رد: هل يمكن إلزام القاضي المبتدأ بحكم محدد دون القاضي المجتهد؟
تحية طيبة ..
من أفضل من تناول مسألة إلزام القضاة .. الإمام الحجوي الثعالبي في الفكر السامي والشيخ بكر أبوزيد عليه رحمة الله في كتابه فقه النوازل (بحث التقنين والإلزام) .. والشيخ ناصر الميمان في كتابه النوازل التشريعية.. وكتاب القيمة القانونية للدكتور صالح الطيب محسن.. وآخر الكتب التي أجادت في هذا المجال كتاب الصياغة التشريعية للدكتور هيثم بن فهد الرومي.. وغيرهم
وقد استفد من الكتب أعلاه كثيراً في هذه الجزئية ونقلت منهم وعنهم في رسالتي (ضوابط تقنين فقه المعاملات المالية) ... وهذا الجزء منها فيما يتعلق بالموضوع المطروح...
المطلب الثاني: سند التقنين وتأصيله:
تُرّدُ فكرة التقنين فقهياً إلى مسألة تقييد القضاء بمذهب واحد، أو إلزام القاضي بخلاف اجتهاده، ويرى الدكتور جمال الدين عطية بأن :"التقنين يكيّف بأنه من القيود التي ترد على الاجتهاد القضائي المطلق، فالذي جرى عليه العمل في صدر الإسلام هو إطلاق حرية القاضي أن يجتهد برأيه إن لم يجد في الكتاب أو السنة حكماً، وسند ذلك هو حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- "أن رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: بعث معاذًا إلى اليمنِ فقال: كيف تقضي؟ فقال: أقضي بما في كتابِ اللهِ، قال: فإن لم يكن في كتابِ اللهِ؟ قال: فبسنةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قال: فإن لم يكن في سنةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: أجتهدُ رأيي، قال: الحمدُ للهِ الذي وفَّقَ رسولَ رسولِ اللهِ"
[1].
لكن هذا الإطلاق في الإجتهاد لم يبق على إطلاقه بل قيدته قيود بعد ذلك، منها ربط الاجتهاد في إطار المذهب أو ضمن رأي محدد كالمشهور والراجح والظاهر في مذهب معين.
ويبدو أن مبررات هذا التقييد ترجع لأمور منها ما يتعلق بحجيّة نص حديث معاذ بن جبل رضوان الله عليه، ومنها ما يتعلق بتفسير هذا النص، فحديث معاذ رغم انسجامه مع طبيعة الأشياء في ترتيبه للأدلة أو المصادر إلا أن ثبوته غير مسلم على إطلاقه، كما أن تفسير النص يدخل فيه أن معاذاً رضي الله عنه لم يكن قاضياً فحسب، بل أنه جمع إلى جانب الاختصاص القضائي أهلية الاجتهاد، فهو نموذج توفرت فيه شروط الاجتهاد فكان يجتهد بهذه الصفة لا بصفته قاضياً فحسب.
[2]
"ويفهم من ذلك أن حديث معاذ لا يعني تقييد القضاء إما لأنه لا يرتقى إلى مرتبة نسبته للرسول -صلى الله عليه وسلم- أو أن الإذن صدر لمعاذ لا بوصفه قاضياً فحسب بل بوصف المجتهد الذي توفرت فيه مؤهلات الإجتهاد".
[3]
ويرجع البعض
[4] فكرة الإلزام التي هي جوهر التقنين إلى رسالة
[5] أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في القضاء إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، ومما ورد فيها: ".. فإن القضاء فريضة محكمة وسّنة متبعة، فافهم إذا أُدلى إليك وأنفذ إذا تبين لك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وآس بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر.
والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وهُديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء والرجوع إلى الحق خير من التمادى في الباطل.
ومن ادّعى حقاً غائباً أو بيّنه فاضرب له أمداً ينتهى إليه فإن بينه أعطيته بحقه، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك أبلغ للعذر وأجلى للعمى.
الفهم الفهم فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عندئذ واعرف الأشباه والأمثال ثم أعمد فيما ترى إلى أقر بها إلى الله وأشبهها بالحق.
المسلمون عدول بعضهم على بعض إلى مُجرباً عليه شهادة زور أو مجلوداً في حد أو ظنينا في ولاء أو قرابة، فإن الله تولى من عباده السرائر وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان.
وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب به الأجر ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزيد بما ليس في نفسه شانه الله ، فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصاً، فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته".
[6]
وأهمية رسالة عمر الفاروق -رضي الله عنه- هذه تكمُن في أنها تأصيل عُمَريٌ مبكر للتقنين، يقول الدكتور عبد الحميد البعلي: "ومما يُبرز أهمية رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- فيما نحن بصدده من تقنين أحكام الفقه ما يأتي:
- إن القضاء ضرورة وفريضة محكمة وسنّة متبعة.
- الإلزام بالحكم لقوله رضى الله عنه: "فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له".
و هنا تتبين أهمية المقارنة التالية:
- الإلزام بحق استنبطه القاضي الفرد باجتهاده، وقد يختلف فيه مع غيره من القضاة.
- والإلزام بحق استنبطه المجتهدون وتخيره واضع القانون ، وسنَّه ولى الأمر وألزم به القضاة جميعاً ليلزموا به الناس في أحكامهم.
لا شك أن الفهم الصحيح والدقيق لرسالة عمر بن الخطاب يشير إلى أن قاعدة الإلزام التى قررها عمر بن الخطاب في رسالته حين قال: "فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له"، هذه القاعدة أولى بالتطبيق في إلزام القضاة أنفسهم -في زماننا- بأحكام الفقه التي استنبطها المجتهدون أساساً وتخّيرها واضع القانون في التقنين، وسّنها ولي الأمر، ليلزم القضاة الناس بها في أحكامهم! وذلك دون إلغاء لشخصية القاضي في: فهم النص، ومقتضاه ودلالته، وتطبيقه التطبيق الصحيح علي الوقائع والحوادث المعروضة عليه والمطروحة أمامه".
