العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مالئ الدنيا، وشاغل الناس! رغم يبسه في "الماضي"؛ ماله سال "اليوم" وانثال؟

إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
مالئ الدنيا، وشاغل الناس!
رغم يبسه في "الماضي"؛ ماله سال "اليوم" وانثال؟

لِمَ كان ابن حزم حاضرا بقوة في الدراسات العصرية رغم قسوته التي قارعت سيف الحجاج حدة؟ ورغم ظاهريته المفرطة التي أربت على داود الرئيس نفسه! ورغم يبسه في إنكار الأقيسة والمعاني والمفاهيم!
ولِمَ كان هذا الرجل بالذات: فتنة للطلبة في التمرد على مدرسة الأشياخ؟ وملهما في شق عصا الأستاذ؟

«تُرَى ، لِـمَ كل هذه العناية بهذا الذي قال فيه ابن العربي الفقيه ذات يوم: (ِسَخِيفٍ ... مِنْ بادية إشبيلية، يُعْرَفُ بابن حزم!).
لِـمَ كُّلُّ هذه العناية برجلٍ: حَجَرَ على العقل الإنساني أنْ يَقِيْسَ، وأنْ يُعَلِّلَ – في الشؤون الدينية – وحَصَرَ التشريعَ كلَّه في النص، مع أن روح عصرنا تدعو إلى غير هذا).
قد يقول لك العالِـمُ الأسباني: إنني أرى في ابن حزم حَلْقَةً في سلسلة المفكِّرين الأسبان (أي يرى في الرجل نبوغاً قوميّا، ويَـحُسُّ إزاءه برابطة قومية).
وقد يقول لك المتديِّن المشرقي: إني أُحِسُّ حينَ أقرأُ لابنِ حزم أنني أستمدُّ الدينَ مِنْ منابعه الأولى.
وعني أخبرك – كما يقول ابن حزم نفسه : إنَّ إعجابي به إنما اسْتَثَارَه في دورٍ مبكر مِنْ حياتي: حِدَّةُ ذكائه، وقوَّةُ عارضته، ووضوح فِكْرِه، يضاف إلى ذلك كله ضِيْقٌ بالتعليلات الخاطئة، والباطنية المفتعلة، وارتياحٌ إلى البساطة الظاهرية هربًا مِن تشابك الرموز، وتقديرٌ خاص للصراحة والابتعاد عن المواربة، تلك الخصلة التي اتُّهِمَ مِنْ أجلها بأنه كان لا يحسنُ «سياسةَ العلم» ، ولياذٌ «بالبداوة» الخشنة تجنبًا للمواضعات الحضارية الخانِقة.
ولم يكن ابتهاجي بما تَعَلَّمتُه مِن ابن حزم في شتى نواحي المعرفة بأكثر مِن ابتهاجي بما أفدتُه مِنْ منهجه الأكاديمي الدقيق في كل ما يُكْتَبُ ، فأنا لا أعرف كاتبا بين مُفَكِّري العربية يضع بين يديه أطروحة ما ، ثم يعالجها في استيفاء شمولي ، ومنهجية صارمة ، كما يفعل ابن حزم ، يستوي في ذلك كتبه ذات المجلدات العديدة ، ورسائله المطولة وغير المطولة».

