العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

بين مقاصد الشريعة ومبادئها .. ردٌّ على مقال جاسر عودة بقلم :د طارق عبد الحليم

إنضم
24 يناير 2012
المشاركات
1,295
الجنس
ذكر
الدولة
سريلانكا
المدينة
كولومبو
المذهب الفقهي
المذهب الشافعي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم مقال آخر يحمل السمّ في الدّسم، ويبعث على التوجس مما يكتبه "الأكاديميون" الإسلاميون، فمنهم من يحمل القلم سكيناً يطعن به جسد الأمة ويُشوّه لها عقائدها ومفاهيمها، في ثوبٍ ملفوفٍ بالرشاقة والألفاظ العلمية الفَخيمة، والتّشابك الذي يضيع معه القارئ العاديّ، فيسلم للكاتب بنتائج ما قدّم، وهو المَطلوب إبتداءً.
وصاحبُنا هذه المرة اسمه جاسر عودة، وقائمة التعريف به والمناصب التي احتلها، ولا يزال، طولها خمسون متراً أو يزيد، لا يضارعها طولاً إلا قائمة المصائب التي جناها على فكر الأمة بالتزييف والتحريف والإلتواء بالمفاهيم. والرجل يعيش في قطر، ويدير مركزاً للفكر، أو شئ من هذا القبيل. كما أنه عضو هيئة العلماء المسلمين عن أيرلندا! التي يسكنها خمسة آلافٍ من المسلمين لا غير! وكثير غير هذا ليرجع له من يشاء على النت.
في مقال بعنوان "ما الفرق بين أحكام الشريعة ومبادئ الشريعة؟"[1]، تخبط الرجل فيه تخبطاً شديداً، وإن ظهر للقارئ المبتدئ أنه يمشى على بصيرة ويتحدث عن علم. ذلك أنه استخدم أدوات المقاصد الشرعية ليوهم أنها هي ما أسموه "مبادئ الشريعة" في الدساتير العلمانية كدستور 71، وكما يقترحه الإخوان والقوى العلمانية اللادينية في الدستور القادم في مصر.
والرجل قد أقرّ، على خبثٍ ومكر، أنّ تعبير "مبادئ الشريعة" ليس تعبيراً شرعياً، بل هو تعريف لغير مُعرَّفٍ وحدٌّ لغير مُحَدَّدٍ. قال "الاسم العلمي لمبادئ الشريعة وكلياتها وأهدافها هو "مقاصد الشريعة"! ولا ندرى ما الذي منع فقهاء القانون والمشرعون إذن، الذين يجتمعون لوضع هذه الدساتير، أن يستخدموا "الإسم العلمي" بدلاً من الإسم "البدعيّ"، أو "العاميّ" إذ لا نعرف والله ما هي صفة هذا الإسم إذن؟ ومن أين جاء؟ ولماذا استخدمه هؤلاء؟
والحقّ، أنّ الرجل جانب الحقّ وفارق الصواب من ثلاثة نواحٍ، أولها أنّ التأكيد على تعبير "مبادئ الشريعة" وليس مقاصدها هو إجراءٌ مُتعمدٌ يهدف إلى تمييع ما يأتى تَحتها، ويبعدُ بها عن الأحكام الشرعية ما أمكن، إذ إن قيل أنّ المبادئ هي المقاصد، وجب أن يرجع المشرعون إلى جزئيات هذه المقاصد العامة، وهي تفاصيل الأحكام، وهو بالضبط ما لا يريدونه. فلا يعقل أن يَعتدّ المشرع بكليةٍ نشأت أصلاً من مجموع جزئياتها، أي أدلتها، كما يسميه الشاطبيّ "الإستقراء المعنوي"، ثم يُغفِل إعتبار هذه الجزئيات ذاتها.
وثانياً، فإنّ هؤلاء المؤتمرين على كتابة الدستور لم يصرحوا بما ألصقه بهم هذا الرجل، من أنّهم يعنون بالمبادئ "المقاصد العامة للشريعة"، فقوّلهم ما لا يقولون. بل دعا بعضهم إلى أن يوكل تفسيرها إلى "الأزهر"، إذ لا تفسير لديهم لها! فكيف يدعى هذا الرجل أنها هذا أو ذاك؟ بل قد رُفض هذا الإقتراح لتظل المادة مُبهمة لا تفسير لها، فيمكن العبث بها كما تشاء العلمانية، والإسلامية الإخوانية، أن تعبَث.
