العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

استعمال أدوية لتأخير الحيض / محمد نعمان البعداني

زياد العراقي

:: مشرف ::
إنضم
21 نوفمبر 2011
المشاركات
3,614
الجنس
ذكر
التخصص
...
الدولة
العراق
المدينة
؟
المذهب الفقهي
المذهب الشافعي
استعمال أدوية لتأخير الحيض

محمد نعمان البعداني



الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.


قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: 70،71].


أما بعد فإن الحيض من الأمور التي كتبها الله سبحانه وتعالى على النساء(1)، وله أحكامه الخاصة، فالحائض لا تصلي(2)، ولا تصوم(3)، ولا تطوف بالبيت(4)، ولا يأتيها زوجها(5)، وغيرها من الأحكام، وتأتي على المرأة أزمنة وأمكنة فاضلة، وربما رأت المرأة أن تستعمل أدوية وطرق تمنع الحيض؛ لتتمكن من الصوم والصلاة والطواف(6)، كامرأة تذهب لأداء مناسك الحج والعمرة، وتحرص على شهود الخير، وتخشى من أن يقطعها الحيض عن إدراك المناسك، أو لغير ذلك، فهل هذا العمل جائز لها؟


هذه المسألة تتكون من فرعين:


الفرع الأول: حكم تناول الأدوية التي تأخر نزول الدورة الشهرية.


الفرع الثاني: إذا تناولتها المرأة وانقطع حيضها فهل تصبح في طهر؟
 
التعديل الأخير:

زياد العراقي

:: مشرف ::
إنضم
21 نوفمبر 2011
المشاركات
3,614
الجنس
ذكر
التخصص
...
الدولة
العراق
المدينة
؟
المذهب الفقهي
المذهب الشافعي
رد: استعمال أدوية لتأخير الحيض / محمد نعمان البعداني

أما الفرع الأول فقد اختلف الفقهاء فيه:


القول الأول: يجيز تناول هذه الأدوية مطلقاً، وهذا القول يقتضيه إطلاق بعض الحنابلة، قال ابن ضويان: "وللأنثى شربه (أي: الدواء المباح) لحصول الحيض ولقطعه؛ لأنه الأصل حتى يرد التحريم ولم يرد"(7).


القول الثاني: يمنع من تناول هذه الأدوية مطلقاً، قال الشيخ محمد محمد المختار الشنقيطي: "هذه الأشياء (يقصد أدوية منع الحيض) لا يجوز تعاطيها من حيث الأصل كما ذكرناه؛ لوجود الضرر"(8).


القول الثالث: يقيد جواز تناول هذه الأدوية بأمن الضرر، وهذا القول هو الذي عليه فقهاء المالكية، والحنابلة، وجمهور فقهاء العصر.


وقيدت اللجنة الدائمة جواز استعمال المرأة لهذه الأدوية بإقرار أهل الخبرة الأمناء من الدكاترة ومن في حكمهم أن ذلك لا يضرها، ولا يؤثر على جهاز حملها.(9)


وقيد الشيخ ابن جبرين -رحمه الله تعالى- الجواز بأن يكون القصد هو العمل الصالح من فعل الصيام في زمنه، والصلاة مع الجماعة كقيام رمضان والاستكثار من قراءة القرآن وقت الفضيلة، فإن كان القصد مجرد الصيام حتى لا يبقى ديناً فلا يعد ذلك حسناً، وإن كان مجزئاً للصوم بكل حال.(10)


وقيد الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- الجواز بشرطين:


الأول: ألا يخشى الضرر عليها.


الثاني: أن يكون ذلك بإذن الزوج إن كان له تعلق به مثل أن تكون معتدة منه على وجه تجب عليه نفقتها، فتستعمل ما يمنعُ الحيض لتطول المدة وتزدادُ عليه نفقتها، فلا يجوز لها أن تستعمل ما يمنع الحيض حينئذ إلا بإذنه، وكذلك إن ثبت أن منع الحيض يمنع الحمل فلا بد من إذن الزوج، وحيث ثبت الجواز فالأولى عدم استعماله إلا لحاجة؛ لأن ترك الطبيعة على ما هي عليه أقرب إلى اعتدال الصحة فالسلامة.(11)


وقيد الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- ذلك بألا يكون فيه محذور شرعي أو مضرة(12).


القول الرابع: أنها إن علمت أن الدم إنما يرتفع اليوم ونحوه فلا يجوز لها الإقدام على ذلك، وإن عاودها بعد اليومين والثلاثة إلى الخمسة فحكمها حكم الحائض، وإن كان ارتفاعه يستديم عشرة أيام أو ثمانية صح، وإن جهلت تأثيره في رفع الدم فلم يُر نص في جواز الإقدام على ذلك، وهذا القول قاله ابن فرحون المالكي في مناسكه.(13)


الأدلة:


أدلة الفريق الأول المجيز بإطلاق:


1- البراءة الأصلية إذ الأصل الإباحة حتى يرد دليل التحريم ولم يرد.(14)


2- أكثر ما في هذا الدواء أنه يمنع الحمل وهذا جائز بدليل جواز العزل(15) عن النساء(16)، لحديث جابر رضي الله عنه قال: «كنا نعزل والقرآن ينزل»(17)، زاد إسحاق قال سفيان: "لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن"(18).


3- ما ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يسقون نسائهم أدوية مأخوذة من الأعشاب لمنع نزول دم الحيض أثناء الحج ويقاس الصوم عليه.(19)


أدلة الفريق الثاني المانع بإطلاق:


1- الأدوية التي تستعمل لمنع الحيض ذكر الأطباء أن لها ضرراً، وذكر بعض أهل الخبرة أنها قد تتسبب في سرطان الرحم، وقد ثبت في الشريعة من حديث عبادة بن الصامت: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار»(20).


2- هذه الأدوية يخرج بها البدن عن طبيعته، ومن طبيعة المرأة أنها تحيض؛ لأن الحيض أمر كتبه الله على النساء، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج فلما جئنا سرف(21) طمثت(22) فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: «ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام، قال: لعلك نفس؟ قلت: نعم، قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري»(23).


وأي شيء يخرج البدن عن طبيعته سيكون له مضاعفات؛ لأن الله وزن هذا البدن وقدره وخلقه وصوره، وتبارك الله أحسن الخالقين، فليس هناك شيء في البدن يخرج عن اعتداله وطبيعته إلا خلف الضرر والعواقب السلبية.


3- يدل لهذا القول أن من القواعد الفقهية المقررة أن الضرر لا يزال بمثله ولا بما هو فوقه بالأولى بل بما هو دونه(24)، وعلى فرض التسليم بأن استخدام هذه الأدوية يزيل ضرراً فإن ضرر استخدامها يربوا على الضرر الذي تزيله، وضررها قد أثبته أهل الخبرة بذلك من الأطباء المختصين الذين عندهم دراية ويتكلمون عن هذا الموضوع بكل وضوح وبكل إنصاف وتجرد، إضافة إلى ظهوره أي: الضرر إذ أن من علامات وأمارات هذه الأدوية أن تربك العادة، والله سبحانه ما خلق هذا الدم عبثاً، ولا جعل هذه العادة سدى، حتى الأجهزة العصبية الموجودة في البدن تتفاعل مع هذا الحدث الذي خلقه الله، وهذا النزيف من الدم الذي يطهر الرحم في مدة معلومة قد يختل ويتأثر نتيجة منع هذا الدم من الخروج -مما قد يسبب نزفاً عند المرأة- وكل هذا يبين فساد هذه الأدوية التي تستعمل.(25)


4- استدل البعض على المنع بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أن الحيض شيء كتبه الله على بنات آدم(26)، وأن المرأة تترك من أجله الصلاة والصيام(27)، وهذا يدل على منعها من أن تأخذ ما يمنع الحيض عنها(28)، ووجه استدلالهم أنها ستصلي وتصوم في الوقت المعتاد لنزول الدورة، وكأنهم اعتبروا هذا المنع الطارئ لنزول الحيض كعدمه.