[7]
ويقول الدكتور ناصر الطريفي في بيان مقصود "فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له" أن المقصود بها: "سرعة البت في الدعوى والإلزام بالحكم وعدم التريث إلا إذا كان هناك ما يدعو إلى ذلك لئلا تتعطل مصالح الناس الأخرى ، فالتردد على مجلس القضاء طلباً للحكم قد يفوت بعض الوقت الذي يجب أن يصرف إلى مصلحة أخرى... كما أن الحق الذي يحكم به إذا لم تكن له سلطة تنفذه، سواء أكانت السلطة من داخل أنفس المتخاصمين، أو سلطة تنفيذية بيد القاضي، أو يأمرهما بالتنفيذ يصبح الحكم عديم الفائدة، إذ قيمة الحكم في الإلزام به".
[SUP][SUP][8][/SUP][/SUP]
يقول ابن القيم معلقاً على مقولة عمر الفاروق: "ومراد عمر بذلك: التحريض على تنفيذ الحق إذا فهمه الحاكم، ولا ينفع تكلمه به إن لم يكن له قوة تنفذه، فهو تحريض منه على العلم بالحق والقوة على تنفيذه، وقد مدح الله سبحانه أولي القوة في أمره والبصائر في دينه، فقال: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ)، فالأيدي: القوي على تنفيذ أمر الله، والأبصار: البصائر في دينه".
[9]
وهناك سوابق تاريخية ساندة للتقنين غير رسالة الفاروق رضي الله عنه، منها:
- قيام عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بجمع المصاحف في القرن الأول الهجري على مصحف واحد والإلزام به مع ترك ما سواه فيما يعرف بالمصحف العثماني الذي يمثل أو تدوين رسمي لنص عربي عرف بالمصحف، حيث اتخذ شكلاً مميزاً وبترتيب متفق عليه استقر عليه الناس، وبها صار المصحف أقدم وأوثق وثيقة مدونة عرفها الإنسان دون تحريف أو تبديل.[10]
- قيام عمر بن عبدالعزيز بجمع السنة في رأس المئة الهجرية الأولى حيث بدأ التدوين الرسمي غير المرتب وغير المقتصر على أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل شاملٌ لآثار الصحابة، في أول محاولة جماعية لتدوين السنة[11]، وكان من أهم الدوافع لقيام الخليفة عمر بن عبدالعزيز بذلك، هو تمييز القرآن عن السنة وحفظ كلا منهما من الضياع، وموت الكثير من حفّاظ الحديث بمرور الزمن، وظهور الخلافات المذهبية التي أثرت على الحديث، وحين بدأ هذا التدوين بدأ غير منظماً وبمرور الزمن تطورت أشكاله إلى مسانيد ومعاجم وجوامع و سنن وصحاح، وعولجت فيما بعد بالتحقيق والفهرسة والتجميع الموسوعي.[12]
- طرح فكرة مبدأ الإلزام في القضاء في عهد المنصور ومن بعده الرشيد ودور الإمام مالك في ذلك، وقد تناولنا ذلك وغيره من السوابق الرسمية آنفاً كالسلطان محمد العلوي والمعز بن باديس وغيرهم، "والقاسم المشترك بين هذه الظواهر هو الإلزام ممن يملك الإلزام فعثمان بن عفان -رضي الله عنه- جمع القرآن الكريم بوصفه رئيساً للدولة، وكذلك الأمر بالنسبة لعمر بن عبدالعزيز، والمنصور، والرشيد، وعالمكير، وهو ما يضفي عليها صفة السوابق الرسمية".[13]
المبحث الثاني: مشروعية التقنين وآراء الفقهاء فيه:
المطلب الأول: محل الخلاف:
قبل الولوج في غمار النقاش الفقهي الكائن حول التقنين وبيان الحجج والردود والأدلة النقلية والعقلية والمزايا والعيوب والسلبيات والايجابيات، يجدر بنا تحرير محل النزاع في هذه المسألة، فالتقنين له عنصرين: عنصر جوهري وعنصر خارجي، فالأول هو محل النزاع الحقيقي وإن كانت على الثاني اعتراضات إلا أنها شكلية يمكن تجاوزها سواء عند جملة المانعين له أو الداعين إليه.
فقد يبدو للبعض أن التدوين مجرد عميلة فنية كما المختصرات والحواشي الفقهية، وفي الحقيقة هذه نظرة ضيقة للتقنين، "فالتقنين ليس مجرد عملية فنية مهمتها صياغة الأحكام الشرعية في شكل نصوص ومواد تعطى لكل منها رقماً وترتب ضمن أبواب وفصول على غرار ما هو جارٍ في القوانين الوضعية، لكن ثمة قضية أخرى تتجاوز حدود الصياغة والتنظيم الشكلي للتقنين، لانكون مبالغين إذا قلنا أنها أهم عنصر فيه، فهي جوهره، وهي كذلك مصدر غالب الإشكالات التي تطرح بمناسبة تقنين الفقه، ألا وهي (الإلزام) أي: إلزام القضاة برأي معين يحكمون بموجبه فب القضايا التي تعرض عليهم".
[14]
فجواز الإلزام أو منعه هو جوهر المسألة ومحل نزاعها أما ما يتعلق بالمظهر أو الشكل فهو تابع لها ومن آثارها، وقد نصّ جملة من المعترضين على أنها ليست محل النزاع، يقول الشيخ عبدالله بن حميد في التقنين: "أما بالنسبة لتقنين الفقه الإسلامي بمعنى وضع كتاب في الفقه يجعل مواد وفقرات، كمادة الوقف مثلاً، ثم يذكر ما يثبت به الوقف من صيغ ويذكر صريحة وكنايته وشروطه وهكذا في بقية المواضيع كالبيع والسلم.." إلى أن يقول: "فلا بأس بهذا، ولا مشاحة في اصطلاحات المؤلفين".
[15]
وعليه فلو اقتصر التقنين على أحكام الفقه الإسلامي المعلومة من الدين بالضرورة والثابتة ثبوتاً قطعياً ومجمع عليها إجماع ثابت لا خلاف فيه فلن يكون هناك اعتراض عليها إلا ربما ممن يرى حرمة شكل القوانين الحديثة.
