيئا,, وقال عباس: عن ابن معين قال: أبو هارون العبدي: كانت عنده صحيفة يقول فيها : هذه صحيفة الوصي,, وكان عندهم لا يصدق في حديثه.
وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن هارون العبدي، فقال : ليس بشيء.
قال أبو عمر: على أن عبدالرزاق رواه عن هشيم قال: أخبرني أبو هارون العبدي: عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخاً ثم نزل يقصر الصلاة (1) ,, قال أبو عبدالرحمن وذكر نصوصاً احتجوا بها، فعارضها.
وعزا أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي (439 507ه ) إلى داوود القول بجواز القصر في طويل السفر وقصيره (2) .
وقال أبو الوليد محمد بن رشد (الجد) (520 ه): وقد اختلف في حد ما تقصر فيه الصلاة من السفر اختلافاً كثيراً: من مسافة ثلاثة أميال (وهو مذهب أهل الظاهر) إلى مسيرة ثلاثة أيام وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه (3)
وأومأ أبو عبدالله محمد بن علي المازري (536 ه) إلى مذهبهم، ولم يعينهم فقال: وأما السفر الذي يقصر فيه فإن بعض الناس لم يحده واحتج بقول الله: (وإذا ضربتم في الأرض) سورة النساءم101 ,, وأكثر الناس على تحديده، وكأنهم فهموا إنما خففت عن المسافر للمشقة، فلم يكن عندهم القصر إلا في سفر تلحقهم فيه المشقة,, واختلفوا في تقديره، واختلافهم في كتب الفقهاء (4) .
وأطال القاضي أبو بكر ابن العربي (468 543ه)لسانه كعادته في تنقص الأئمة والاستخفاف بهم فقال : تلاعب قوم بالدين، فقالوا : إن من خرج من البلد إلى ظاهره قصر الصلاة وأكل,, وقائل هذا أعجمي لا يعرف السفر عند العرب، أو مستخف بالدين,, ولولا أن العلماء ذكروه ما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني، ولا أن أفكر فيه بفضول قلبي, وقد كان من تقدم من الصحابة (رضي الله عنهم) يختلفون في تقديره، فروي عن عمر وابن عمر وابن عباس (رضي الله عنهم) :أنهم كانوا يقدرونه بيوم,, وعن ابن مسعود: أنه كان يقدره بثلاثة أيام,, يعلمهم بأن السفر كل خروج تكلف له، وأدركت فيه المشقة (5)
وذكر علاء الدين الكاساني (587 ه) مذهب الظاهر بإجمال، وهوأن مدة السفر وأقلها غير مقدرة عند أصحاب الظواهر، وقال: أما اصحاب الظواهر فاحتجوا بظاهر قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) سورة النساء/101 ,, علق القصر بمطلق الضرب في الأرض، فالتقدير تقييد لمطلق الكتاب، ولا يجوز إلا بدليل (6)
وقال الفخر الرازي (543 606 ه ): زعم داوود وأهل الظاهر أن قليل السفر وكثيره سواء في جواز الرخصة، وزعم جمهور الفقهاء أن السفر ما لم يقدر بمقدار مخصوص لم تحصل فيه الرخصة,, احتج أهل الظاهر بالآية، فقالوا: إن قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة): جملة مركبة من شرط، وجزاأ الشرط هو الضرب في الأرض، والجزاأ هو جواز القصر، وإذا حصل الشرط وجب أن يترتب عليه الجزاأ سواأٌ كان الشرط (الذي هو السفر) طويلاً أو قصيراً,.
أقصى ما في الباب أن يقال: فهذا يقتضي حصول الرخصة عند انتقال الإنسان من محلة إلى محلة، ومن دار إلى دار,, إلا أنا نقول: الجواب عنه من وجهين:
الأول: أن الانتقال من محلة إلى محلة إن لم يسم بأنه ضرب في الأرض فقد زال الإشكال,, وإن سمي بذلك فنقول: أجمع المسلمون على أنه غير معتبر، فهذا تخصيص تطرق إلى هذا النص بدلالة الإجماع، والعام بعد التخصيص حجة، فوجب أن يبقى النص معتبراً في السفر سواأٌ أكان قليلاً أو كثيراً.