أدلة القول الثالث الذين أجازوا استعمالها مع أمن الضرر بإخبار أهل الخبرة والثقة:


جمع هذا القول بين أدلة الفريقين السابقين.


أما الجواز مع عدم الضرر فللآتي:


1- لما فيه من المصلحة للمرأة في صومها وأدائها للعبادة مع الناس وعدم القضاء.


2- البراءة الأصلية إذ الأصل الإباحة ولا دليل على التحريم مع أمن ضررها.


3- ما ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يسقون نسائهم أدوية مأخوذة من الأعشاب لمنع نزول دم الحيض أثناء الحج، ويقاس الصوم عليه.(29)


أما عدم الجواز مع الضرر فللآتي:


1- لأن الله تعالى قد نهى عباده عن الإقدام على ما يترتب عليه الضرر والهلاك إذ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195].


قال الشيخ السعدي -رحمه الله تعالى-: "والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين:


الأول: ترك ما أمر به العبد إذا كان تركه موجباً أو مقارباً لهلاك البدن أو الروح.


الثاني: وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح.


فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة فمن ذلك ترك الجهاد في سبيل الله، أو النفقة فيه الموجب لتسلط الأعداء، ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة، أو سفر مخوف، أو محل مسبعة، أو حيات، أو يصعد شجراً، أو بنيانا خطراً، أو يدخل تحت شيء فيه خطر، ونحو ذلك فهذا ونحوه ممن ألقى بيده إلى التهلكة"(30).


2- قوله سبحانه وتعالى مخاطباً عباده المؤمنين: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29]، قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "أي: لا يقتل بعضكم بعضا، ولا يقتل الإنسان نفسه، ويدخل في ذلك الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وفعل الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك"(31).


3- حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار»(32). أي: لا يجوز شرعاً لأحد أن يلحق بنفسه أو بغيره ضرراً، وقد سيق ذلك بأسلوب نفي الجنس ليكون أبلغ في النهي والزجر(33)، وبالتالي إذا أثبت أهل الخبرة والاختصاص والأمانة في المهنة أن هذه الأدوية تضر من تريد استخدامها فلا يجوز لها شرعاً الإقدام على استخدامها.


دليل القول الرابع:


استدل ابن فرحون المالكي على ما قال بما ذهب إليه ابن الماجشون المالكي من أن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة أيام، فإذا استخدمت دواء يقطع الدم عن وقت نزوله أقل من هذه الفترة ثم نزل الدم قبل الخمسة عُلِم أنها في حكم الحائض، وتكون قد عاملت نفسها على أنها طاهر فقامت بما تقوم به الطاهرات ثم تبين حيضها، وبالتالي فإن الإقدام على مثل هذا لا يجوز.


قال الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن المغربي المالكي: "فكأنه (ابن فرحون)يريد أن الخمسة أقل الطهر -على قول ابن الماجشون- ولم يقل أحد أن ما دونها طهر وأن ما بين الدمين إذا كان أقل من أيام الطهر فحكمه حكم أيام الحيض"(34)، ثم قال معقباً عليه: "وهذا خلاف المذهب؛ فإن المذهب أنه إذا انقطع الطهر تلفق أيام الدم، وتلغي أيام الطهر، وتكون فيها طاهراً حقيقة"(35).
 

زياد العراقي

:: مشرف ::
إنضم
21 نوفمبر 2011
المشاركات
3,614
الجنس
ذكر
التخصص
...
الدولة
العراق
المدينة
؟
المذهب الفقهي
المذهب الشافعي
رد: استعمال أدوية لتأخير الحيض / محمد نعمان البعداني

الترجيح:


أرجح هذه الأقوال والله تعالى أعلم بالصواب هو القول الثالث الذي يرى تقييد جواز تناول هذه الأدوية بأمن الضرر بإخبار أهل الخبرة والثقة، مع اشتراط وجود الحاجة لها؛ للآتي:


1- هذا القول وسط بين المانعين بإطلاق، والمجيزين بإطلاق، ويجمع بينهما، ويُعْمِل كلا من أدلتهما، ومن قواعد الترجيح بين الأدلة: أن الجمع بين الأدلة المتعارضة ولو في الجملة أولى من إهمال أحدهما بالكلية لأنه خلاف الأصل(36)، والجمع هنا ممكن بحمل أدلة المانعين على المنع إذا وجد الضرر المتحقق، وحمل أدلة المجيزين مع عدم تحقق الضرر.


2- القول بالمنع مطلقاً يوقع في الحرج والضيق والمشقة، والحرج مرفوع(37)، والمشقة تجلب التيسير(38)، والأمر إذا ضاق اتسع(39)، لأن المرأة إذا قصدت البيت الحرام للحج أو العمرة من أصقاع الأرض ثم منعت من تناول مثل هذه الأدوية فذلك يوقعها في الحرج والمشقة؛ لأن الدم قد يفاجئها في أي لحظة من اللحظات ولا تكون قد أتمت المناسك، فتحتاج إلى أن تبقى في إحرامها إلى أن تتمها، كطواف الإفاضة مثلاً إذا حاضت يوم التاسع أو ليلة العيد واستمر بها الدم من ستة إلى سبعة أيام وربما إلى عشرة أيام أو أكثر فيخشى من فوات رفقتها عليها، وهذا يوقعها مع محرمها في الحرج والمشقة خصوصاً هذا الزمان؛ بسبب التقيد بالبعثات وحجوزات السفر التي تحتاج إلى متابعة وجهد، وكأن يأتيها الدم وهي قريبة من الميقات، وكونها تقصد العمرة أو الحج متمتعة مثلاً فيلزمها الإحرام، والامتناع عن أداء نسك الطواف، وبالتالي لابد من بقائها في إحرامها حتى تطهر، وهذا يوقعها في جهد ومشقة، مع مراعاة ما يواجهه بعض الحجاج والعمار من بعد المساكن والذي يحوجهم إلى كثرة المشي وبعض النساء ربما لا تتحمل فتهراق الدم، ويحتاج وليها أن يكون قريباً منها؛ لصيانتها وحراستها من الأذى خصوصاً أوقات فراغ هذه المساكن من الناس في أوقات الصلوات والأوقات الفاضلة والطويلة كصلاة التراويح والقيام مع حرمانها من شهود هذه الأماكن والأوقات الفاضلة مع المسلمين خصوصاً للنساء اللواتي قصدن البيت الحرام من أماكن بعيدة ووجود العوائق والعقبات أمام قاصدي البيت الحرام مما قد لا يتيح لهم قصده لأكثر من مرة، و للنساء اللواتي يطول حيضهن، مع كون الإقامة فترتها محدودة، وهذه المواسم عابرة، وهذا يسبب لها ولوليها الانقطاع عن إدراك الخيرات والمسابقة إليها، وربما بغضت المرأة النسك والعبادة للحالة التي هي فيها، ولما تخشاه من إدخال المحذور على النسك، فربما كرهت التكليف، وهذا حرج بَيِّنٌ، ومشقة ظاهرة، والحرج مرفوع، والمشقة تجلب التيسير.


قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: "فأعلم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين:


أحدهما: الخوف من الانقطاع من الطريق، وبغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله.