وثالثها، أنّ ما تحدث به بعض هؤلاء المؤتمرين، جاء على لسان بعض السياسيين، ومنهم رئيس الجمهورية محمد مرسى، أنّ هذه المبادئ قليلة جداً، وهي تُعَدّ على أصابع اليدِ الواحدة! فكيف يوفّق الكاتب هذا بين هذا القول وبين ما افتراه عليهم من زعم أنهم يقصدون بالمبادئ "المقاصد الشرعية والقواعد الكلية للشريعة" وهي تُعد بالعشرات؟
والحق الذي أراد هذا الكاتب أن يلتوى به، لغاية في نفسه، أنّ هؤلاء يقصدون بمبادئ الشريعة "تلك القواعد العامة التي أطبقت البشر على إعتبارها في شؤون المعاش جملة لا تفصيلاً، كالعدل والمساواة والحرية، ثم راحت كلّ طائفة من البشر تضع تفاصيل عدلها ومساواتها وحريتها حسب أهوائها، إلا الإسلام، فقد أخذ بما جاء به الشرع الحنيف جملة وتفصيلاً.
وحتى نحقق هذاالأمر في ذهن القارئ ووعيه، ننقل ما جاء في كتابنا "المصلحة في الشريعة الإسلامية"، في الفصل السادس المعنون "بين مقاصد الشرع و"مبادئ الشريعة"،جاء في الفصل المذكور:
"الحقّ أن هذا المُصْطَلح "مبادئ الشريعة" مصطلحٌ مُحدثٌ لم يأت له ذكرٌ في أيّ من كتب الأصول أو القواعد الفقهية فيما ورد لنا عن العلماء الأثبات، إنما هو جديد مُحدثٌ يجب الحذر عند استخدامه حتى لا تختلط به المفاهيم كما بيّنا في بعض كتبنا من قبل عن الوسطية والحداثة والاجتهاد، ومثلها من المفاهيم التي هي حقٌ أريد به باطل (انظر كتابنا دفاع عن الشريعة). إنما الذى ورد لنا عن العلماء هو تعبير "مقاصد الشريعة". والفرق بين المقاصد والمبادئ كبير. فالمقصد يمثل المراد من الأمر المقصود اليه بالمقام الأول، وهو مستنبطٌ من تفصيلات الشريعة ومن عموماتها ومجملاتها وكلياتها. أما تعبير المبادئ، فإنه مبتوت الصلة بالأحكام التفصيلية، وكأنه "بُدأ" به، فهو أولٌ والتفصيلات تالٍ، ومن هنا فلا حرج أن يُترك التفصيل لصالح المبدأ، وليس الأمر كذلك في المقاصد، إذ هي تالية لدراسة التفصيلات، ثم تعود بعدها لا لتنفض تلك الجزئيات التفصيلية عن نفسها، وتعمل مستقلة عنها، بل لتُعين على تعيِين حُكم ما لم يوجد له حكم تفصيليّ في جزئيات الشريعة الثابتة. وهو بالضبط معنى "المصلحة المرسلة" التي بيّناها من قبل أنها "المصلحة التي لم يشهد الشرع باعتبارها أو إلغائها، وإن لاءمت تصرفات الشرع على الجملة بأن اندرجت تحت دليل كليّ، دون دليل خاص معين" (انظر الفصل الثاني). فتصرفات الشرع هي مقاصده العامة، وهي التي يمكن، فيما لا نصّ فيه على الخصوص، أن يستهدى بها لاستخراج حكم الشرع فيها.
وهذه المقاصد قد حددها الشرع في خمسة مقاصد عامة، وحفظها في كلّ شريعة نزلت على أنبياء الله، بل هي محفوظة في فطر البشر وتشترك فيها كلّ ملة وشرعٍ وضعيّ. هذه المقاصد الخمس وهي حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ النسل، حفظ المال. وقد يختلف البعض في ترتيبها، ولكن بلا توابعَ تُخِلّ بالمقصودِ منها، كمن قدّم حفظَ النفس على الدين من حيث إنّ إعدام النفس يعدم معه الدين بالضرورة، إذ لا نفس تحمل الدين.