والثاني: أن قوله (وإذا ضربتم في الأرض) يدل على أنه تعالى جعل الضرب في الأرض شرطاً لحصول هذه الرخصة، فلو كان الضرب في الأرض اسماً لمطلق الانتقال لكان ذلك حاصلاً دائماً، لأن الإسنان لا ينفك طول عمره من الانتقال من الدار إلى المسجد، ومن المسجد إلى السوق,, وإذا كان حاصلاً دائماً امتنع جعله شرطاً لثبوت هذا الحكم,, فلما جعل الله الضرب في الأرض شرطا لثبوت هذا الحكم علمنا أنه مغاير لمطلق الانتقال، وذلك هو الذي يسمى سفراً ,, ومعلوم أن اسم السفر واقع على القريب وعلى البعيد، فعلمنا دلالة الآية على حصول الرخصة في مطلق السفر,, أما الفقهاء فقالوا: أجمع السلف على أن أقل السفر مقدر ,, قالوا: والذي يدل عليه أنه حصل في المسألة روايات (7) ,, ثم ذكر بعض الروايات عن اختلافهم في مقدار مدة السفر أو مساحته، وعلق بقوله: قال الفقهاأُ فاختلاف الناس في هذه الأقوال يدل على انعقاد الإجاع على أن الحكم غير مربوط بمطلق السفر,, قال أهل الظاهر: اضطراب الفقهاء في هذه الأقاويل يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلاً قوياً في تقدير المدة، إذ لو حصل في المسألة دليل ظاهر الدلالة لما حصل هذا الاضطراب,, أما سكوت سائر الصحابة(رضي الله عنهم) عن حكم هذه المسألة فلعله إنما كان لأنه اعتقدوا أن هذه الآية دالة على ارتباط الحكم بمطلق السفر: لكان هذا الحكم ثابتاً في مطلق السفر بحكم هذه الآية,, وإذا كان الحكم مذكوراً في نص القرآن لم يكن بهم حاجة إلى الاجتهاد والاستنباط، فلهذا سكتوا عن هذه المسألة, (8)
,, ثم قال عن ردودهم على معارضيهم:واعلم أن أصحاب أبي حنيفة عولوا في تقدير المدة بثلاثة أيام على قوله عليه الصلاة والسلام يمسح المسافر ثلاثة أيام,, وهذا يقتضي أنه إذا لم يحصل المسح ثلاثة أيام أن لا يكون مسافراً، وإذا لم يكن مسافراً لم تحصل الرخص المشروعة في السفر,, وأما أصحاب الشافعي رضي الله عنه فإنهم عولوا على ما روى مجاهد وعطاأ بن أبي رباح عن ابن عباس (رضي الله عنهم): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان,, قال أهل الظاهر : الكلام عليه من وجوه:
الأول: أنه بناء على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وهوعندنا غير جائز لوجهين:
الأول: أن القرآن وخبر الواحد مشتركان في دلالة لفظ كل واحد منهما على الحكم، والقرآن مقطوع المتن، والخبر مظنون المتن، فكان القرآن أقوى دلالة من الخبر، فترجيح الضعيف على القوي لا يجوز.
والثاني: أنه روي في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال: إذا روي حديث عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى، فإن وافقه فاقبلوه، وإن خالفه فردوه (9) ,, دل هذا الخبر على أن كل خبر ورد على مخالفة كتاب الله تعالى فهو مردود، فهذا الخبر لما ورد على مخالفة عموم الكتاب وجب أن يكون مردوداً.
الوجه الثاني: في دفع هذه الأخبار، وهوأنها أخبار آحاد وردت في واقعة تعم الحاجة إلى معرفة حكمها فوجب كونها مردودة,, إنما قلنا: إن الحاجة إليها عامة: (10) لأن أكثر الصحابة كانوا في أكثر الأوقات في السفر وفي الغزو، فلما كانت رخص السفر مخصوصة بسفر مقدر كانت إلى مقدار السفر المفيد للرخص حاجة عامة في حق المكلفين,, ولو كان الأمر كذلك لعرفوها، ولنقلوها نقلاً متواتراً,, لا سيما وهو على خلاف ظاهر القرآن بسببها؟
الثالث: أن دلائل الشافعية ودلائل الحنفية صارت متقابلة متدافعة، وإذا تعارضت تساقطت، فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن,, هذا تمام الكلام في هذاالموضوع، والذي عندي في هذا الباب أن يقال: إن كلمة (إذا) وكلمة (إن) لا يفيدان إلا كون الشرط مستعقباً للجزاإ,, فأما كونه مستعقباً لذلك الجزاإ في جميع الأوقات فهذا غير لازم، بدليل أنه إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، أوإذا دخلت الدار فأنت طالق,, فدخلت مرة وقع الطلاق، وإذا دخلت الدار ثانياً لا يقع,, وهذا يدل على أن كلمة (إذا) وكلمة (إن) لا يفيدان العموم ألبتة,, وإذا ثبت هذا سقط استدلال أهل الظاهر بالآية، فإن الآية لا تفيد إلا أن الضرب في الأرض يستعقب مرة واحدة هذه الرخص، وعندنا الأمر كذلك فيما إذا كان السفر طويلاً، فأما السفر القصير فإنما يدخل تحت الآية لو قلنا: إن كلمة إذا للعموم,, ولما ثبت أنه ليس الأمر كذلك فقد سقط هذا الاستدلال، وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل التي تمسك بها المجتهدون بمقدار السفر ليست واقعة على خلاف ظاهر القرآن، فكانت مقبولة صحيحة (11) .
وقال محيي الدين النووي (651 ه ) : وقال داوود وأهل الظاهر: يجوز (أي القصر) في السفر الطويل والقصير حتى لوكان ثلاثة أميال (12) .
الوقفة الأولى: قول أبي عمر بن عبدالبر رحمه الله وهوخبير بمذهب أهل الظاهر، لأنه قد كان ظاهرياً في مرحلة من عمره المبارك وقالت طائفة من أهل الظاهر : يوحي باختلاف بين أهل الظاهر في مسافة القصر، وأبو محمد ابن حزم حكى اتفاقهم.
الوقفة الثانية: نوع السفر الذي تقصر من أجله الصلاةخارج نطاق مسألتي هذه.
الوقفة الثالثة: لم ينقض داوود أصله كما زعم أبو عمر رحم الله جميعهم، لأن من أصله الصرف عن الظاهر بدليل، وقد صحت له البراهين بالقصر في غير سفر الجهاد والحج والعمرة.