ومع أن ما سقناه من كلام الشيخ ابن حميد يبين أن مسألة الشكل ليست ذات جدوى في محل النزاع، إلا أننا نجد من الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- أعتراض على التقنين من ناحيتي الجوهر والمظهر ومنع كلتيهما، حيث يقول:"النظام الوضعي تتركب حقيقته من شيئين: أحدهما: صورته التي هي شكله وهيئته في ترتيب مواده والحرص على تقريب معانيها وضبطها بالأرقام، والثانية حقيقة روحه التي هي مشاكبة لذلك الهيكل والصورة كمشابكة الروح للبدن، وتلك الروح هي حكم الطاغوت فصار التدوين -التقنين- مشتملاً على أحدهما والواحد نصف الإثنين، ومما يظن ظنّاً قوياً ويخشى خشية شديدة أن وضع شكل وصورة النظام الوضعي بالتدوين وضع حجر أساس لنفتح روح هذا الهيكل الأصلية فيه".
[16]
وللحديث عن الإلزام الذي يعترض عليه بأنه إلزام قاضٍ مجتهد بخلاف ما أداه إليه اجتهاده، يجب أن نعرج على أحكام القاضي المتولي هذا المنصب، هل تجب فيه صفة الاجتهاد أم يكفي أن يكون متبعاً أم مقلداً، و هل يجوز في كلٍ منهم إلزامه وتقييده بمذهب أو قول معين أم لا
[17]:
القاضي المجتهد المطلق أو المستقل: وهو الأصل في تولية القضاة، وعليه كان قضاة صدر الإسلام، يحكمون باجتهادهم وإن خالف رأي غيره من المجتهدين، لأن الاجتهاد في حقهم متعين للحديث المتفق عليه: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"
[18]، ويحرم عليه الحكم من غير ترجيح إجماعاً، وعمله بالراجح عنده واجب عليه عند عامة الفقهاء، يقول الشهاب القرافي: "الحاكم إن كان مجتهداً فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده"
[19]، وحكي فيه الإجماع.
[20]
وجمهور الفقهاء على أن القاضي المجتهد لا يصح إلزامه بمذهب بعينه، ونصّ أكثر الفقهاء على أن السلطان إذا قيّد القاضي بالحكم بمذهب معين فالتقييد باطل والشرط لاغٍ واختلفوا في فساد التولية، وقد حمل المتأخرون ذلك على القاضي المجتهد المطلق، ونقل ابن قدامة الاتفاق على المنع من ذلك
[21]، وهذا يتفق مع قولهم إن شرط صحة القضاء أن يقضي القاضي برأيه من غير تفرقة بين إذا ما قيّده السلطان أو لم يقيده، ولا بين إذا ما كان القاضي مجتهداً أو متبعاً.
[22]
ومسألة إلزام وتقييد القاضي المجتهد في التقنين هي خارج محل النزاع الفقهي الحالي، إذ الكل على عدم جواز تقييده، كما أنهم على عدم وجوده في هذا الزمان.
القاضي المتبع أو المقلد الذي لا يلزم بمذهب: ذهب جمهور المتقدمين من الفقهاء إلى عدم جواز تولية المقلد القضاء، إلا أن الإمام أبو حنيفة جوّز تولية من ليس أهلاً للإجتهاد
[23]، لكن على خلاف المتقدمين يرى عامة المتأخرين أنه وإن كان المجتهد أولى وهو الأصل فإن قضاء القاضي بمذهبه مجتهداً أو متبعاً لمذهب غيره شرط في صحة القضاء فيجوز توليته القضاء بحكم الضرورة ومنعاً لتعطل مصالح العباد، ولقلة المجتهدين، وقد نقلنا سابقاً بعضاً من أشكال إلزام القضاة بمذهب معين في الدولة الصنهاجة وإبّان الدولة الأيوبية والعثمانية وفي إفريقية والمغرب، بل إن جمهور الأحناف على جواز تولية المقلد ولو كان جاهلاً.
[24]
وقد حكي أن شيخ الشافعية الإمام القاضي ابن سريج (ت 306هـ) ولي قضاء بغداد على أن يلتزم مذهب أبي حنيفة ففعل
[25]، يقول الإمام الشاطبي: "إنهم -العلماء- اتفقوا أو كادوا يتفقوا
[26] على أن القضاء بين الناس لا يحصل إلا لمن رقي رتبة الاجتهاد، وهذا صحيح على الجملة، ولكن لو فرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس.. فلابد من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهد، لأننا بين أمرين: إما أن نترك الناس فوضى، وهو عين الفساد والهرج، وإما أن يقدموه فيزول الفساد بتّة ولا يبقى إلا فوات الاجتهاد، والتقليد كافٍ بحسبه. وإذا ثبت هذا فهو نظر مصلحي يشهد له وضع أصل الإمامة، بل هو مقطوع بحيث لا يفتقر في صحته وملائمته إلى شاهد. هذا، وإن كان ظاهره مخالفاً لما نقلوه من الإجماع، فإن الإجماع في الحقيقة إنما عقد على فرض أن لا يخلو الزمان من مجتهد، فصار مثل هذه المسألة مما لم ينص عليه، فصح الإعتماد فيه على المصلحة"
[27]، وهذه نظرة مصلحية مقاصدية مهمة في هذه المسألة، وتبعه في هذه النظرة حجة الإسلام الغزالي حيث قال:"ثم هذه الشروط أطلقها أصحابنا، وقد تعذر في عصرنا، لأن مصدر الولايات خالٍ عن هذه الصفات وخلا العصر أيضاً عن المجتهد المستقل. والوجه القطع بتنفيذ قضاء من ولاه السلطان ذو الشوكة كيلا تتعطل مصالح الخلق".