والثاني: خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أخر تأتي في الطريق...


فأما الأول فإن الله وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة سهلة، حفظ فيها على الخلق قلوبهم، وحبها(40) لهم بذلك، فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾ [الحجرات: 7] إلى آخرها، فقد أخبرت الآية أن الله حبب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله وزينه في قلوبنا بذلك، وبالوعد الصادق بالجزاء عليه..."(41).


3- أن ضرر هذه الأدوية نسبي يختلف باختلاف النساء؛ لأن من النساء من يكون عندها مرض عضوي في الرحم، ومثل هذه لا ينفعها هذا الدواء، وأخرى بطانة الرحم عندها ضعيفة لا تتحمل، وأسباب أخرى، لذا تجد أن بعض النساء تأخذ دواءً معيناً لتأخير نزول الدم فينضبط معها، وأخرى تأخذ نفس الدواء فلا ينفع معها بل ربما أضر بها بينما ينفع معها دواء آخر، وثالثة لا ينفع معها أي دواء بل تتضرر باستخدام الجميع، إذاً مسألة الضرر مسألة نسبية تختلف من امرأة لأخرى، وبالتالي لا يستقيم القول بالجواز مطلقاً، ولا بالمنع مطلقاً، بل لابد على المرأة التي تريد استخدام هذا الدواء أن تسأل أهل الاختصاص والخبرة والأمانة دون غيرهم، ومن خلالهم يتبين وجود الضرر من عدمه.


4- مما سبق ذكره يتبين أن إدراك المرأة للمناسك، واللحاق برفقتها، والصوم مع الناس والقيام معهم، وإدراك الأماكن والأوقات الفاضلة، مصلحة متحققة بيقين، والضرر في هذه الأدوية محتمل؛ لأن الضرر فيها نسبي فقد يضر امرأة دون غيرها، وهذه يناسبها دواء معين لا يناسب غيرها، فإطلاق الضرر ربما لا يكون دقيقاً، خصوصاً وأن بعض الأطباء يقولون هذه الأدوية قد تسبب كذا أو كذا، وهذا على سبيل الاحتمال لا القطع، وبالتالي المفسدة هنا محتملة لا مقطوع بها، والمقطوع لا يترك للمظنون، والمتحقق لا يترك للمحتمل، إلا أن يخبرها أهل الخبرة والأمانة أن هذا يضر والضرر متحقق، أو محتمل احتمال يلحقه بالمتحقق فحينها نقول إن الضرر لا يزال بمثله، وإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فلابد من مراعاة الحال والشخص والمكان، وهذا هو المعهود عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان يراعي في فتياه الأحوال والأشخاص والأماكن(42)، فيأتيه سائل يسأله عن خير الأعمال فيقول: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»(43)، ويقول لآخر وقد سأله: أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله»(44)، ويقول لآخر: «إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور»(45)، ويقول لآخر طلب منه الوصية: «لا تغضب»(46)، فأجاب كل سائل بما يتناسب معه والحال التي يعيشها الناس، والمكان والزمان، ولهذا أجاب السائل الذي سأله أن يوصيه بما يتناسب مع حاله، فأوصاه بترك الغضب، والآخر جاء في زمن قحط وتشاحن في القلوب فأوصاه بإطعام الطعام، وإفشاء السلام، مراعاة للأحوال والأمكنة إذ أن السائل سيبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخر يسأله في زمن يعد العدو العدة، ويعق الأبناء الآباء، ويؤخر ناس الصلاة عن وقتها، فيخبره بأن أفضل الأعمال الصلاة على وقتها وبر الوالدين والجهاد في سبيل الله تعالى وهكذا.


5- استعمال هذه الأدوية عند الحاجة إليها فقط وبصورة نادرة كحج وعمرة يضيق من دائرة الضرر المترتب عليها على فرض أن استعمال هذه الأدوية يسبب الضرر، ولهذا استعمل بعض نساء السلف أدوية من الأعشاب لقطع الدم أثناء الحج.


اعتراض: هناك فرق بين الدوائين فإن الأول يتكون من مركبات كيميائية قد لا تخلوا من أضرار، بينما الثاني أشجار طبيعية لا تضر، فحيث ثبت الفرق في التركيب فكذلك في حكم الاستعمال.


الجواب: هذا الفارق لا يؤثر من جهتين:


الأولى: أن العلة التي من أجلها قيل بتحريم استعمال هذه الأدوية موجودة في كلا الدوائين وهي احتباس الدم.


ثانيا: إذا كان المنع من هذه الأدوية لأنها كيميائية فهذا يفضي إلى القول بتحريم جميع الأدوية؛ لأنها جميعاً تحتوي على مواد كيميائية وهذا عجيب.


6- هذا القول هو الذي عليه جماعة من المتقدمين، وجمهور المتأخرين:


قال الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن المغربي المالكي: "قال ابن رشد: سئل مالك عن المرأة تخاف تعجيل الحيض فيوصف لها شراب تشربه لتأخير الحيض؟ قال: ليس ذلك بصواب وكرهه، قال ابن رشد: إنما كرهه مخافة أن تدخل على نفسها ضرراً بذلك في جسمها"(47).


قال الإمام الدسوقي: "فعلم من كلام ابن رشد أنه ليس في ذلك إلا الكراهة؛ خوفاً من ضرر جسمها"(48).


قال الإمام ابن مفلح: "نص أحمد في رواية صالح وابن منصور في المرأة تشرب الدواء يقطع عنها دم الحيض أنه لا بأس به إذا كان دواء يعرف"(49).


قال الإمام أبو إسحاق الحنبلي: "لا بأس بشرب دواء مباح لقطع الحيض إذا أمن ضرره نص عليه..."(50).


وفي فتاوى اللجنة الدائمة: "يجوز أن تستعمل المرأة أدوية في رمضان لمنع الحيض، إذا قرر أهل الخبرة الأمناء من الدكاترة ومن في حكمهم أن ذلك لا يضرها، ولا يؤثر على جهاز حملها، وخير لها أن تكف عن ذلك، وقد جعل الله لها رخصة في الفطر إذا جاء الحيض في رمضان، وشرع لها قضاء الأيام التي أفطرتها، ورضي لها بذلك دينا"(51).


وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "لا حرج أن تأخذ المرأة حبوب منع الحمل تمنع الدورة الشهرية أيام رمضان حتى تصوم مع الناس، وفي أيام الحج حتى تطوف مع الناس ولا تتعطل عن أعمال الحج، وإن وجد غير الحبوب شيء يمنع من الدورة فلا بأس إذا لم يكن فيه محذور شرعاً أو مضرة"(52)، وقال: "لا حرج في ذلك؛ لما فيه من المصلحة للمرأة في صومها مع الناس وعدم القضاء، مع مراعاة عدم الضرر منها؛ لأن بعض النساء تضرهن الحبوب"(53).


قال الشيخ ابن جبرين -رحمه الله-: "يجوز أكل دواء لمنع الحيض إذا كان القصد هو العمل الصالح، فإذا قصدت فعل الصيام في زمنه والصلاة مع الجماعة، كقيام رمضان والاستكثار من قراءة القرآن وقت الفضيلة؛ فلا بأس بأكل الحبوب لهذا القصد، فإن كان القصد مجرد الصيام حتى لا يبقى دَيناً فلا أراه حسنا، وإن كان مجزئا للصوم بكل حال"(54).