الوقفة الرابعة: إسناد أبي عمر لحديث ابن سعيد الخدري إسناد إلى أحد كتب قاسم بن أصبغ رضي الله عنهم جميعاً، وله تحقيق يأتي إن شاء الله.
واستدراكه برواية عبدالرزاق يعني أن القصر في الفرسخ كان عند النزول وقت الصلاة في سفر طويل.
الوقفة الخامسة: لم يحقق ابن رشد رحمه الله مذهب أهل الظاهر، إذ حكى عنهم ثلاثة أميال، وقد أسلفت أن أقل السفر عندهم ميل واحد.
الوقفة السادسة: لا يضير الإمام داوود بن علي ومن هم على مذهب الظاهر من أمثال محمد بن داوود، وابن الغلس، ومنذر بن سعيد، وابن حزم أن أبا بكر ابن العربي لا يلمحهم بمؤخر عينه,, وابن العربي رحمهم الله، كبير بالنسبة لنا نحن الشداة الضعفاأ، صغير بالنسبة لأولئك الأئمة,, وأكثر كلامه إما اجتهاد في تخريج مذهب الإمام مالك رحمه الله، وإما تكلف في نصره، وإما احتجاج بالواهي، وإما اعتذار وإحالة، وإما عبارات نابية,, ولم يسلم من لسانه أحد حتى الإمام الشافعي رحمه الله.
الوقفة السابعة: إن كان مراد القاضي أبي بكر عجمة اللسان فلا أفسح من أئمة الظاهر,, وعنايتهم باللغة ضرورة في حياتهم العلمية، لأنها ركن ركين من مذاهبهم,, وأقلهم أمكن منه في اللغة.
الوقفة الثامنة: لم ينقل أبو بكر كلمة واحدة عن أهل اللسان العربي في تعريف السفر وتحديده لغة، ليكون أسعد منهم في نفي العجمة!!
الوقفة التاسعة: لم يحضر أبو بكرغير الإشكال والاختلاف، ولابد من تحديد للكلفة والمشقة.
الوقفة العاشرة: لا صحة لقول الكاساني رحمه الله بأن مسافة القصر غير مقدرة عند أهل الظاهر، بل يكون التقدير بالأقل، وهم قدروا بميل.
الوقفة الحادية عشرة: النص الأول من نصي الفخر الرازي بسط الشرح لحجة أهل الظاهر من تركيب الجملة من شرط وجزاإٍ,, إلخ.
قال أبو عبد الرحمن: هذا البسط لا يوجد ولا يوجد ما هو في معناه في كتب ابن حزم التي بين أيدينا، فيحتمل أن يكون الرازي وجه مذهب داوود من قبله، بدليل إضافته ما ليس من مذهبهم (وهوالانتقال من محلة إلى محلة),.
ويحتمل أنه نقل نقلاً مباشراً عن فقهاء أهل الظاهر الداووديين الذين فقدت الآن كتبهم، بدليل أنه نقل في مواضع عديدة من تفسيره مسائل عديدة منهم لا توجد بكتب ابن حزم.
الوقفة الثانية عشرة: لا تناقض بين الدعويين اللتين عزاهما الرازي إلى داوود وإلى سائر الفقهاء، لأن السفر مقدر أيضاً عند داوود بتقدير أقله وهو ميل.
الوقفة الثالثة عشرة: لا يحتاج فهم احتجاج داوود بالآية الكريمة من سورة النساء إلى هذه الإطالة التي ذكرها الرازي عن الشرط وجزائه، لان الإطالة في شرح البدهي الواضح يزيده تعقيداً.
الوقفة الرابعة عشرة: قول الرازي: وأقصى ما في الباب ,, إلخ : معناه خلاصة ما يعترض به على داوود في تمسكه فيما تمسك به من الآية الكريمة.
الوقفة الخامسة عشرة: قلت ذلك لدلالة السياق، ولانه ليس بصحيح أن أقصى متمسك داوود القصر من محلة إلى ملحة، فهذا ما لم يقل به، بل مذهبه صريح في مفارقة عامر البلد بميل، حيث ذكر ابن حزم ان هذا مذهبه ومذهب أهل الظاهر.
الوقفة السادسة عشرة: لم يدفع الرازي مذهب داوود في تعليق الحكم بمطلق السفر، ولا مجال لدفع ذلك,, وإنما يبقى خلافه مع داوود في مسألتين:
الأولى: أن يدفع قوله: إن أقل السفر لغة ميل.
والثانية: أن يبرز برهاناً عن تقييد ظاهر الآية غير مفهوم السفر لغة.
الوقفة السابعة عشرة: قول الرازي: فقد زال الإشكال : يعني أن الانتقال من محلة إلى محلة ليس ضرباً في الأرض، فلا تتناوله الآية الكريمة.
الوقفة الثامنة عشرة: قول الرازي: فهذا تخصيص,, إلخ : معناه أن الانتقال من محلة إلى محلة خارج من دلالة الآية الكريمة بالإجماع.
الوقفة التاسعة عشرة: قول الرازي: العام بعد التخصيص حجة : تأصيل صحيح، ولكن ما رتبه عليه غير مترتب، بل هوعكس نتيجته، وذلك هو قوله كان قليلاً أوكثيراً ,, والصواب أن يقول: فوجب أن يبقى النص معتبراً فيم خرج بالإجماع من قليل السفر الذي هو الانتقال من محلة إلى محلة.