[28]
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"واختلفوا في اشتراط العلم: هل يجب أن يكون مجتهداً؟ أو يجوز أن يكون مقلداً؟ أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل كيفا تيّسر"
[29]، ويقول: "وشروط القضاء تعتبر حسب الإمكان، ويجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولى لعدمٍ أنفع الفاسقين، وأقلهما شرا، وأعدل المقلدين، وأعرفهما بالتقليد، وإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع: قدّم -فيما يظهر حكمه ويخاف الهوى فيه- الأورع، وفيما ندر حكمه ويخاف فيه الاشتباه الأعلم".
[30]
وفي تولية المقلد القضاء يقول الإمام العلاء المرداوي:"وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا تعطلت أحكام الناس"
[31]، ويقول ابن الطلاع المالكي: "وكان مالك -رحمه الله– يقول في الخصال التي لا يصلح القاضي إلا بها: لا أراها تجتمع اليوم في أحد، فإذا اجتمع منها في الرجل خصلتان رأيت أن يولّى، العلم والورع"
[32]، وقد سُئل سلطان العلماء العز بن عبدالسلام عن قضاة عصره وشرط الاجتهاد فيهم: "ليس ذلك لقضاة هذا الزمان"
[33] وإن كان قد اشترط أن يكون المقلد ممن له قدرة على الترجيح بين الأقوال
[34]، وهذه أقوال لعلماء منهم من وصل رتبة الاجتهاد في إطار مذهب، يقول الإمام القرافي في ذخيرته:"لا نشك أن قضاة زماننا لو كانوا في العصر الأول ما ولّوا ولا حرج، وولايتهم حينئذٍ فسوق.. فخيار زماننا هم أراذل ذلك الزمان، وولاية الأراذل فسوق.."
[35] وهذا في زمنهم فما بالك بقضاة زماننا!.
هذا من ناحية حكم تولية المقلد، أما من ناحية أحكام قضائه، هل يجب عليه لزوم مذهب إمامه وعدم الخروج عنه؟
فلو ولّي القاضي المتبع أو المقلد ولم يلزمه الإمام بمذهب معين فإنه يحكم طبقاً لمذهب إمامه متبعاً أرجح أقواله، ولا ينفذ حكمه إذا خالف المعتمد في المذهب، لأن المتبع رأيه رأي إمام مذهبه، ولأن هذا يأخذ حكم المجتهد الذي يأخذ باجتهاد غيره مخالفاً اجتهاده فحكم بما هو باطل في رأيه، فكمه بغير مذهبه حكم بغير ما يراه، ومراد الفقهاء بتقييد القاضي بالحكم بمقتضى مذهبه أن يحكم بأصول المذهب وإن كان بغير قول إمامه نفسه، فمتى ما حكم المتبع برأي مرجوع عنه وغير معتمداً في المذهب ينقض حكمه هذا، لأنه خلاف المعتمد لم يبق قولاً لمجتهد، كما أن القضاء بالمرجوح وضعيف المذهب ممنوع.
[36]
يقول ابن عبدالسلام الهواري المالكي (ت 749هـ) في لزوم القاضي المقلد رأي إمامه:"الأصل عدم اللزوم، لأن المتقدمين لم يكونوا يحجرون على العوام اتباع عالم واحد، ولا يأمرون من سأل واحداً منهم عن مسألة أن لا يسأل غيره، لكن الأولى في حق القاضي لزوم طريقة واحدة، وأنه إن قلّد إماماً لا يعدل عنه لغيره، لأن ذلك يؤدي لتهمته بالميل".
[37]
إلا أن جملة من الفقهاء أجازوا للقاضي المقلد لمذهب إمام وغير الملزم بمذهب معين من قبل ولي الأمر خروجه عن مذهب إمامه إذا كانت له قدرة على النظر والترجيح بين الأقوال والمذاهب فيحكم بما يؤديه إليه ترجيحه ونظره، يقول شيخ الإسلام: "ومن كان متبعاً لإمام فخالفه في بعض المسائل لقوة الدليل أو لكون أحدهما أعلم وأتقى فقد أحسن"
[38]، وترك قول إمام أو مشهور مذهبه لقوة الدليل هو أمر من جملة ما اتفق عليه كل الفقهاء فلا قول مقدمٌ على الدليل وقول سائر الأئمة في هذا واضح وأقوالهم فيه كثيرة.
[39]
ويقول الإمام أبو الحسن الماوردي:"ويجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي -رحمه الله- أن يقلد القضاء من اعتقد مذهب أبي حنيفة لأن للقاضي أن يجتهد برأيه في قضائه ولا يلزمه أن يقلد في النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه، فإذا كان شافعياً لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها، فإن أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي حنيفة عمل عليه وأخذ به، وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره، فمنع الشافعي أن يحكم بقول أبي حنيفة، ومنع الحنفي أن يحكم بمذهب الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه لما يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضايا والأحكام وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كان أنفى للتهمة وأرضى للخصوم، وهذا وإن كانت السياسة تقتضيه، فأحكام الشرع لا توجبه لأن التقليد فيها محظور والاجتهاد فيها مستحق، وإذا نفذ قضاؤه بحكم وتجدد مثله من بعد أعاد الاجتهاد فيه وقضى بما أداه اجتهاده إليه، وإن خالف ما تقدم من حكمه فإن عمر -رضي الله عنه- قضى في المشركة بالتشريك في عام وترك التشريك في غيره فقيل له ما هكذا حكمت في العام الماضي، فقال (تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي)، فلو شرط المولي وهو حنفي أو شافعي على من ولاه القضاء أن يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة فهذا على ضربين :أحدهما: أن يشترط ذلك عموماً في جميع الأحكام، فهذا شرط باطل سواء كان موافقاً لمذهب المولى أو مخالفاً له، وأما صحة الولاية فإن لم يجعله شرطاً فيها وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهى وقال: قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب الشافعي -رحمه الله- على وجه الأمر أو لا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه النهى كانت الولاية صحيحة والشرط فاسداً سواء تضمن أمراً أو نهيا،ً ويجوز أن يحكم بما أداه اجتهاده إليه سواء وافق شرطه أو خالفه ويكون اشتراط المولي لذلك قدحاً فيها إن علم أنه اشترط ما لا يجوز؛ ولا يكون قدحاً إن جهل لكن لا يصح مع الجهل به أن يكون موالياً ولا والياً، فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية فقال: قد قلدتك القضاء على أن لا تحكم فيه إلا بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة، كانت الولاية باطلة لأنه عقدها على شرط فاسد، وقال أهل العراق: تصح الولاية ويبطل الشرط".