ثم إن هذه المقاصد العامة التي قصد الشارع إلى حفظها، قد رتّبت على درجات من الأولوية في الحفظ والتقديم، فجاء منها ما هو ضروريّ لا يمكن الحياة بدونه، ثم ما هو حاجيّ مما تشقُ الحياة على المكلف دونه، ثم ما هو تحسينيّ مما يجعل الحياة أفضل وأقوم، فتكون لنا خمسة عشر قسماً. ثم جاء تحت كلّ درجة من هذه الدرجات الثلاث ما هو من الأحكام الخمسة التكليفية، واجبة ومندوبة ومباحة ومكروهة ومحرمة، فيكون بذلك مائة وخمسة وعشرون قسماً، قد وقعت كلّ أحكام الشريعة بلا استثناء تحتها، إذ هي مصدرها أصلاً وبالمقام الأول.
فإن جاء أمرٌ ليس فيه حكم تفصيليّ واردٌ ثابتٌ على مستوى الأحكام التكليفية، ارتفع الفقيه بالمسألة ليلحقها بأحد الأقسام الخمسة عشر، ثم يردها بذلك إلى أحد المقاصد الخمسة، لتعينه على تعيين موضع هذه المسألة في منظومة المقاصد العامة. وهو المقصود بمعنى المصلحة المرسلة، التي لا دليل خاص عليها، ومن ثمّ، يلحقها الفقيه بما هو أعلى منها في منظومة المقاصد، ليستنبط حكمها. وهذه العملية تستلزم علماً واسعاً وإحاطة شاملة بكلّ جوانب الشريعة وأصولها، وهى ليست عبثاً يتحدث فيه المبتدئين وأنصاف المتعلمين، فهو أرفع وأدق من الفتوى في الأحكام التي عليها أدلة شرعية ثابتة كأن تقع تحت نصٍ أو إحماعٍ أو قياسٍ أو أي من الأدلة التي ذكرناها آنفاً.
أما عن هذه المبادئ، فهي أمر يخالف هذه المقاصد، إذ هذه المقاصد، كما بيّنا، استنبطت من جزئيات الشريعة بدلالة قطعية، أما تلك المبادئ فهي تعنى الحكم الأوّلى التي يعتقد الناظر أنها المرجعية من وراء هذه المقاصد، كما بيّنها الطاهر بن عاشور، مثل: الحرية، الفطرة، العدل، السماحة، المساواة
وهي كما نرى، ليست ما يعنيه الفقهاء عند مناقشتهم لمقاصد الشريعة. فالخلط بينهما قد يؤدى إلى التّسيب في التطبيق، خاصة وهذه المبادئ التي يطلقها "علماء" السلطان اليوم، وبعض المفتين المفتونين من أتباع جماعات معينة، لا ترجع إلى منظومة بعينها كما ترجع المقاصد التي دُوّنت في كتب الأصول على مدى الزمان، مما يجعل التلاعب بمفهومها وحدودها يسيرٌ على من يحرّفون الكَلم عن مواضعه.
الشرع الحنيف أتى بتفاصيل الأحكام الجزئية في كافة مجالات الحياة، تحت تلك المقاصد الكلية، يدل بها على مصالح العباد في كافة الأحوال، وهو معنى أنّ الشريعة صالحة لكل زمان ومكان وحال. فالعدول عن التحاكم إلى هذه الأحكام الجزئية، وما يستنبط منها بكافة أدلة الإستنباط الشرعية، ليكون التحاكم إلى المبادئ التي هي حكماً للمقاصد، إنْ صَحّت، عبث وازدراءٌ للشريعة وتحكيم للهوى، فالحرية تعنى آلافٌ من الطرق والتصرفات في حياة المكلف، الفردية والجماعية، يمكن له أن يتبعها، يدعى أنه قد سار على مبادئ الشريعة! فترى المرأة تخلع لباسها وتتعَاهر في مشيتها، وهي حرةٌ في هذا التصرف، لأنّ الحرية مبدأ من مبادئ الشريعة. وقل ذلك في العدل والمساواة وبقية ما ادعوْا أنه من تلك المبادئ.