الوقفة العشرون: الوجهان اللذان ذكرهما الرازي احتجاج للظاهرية في الدفع والتأسيس,, أما الدفع فهو الخروج من لزوم ما عساهم أن يلزموا به من اعتبار الانتقال من محلة إلى محلة سفراً يشمله حكم الآية,, وهذان الوجهان يرد عليهما ما ذكره في جوابيه,, وأما التأسيس فهو التمسك بمطلق السفر في حكم القصر بعد خروج ما أخرجه الإجماع.
الوقفة الحادية والعشرون: قول الرازي في الوجه الثاني: في مطلق السفر يرد عليه ما ذكر في الوقفة التاسعة عشرة.
الوقفة الثانية والعشرون: وجه الإجماع الذي ذكره الرازي عن الفقهاإِ في نصه الثاني: أن اختلاف العلماء في تحديد مسافة السفر أو مدته قاض بأن الآية الكريمة لم تعلق حكم القصر بمطلق السفر.
قال أبو عبدالرحمن : هذا يرد على قول داوود بمطلق السفر لو لم يحدده بميل,, أما وقد حدد بميل فهذا تقدير صح عن ابن عمر رضي الله عنهما وغيرهما، فهو داخل في الإجماع على التحديد، ولا إجماع على قدر التحديد.
الوقفة الثالثة والعشرون: جواب أهل الظاهر للفقهاإِ يرد عليه أيضا احتمال أنه من توجيه الرازي.
الوقفة الرابعة والعشرون: استدلال أهل الظاهر بسكوت الصحابة رضي الله عنهم عن تحقيق مقدار السفر هو ملخص ما سلف من كلام ابن حزم,, وهو من باب التنزل في الاستدلال، لأن الصحابة كما ساقه ابن حزم من أقوالهم رضوان الله عليهم لم يسكتوا.
الوقفة الخامسة والعشرون: الذين ذكره أبو محمد بن حزم رحمه الله سكوت الصحابة رضوان الله عليهم عن سآل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سكوتهم عن بيان الحكم,, فالرازي عفا الله عنه لم يحقق النقل عن أهل الظاهر.
الوقفة السادسة والعشرون: عزو الرازي إلى أهل الظاهر في نصه الثالث في رد حديث ابن عباس رضي الله عنهما غير صحيح عنهم، لأن الأخذ بخبر الواحد الصحيح، وتبيين القرآن الكريم به من صميم مذهبهم,, أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فغير ثابت، فهو ليس على شرطهم في الاحتجاج لا لأنه خبر واحد، بل لأنه غير صحيح.
الوقفة السابعة والعشرون: كلام الرازي عن قطعية المتن وظنيته هاهنا غير محققة، لأن القطع والظن هاهنا يتعلقان بالثبوت نقلاً لا بالمتن دلالة.
الوقفة الثامنة والعشرون: مخالفة خبر ابن عباس رضي الله عنهما ليس مخالفة تناقض أو تضاد، بل مخالفة إطلاق، فكان الخبر بياناً بالتقييد,.
إلا أنه مردود لا من جهة المخالفة، بل من جهة انتفاء الثبوت.
الوقفة التاسعة والعشرون: قال الرازي:الوجه الثاني: في دفع هذه الأخبار ، ولم يذكر الوجه الأول بالعدد، ولكنه مذكور منذ قوله: قال الفقهاء: فاختلاف الناس,, إلخ .
الوقفة الثلاثون: ذكر الرازي في الوجه الثاني احتجاج الفقهاء على بطلان اختلاف الروايات في التحديد بعموم البلوى، وأنها لو كانت صحيحة لعرفوها، وأن المرجع حينئذ لظاهر الآية.
قال أبو عبدالرحمن: هذا احتجاج غير صحيح إلا من جهة التمسك بما صح عن أقل ما قيل في التقدير، ليكون بياناً للآية المجملة، وليدخل في حكمه أكثر ما قيل من باب أولى,, حتى لو صح أن مقدار السفر معروف لغة أوعرفاً، فحكم الشرع مقدم على ذلك.
أما الروايات فلا يحكم ببطلانها لمجرد عدم العلم بها حال عموم البلوى، بل يصحح منها ببرهان، ويبطل منها ببرهان,, وهي تختلف في مرجعها من خبر مرفوع إلى اجتهاد عن صاحب أوتابع,, وما صح منها في الأكثر فهو داخل في حكم الأقل كما أسلفت، فالعبرة بتحقيق الأخبار عن الأقل.
الوقفة الحادية والثلاثون: قول الرازي: الثالث: أن دلائل : يعني الوجه الثالث من اعتراضات الفقهاإِ، ولم يعين من هم الفقهاأُ؟,, فلعل ذلك قول أحدهم، ولعل ذلك اجتهاد من الرازي في الاستدلال والتشقيق.
الوقفة الثانية والثلاثون: ما ذكره الرازي من إسقاط الأدلة عند التدافع غير مسلم، بل الترجيح مقدم,, وهي ليست متناقضة، فالترجيح بالجمع بينها ممكن.
الوقفة الثالثة والثلاثون: ترجيح الرازي الذي ذكره آخر كلامه عجيب جداً، وفيه فرصة للمستهتر (13) أن يتندر بعلمائنا وتراثنا,, والمحقق أنه عفا الله عنه أخطأ من وجوه:
أولها: أن (إذا) للعموم في الأصل,, وليس معنى هذا أنها للعموم دائماً، بل معنى ذلك أنه إذا عدم دليل التخصيص فهي على عمومها,, وهكذا هي في الآية الكريمة من سورة النساء فلا تخصص إلا بدليل.