[40]
وكما بيّنا سابقاً فإنه من الأولى توليه القضاء لمجتهد وأن تقييده بخلاف اجتهاده في القضاء محرم، وكذا جواز تولية القضاء للمقلد غير الملزم من السلطان بمذهب معين، وبيّنا قول الفقهاء في وجوب لزومه مذهب إمامه أو عدم لزومه، أما تقييد السلطانُ القاضيَ المقلدَ أو المتبع برأي خلاف مذهبه فهو محل النزاع الحقيقي في مسألة الإلزام في التقنين، فهل يجوز لولي الأمر إلزام القاضي المقلد بقول محدد أو مذهب غير مذهب إمامه؟
ذهب جملة من الفقهاء إلى أن القاضي المقلد متى ولاه السلطان القضاء وألزمه بإتباع مذهب معين فإنه يتقيد به ولو كان غير مذهب إمامه، ولو حكم بغير المذهب الذي ألزمه به ولي الأمر بطل حكمه ولا خلاف في ذلك عند السادة الحنفية
[41]، فقد جوزوا تولية من ليس أهلاً للاجتهاد، والمقلد ولو كان جاهلاً.
[42]
أما متقدمي السادة المالكية والشافعية فمنهم من يطلق المنع، على خلاف ما ذهب إليه متأخيرهم حيث يحملون مطلق المنع على القاضي المجتهد، ولخلو أعصارهم من هذا القاضي المجتهد، يقول الإمام الشاطبي في موافقاته:" ومن ههنا شرطوا في الحاكم بلوغ درجة الاجتهاد، وحين فُقد لم يكن بد من الانضباط إلى أمر واحد كما فعل ولاة قرطبة حين شرطوا على الحاكم أن لا يحكم إلا بمذهب فلان ما وجده ثم بمذهب فلان، فانضبطت الأحكام بذلك، وارتفعت المفاسد المتوقعة من غير ذلك الارتباط، وهذا معنى أوضح من إطناب فيه"
[43]
ويقول ابن فرحون المالكي: "وقال الشيخ أبو بكر الطرطوشي: (أخبرني القاضي أبو الوليد الباجي أن الولاة كانوا بقرطبة إذا ولوا رجلاً القضاء شرطوا عليه في سجله أن لا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده)، قال الشيخ أبو بكر: (وهذا جهل عظيم منهم). لأن الحق ليس في شيء معين. وإنما قال الشيخ أبو بكر هذا لوجود المجتهدين
[44] وأهل النظر في قضاة ذلك الزمان فتكلم عن أهل زمانه، وكان معاصراً للإمام أبي عمر ابن عبدالبر، والقاضي أبي الوليد الباجي، وأبي الوليد ابن رشد، والقاضي أبي البكر ابن العربي، والقاضي أبي الفضل عياض... وغير هؤلاء من نظرائهم، وقد عدم هذا النمط في زماننا في المشرق والمغرب".
[45]
ويقول تقي الدين السبكي الشافعي (ت 756هـ) في إلزام القاضي بمذهب واشتراط ذلك في توليته: "وقد اختلف الفقهاء فيما إذا اشترط عليه الحكم بمذهب معين، هل تفسد التولية؟ أو تصح ويفسد الشرط؟ أو تصح ويصح الشرط؟ والقول بالصحة مع فساد الشرط إنما هو في المجتهد، أما المقاد فلا، والناس اليوم مقلدون فلا يأتي هذا القول فيهم.. والذي يقول له السلطان وليتك القضاء على مذهب فلان، ليس له أن يتجاوز مشهور ذلك المذهب إن كان مقلداً.. وليس له أن يحكم بالشاذ البعيد جداً في مذهبه وإن ترجّح عنده لأنه كالخارج عن المذهب".
[46]
أما متقدمي السادة الحنابلة فإنهم كنظرائهم من السادة المالكية والشافعية يطلقون المنع، وخالف متأخري الحنابلة غيرهم حيث استقر المنع من ذلك عند عامتهم، إلا أن منهم من يحمل المنع على القاضي المجتهد، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية "ولو شرط الإمام على الحاكم أو شرط الحاكم على خليفته أن يحكم بمذهب معين بطل الشرط، وفي فساد العقد وجهان، ولا ريب أن هذا إذا أمكن القضاة أن يحكموا بالعلم والعدل من غير هذا الشرط فعلوا، فأما إذا قدّر أن في الخروج عن ذلك من الفساد جهلاً وظلماً أعظم مما في التقدير، كان ذلك من باب دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما"
[47]، بل ذهب الحجوي (ت 1376هـ) إلى جواز تقييد المجتهد بغير مذهبه في القضاء، فقال: "من أدرك رتبة الاجتهاد هل يجوز له أن يحكم أو يفتي بمذهب غيره إذا شرط عليه ذلك في عقد التولية؟ نعم، على قول قوي"، وساق استلالاً تاريخياً بتقييد قضاة قرطبة لمدة زمنية طويلة وكان فيهم فقهاء مجتهدين في المذهب المالكي ثم واصل يقول:"انظر (الموافقات) وهو مبني على سد الذرائع والمصالح المرسلة، وكل ذلك من أصل مالك... وقال القفّال: (لو أدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة، لقلت: مذهب الشافعي كذا، لكني أقول بقول أبي حنيفة، لأن السائل إنما يسألني عن مذهب الشافعي، فلابد أن أعرّفه أن الذي أفتيته به غير مذهبه)، وقال ابن تيمية: (أكثر المستفتين لا يخطر بقلبه مذهب معين، وإنما يسأل عن الحكم، فلا يسع المفتي إلا الجواب بما يعتقده)، والتوفيق بين هذا وما قبله ظاهر، والخلاف في حال أن في المسألة خلافاً منصوصاً فيما إذا نصّب الإمام قاضياً وشرط عليه الحكم بمذهب ابن القاسم أو مالك مثلاً، فقيل: العقد صحيح والشرط صحيح، وقيل: الكل باطل، وقيل الشرط باطل والعقد صحيح، وعلى القول الأول عمل المسلمين مشرقاً ومغرباً، وما دامت الأخلاق متأخرة، والمدارك جامدة، والثقة مفقودة، فإبقاء الناس على ما هم عليه في القضاء أخذٌ بأخف الضررين"
[48]، ويقول:"وإذا كان القاضي يحكم بالضعيف لدفع مفسدة، أو خوف فتنة، أو نوع من المصلحة، فالإمام أولى، لأن القاضي إنما هو نائبه، لكن لا ينبغي الترخيص في ذلك إلا عند التحقيق بمصلحة عامة لا خاصة، إبقاء لهيبة الشرع الأسمى".