هذا إحسان عباس: أديب العربية، أحدُ المعرِّفين الكبار بابن حزم، المشتغلين بكتبه خاصَّة، وبأدب الأندلس عامة.
وبقيت عوامل أخرى:
منها:
أن إنكار الأقيسة لا يمثل إلا جزءا من شخصية ابن حزم الفقهية ؛ بل إن ابن حزم كفقيه إنما هو بعد واحد يسير ضمن أبعاد كثيرة في فلسفته العامة.
ومنها: أن أفقه وإن ضاق من ناحية الأقيسة فإن أفقه متسع جدا في الضفة الأخرى؛ فقد وسع دائرة النص إلى أقصى مدى، واستعمل ضروبا من الأدلة، كالبراءة الأصلية واليقين، ومن هنا استشهد به أستاذ المقاصد: أبو إسحاق الشاطبي في سعة الأدلة رغم ظاهريته ولم تعجزه مسألة عن إدراجها في النص.
ومنها: أن منهجه ركبه فريقان:
الفريق الأول
: اتكأ عليه في توسيع دائرة الإباحة، وغنى به في ليلة قمراء! فإنه يزعم أن ابن حزم كان رائده في الرخصة، ورفيقه في الفسحة، فقد نجح في تضييق دائرة الحرام وتكتيفه في زاوية منحصرة فيما حظره النص! أما ما ابتكر في هذا العصر فإنه لم ينطق به النص!
والفريق الثاني: طار به في رحلة العودة إلى رحابة النص الشرعي بعد الاختناق بقوالب القاعدة والاستثناء واستثناء الاستثناء!
لقد كان ابن حزم يومئذ يغرد خارج السرب؛ فمن خلال النص تصدى بمنهجية مبتكرة لقضايا عصره، وتمخض تفاعله مع مجتمعه: في سجلات تجاربه وتأملاته، ومن هنا فقد قذفت به رسائله الصغيرة ضمن المتصدرين للمشهد التصنيفي كما ونوعا.
وهنا أتساءل: أين الذين أحرقوا كتبه؟ وأين الذين مزقوها؟ وأين الذين طردوه؟ وأين الذي حبسوه؟ وأين الذين تضاحكوا عليه؟ وأين الذين اتهموه بالشذوذ؟
بقي ابن حزم بشذوذاته، وذاب أولئك؛ لأن مثلهم كثير! فأحدهم إن لم يصنع ا لمتن فإنه سيشرحه أو سيكون هو المحشي! فعلام ينشط التاريخ لتخزينه في ذاكرته؟
ومنها: أن اتهام الظاهرية بالقصور في استيعاب القضايا غير المنصوصة كان هاجسا يؤرق ابن حزم؛ فلم يمل ولم يسأم من تقرير شمولية النص، وسعة دائرته الظاهرية، فصنع براميل كبرى من العبارات الشمولية كانت كافية لاستيعاب كميات ضخمة من الإنتاج العصري.
ومنها: أن ابن حزم تشبه كتاباته مقالات أديب معاصر يقص شؤونه اليومية؛ ولك أن تتخيل أنه لم يحتشم من ذكر عيوبه حتى ذكر منها "حركات" كان يفعلها في غرارة الصبا!
وله مناظرات في دكان رجل يهودي! وله مراسلات ضد الطوائف التي فتكت بأندلسه، وناظر الباجي، واحترقت كتبه وطرد من بلدة إلى بلدة وعاش في السجن دهرا، واعتزل في آخر عمره مع طلبته في بلدته لبلة! وكان في كل ذلك في غاية التفاعل...
ومنها: أنه أول إنسان على البسيطة تصدى لنقد "الكتاب المقدس" المحرَّف من داخله، وزرع ألغاما في قراطيسه التقطها الفيلسوف اليهودي الهولندي "اسبينوزا" فتفجرت بيديه فلعنه ذووه إلى أبد الدهر!
ومنها: أنه قد ذاب في العشق والنظر وسماع الملاهي؛ وله أخبار وأي أخبار في أيام صباه سرَّبها في طوق الحمامة، حتى اضطر أن يقسم أجل الأقسام أنه بريء الساحة!
ومن هنا احتفى به المستشرقون والأسبان كعاشق ثائر في "طوق الحمامة"، فترجم كتابه باللغات، وغاص الدارسون في إشاراته.
ومنها: أنه رجل حر لا يقف أمام تفكيره عائق اجتماعي أو مذهبي، بل إنه إذا لمح عائقا استثاره ذلك لتحطيمه!
ألم تسمعه وهو يقول:
«لكل شيء فائدة؛ ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحمي فكري، وتهيج نشاطي، فكان ذلك سببا إلى تواليف لي عظيمة المنفعة، ولولا استثارتهم ساكني، واقتداحهم كامني ما انبعثت لتلك التواليف!».

وأخيرا
: فإن ابن حزم نمط عجيب ولون غريب! حتى في زيه! لأنه هو في نفسه واحد دهره! كل هذا إنما هو غيض في فيض! فهو مالئ الدنيا وشاغل الناس! وما أجرأه على الصدع بما يعتقده! وقد أهملتُ ذكر أشياء عنه إبقاء على نفسي! فلقد كان "يسيل" في موضع "الجمود"، و"يجمد" في موضع "السيلان"! ورغم يبسه في "الماضي"؛ فإنه سال "اليوم" وانثال!

الحاشية:
o انثال: يقال: انثال عليه الناس من كل وجه أي انصبوا. لسان العرب (مادة: ثول).
o الأخلاق والسير لابن حزم.
o الموافقات للشاطبي.
o مقدمة إحسان عباس لكتاب ابن حزم: «الإحكام في أصول الأحكام» طبعة منشورات دار الآفاق الجديدة.
 
التعديل الأخير:

عصام أحمد الكردي

:: متفاعل ::
إنضم
13 فبراير 2012
المشاركات
430
الإقامة
الأردن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو يونس
التخصص
عابد لله
الدولة
الأردن
المدينة
الزرقاء
المذهب الفقهي
ملة إبرهيم حنيفا
رد: مالئ الدنيا، وشاغل الناس! رغم يبسه في "الماضي"؛ ماله سال "اليوم" وانثال؟

المكتبة الإسلامية على شبكة إسلام ويب
ص:
265 ]
كتاب المفلس المفلس هو الذي لا مال له ، ولا ما يدفع به حاجته ، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه { : أتدرون من المفلس ؟ قالوا : يا رسول الله ، المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . قال : ليس ذلك المفلس ، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ، ويأتي وقد ظلم هذا ، ولطم هذا ، وأخذ من عرض هذا ، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن بقي عليه شيء أخذ من سيئاتهم ، فرد عليه ، ثم صك له صك إلى النار } أخرجه مسلم بمعناه فقولهم ذلك إخبار عن حقيقة المفلس ، .....