قال الشيخ حسام الدين عفانة: "لا مانع من استعمال الأدوية التي تمنع الحيض حتى تتمكن المرأة من الصيام، ولكن لا بد من تقييد ذلك بأن لا يلحق المرأة ضرر من استعمال هذه الأدوية، وبناء عليه لا بد للمرأة من استشارة طبيب حاذق صاحب دين، فإن أخبرها الطبيب بأن استعمال هذه الأدوية يضرها فلا يجوز لها استعمالها؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»، ومما يشير إلى جواز استعمال المرأة لهذه الأدوية ما ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يسقون نسائهم أدوية مأخوذة من الأعشاب لمنع نزول دم الحيض أثناء الحج، ويقاس الصوم عليه"(55).


قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: "استعمال المرأة ما يمنع حيضها جائز بشرطين:


الأول: ألا يخشى الضرر عليها، فإن خشي الضرر عليها من ذلك فلا يجوز لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29].


الثاني: أن يكون ذلك بإذن الزوج إن كان له تعلق به مثل أن تكون معتدة منه على وجه تجبُ عليه نفقتها، فتستعمل ما يمنعُ الحيض لتطول المدة وتزدادُ عليه نفقتها، فلا يجوز لها أن تستعمل ما يمنع الحيض حينئذ إلا بإذنه، وكذلك إن ثبت أن منع الحيض يمنعُ الحمل فلا بد من إذن الزوج، وحيث ثبت الجواز فالأولى عدم استعماله إلا لحاجة؛ لأن ترك الطبيعة على ما هي عليه أقرب إلى اعتدال الصحة فالسلامة"(56).


وأما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الحيض شيء كتبه الله على بنات آدم، وأن المرأة تترك من أجله الصلاة والصيام، فهذا لا يدل على منعها من أن تأخذ ما يمنع الحيض عنها في فترة من الفترات؛ لأن الحيض لا تترتب عليه أحكامه إلا إذا خرج الدم كما سيأتي في الفرع الثاني.(57)


أما أن هذه الأشياء تخرج البدن عن طبيعته فسيكون لها مضاعفات، فليس هناك شيء في البدن يخرج عن اعتداله وطبيعته إلا خلف الضرر والعواقب السلبية، فهذا لا يكفي ليكون دليلاً على المنع؛ لأن هذا الخروج لا تترتب عليه آثاره المضرة إذا كان بصورة نادرة، مع أن الأمر موقوف على إخبار أهل الخبرة والثقة، فإذا أخبروا بوقوع ضرر محقق لا يحتمل حتى في الصور النادرة فالمصير إلى المنع.


أما ما استدل به ابن فرحون المالكي على ما قال بمذهب ابن الماجشون المالكي من أن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة أيام، فهذا غير مسلم به، بل ما قاله ابن فرحون قد انتقده عليه فقهاء مذهبه؛ لأنه على خلاف المذهب.(58)
 

زياد العراقي

:: مشرف ::
إنضم
21 نوفمبر 2011
المشاركات
3,614
الجنس
ذكر
التخصص
...
الدولة
العراق
المدينة
؟
المذهب الفقهي
المذهب الشافعي
رد: استعمال أدوية لتأخير الحيض / محمد نعمان البعداني

الترجيح:


أرجح هذه الأقوال والله تعالى أعلم بالصواب هو القول الثالث الذي يرى تقييد جواز تناول هذه الأدوية بأمن الضرر بإخبار أهل الخبرة والثقة، مع اشتراط وجود الحاجة لها؛ للآتي:


1- هذا القول وسط بين المانعين بإطلاق، والمجيزين بإطلاق، ويجمع بينهما، ويُعْمِل كلا من أدلتهما، ومن قواعد الترجيح بين الأدلة: أن الجمع بين الأدلة المتعارضة ولو في الجملة أولى من إهمال أحدهما بالكلية لأنه خلاف الأصل(36)، والجمع هنا ممكن بحمل أدلة المانعين على المنع إذا وجد الضرر المتحقق، وحمل أدلة المجيزين مع عدم تحقق الضرر.


2- القول بالمنع مطلقاً يوقع في الحرج والضيق والمشقة، والحرج مرفوع(37)، والمشقة تجلب التيسير(38)، والأمر إذا ضاق اتسع(39)، لأن المرأة إذا قصدت البيت الحرام للحج أو العمرة من أصقاع الأرض ثم منعت من تناول مثل هذه الأدوية فذلك يوقعها في الحرج والمشقة؛ لأن الدم قد يفاجئها في أي لحظة من اللحظات ولا تكون قد أتمت المناسك، فتحتاج إلى أن تبقى في إحرامها إلى أن تتمها، كطواف الإفاضة مثلاً إذا حاضت يوم التاسع أو ليلة العيد واستمر بها الدم من ستة إلى سبعة أيام وربما إلى عشرة أيام أو أكثر فيخشى من فوات رفقتها عليها، وهذا يوقعها مع محرمها في الحرج والمشقة خصوصاً هذا الزمان؛ بسبب التقيد بالبعثات وحجوزات السفر التي تحتاج إلى متابعة وجهد، وكأن يأتيها الدم وهي قريبة من الميقات، وكونها تقصد العمرة أو الحج متمتعة مثلاً فيلزمها الإحرام، والامتناع عن أداء نسك الطواف، وبالتالي لابد من بقائها في إحرامها حتى تطهر، وهذا يوقعها في جهد ومشقة، مع مراعاة ما يواجهه بعض الحجاج والعمار من بعد المساكن والذي يحوجهم إلى كثرة المشي وبعض النساء ربما لا تتحمل فتهراق الدم، ويحتاج وليها أن يكون قريباً منها؛ لصيانتها وحراستها من الأذى خصوصاً أوقات فراغ هذه المساكن من الناس في أوقات الصلوات والأوقات الفاضلة والطويلة كصلاة التراويح والقيام مع حرمانها من شهود هذه الأماكن والأوقات الفاضلة مع المسلمين خصوصاً للنساء اللواتي قصدن البيت الحرام من أماكن بعيدة ووجود العوائق والعقبات أمام قاصدي البيت الحرام مما قد لا يتيح لهم قصده لأكثر من مرة، و للنساء اللواتي يطول حيضهن، مع كون الإقامة فترتها محدودة، وهذه المواسم عابرة، وهذا يسبب لها ولوليها الانقطاع عن إدراك الخيرات والمسابقة إليها، وربما بغضت المرأة النسك والعبادة للحالة التي هي فيها، ولما تخشاه من إدخال المحذور على النسك، فربما كرهت التكليف، وهذا حرج بَيِّنٌ، ومشقة ظاهرة، والحرج مرفوع، والمشقة تجلب التيسير.


قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: "فأعلم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين:


أحدهما: الخوف من الانقطاع من الطريق، وبغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله.


والثاني: خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أخر تأتي في الطريق...


فأما الأول فإن الله وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة سهلة، حفظ فيها على الخلق قلوبهم، وحبها(40) لهم بذلك، فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾ [الحجرات: 7] إلى آخرها، فقد أخبرت الآية أن الله حبب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله وزينه في قلوبنا بذلك، وبالوعد الصادق بالجزاء عليه..."(41).


3- أن ضرر هذه الأدوية نسبي يختلف باختلاف النساء؛ لأن من النساء من يكون عندها مرض عضوي في الرحم، ومثل هذه لا ينفعها هذا الدواء، وأخرى بطانة الرحم عندها ضعيفة لا تتحمل، وأسباب أخرى، لذا تجد أن بعض النساء تأخذ دواءً معيناً لتأخير نزول الدم فينضبط معها، وأخرى تأخذ نفس الدواء فلا ينفع معها بل ربما أضر بها بينما ينفع معها دواء آخر، وثالثة لا ينفع معها أي دواء بل تتضرر باستخدام الجميع، إذاً مسألة الضرر مسألة نسبية تختلف من امرأة لأخرى، وبالتالي لا يستقيم القول بالجواز مطلقاً، ولا بالمنع مطلقاً، بل لابد على المرأة التي تريد استخدام هذا الدواء أن تسأل أهل الاختصاص والخبرة والأمانة دون غيرهم، ومن خلالهم يتبين وجود الضرر من عدمه.