[49]
وينقل لنا الشيخ ناصر الميمان رأي السادة الحنفية في الإلزام فيقول:"أنهم أجازوا تقييد القضاة بما يراه ولي الأمر بشرط عدم معارضته للأحكام الشرعية الثابتة ومراعاة المصلحة، فقد قالوا بصريح عبارتهم: (ولو قيده السلطان بصحيح مذهبه -كزماننا
[50]- تقيَّد بلا خلاف، لكونه معزولا عنه)، وأعتقد أنه لم يبق هناك غموض حول موقف الحنفية، لأن إشكالية التقنين في الإلزام والتقييد به، فإن أجيز التقييد بني عليه جواز التقنين، وفعلاً فقد خطا فقهاء الحنفية خطوة علمية في سبيل التقنين بوضع مجلة الأحكام العدلية التي لم ينكرها أحد منهم من حيث المبدأ، وقد نصت المادة (1801) على أنه: (لو صدر أمر سلطاني بالعمل برأي مجتهد في خصوص، لما أن رأيه بالناس أرفق ولمصلحة العصر أوفق، فليس للحاكم أن يعمل برأي مجتهد آخر مناف لرأي ذلك المجتهد، وإذا عمل فلا ينفذ حكمه)".
[51]
هذا، ويتضح مما سبق ذهاب جملة المتأخرين إلى أن القاضي المقلد متى ما ألزمه ولي الأمر بالحكم بمذهب معين جاز ذلك، ومنهم من أجازه بالإستدلال بالنظر المصلحي والفساد الذي قد يتسبب بالقول بالمنع، ومهنم من ذهب إلى جواز إلزام المقلد لأن المذاهب قد استقرت ودوّنت، ومن جعله إستثناءً بحكم الضرورة، وأنه بهذا جرى العمل في غالب أمصار المسلمين.
[52]
وقد تولد عن هذا الحوار الفقهي الذي تناوله الفقهاء على مر عصور طويلة
[53] حول تقييد القاضي بقول معين أو مذهب محدد وحكم أمر تقييد السلطان، وقد كان هذا الحوار "أساساً للتفكير في وضع الأحكام الشرعية في مواد قانونية محددة واضحة ما أمكن لا يلتبس الناس غالباً في شيء من أمرها".
[54]
يقول الدكتور مدكور: "أما القضاة فوظيفتهم هي تطبيق الأحكام الشرعية وتنفيذها بسلطان القضاء، ولا شك في أن الأحكام الواجبة التطبيق إذا كانت محددة مبينة ومعروفة للقاضي والمتقاضي كان ذلك أدعى إلى تحقيق العدالة والتيسير على الناس، أو أكفل لتحقيق المساواة بينهم وطمأنة نفوسهم بالنسبة للقضاة، فلم يكن بد من وضع الأحكام الشرعية القضائية في صيغ قانونية تتولاها طائفة من فقهاء الأمة من أهل الرأي والاجتهاد، ثم تصبح قانوناً واجب الاتباع والتنفيذ، ولا ضير في ذلك مادامت هذه الأحكام مستمدة من الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه وآرائه، ومسايرة لمصالح الناس، ولا ضير في أن تعتبر هذه القوانين كالنصوص القطعية من ناحية عدم مخالفة القاضي لها وإلزامه باتباعها، فليس هناك مجال إذاً لاجتهاد القاضي معها إلا في حدود ضيقة وهي عند وجود إيهام في انطباقها على بعض النوازل والأحداث، ومع هذا فإن العدل إذا كان هو النصوص التشريعية وما أجمع عليه من أحكام فإن القاضي باجتهاده عند التطبيق فيما يحتاج إلى اجتهاد يعتبر مصدراً أيضاً من مصادر العدالة".
[55]
ويذهب الشيخ مصطفى الزرقا إلى أبعد من ذلك فيرى أن اجتهاد القاضي في صدر الإسلام كان بحكم الضرورة على خلاف الأصل لعدم استقرار المذاهب، أما وقد استقرت المذاهب فالواجب إلزام القاضي ولو كان مجتهداً بنصوص معلنة ينحصر اجتهاده في فهمها وتفسيرها
[56]، وهذا قول فيه نظر وربما بناه على رأيه في وجوب التقنين.