أسال الله العظيم
أن يجيرنا وإياكم من عاقبة
ذٰلك اليوم .
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
رد: مالئ الدنيا، وشاغل الناس! رغم يبسه في "الماضي"؛ ماله سال "اليوم" وانثال؟

شكر الله لك أخي عصام مشاركتكم، ولو توضح مرادكم من إيراد الحديث....
 
إنضم
21 ديسمبر 2010
المشاركات
396
الإقامة
وهران- الجزائر
الجنس
ذكر
التخصص
الشريعة والقانون
الدولة
الجزائر
المدينة
سعيدة
المذهب الفقهي
مالكي
رد: مالئ الدنيا، وشاغل الناس! رغم يبسه في "الماضي"؛ ماله سال "اليوم" وانثال؟

لا فض فوك الشيخ أبا فراس
فابن حزم كالطود الشامخ في العلم والتحري والتحقيق والبساطة والأدب ... وما يؤخذ عليه هو حدة الطبع التي تبرز من خلال عرضه للمسائل وأقوال المخالفين، وأعجب من حدته رغم باعه في الأدب، وقد قيل من عرف الأدب رق طبعه.

وليت من ينتسب للمذهب الظاهري في العصر الحديث أن يكونوا ذوي أفق واسع كابن حزم يعرفون دليل الخصم ثم يناقشونه وأن يتجنبوا حدته رحمة الله عليه.

و رغم عدم تنبنينا للمذهب الظاهري إلا أننا نقدر آراء ابن حزم رحمه الله التي خالف فيها الجمهور وكانت آراءه أقوى حجة كعلة الربا في الأصناف الست المذكورة في الحديث وتحريم ضرب الوالدين بناء على دلالة اللغة...الخ

وحبذا من يجد في نفسه نشاطا أن يعرض لنا الآراء التي تميز فيها ابن حزم ويبرز لنا كم نسبة تمثل مقارنة بالآراء المرجوحة والشاذة. وبالله التوفيق.
 

عصام أحمد الكردي

:: متفاعل ::
إنضم
13 فبراير 2012
المشاركات
430
الإقامة
الأردن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو يونس
التخصص
عابد لله
الدولة
الأردن
المدينة
الزرقاء
المذهب الفقهي
ملة إبرهيم حنيفا
رد: مالئ الدنيا، وشاغل الناس! رغم يبسه في "الماضي"؛ ماله سال "اليوم" وانثال؟

شكر الله لك أخي عصام مشاركتكم، ولو توضح مرادكم من إيراد الحديث....
بسم الله الرّحمٰن الرّحيم​

لطالما أبحرت من شاطئ ملتقى إدارة وأعضاء الملتقى الفقهي الكريم ، مُشرِّعًا سفينتي بشراعِ محبتي لله ورسوله التي في بحر مواضيع شخصك الكريم ساكنة ، فكيف ولا ، تفسير ذٰلك ، فشخصك الكريم غني عن التعريف فهو ينتمي إلى الهاشمي ومن إثر سيدي وحبيبي محمد صلى الله عليه وسلم إن لم تكن تعلم ، ولٰكن كلما أبحرت أتسائل لما هٰذا البحر يقيس نفسه بالأبحر الأخرى ، يهوج ويموج وبأشباحه مرغمًا إيَّاي على العودة إلى شاطئي شاطئُ الأمان ، وكأنَّه يحمل في ترنيمة غيبته ، للأخرين ظلمًا ، كم أتمنى أن أبقى مبحرًا به ، فهو بحَْرُ سَكِينَةٍ أَصْلُهَا محمد .