وثانيا: أن الحكم المعلق مكرر بتكرار الواقعة، لأنه حكم لها إذا وجدت، ولا يخرج عن هذا إلا بدليل.
وثالثها: أن ما ذكره من الطلاق والدار خرج عن العموم بدليله إن قام في العرف أو من نيته أنه أراد دخولاً واحداً، وطلاقاً واحداً.
ورابعها: أنه بالسفر الطويل قيد مطلق السفر، ولم يخصص عموم إذا، إذ يتكرر الحكم مع كل سفر طويل، فأصبح نقشه رحمه الله على الماء!
الوقفة الرابعة والثلاثون: أوحى سياقه بأن تقديرات العلماء كلها صحيحة إصابة وصواباً، وهذا جمع بين النقيضين.
الوقفة الخامسة والثلاثون: من العجب الذي لا يليق بموهبة الرازي الكبيرة حكمه بأن تقديرات العلماإِ ليست على خلاف ظاهر القرآن!!
قال أبو عبدالرحمن: كيف لا تكون على خلافه والإطلاق نقيض التقييد؟!
ولكن المقبول أن يقول : فما صح منها فهو مقيد لإطلاق الآية الكريمة، والتقييد من وجوه الجمع الصحيحة .
الوقفة السادسة والثلاثون: قول الإمام النووي رحمه الله: حتى لو كان ثلاثة أميال : يوحي بأن ذلك أقل مقدار عند الظاهرية,, والمحقق أن الميل أقل مقدار عندهم والله المستعان.
***
الحواشي
(1) الاستذكار الجامع لمذاهب فقاإ الأمصار، وعلماإ الأقطار,, فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار، وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار 6/90 92 تحقيق الدكتور عبدالمعطي أمين قلعجي ط دار قتيبة بدمشق وبيروت، وتوزيع دار الوعي بحلب والقاهرة.
قال أبو عبدالرحمن : هذا الكتاب العظيم على الإيجاز والاختصار، فسبحان من وهبهم الإمامة في الدين!!
(2) انظر حلية العلماإِ في معرفة مذاهب الفقهاإِ 1/240، ونظراً أيضا التحقيق في مسائل الخلاف لابن الجوزي، وحاشيته تنقيح التحقيق للذهبي 4/36 تحقيق الدكتور عبدالمعطي أمين قلعجي دار الوعي العربي، ومكتبة ابن عبدالبر الطبعة الاولى، وتتقيح التحقيق لابن عبدالهادي 2/1157 المكتبة الحديثة بالإمارات العربية المتحدة بتحقيق الدكتور عامر حسن صبري.
(3) المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الاحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات 1/212 بتحقيق الدكتور محمد حجي ط دار الغرب الإسلامي.
(4) المعلم بفوائد مسلم 1/296 بتحقيق الشيخ محمد الشاذلي النيفر ط دار الغرب.
(5) أحكام القرآن 1/488 بتحقيق علي محمد البجاوي ط دار المعرفة ببيروت.
(6) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 1/140 ط دار الفكر طبعتهم الأولى عام 1417ه.
(7) التفسير الكبير 11/201 202 دار إحياإ التراث العربي ببيروت.
(8) التفسير الكبير 11/202.
(9) هذا الحديث روي بطرق عديدة منها الموضوع، ومنها الضعيف الشديد الضعف,, وقد ذكر هذا الحديث وأبطله دلالة ومتناً الإمام الشافعي في الرسالة، والبيهقي في المدخل وعنه نقل السيوطي في مفتاح الجنة ، وابن حزم في الاحكام، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله، وأحال إلى مصادره الشيخ أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول في كتابه موسوعة أطراف الحديث النبوي 1/293 في مادة (إذا حدثتم ، وناقشه المعاصرون في مؤلفاتهم عن حجية السنة والدفاع عنها مثل الدكتور عبدالغني عبدالخالق في كتابه حجية السنة ص 472 477 ، والدكتور رفعت فوزي عبدالمطلب في كتابه توثيق السنة في القرن الثاني الهجري ص 300 319.
قال أبو عبدالرحمن: لإنكاره في هذا الحديث متناً لوثبت إسناداًو وإنما النكارة في تفسيره كما هو سلوك كثير ممن يحتج به عندما تفسر المخالفة بتفسير مجمل، أوتقييد مطلق، أو تخصيص عام، أو عكس ذلك في التقييد والخصوص، لأن القرآن الكريم الذي سيعرض عليه الخبر قضى بوجوب اتباع السنة، ولأن أحكام الديانة في القرآن يتعذر تطبيقها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعث مبلغاً مبيناً,, والبيان يكون بما ذكر من التفسير والتقييد والإطلاق، والعموم والخصوص، والنسخ,, أما تفسيره بمخالفة التناقض والتضاد فإنه من مقاييس نقد المتن عند العلماإِ، فإذا لم يجدوا علة في الإسناد جزموا أن للحديث معنى لم ينقل على وجه كتعذيب الميت ببكاء أهله عليه، وحديث الشؤم.
(10) ما قبل التعليل واو مقلوبة هكذا (؛) إلا أن النقطتين الرأسيتين وجبتا هنا لتمييز مقول القول مع فهم التعليل لغة من اللام في (لأن).