[1] سكت عن بيان حكمه أبو داود، سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني،
سنن أبي داود، عزت عبيد الدعاس (تحقيق)، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط.1، 1389هـ)، حديث رقم (3592). وأخرجه الترمذي بلفظ آخر: "أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن، قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد في سنة رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسول اللهِ لما يرضي رسول اللهِ". قال الترمذي: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل"، محمد بن عيسى بن سورة الترمذي،
الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، أحمد بن محمد شاكر (تحقيق)، (بيروت: دار الكتب العلمية، د.طـ، د.ت)، حديث رقم (1327). وقد روي الحديث بعدة ألفاظ، وقد صححه الطحاوي، أحمد بن محمد الطحاوي،
شرح مشكل الآثار، شعيب الأرناؤوط (تحقيق)، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط.1، 1415هـ)، ج9/ص212. وقد نفاه ابن حزم وقال: "باطل لا أصل له"، أبو محمد علي بن حزم الظاهري،
أصول الأحكام، ج2/ص204، وقال ابن حزم في موضع آخر في
أصول الأحكام "ساقط فيه مجهولون، قال البخاري لا يصح"، ج2/ص438. وصحح الحديث الإمام ابن عبد البر وقال: "صحيح مشهور"، يوسف بن عبدالله بن عبدالبر،
جامع بيان العلم وفضله، أبو الأشبال الزهيري (تحقيق)، (الدمام: دار ابن الجوزي، ط.4، 1419هـ)، ج2/ص844. وقال ابن حجر العسقلاني: " غريب وله شاهد صحيح الإسناد لكنه موقوف"، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني،
موافقة الخبر الخبر في تخريج أحاديث المختصر، حمدي بن عبدالمجيد السلفي (تحقيق)، (الرياض: مكتبة ابن رشد، ط.3، 1419هـ)، ج1/ص118. وقال الشوكاني: "وبالجملة فالاستدلال بهذا الحديث الذي لم يرتق إلى درجة الحسن لغيره، فضلاً عن الحسن لذاته، فضلاً عن الصحيح مشكل غاية الإشكال، لا سيما على مثل هذا الأصل العظيم لثبوت ما لا يحصى من المسائل"، محمد بن علي الشوكاني،
الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني، محمد صبحي حلاق (تحقيق)، (صنعاء: مكتبة الجيل الجديد/ ط.1، 1423هـ)، ج9/ص4335. ضعّفه الألباني، محمد ناصر الدين الألباني،
ضعيف سنن الترمذي، زهير بن سالم الشاويش (تحقيق)، (بيروت: المكتب الإسلامي، ط.1، 1411هـ)، حديث رقم (1327). كما ضعّف رواية أبي داود، محمد ناصر الدين الألباني،
ضعيف سنن أبي داود، زهير بن سالم الشاويش (تحقيق)، (بيروت: المكتب الإسلامي، ط.1، 1412هـ)، حديث رقم (3592).
[2] جمال الدين عطية،
مسألة تقنين الشريعة الإسلامية من حيث المبدأ، ص46-47، بتصرف نقلاً عن: صالح الطيب، مرجع سابق، ص298-299.
[3] صالح الطيب، مرجع سابق، ص299.
[4] عبدالحميد البعلي،
ضرورة تقنين أحكام الفقه الإسلامي لتطبيق الشريعة الإسلامية، ص14.
[5] تناولت هذه الرسالة دراسات كثيرة، خصوصاً تلك التي تناولت القضاء في الإسلام، وقد ترجمت هذه الرسالة إلى عدة لغات حيث تمثل وثيقة تاريخية هامة في بيان صورة القضاء في عصر صدر الإسلام، للمزيد حول هذه الرسالة ينصح بالرجوع إلى: ناصر بن عقيل بن جاسر الطريفي، تحقيق رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، (الرياض: مجلة البحوث الإسلامية، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، العدد السابع عشر - ذو القعدة إلى صفر لسنة 1406هـ/1407هـ)، ص195- 245. وكذلك: محمد الرضا عبدالرحمن الأغبش، السياسة القضائية في عهد عمر بن الخطاب وصلتها بواقعنا المعاصر، (الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، د.ط، 1996م). وكذلك: سعود صالح محمد الطريفي، مقومات العدل في رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري وأثرها في القضاء في محاكم المملكة العربية السعودية، (الرياض: قسم العدالة الجنائية، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، رسالة ماجستير غير منشورة، 2004م).
[6] نقلاً عن ناصر الطريفي،
تحقيق رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، ص204-206.
[7] عبدالحميد البعلي،
ضرورة تقنين أحكام الفقه الإسلامي لتطبيق الشريعة الإسلامية، ص14-15 بتصرف.
[8] ناصر الطريفي،
تحقيق رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، ص229.
[9] شمس الدين محمد بن أبي بكر الحنبلي المعروف بابن قيم الجوزية،
إعلام الموقعين عن رب العالمين، طه عبد الرؤوف سعد (تحقيق)، (بيروت: دار الجيل، د.ط.، 1973م)، ج1/ص95.
[10] إبراهيم عبدالرحمن العاني،
فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد في ضوء مقاصد الشريعة، (دمشق: دار السلام، ط1، 2008م)، ص266-268. وصالح الطيب، مرجع سابق، ص284، 300.
[11] سعيد بن مبارك بن عبدالله الراشدي،
نشأة التدوين للفقه واستمراره عبر القرون، (مسقط: الناشر:بدون، ط1، 2001م)، ص122.
[12] صالح الطيب، مرجع سابق، ص284-285، 300.
[13] صالح الطيب، مرجع سابق، ص302.
[14] عبدالباسط النعاس، مرجع سابق، ص9-10.
[15] هيثم الرومي، مرجع سابق، ص415-416، إن القوانين إجمالاً تنقسم إلى قسمين: القوانين التشريعية، والقوانين الإجرائية، فالأولى هي محل النزاع، أما القوانين الإجرائية فليست محلاً للنزاع، نفس المرجع، ص416-417.
[16] نقلاً عن: هيثم الرومي، مرجع سابق، ص416.
[17] لمزيد من التفصيل ينصح بالرجوع إلى: هيثم الرومي، مرجع سابق، ص417-432، فقد قسّم تقسيما مختلفاً عمّا ذهبنا إليه هنا وأسهب في ذلك وأجاد، وكذا يرجع إلى: محمد سلام مدكور، مرجع سابق، ص374-385، و محمد زكي عبدالبر،
تقنين الفقه الإسلامي، ص35-75.
[18] محمد بن إسماعيل البخاري،
الجامع الصحيح المسند، محب الدين الخطيب (تحقيق)، (القاهرة: المكتبة السلفية، ط1، 1400هـ). كتاب الاعتصام بالسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، حديث رقم (7352). مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري،
المسند الصحيح المختصر، محمد فؤاد عبدالباقي (تحقيق)، (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط1، 1374هـ)، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم، حديث رقم (1716).