وهذه المبادئ يشترك فيها كل دين سماوى ووضعيّ، بل كلّ فلسفة ظهرت على وجه الأرض. فإنه لم يُعرف أنّ قائلً قال بعدم الحرية، أو بجواز الظلم، أو بوجوب عدم المساواة، لكن الأمر هنا أنّ الإسلام جاء بنصف الميراث للمرأة مقارنة بالرجل، فهل نتعدى هذا النص المحكم، ونجعلهما متساويين، لمراعاة مبدأ المساواة المزعوم؟ ومثل هذا المثال، تجده في كافة أحكام الشريعة، إذ المساواة لها مفهوم خاص في منظومة الإسلام، لا تشترك فيه مع غيرها إلا في أحرف الكلمة.
الرجوع إلى المبادئ إذن هو تحلل من الشريعة وخروجٌ عن حكم الله سبحانه، وإهدار لمبدأ طاعة المشرّع، وكفر بدين الإسلام، لا يشك في هذا إلا منافق أو مغرض جاهلٌ أو علمانيّ ليبراليّ." اهـ بنصه
والطامة الأخرى التي أورَدها الرجل، هي التواؤه بما يعنيه لفظ "المدنية" المتداول هذه الأيام، في عدة مواضعٍ من تسجيلاته وكتاباته. ويشرح في معرض حديثه عن أنّ المدنيّ لا يعارض الدينيّ ضرورة، وأنّ من الواجب نقل هذا المعنى للعوام، وأن يجب أن تكون أولوية للمَدني على الديني، وأولوية مشروع المواطنة على مشروع الأسلمة، وزعم أنّ الأولوية للحوار مع الحالة العلمانية مقارنة بالحوار مع التيار السلفي، وذكر أن هناك أولوية لإقرار مبدأ سيادة القانون على ما عداها من الإصلاحات القانونية"، ويرى أن المدني ينبغي أن يحظى بأولوية المصريين في طرحهم نحو مصر “الجديدة”، سواء أكان مصدر هذا المدني ديني أو علماني"! وغير ذلك كثير من الطامات في هذا الباب.
تخريبٌ وتضليلٌ وهَرَجٌ فكريّ يراد به تضليل الشعوب وتعمية الحق عليها. فالتعبير بلفظ "المدني" في مقابل "الديني"، هو تعبير مُستحدثٌ استخدمه كفار العلمانية حديثا، حين أرادوا إنكار الشريعة والخروج عن أحكام الإسلام، حتى لا يرميهم الناس بالكفر إنْ ردّوا "الديني" صراحة. فإذا بسحرتهم يخترعون لهم لفظ "المدنيّ" بديلا "اللاديني"، ليكون أخف وقعاً على العامة، وإذا بسحرة التيارات "الإسلامية" وأكاديمييها، كجاسر هذا، يضفون على اللفظ معانٍ ويدخلونه في قاموس المصطلحات عنوة، وكأنّه جزء من اللسان العربي الفقهيّ منذ قرون!
وقد حاول هذا الجاسر أنْ يُموّه بأنّ "المَدنيّ" هو ما يَختصُ بشؤون الحياة، أو هو ما ينطبق عليه دليل المصلحة المرسلة، أو أمر من هذه الأمور، ليبتعد به عن مقصود واضعيه الأصليّ وهو العلمانية اللادينية. وهو في هذا التوجه علمانيّ صرفٌ عتيد، يقدّم اللادينيّ على الشرع، ويقف في صفّ العلمانية ضد الدين، ويبين أنه يجب تقديمها في الحوار وفي إعتبار الأولويات! وما أدرى إن لم تكن هذه علمانية لادينية صريحة وردةٌ عن التوجه الإسلاميّ فماذا تكون إذا!
ولا يَغُرّنك من الرجل حديثه عن مقاصد الشرع، ونقله عن علماء الأصول، فهو لا يبعد أن يكون كالمستشرقين الذين درسوا دين الإسلام وكتبوا فيه سلباً وإيجاباً، بمهارة ودقة، وهم على دينٍ غيره بالكلية.
وإننا نتوجّه بالتحذير من هذا الرجل وأمثاله، فهم الأخطر على هذه الأمة وعلى دينها، وهم شلة "المبرراتية"، الذين يستخدمون أساليب الدين ومصطلحاته للتمويه والتعمية، وما الله بغافلٍ عما يعملون.
المصدر : http://www.tariqabdelhaleem.com/new/Artical-53959
 
أعلى