(11) التفسير الكبير 11/202 203.
(12) شرح صحيح مسلم (المنهاج) 5/201 بتحقيق الشيخ خليل مأمون شيحا توزيع دار المعرفة بجدة ط دار المعرفة ببيروت طبعتهم الأولى عام 1414ه,, وقد وضع المحقق الفاصلة (،) قبل القصير، وقبل حتى,, وعندي أن هذا عبث، فلا داعي لها حال أمن اللبس، ولا داعي لها في قيود الجملة.
(13) نبهني أحد المشايخ الفضلاإِ إلى أن هذه الصيغة بفتح التاإِ، وأنها للمستهتر بالشيء المولع به,, أي أنها لا تعني المتهتك غير المبالي,, وهذا هو ما ذهب إليه بعض المعاصرين مثل مصطفى جواد في قل ولا تقل، والعدناني في معجم الأخطاإِ الشائعة,, على أن عباس أبو السعود أورد في كتابه أزاهير الفصحى بيتاً من المفضليات لعبدة بن الطيب يقول:



يسعى ويجمع جاهداً مستهتراً
جداً وليس بآكل ما يجمع


قال أبو عبدالرحمن: كسر التاء الثانية لا يُأَكِّدُ أن ذلك هو المروي حتى يكون ذلك بتنصيص على الشكل، أو بوجادة تشكيل إمام معتمد,, والمحقق في هذا أن من أراد حصول الولع عبر بصيغة المبني للمجهول، ومن أراد إظهار الولع وماهو خلاف المبالاة وما لديه من أباطيل عبّر بصيغة المسمى فاعله (وهو استهتر بفتح التاأين)، فقولك استحصد الزرع بمعنى ظهرت منه حال توجب ذلك، واستحصف الشيء بمعنى استحكم اي بلغ غاية الظهور من الحصافة، ولهذا أورد أبو إبراهيم الفارابي في كتابه ديوان الأدب 2/432 المستهتر بفتح التاء الثانية في مادة استفعل (بفتح التاء أوالعين) منبهاً إلى ورود المادة على صيغة هذا الفعل,, ولو لم يرد النص من هذا الإمام لكان في صحة معنى الصيغة غنى عن ذلك، لأنني بينت كثيراً في مباحثي أن العربي يحول المادة إلى معنى الصيغة الذي يريده وفق المقاييس الصرفية.
 
إنضم
16 ديسمبر 2007
المشاركات
290
(4) تحقيق مذهب أهل الظاهر في القصر
وقال الإمام النووي رحمه الله أيضاً: وقال داوود: يقصر في طويل السفر وقصيره,, قال الشيخ أبو حامد: حتى قال: لو خرج إلى بستان خارج البلد قصر,, واحتُج لداوود بإطلاق الكتاب والسنة جواز القصر بلا تقييد للمسافة، وبحديث يحيى بن مزيد 1 قال: سألت أنساً عن قصر الصلاة؟,, فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين,, رواه مسلم، وعن خبير 2 بن نفير قال: خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلاً فصلى ركعتين، فقلت له، فقال: رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين,, فقلت له، فقال: أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل,, رواه مسلم، واحتج لمن شرط ثلاثة أميال 3 بحديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عيله وسلم قال: لا تسافر امرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم,, رواه البخاري ومسلم، ورواه مسلم كذلك من رواية أبي سعيد الخدري، وذكروا مناسبات لا اعتماد عليها 4 .
ثم قال مناقشاً لهم: والجواب عما احتج به أهل الظاهر من إطلاق الآية والأحاديث أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم القصر صريحاً في دون مرحلتين,, وأما حديث أنس فليس معناه أن غاية سفره كانت ثلاثة أميال، بل معناه أنه كان إذا سافر سفراً طويلاً فتباعد ثلاثة أميال قصر، وليس التقييد بالثلاثة لكونه لا يجوز القصر عند مفارقة البلد، بل لأنه ما كان يحتاج إلى القصر إلا إذا تباعد هذا القدر؛ لأن الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يسافر عند دخول وقت الصلاة إلا بعد أن يصليها فلا تدركه الصلاة الأخرى إلا وقد تباعد عن المدينة,, وأما حديث شرحبيل، وقوله: إن عمر رضي الله عنه صلى بذي الحليفة ركعتين: فمحمول على ما ذكرناه في حديث أنس، وهو أنه كان مسافراً إلى مكة أو غيرها، فمر بذي الحليفة وأدركته الصلاة، فصلى ركعتين,, لا أن ذا الحليفة غاية سفره 5 .
قال أبو عبدالرحمن: إن صح النقل عن داوود بأنه قال: لو خرج إلى بستان خارج البلد قصر,, فهذا محمول على انتهاإ عمران البلد، إذ هذا مقتضى مذهبه الذي حكاه عنه ابن حزم رحمهما الله,, إلا أن السياق يدل على أن العزو إلى مذهب داوود، وقد اختصر بعضهم النقل عن النووي فعزا ذلك إلى أبي حامد من الشافعية.