4- مما سبق ذكره يتبين أن إدراك المرأة للمناسك، واللحاق برفقتها، والصوم مع الناس والقيام معهم، وإدراك الأماكن والأوقات الفاضلة، مصلحة متحققة بيقين، والضرر في هذه الأدوية محتمل؛ لأن الضرر فيها نسبي فقد يضر امرأة دون غيرها، وهذه يناسبها دواء معين لا يناسب غيرها، فإطلاق الضرر ربما لا يكون دقيقاً، خصوصاً وأن بعض الأطباء يقولون هذه الأدوية قد تسبب كذا أو كذا، وهذا على سبيل الاحتمال لا القطع، وبالتالي المفسدة هنا محتملة لا مقطوع بها، والمقطوع لا يترك للمظنون، والمتحقق لا يترك للمحتمل، إلا أن يخبرها أهل الخبرة والأمانة أن هذا يضر والضرر متحقق، أو محتمل احتمال يلحقه بالمتحقق فحينها نقول إن الضرر لا يزال بمثله، وإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فلابد من مراعاة الحال والشخص والمكان، وهذا هو المعهود عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان يراعي في فتياه الأحوال والأشخاص والأماكن(42)، فيأتيه سائل يسأله عن خير الأعمال فيقول: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»(43)، ويقول لآخر وقد سأله: أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله»(44)، ويقول لآخر: «إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور»(45)، ويقول لآخر طلب منه الوصية: «لا تغضب»(46)، فأجاب كل سائل بما يتناسب معه والحال التي يعيشها الناس، والمكان والزمان، ولهذا أجاب السائل الذي سأله أن يوصيه بما يتناسب مع حاله، فأوصاه بترك الغضب، والآخر جاء في زمن قحط وتشاحن في القلوب فأوصاه بإطعام الطعام، وإفشاء السلام، مراعاة للأحوال والأمكنة إذ أن السائل سيبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخر يسأله في زمن يعد العدو العدة، ويعق الأبناء الآباء، ويؤخر ناس الصلاة عن وقتها، فيخبره بأن أفضل الأعمال الصلاة على وقتها وبر الوالدين والجهاد في سبيل الله تعالى وهكذا.


5- استعمال هذه الأدوية عند الحاجة إليها فقط وبصورة نادرة كحج وعمرة يضيق من دائرة الضرر المترتب عليها على فرض أن استعمال هذه الأدوية يسبب الضرر، ولهذا استعمل بعض نساء السلف أدوية من الأعشاب لقطع الدم أثناء الحج.


اعتراض: هناك فرق بين الدوائين فإن الأول يتكون من مركبات كيميائية قد لا تخلوا من أضرار، بينما الثاني أشجار طبيعية لا تضر، فحيث ثبت الفرق في التركيب فكذلك في حكم الاستعمال.


الجواب: هذا الفارق لا يؤثر من جهتين:


الأولى: أن العلة التي من أجلها قيل بتحريم استعمال هذه الأدوية موجودة في كلا الدوائين وهي احتباس الدم.


ثانيا: إذا كان المنع من هذه الأدوية لأنها كيميائية فهذا يفضي إلى القول بتحريم جميع الأدوية؛ لأنها جميعاً تحتوي على مواد كيميائية وهذا عجيب.


6- هذا القول هو الذي عليه جماعة من المتقدمين، وجمهور المتأخرين:


قال الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن المغربي المالكي: "قال ابن رشد: سئل مالك عن المرأة تخاف تعجيل الحيض فيوصف لها شراب تشربه لتأخير الحيض؟ قال: ليس ذلك بصواب وكرهه، قال ابن رشد: إنما كرهه مخافة أن تدخل على نفسها ضرراً بذلك في جسمها"(47).


قال الإمام الدسوقي: "فعلم من كلام ابن رشد أنه ليس في ذلك إلا الكراهة؛ خوفاً من ضرر جسمها"(48).


قال الإمام ابن مفلح: "نص أحمد في رواية صالح وابن منصور في المرأة تشرب الدواء يقطع عنها دم الحيض أنه لا بأس به إذا كان دواء يعرف"(49).


قال الإمام أبو إسحاق الحنبلي: "لا بأس بشرب دواء مباح لقطع الحيض إذا أمن ضرره نص عليه..."(50).


وفي فتاوى اللجنة الدائمة: "يجوز أن تستعمل المرأة أدوية في رمضان لمنع الحيض، إذا قرر أهل الخبرة الأمناء من الدكاترة ومن في حكمهم أن ذلك لا يضرها، ولا يؤثر على جهاز حملها، وخير لها أن تكف عن ذلك، وقد جعل الله لها رخصة في الفطر إذا جاء الحيض في رمضان، وشرع لها قضاء الأيام التي أفطرتها، ورضي لها بذلك دينا"(51).


وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "لا حرج أن تأخذ المرأة حبوب منع الحمل تمنع الدورة الشهرية أيام رمضان حتى تصوم مع الناس، وفي أيام الحج حتى تطوف مع الناس ولا تتعطل عن أعمال الحج، وإن وجد غير الحبوب شيء يمنع من الدورة فلا بأس إذا لم يكن فيه محذور شرعاً أو مضرة"(52)، وقال: "لا حرج في ذلك؛ لما فيه من المصلحة للمرأة في صومها مع الناس وعدم القضاء، مع مراعاة عدم الضرر منها؛ لأن بعض النساء تضرهن الحبوب"(53).


قال الشيخ ابن جبرين -رحمه الله-: "يجوز أكل دواء لمنع الحيض إذا كان القصد هو العمل الصالح، فإذا قصدت فعل الصيام في زمنه والصلاة مع الجماعة، كقيام رمضان والاستكثار من قراءة القرآن وقت الفضيلة؛ فلا بأس بأكل الحبوب لهذا القصد، فإن كان القصد مجرد الصيام حتى لا يبقى دَيناً فلا أراه حسنا، وإن كان مجزئا للصوم بكل حال"(54).


قال الشيخ حسام الدين عفانة: "لا مانع من استعمال الأدوية التي تمنع الحيض حتى تتمكن المرأة من الصيام، ولكن لا بد من تقييد ذلك بأن لا يلحق المرأة ضرر من استعمال هذه الأدوية، وبناء عليه لا بد للمرأة من استشارة طبيب حاذق صاحب دين، فإن أخبرها الطبيب بأن استعمال هذه الأدوية يضرها فلا يجوز لها استعمالها؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»، ومما يشير إلى جواز استعمال المرأة لهذه الأدوية ما ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يسقون نسائهم أدوية مأخوذة من الأعشاب لمنع نزول دم الحيض أثناء الحج، ويقاس الصوم عليه"(55).


قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: "استعمال المرأة ما يمنع حيضها جائز بشرطين:


الأول: ألا يخشى الضرر عليها، فإن خشي الضرر عليها من ذلك فلا يجوز لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29].