[19] شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي،
الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، عبدالفتاح أبو غدة (تحقيق)، (حلب: مكتب المطبوعات الإسلامية، ط2، 1416هـ)، ص92.
[20] هيثم الرومي، مرجع سابق، ص417-418، و محمد سلام مدكور، مرجع سابق، ص375-377.
[21] موفق الدين عبدالله بن أحمد بن قدامة المقدسي،
المغني، (الرياض: دار عالم الكتب، ط3، 1417هـ)، ج14/ص91، ومحمد سلام مدكور، مرجع سابق، ص380.
[22] محمد سلام مدكور، مرجع سابق، ص380، وهيثم الرومي، مرجع سابق، ص418-422.
[23] أبو الحسن على بن محمد بن حبيب الماوردي الشافعي،
الأحكام السلطانية والولايات الدينية، أحمد مبارك البغدادي (تحقيق)، (الكويت: دار ابن قتيبة، ط1، 1989م)، ص90.
[24] محمد سلام مدكور، مرجع سابق، ص379.
[25] ابن أبي الدم،
أدب القضاء، ص98، نقلا عن: هيثم الرومي، مرجع سابق، ص419.
[26] وفي هذه العبارة يظهر عدم تسليم الإمام الشاطبي بدعوى الإجماع أو أنه فيه نظر.
[27] أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي،
الإعتصام، مشهور بن حسن آل سليمان (تحقيق)، (الرياض: كتبة التوحيد، د.ط، د.ت)، ج3/ص43.
[28] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي،
الوسيط في المذهب، أحمد محمود إبراهيم (تحقيق)، (القاهرة: دار السلام، ط1، 1417هـ)، ج7/ص291.
[29] تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني،
السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، علي بن محمد العمران (تحقيق)، (مكة المكرمة: دار عالم الفوائد، ط1، 1429هـ)، ص27.
[30] علاء الدين أبي الحسن علي بن محمد البعلي الدمشقي،
الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، محمد بن صالح العثيمين (تعليق وتصحيح)، أحمد بن محمد بن حسن الخليل (تحقيق وتخريج)، (الرياض: دار العاصمة، ط1، 1998م)، ص481.
[31] علاء الدين علي بن سليمان المروادي،
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، ج28/ص302.
[32] ابن الطلاع،
أقضية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ص81، نقلاً عن: هيثم الرومي، مرجع سابق، ص425.
[33] فتاوى عزالدين بن عبدالسلام، ص496، نقلاً عن: هيثم الرومي، مرجع سابق، ص419.
[34] هيثم الرومي، مرجع سابق، ص421.
[35] شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي،
الذخيرة، محمد حجي (تحقيق)، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 1994م)، ج10/ص46.
[36] محمد سلام مدكور، مرجع سابق، ص377-379، وهيثم الرومي، مرجع سابق، ص422-432. وانظر كذلك: جاد الحق علي جاد الحق،
الفقه الإسلامي مرونته وتطوره، (الأزهر الشريف: الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة الإسلامية، د.ط، د.ت)، ص202-205.
[37] نقله صاحب منح الجليل، ج4/141، نقلاً عن: هيثم الرومي، مرجع سابق، ص421.
[38] نقلاً عن: هيثم الرومي، مرجع سابق، ص421، ويقول د.هيثم الرومي معلقاً على كلام شيخ الإسلام:"ومع أن كلام الشيخ -ابن تيمية- يحتمل أنه في مجال الفتيا إلا أن المرداوي عقّب به على مسألة إلزام القاضي الحكم بمذهب معين".
[39] للمزيد حول أقوال الفقهاء في تقديم الدليل يرجع إلى: محمد عيد عباسي،
حقيقة التعيين لمذاهب الأئمة الأربعة المجتهدين، (عمّان: المكتبة الإسلامية، ط1، 1410هـ)، ص13-60.
[40] أبو الحسن الماوردي،
الأحكام السلطانية، ص91-92.
[41] هيثم الرومي، مرجع سابق، ص427.
[42] أبو الحسن الماوردي، المصدر السابق، ص90، محمد سلام مدكور، مرجع سابق، ص379.
[43] أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي،
الموافقات، مشهور سليمان (تحقيق)، (الخُبر: دار ابن عفان، ط1، 1417هـ)، ج5/ص95.
[44] وهم مجتهدون ضمن إطار مذهب معين، وليس المقصود المجتهد المطلق المستقل.
[45] برهان الدين أبو الوفاء إبراهيم بن محمد بن فرحون المالكي
، تبصرة الحكّام في أصول الأقضية ومنهاج الأحكام، جمال مرعشلي (تحقيق)، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1416هـ)، ج1/ص52.
[46] فتاوي السبكي، ج2/ص12، نقلاً عن: هيثم الرومي، مرجع سابق، ص430.
[47] ابن تيمية،
مجموع الفتاوي، ج31/ص73، نقلاً عن: هيثم الرومي، مرجع سابق، ص431.
[48] محمد الحجوي، مصدر سابق، ج2/قسم4/ص523، بتصرف كثير.
[49] محمد الحجوي، مصدر سابق، ج2/قسم4/ص479.
[50] وهذا نص حسن الشرنبلاني (ت1069هـ) في حاشية الوهبانية، نقلاً عن: ناصر الميمان، مرجع سابق، ص89-90.
[51] ناصر الميمان، مرجع سابق، ص89-90.
[52] هيثم الرومي، مرجع سابق، ص431 بتصرف.
[53] "منذ القرن الثاني الهجري ثار النقاش بين العلماء حول مدى جواز إلزام الناس عموماً، والقضاة على وجه الخصوص برأي أو مذهب محدد.. وانقسموا حيال ذلك إلى مؤيد ومعارض"، انظر: عبدالباسط النعاس، مرجع سابق، ص10.
[54] محمد سلام مدكور، مرجع سابق، ص382.
[55] محمد سلام مدكور، مرجع سابق، ص383 بتصرف.
[56] مصطفى أحمد الزرقا،
المدخل الفقهي العام، ج1/ص316، هيثم الرومي، مرجع سابق، ص420.