وقول النووي رحمه الله: لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم القصر صريحاً دون مرحلتين : مردود بحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، فإنه صريح فيما دونهما، وتأويل النووي له يحتاج إلى دليل يصحح تأويله، وإلى دليل ترجيح آخر يمنع من ظاهره، ولا دليل على ذينك، ولتحقيق دلالة حديث أنس رضي الله عنه مناسبة تأتي إن شاء الله.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ]661728ه[ أحد تأويلات حديث أنس رضي الله عنه، ثم قال: وهذا يوافق قول من يقول: لا يقصر حتى يقطع مسافة تكون سفراً,, لا يكفي مجرد قصده المسافة التي هي السفر,, وهذا قول ابن حزم وداوود وأصحابه,, وابن حزم يحد مسافة القصر بميل,, لكن داوود وأصحابه يقولون: لا يقصر إلا في حج أو عمرة أو غزو,, وابن حزم يقول: إنه يقصر في كل سفر,, وابن حزم عنده أنه لا يفطر إلا في هذه المسافة,, وأصحابه يقولون: إنه يفطر في كل سفر بخلاف القصر، لأن القصر ليس عندهم فيه نص عام عن الشارع، وإنما فيه فعله أنه قصر في السفر، ولم يجدوا أحداً قصر فيما دون ميل، ووجدوا الميل منقولاً عن ابن عمر,, وابن حزم يقول: السفر هو البروز عن محلة الإقامة، لكن قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البقيع لدفن الموتى، وخرج إلى الفضاإ للغائط والناس معه لم يقصروا ولم يفطروا، فخرج هذا عن أن يكون سفراً، ولم يحدو أقل من ميل يسمى سفراً، فإن ابن عمر قال: لو خرجت ميلاً لقصرت الصلاة,, فلما ثبت أن هذه المسافة جعلها سفراً، ولم نجد أعلا منها يسمى سفراً جعلنا هذا هو الحد,, قال: وما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر؛ فلا يقصر فيه ولا يفطر، وإذا بلغ الميل فحينئذ صار له سفر يقصر فيه الصلاة ويفطر فيه، فمن حينئذ يقصر ويفطر، وكذلك إذا رجع فكان على أقل من ميل فإنه يتم ليس في سفر يقصر فيه.
قلت: جعل هاأُلاإ السفر محدوداً في اللغة,, قالوا: وأقل ما سمعنا أنه يسمى سفراً هو الميل,, وأُلائك جعلوه محدوداً بالشرع، وكلا القولين ضعيف,, أما الشارع فلم يحدّه، وكذلك أهل اللغة لم ينقل أحد عنهم أنهم قالوا: الفرق بين ما يسمى سفراً وما لا يسمى سفراً هو مسافة محدودة,, بل نفس تحديد السفر بالمسافة باطل في الشرع واللغة,, ثم لو كان محدوداً بمسافة ميل,, فإن أريد أن الميل يكون من حدود القرية المختصة به فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج أكثر من ميل من محله في الحجاز ولا يقصر ولا يفطر، وإن أراد من المكان المجتمع الذي يشمله اسم مدينة ميلاً قيل له فلا حجة لكل في خروجه إلى المقابر والغائط، لأن تلك لم تكن خارجاً عن آخر المدينة، ففي الجملة كان يخرج إلى العوالي وإلى أُحُد كما كان يخرج إلى المقابر والغائط,, وفي ذلك ما هو أبعد من ميل,, وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخرجون من المدينة إلى أكثر من ميل ويأتون إليها أبعد من ميل ولا يقصرون كخروجهم إلى قباأَ والعوالي وأحُد، ودخولهم للجمعة وغيرها من هذه الأماكن,, وكان كثير من مساكن المدينة عن مسجده أبعد من ميل، فإن حرم المدينة بريد في بريد حتى كان الرجلان من أصحابه لبعد المكان يتناوبان الدخول: يدخل هذا يوماً وهذا يوماً,, كما كان عمر بن الخطاب وصاحبه الأنصاري ]رضي الله عنهما[ يدخل هذا يوماً وهذا يوماً,, وقول ابن عمر: لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة,, هو كقوله: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر,, وهذا إما أن يريد به ما يقطعه من المسافة التي يقصدها، فيكون قصده إني لا أُأَخِّر القصر إلى أن أقطع مسافة طويلة، وهذا قول جماهير العلماء إلا من يقول إذا سافر نهاراً لم يقصر إلى الليل 6 ,, قال أبو عبدالرحمن: ها هنا وقفات:
الوقفة الأولى: أن أهل الظاهر متفقون على أن أقل مسافة القصر ميل، وما حكاه شيخ الإسلام من اختلاف فإنه عن وقائع أخرى تتعلق بالقصر لا بمقدار المسافة.
الوقفة الثانية: قول شيخ الإسلام وأُلائك جعلوه محدداً بالشرع : يرجع ضرورة ولا بد إلى الفقهاإ الآخرين المخالفين لأهل الظاهر تحديدات اختلفوا فيها أيضاً، وكل طائفة ترى أن تحديدها هو المنقول شرعاً.
الوقفة الثالثة: ليس بصحيح أن السفر غير محدد لغة، بل هو مفهوم ضرورة من صيغة فَاعَل التي جاأ على وزنها سافر، وهو أقل من الميل كما سيأتي بيان ذلك إن شاأ الله في مناسبة قادمة عن مفهوم السفر، وبذلك يكون مذهب أهل الظاهر في التحديد: إما لغوياً ويكون خاطئاً، وإما عرفياً لكلام ابن عمر رضي الله عنهما، وإما شرعياً على أساس أنه فتوى وفعل صحابي لا مسرح فيها للاجتهاد.