الثاني: أن يكون ذلك بإذن الزوج إن كان له تعلق به مثل أن تكون معتدة منه على وجه تجبُ عليه نفقتها، فتستعمل ما يمنعُ الحيض لتطول المدة وتزدادُ عليه نفقتها، فلا يجوز لها أن تستعمل ما يمنع الحيض حينئذ إلا بإذنه، وكذلك إن ثبت أن منع الحيض يمنعُ الحمل فلا بد من إذن الزوج، وحيث ثبت الجواز فالأولى عدم استعماله إلا لحاجة؛ لأن ترك الطبيعة على ما هي عليه أقرب إلى اعتدال الصحة فالسلامة"(56).


وأما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الحيض شيء كتبه الله على بنات آدم، وأن المرأة تترك من أجله الصلاة والصيام، فهذا لا يدل على منعها من أن تأخذ ما يمنع الحيض عنها في فترة من الفترات؛ لأن الحيض لا تترتب عليه أحكامه إلا إذا خرج الدم كما سيأتي في الفرع الثاني.(57)


أما أن هذه الأشياء تخرج البدن عن طبيعته فسيكون لها مضاعفات، فليس هناك شيء في البدن يخرج عن اعتداله وطبيعته إلا خلف الضرر والعواقب السلبية، فهذا لا يكفي ليكون دليلاً على المنع؛ لأن هذا الخروج لا تترتب عليه آثاره المضرة إذا كان بصورة نادرة، مع أن الأمر موقوف على إخبار أهل الخبرة والثقة، فإذا أخبروا بوقوع ضرر محقق لا يحتمل حتى في الصور النادرة فالمصير إلى المنع.


أما ما استدل به ابن فرحون المالكي على ما قال بمذهب ابن الماجشون المالكي من أن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة أيام، فهذا غير مسلم به، بل ما قاله ابن فرحون قد انتقده عليه فقهاء مذهبه؛ لأنه على خلاف المذهب.(58)
 

زياد العراقي

:: مشرف ::
إنضم
21 نوفمبر 2011
المشاركات
3,614
الجنس
ذكر
التخصص
...
الدولة
العراق
المدينة
؟
المذهب الفقهي
المذهب الشافعي
رد: استعمال أدوية لتأخير الحيض / محمد نعمان البعداني

الفرع الثاني: إذا تناولتها المرأة وانقطع حيضها فهل تصبح في طهر؟


الفقهاء الذين أجازوا استخدام هذه الأدوية سواء بإطلاق أو بشرط عدم الضرر يرون بأن المرأة ستكون في حكم الطاهرات، وإنما الخلاف حاصل بين المانعين من استخدام هذا الدواء، وحاصل أقوال أهل العلم في المسألة ثلاثة أقوال:


القول الأول: إذا استخدمت المرأة أدوية لتأخير نزول الدورة الشهرية فإنها تكون في فترة انحباس الدم وعدم نزوله من الطاهرات فتصوم وتصلي ويأتيها زوجها وتؤدي جميع المناسك.


دليله: أن الحيض لا تترتب عليه الأحكام من ترك الصلاة والصيام إلا إذا خرج الدم فمتى وجد الدم وُجد حكمه، أما إذا انحبس ولم يخرج فإنه لا يترتب عليه شيء؛ لأن الله تعالى علق الحكم على وجود الدم، فإذا لم يوجد الدم لم يوجد حكمه، وبالتالي فإنه يحكم بطهرها؛ لأنها لا تسمى حائضاً، فالحكم يدور مع علته، قال الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾ [البقرة/ 222]، فمتى وجد هذا الأذى ثبت حكمه، ومتى لم يوجد لم يثبت حكمه؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال: «لا إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي»(59)، وهذه لم تُقْبِل حيضتها؛ لأنه لم يخرج الدم، وبناء على ذلك يحكم بطهرها.(60)


القول الثاني: إذا استخدمت المرأة أدوية لتأخير نزول دم الحيض فإنها تكون في حكم الحائض؛ وكأنهم استدلوا على ذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الحيض شيء كتبه الله على بنات آدم، وأن المرأة تترك من أجله الصلاة والصيام، وهذه التي تستعمل هذه الأدوية تكون قد حبست الدم عن النزول في أوانه المكتوب له، فظنوا أن المرأة إذا انحبس عنها الحيض بسبب الدواء أنه لا يصح لها صوم ولا صلاة وقت العادة، وإن كانت منحبسة(61)؛ لأنها ستصلي وتصوم في الوقت المعتاد لنزول الدورة، وكأنهم اعتبروا هذا المنع الطارئ لنزول الحيض كعدمه.


القول الثالث: إن علمت أن الدم إنما يرتفع اليوم ونحوه فلا يجوز لها الإقدام على ذلك وحكمها حكم الحائض، وإن انقطع ثم عاودها بعد اليومين والثلاثة إلى الخمسة فحكمها حكم الحائض، وإن كان ارتفاعه يستديم عشرة أيام أو ثمانية فحكمها حكم الطاهرات.


وقد استدل ابن فرحون المالكي على ما قال بما ذهب إليه ابن الماجشون المالكي من أن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة أيام، فإذا استخدمت دواء يقطع الدم عن وقت نزوله أقل من هذه الفترة ثم نزل الدم قبل الخمسة عُلِم أنها في حكم الحائض؛ لأن هذا الانحباس لم يبلغ أقل الطهر فيكون في حكم الحيض، فكأنها صلت وصامت وطافت مع وجود الدم.(62)
 

زياد العراقي

:: مشرف ::
إنضم
21 نوفمبر 2011
المشاركات
3,614
الجنس
ذكر
التخصص
...
الدولة
العراق
المدينة
؟
المذهب الفقهي
المذهب الشافعي
رد: استعمال أدوية لتأخير الحيض / محمد نعمان البعداني

الترجيح:


أرجح هذه الأقوال هو القول الأول، فإذا استخدمت المرأة أدوية لتأخير نزول الدورة الشهرية فإنها تكون في فترة انحباس الدم وعدم نزوله من الطاهرات فتصوم وتصلي وتطوف بالبيت ويأتيها زوجها، لما سبق ذكره في الآية والحديث من أن دم الحيض متى وجد وجد حكمه، ومتى انعدم انعدم حكمه، وعلى هذا فتاوى جمهور المتقدمين والمتأخرين من أهل العلم.


قال الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن المغربي المالكي -رحمه الله-: "تنبيه: نصوص المذهب التي ذكرناها وغيرها صريحة في أن صومها صحيح مجزىء (أي إذا استعملت ما يقطع الحيض)"(63).


وقال: "قال ابن رشد: المعنى في كراهة ذلك (أي كراهة استخدام المرأة لدواء يمنع الحيض) ما يخشى أن تدخل على نفسها من الضرر بجسمها بشرب الدواء الذي قد يضرها انتهى، فعلم من كلام ابن رشد أنه ليس في ذلك إلا الكراهة خوف ضرر جسمها، ولو كان ذلك لا يحصل به الطهر لبينه ابن رشد"(64).


قال الإمام الدسوقي -رحمه الله تعالى-: "والحاصل أن المرأة إما أن تستعمل الدواء لرفع الحيض عن وقته المعتاد ففي هذه يحكم لها بالطهر في الوقت المعتاد الذي كان يأتيها فيه وتأخر عنه وهذه مسألة السماع، وإما أن تستعمل الدواء لأجل تعجيل الطهر من الحيض كما لو كان عادتها أن يأتيها الدم ثمانية أيام فاستعملته بعد إتيانه ثلاثة أيام فانقطع ففي هذه يحكم لها بالطهر بعد انقطاعه وهذه مسألة ابن كنانة"(65).


قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "... كما أنها لو شربت دواء قطع الحيض أو باعد بينه كان ذلك طهرا"(66).


قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: "كما أنها لو تناولت ما يمنع الحيض، ولم ينزل الحيض، فإنها تصلي وتصوم ولا تقضي الصوم، لأنها ليست بحائض، فالحكم يدور مع علته، قال الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾ [البقرة: 222]، فمتى وجد هذا الأذى ثبت حكمه، ومتى لم يوجد لم يثبت حكمه"(67).


ومما يستأنس في الاستدلال به في هذه المسألة على أن المرأة إذا استعملت أدوية لتأخير نزول الدورة الشهرية فإنها تكون في فترة انحباس الدم وعدم نزوله من الطاهرات القياس على انحباس الحدث في الجسم فإن الإنسان لا يعتبر محدثاً مع وجود الحدث في الجسم وانحباسه فيه إلا إذا خرج منه الأذى من غائط أو بول أو ريح، فمثلاً نجد أن المثانة: عبارة عن عضو عضلي أجوف، وهي كيس لخزن البول الذي تفرزه الكليتان، وينزل منهما عبر الحالبين، وتتصل من أسفل بقناة مجرى البول المعروفة بالإحليل(68)، وهي عضو طارد عندما يمتلئ تتمدد ثنيات الطبقة المخاطية به، فتدفع الطبقة العضلية السوائل إلى الخارج(69)، فمع أنها تمتلئ وهي داخل الجسم فإن الإنسان لا يعتبر محدثاً إلا إذا خرج البول منها، وكذلك انحباس الدم لا يضر وبالتالي فالمرأة طاهر ولا تصير حائضاً إلا إذا خرج منها الدم، ولا يضر هذا الانحباس للدم حتى مع كونه في وقت الحيض؛ لأن الحدث إذا جاء وقته ولم يخرج فلا يعد الإنسان محدثاً بذلك بدليل صحة صلاه الحاقن والحاقب(70) مع الكراهة، وإنما صحت صلاته لأنه لا يعد محدثاً مع الانحباس، وكرهت لأن هذا الانحباس يشغله عن الخشوع الذي هو لب الصلاة، يقول الإمام النووي: "يكره أن يصلي وهو يدافع البول أو الغائط أو الريح أو يحضره طعام أو شراب تتوق نفسه إليه... والمشهور من مذهبنا ومذاهب العلماء صحة صلاته مع الكراهة"(71)، وقال الإمام ابن نجيم: "ومنها أن يدخل في الصلاة وقد أخذه غائط أو بول وإن كان الاهتمام يشغله يقطعها، وإن مضى عليها أجزأه وقد أساء، وكذا إن أخذه بعد الافتتاح"(72)، ويقول ابن قدامة: "وإذا حضرت الصلاة وهو يحتاج إلى الخلاء بدأ بالخلاء يعني إذا كان حاقناً كرهت له الصلاة حتى يقضي حاجته سواء خاف فوت الجماعة أو لم يخف... فإن خالف وفعل صحت صلاته في هذه المسألة"(73).


ومثل ذلك أيضاً انحباس الريح في البطن لا يضر الطهارة ولا يعد به الإنسان محدثاً إلا إذا خرج بدليل حديث عباد بن تميم عن عمه: أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ فقال: «لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا»(74)، ومثل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريح»(75)، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين أن انحباس الحدث من غير خروج لا يؤثر في الطهارة إلا إذا تحقق خروجه؛ لأن العبرة باليقين الذي يدل عليه خروج الحدث، وكذلك مسألتنا فإن انحباس الدم في الجسم لا يؤثر على طهر المرأة ولا يرفعه حتى يخرج الدم.


قال الإمام النووي: "معناه يعلم وجود أحدهما... وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك ولا يضر الشك الطارئ عليها فمن ذلك مسألة الباب التي ورد فيها الحديث وهي أن من تيقن الطهارة وشك في الحدث حكم ببقائه على الطهارة..."(76).


قال الإمام المناوي: "وفيه أن خروج الخارج من قبل أو دبر يوجب الحدث بخلاف الشك فيه وهذا أصل قاعدة عظيمة وهي أن التيقن لا يرفع بالشك والمراد به مطلق التردد الشامل للظن والوهم فيعمل باليقين استصحاباً له، فمن تيقن الطهر وشك في ضده أخذ بالطهر هبه في صلاة أم لا وإنما ذكر الصلاة لذكرها في سؤال سائل فلا يعتبر في الحكم كما لا يعتبر فيه كونه في المسجد..."(77).


وبالتالي يجوز للمرأة أن تتناول الأدوية التي تؤخر نزول دم الحيض بعد الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص، ومعرفة أن ذلك لا يسبب لها ضررا، ولابد أن تكون هناك حاجه لمثل ذلك، ولا تتحايل به، وهي أثناء ذلك في حكم الطاهرات، فتصلي، وتصوم، وتطوف بالبيت، ويأتيها زوجها، وتفعل كل ما تفعله الطاهرات.


وفي الختام أسأل من الله تعالى جل في علاه أن يوفقنا وجميع المسلمين لما فيه رضاه، وأن يهدينا لأحسن الأقوال والأفعال والأخلاق، وأن يصرف عنا سيئها، وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه الكريم وأزواجه والصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.


إعداد/ محمد نعمان البعداني.


5/ 11/ 1430هـ - 24/ 10/ 2009م.


مراجعة الدكتور/ قسطاس إبراهيم.
 

زياد العراقي

:: مشرف ::
إنضم
21 نوفمبر 2011
المشاركات
3,614
الجنس
ذكر
التخصص
...
الدولة
العراق
المدينة
؟
المذهب الفقهي
المذهب الشافعي
رد: استعمال أدوية لتأخير الحيض / محمد نعمان البعداني

(1) لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم»، أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، 1/ 117 برقم: 299، ومسلم، 2/ 870 برقم: 1211.


(2) لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت حبيش عندما كانت تستحاض: «فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي»، أخرجه البخاري، 1/ 91 برقم: 226، ومسلم، 1/ 262 برقم: 333.


(3) لقوله صلى الله عليه وسلم: «أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم»، أخرجه البخاري، 1/ 116 برقم: 298، وفي رواية: «وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين»، أخرجه مسلم، 1/ 86 برقم: 79.


(4) لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري»، أخرجه البخاري، 1/ 117 برقم: 299، ومسلم، 2/ 870 برقم: 1211.


(5) لقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، صحيح مسلم، 1/ 246 برقم: 302.


(6) انظر: فتاوى يسألونك، 2/ 51، وبحوث لبعض النوازل الفقهية المعاصرة، 28/ 1، بتصرف.


(7) منار السبيل، 1/ 67، وانظر: دليل الطالب، 1/ 23.


(8) شرح زاد المستقنع للشنقيطي، 13/ 252.


(9) فتاوى اللجنة الدائمة (32) جزءا، 5/ 400، من الفتوى رقم: 1216.


(10) فتاوى الصيام لابن جبرين، 1/ 71.


(11) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين، 11/ 249، والأحكام الشرعية للدماء الطبيعية، 1/ 24.


(12) مجموع فتاوى ابن باز، 17/ 61.


(13) مواهب الجليل، 1/ 366، بتصرف.


(14) منار السبيل، 1/ 67، ودليل الطالب، 1/ 23.


(15) العزل لغة: الإبعاد والتنحية والصرف عن لشيء، واصطلاحاً: صرف الماء عن المرأة حذر الحمل، قال الأزهري: "العزل عزل الرجل الماء عن جاريته إذا جامعها لئلا تحمل"، وقال ابن الأمير الصنعاني: "هو بفتح العين المهملة وسكون الزاي وهو أن ينزع الرجل بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج"، انظر: تاج العروس، 29/ 464، والمعجم الوسيط، 2/ 599، والتعريفات، 1/ 194، وسبل السلام، 3/ 145.


(16) الآداب الشرعية، 3/ 62، بتصرف.


(17) أخرجه البخاري، 5/ 1998 برقم: 4911، ومسلم، 2/ 1065 برقم: 1440.


(18) أخرجه مسلم، 2/ 1065 برقم: 1440.


(19) فتاوى يسألونك للشيخ حسام الدين عفانة، 2/ 51.


(20) أخرجه ابن ماجه، 2/ 784 برقم: 2340، صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة، 2/ 39 برقم: 1895.


(21) موضع على ستة أميال من مكة، وقيل: سبعة، وتسعة، واثني عشر، تزوج به رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث رضي الله عتها، وهناك بنى بها، وفيه توفيت، انظر: معجم البلدان، 3/ 212.


(22) طمثت المرأة تطمث طمثا وهي طامث أي حاضت، انظر: لسان العرب، 2/ 165.


(23) أخرجه البخاري، 1/ 117 برقم: 299، ومسلم، 2/ 870 برقم: 1211.


(24) شرح القواعد الفقهية للزرقاء، 1/ 195.


(25) انظر: شرح زاد المستقنع للشنقيطي، 13/ 252.


(26) أخرجه البخاري، 1/ 117 برقم: 299، ومسلم، 2/ 870 برقم: 1211.


(27) أخرجه البخاري، 1/ 116 برقم: 298، ومسلم، 1/ 86 برقم: 79.


(28) مجموع فتاوى الشيخ صالح الفوزان، 2/ 570، بتصرف.


(29) فتاوى يسألونك للشيخ حسام الدين عفانة، 2/ 51.


(30) تفسير السعدي، 1/ 90.


(31) تفسير السعدي، 1/ 175.


(32) أخرجه ابن ماجه، 2/ 784 برقم: 2340، صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة، 2/ 39 برقم: 1895.


(33) شرح القواعد الفقهية للزرقاء، 1/ 165، بتصرف.


(34) مواهب الجليل، 1/ 366.


(35) المصدر نفسه.


(36) التقرير والتحبير، 1/ 350، والإحكام في أصول الأحكام، 2/ 353.


(37) الموافقات للشاطبي، 2/ 136.


(38) الأشباه والنظائر للسيوطي، 1/ 76.


(39) المنثور في القواعد للزركشي، 1/ 120، وشرح القواعد الفقهية للزرقاء، 1/ 163، والأشباه والنظائر، 1/ 83.


(40) لعل الصواب والله أعلم: وحببها.


(41) الموافقات، 2/ 136.


(42) انظر: فتح الباري، 3/ 380، فيض القدير، 2/ 85.


(43) أخرجه البخاري، 1/ 13 برقم: 12، ومسلم، 1/ 65 برقم: 39.


(44) أخرجه البخاري، 6/ 2740 برقم: 7096.


(45) أخرجه البخاري، 2/ 553برقم: 1447.


(46) أخرجه البخاري، 5/ 2267 برقم: 5765.


(47) مواهب الجليل، 1/ 366.


(48) حاشية الدسوقي، 1/ 168.


(49) الآداب الشرعية، 3/ 62.


(50) المبدع، 1/ 293.


(51) فتاوى اللجنة الدائمة (32) جزءا، 5/ 400، من الفتوى رقم: 1216.


(52) مجموع فتاوى ابن باز، 17/ 61.


(53) مجموع فتاوى ابن باز، 15/ 201.


(54) فتاوى الصيام لابن جبرين، 1/ 71.


(55) فتاوى يسألونك، 2/ 51.


(56) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين، 11/ 249، والأحكام الشرعية للدماء الطبيعية، 1/ 24.


(57) مجموع فتاوى الشيخ صالح الفوزان، 2/ 570.


(58) مواهب الجليل، 1/ 366.


(59) أخرجه البخاري، 1/ 91 برقم: 226، ومسلم، 1/ 262 برقم: 333.


(60) انظر: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين، 11/ 206، وفتاوى أركان الإسلام، 3/ 33، و شرح زاد المستقنع للشيخ محمد محمد المختار الشنقيطي، 13/ 252، 253، ومجموع فتاوى الشيخ صالح الفوزان، 2/ 570.


(61) مجموع فتاوى الشيخ صالح الفوزان، 2/ 570، بتصرف، وانظر كلام الرجراجي المالكي في مواهب الجليل، 1/ 367.


(62) مواهب الجليل ج1/ ص366، بتصرف.


(63) مواهب الجليل، 1/ 367.


(64) مواهب الجليل، 1/ 366.، وانظر: حاشية الدسوقي، 1/ 168.


(65) حاشية الدسوقي، 1/ 168.


(66) مجموع الفتاوى، 34/ 24.


(67) فتاوى أركان الإسلام، 3/ 33.


(68) المفطرات في مجال التداوي للدكتور البار، والتداوي والمفطرات الدكتور حسان شمسي باشا، انظر: مجلة مجمع الففه الإسلامي، الدورة العاشرة، العدد العاشر،الجزء الثاني، ص222، 223، 256 باختصار وتصرف.


(69) محمود البرعي، وهانىء البرعي، تشريح وظائف أعضاء الإنسان،انظر: المصدر السابق ص85 نقلاً عنهما.


(70) الحاقن: المدافع للبول، والحاقب: المدافع للغائط، انظر: لسان العرب، 13/ 126، والمصباح المنير 1/ 144، والذخيرة، 1/ 214.


(71) المجموع، 4/ 117.


(72) البحر الرائق، 2/ 35.


(73) المغني، 1/ 364.


(74) أخرجه البخاري، 1/ 64 برقم: 137، ومسلم، 1/ 276 برقم: 361.


(75) أخرجه مسلم، 1/ 276 برقم: 362.


(76) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 49.


(77) فيض القدير، 2/ 352.
المصدر
http://www.jameataleman.org/main/articles.aspx?article_no=1383
 

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: استعمال أدوية لتأخير الحيض / محمد نعمان البعداني

جزى الله الكاتب والناقب خيراً
بحث قيم ومهم جداً
 

زياد العراقي

:: مشرف ::
إنضم
21 نوفمبر 2011
المشاركات
3,614
الجنس
ذكر
التخصص
...
الدولة
العراق
المدينة
؟
المذهب الفقهي
المذهب الشافعي
رد: استعمال أدوية لتأخير الحيض / محمد نعمان البعداني

وجزاكم الخير أختنا الكريمة
 

ام سلمة

:: متفاعل ::
إنضم
21 نوفمبر 2012
المشاركات
419
الكنية
ام سلمة
التخصص
ليس بعد
المدينة
الجزائر
المذهب الفقهي
اهل السنة والجماعة
رد: استعمال أدوية لتأخير الحيض / محمد نعمان البعداني

فعلا بحث قيم
جزاكم الله خيرا استاذ طارق
 

زياد العراقي

:: مشرف ::
إنضم
21 نوفمبر 2011
المشاركات
3,614
الجنس
ذكر
التخصص
...
الدولة
العراق
المدينة
؟
المذهب الفقهي
المذهب الشافعي
رد: استعمال أدوية لتأخير الحيض / محمد نعمان البعداني

وجزاكم الخير أختنا الكريمة
 
إنضم
4 ديسمبر 2011
المشاركات
451
التخصص
الوعظ والارشاد
المدينة
المسيلة
المذهب الفقهي
مالكي
رد: استعمال أدوية لتأخير الحيض / محمد نعمان البعداني

جزاك الله خير الجزاء ام سلمةوبارك الله فيك
 
أعلى