الوقفة الرابعة: ليس بصحيح أن المسافة لم تحدد شرعاً، لأن حديث أنس رضي الله عنه أسند التحديد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته الفعلية، وهذا هو أحد الاحتمالات في كلام ابن عمر رضي الله عنهما كما سلف آنفاً.
الوقفة الخامسة: لا يلزم الإمام ابن حزم تفريع شيخ الإسلام رحمهما الله في قول شيخ الإسلام: لا حجة لابن حزم في خروجه إلى المقابر والغائط، لأن تلك لم تكن خارجاً عن آخر المدينة إلى أكثر من ميل ؛ لأن ابن حزم إنما يحدد مسافة القصر بما كان خارج عمران البلد,, وإذا كان أُحُدٌ خارج العمران فلا يتم احتجاج شيخ الإسلام إلا بنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أدركته الصلاة في أحد، وهو لن يدرك وقتها في الحضر؛ فأتم ولم يقصر!! 7 ,, أما قباأُ والعوالي فمن عمران المدينة,, وعلى فرض أنها لم تكن من مسماها يومئذ ولا من عمرانها: فمن أدركته الصلاة بها فهو في حضر: له أن يتم مع الإمام، وله أن يقصر إن صلى وحده,, ولم يرد النص بأن الصلاة أدركتهم وهم يصلون وحدهم فأتموا.
ولما ذكر أحمد بن يحيى المرتضى ]775 840ه[ مذهب داوود أن القصر فيما يسمى سفراً قل أو كثر: علّق بقوله: وقول داوود معارض برواية إتمامه صلى الله عليه وسلم في قباإٍ، وبينه وبين المدينة دون بريد 8 ,, ونقل محمد بن يحيى بن بهران الصعدي ]888 975ه[ عن الانتصار: وأما ثانياً فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد كان يخرج إلى قباأَ فتدركه الصلاة فلا يقصرها,, وبينه وبين المدينة مقدار فرسخ 9 .
قال أبو عبدالرحمن: هذا يحتاج إلى إنساد صحيح، وعلى فرض صحته فمعنى ذلك أن قباأً من المدينة، وهذا موجود في تفريعات الفقهاإ كما في تفصيل ابن بشير من المالكية,, قال محمد خِلفَة الأُبِّيُّ ] 827ه[: قال ابن بشير: وإن كان حول المصر لا 10 بنآاتٌ معمورة وبساتين: فإن اتصلت وكانت في حكم المصر فلا يقصر حتى يجاوزها، وإن لم تتصل وكانت قائمة بنفسها قصر وإن لم يجاوزها,, قال: وإن كان المرتحَل عنه قرية لا تقام بها جمعة، ولا بساتين لها: قصر بمجاوزة البيوت اتفاقاً، وإن اتصلت بها بناآت أو بساتين فكما تقدم في المصر ذي البساتين، وإن كان السفر من بيوت العمود فلا يقصر حتى يجاوز الحلل,, وكان الشيخ يعتبر البساتين التي في حكم المصر بالبساتين التي يرتفق سكانها بمرافق المصر من أخذ نار وطبخ خبز وما يحتاج الى شرائه في الحال، ويمثِّل ذلك برأس الطابية وما قاربها 11 .
وقال عبدالله بن محمد النجري اليماني ]825 877ه[: وقد أخذ داوود بظاهر السفر ولو قل، وكذا في القصر 12 ، وفهم من الآية أنه لا يجوز القصر إلا بعد الضرب في الأرض,, وقدّره الهادوية بالميل,.
قال الهادي: وهو مروي عن النبي ]صلى الله عليه وسلم[ 13 ,.
وإلى مناسبة أخرى، والله المستعان.
الحواشي
1 هكذا في الأصل المطبوع، وإنما هو يزيد.
2 هكذا في الأصل المطبوع، وإنما هو جبير.
3 هكذا في الأصل المطبوع، وإنما هي الأيام.
4 المجموع شرح المهذب 4/325327.
5 المجموع 4/328329.
6 مجموعة الرسائل والمسائل 1/311 312 ط دار الكتب العلمية ببيروت طبعتهم الثانية عام 1412ه، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام 24/132135.
7 قال العلامة صالح بن مهدي المقبلي ] 1047 1108ه[ في كتابه المنار في المختار من جواهر البحر الزخار 1/250: قوله: وقول داوود معارض برواية إتمامه صلى الله عليه وسلم في قباإ : هذه الرواية تحتاج إلى إثبات، ولم نرها في شيإٍ مما اطلعنا عليه في صحيح ولا سقيم، والله أعلم .
8 البحر الزخار الجامع لمذاهب علماإ الأمصار 3/43 44 نشر دار الكتاب الإسلامي بالقاهرة بتحقيق القاضي عبدالله الجرافي.
9 جواهر الأخبار والآثار المستخرجة من لجة البحر الزخار بحاشية البحر الزخار 3/44.
10 هكذا في الأصل المطبوع، ولا تطبيع أوخطأ من الناسخ.
11 إكمال إكمال المعَلم وهو الحاشية الأولى المطبوعة مع صحيح مسلم وهي شرح له 3/11.
12 يريد أن هذا الحكم لقصر الصلاة، ولشرط المحرم لمن سافرت ميلاً.
13 شافي العليل في شرح الخمسمئة آية من التنزيل 1/621 و623.
 
أعلى