قول ليس ذٰلك - في الحديث الشريف : الملتقى الفقهي
قول : ثم صك إليه صك إلى النار / مذاكرة : الملتقى الفقهي
 
إنضم
14 سبتمبر 2012
المشاركات
3
الكنية
أبو عبد الله
التخصص
الفقه وأصوله
المدينة
غرداية
المذهب الفقهي
المالكي
رد: مالئ الدنيا، وشاغل الناس! رغم يبسه في "الماضي"؛ ماله سال "اليوم" وانثال؟

مالئ الدنيا، وشاغل الناس!
رغم يبسه في "الماضي"؛ ماله سال "اليوم" وانثال؟


لِمَ كان ابن حزم حاضرا بقوة في الدراسات العصرية رغم قسوته التي قارعت سيف الحجاج حدة؟ ورغم ظاهريته المفرطة التي أربت على داود الرئيس نفسه! ورغم يبسه في إنكار الأقيسة والمعاني والمفاهيم!
ولِمَ كان هذا الرجل بالذات: فتنة للطلبة في التمرد على مدرسة الأشياخ؟ وملهما في شق عصا الأستاذ؟

«تُرَى ، لِـمَ كل هذه العناية بهذا الذي قال فيه ابن العربي الفقيه ذات يوم: (ِسَخِيفٍ ... مِنْ بادية إشبيلية، يُعْرَفُ بابن حزم!).
لِـمَ كُّلُّ هذه العناية برجلٍ: حَجَرَ على العقل الإنساني أنْ يَقِيْسَ، وأنْ يُعَلِّلَ – في الشؤون الدينية – وحَصَرَ التشريعَ كلَّه في النص، مع أن روح عصرنا تدعو إلى غير هذا).
قد يقول لك العالِـمُ الأسباني: إنني أرى في ابن حزم حَلْقَةً في سلسلة المفكِّرين الأسبان (أي يرى في الرجل نبوغاً قوميّا، ويَـحُسُّ إزاءه برابطة قومية).
وقد يقول لك المتديِّن المشرقي: إني أُحِسُّ حينَ أقرأُ لابنِ حزم أنني أستمدُّ الدينَ مِنْ منابعه الأولى.
وعني أخبرك – كما يقول ابن حزم نفسه : إنَّ إعجابي به إنما اسْتَثَارَه في دورٍ مبكر مِنْ حياتي: حِدَّةُ ذكائه، وقوَّةُ عارضته، ووضوح فِكْرِه، يضاف إلى ذلك كله ضِيْقٌ بالتعليلات الخاطئة، والباطنية المفتعلة، وارتياحٌ إلى البساطة الظاهرية هربًا مِن تشابك الرموز، وتقديرٌ خاص للصراحة والابتعاد عن المواربة، تلك الخصلة التي اتُّهِمَ مِنْ أجلها بأنه كان لا يحسنُ «سياسةَ العلم» ، ولياذٌ «بالبداوة» الخشنة تجنبًا للمواضعات الحضارية الخانِقة.
ولم يكن ابتهاجي بما تَعَلَّمتُه مِن ابن حزم في شتى نواحي المعرفة بأكثر مِن ابتهاجي بما أفدتُه مِنْ منهجه الأكاديمي الدقيق في كل ما يُكْتَبُ ، فأنا لا أعرف كاتبا بين مُفَكِّري العربية يضع بين يديه أطروحة ما ، ثم يعالجها في استيفاء شمولي ، ومنهجية صارمة ، كما يفعل ابن حزم ، يستوي في ذلك كتبه ذات المجلدات العديدة ، ورسائله المطولة وغير المطولة».

هذا إحسان عباس: أديب العربية، أحدُ المعرِّفين الكبار بابن حزم، المشتغلين بكتبه خاصَّة، وبأدب الأندلس عامة.
وبقيت عوامل أخرى:
منها:
أن إنكار الأقيسة لا يمثل إلا جزءا من شخصية ابن حزم الفقهية ؛ بل إن ابن حزم كفقيه إنما هو بعد واحد يسير ضمن أبعاد كثيرة في فلسفته العامة.
ومنها: أن أفقه وإن ضاق من ناحية الأقيسة فإن أفقه متسع جدا في الضفة الأخرى؛ فقد وسع دائرة النص إلى أقصى مدى، واستعمل ضروبا من الأدلة، كالبراءة الأصلية واليقين، ومن هنا استشهد به أستاذ المقاصد: أبو إسحاق الشاطبي في سعة الأدلة رغم ظاهريته ولم تعجزه مسألة عن إدراجها في النص.
ومنها: أن منهجه ركبه فريقان:
الفريق الأول
: اتكأ عليه في توسيع دائرة الإباحة، وغنى به في ليلة قمراء! فإنه يزعم أن ابن حزم كان رائده في الرخصة، ورفيقه في الفسحة، فقد نجح في تضييق دائرة الحرام وتكتيفه في زاوية منحصرة فيما حظره النص! أما ما ابتكر في هذا العصر فإنه لم ينطق به النص!
والفريق الثاني: طار به في رحلة العودة إلى رحابة النص الشرعي بعد الاختناق بقوالب القاعدة والاستثناء واستثناء الاستثناء!
لقد كان ابن حزم يومئذ يغرد خارج السرب؛ فمن خلال النص تصدى بمنهجية مبتكرة لقضايا عصره، وتمخض تفاعله مع مجتمعه: في سجلات تجاربه وتأملاته، ومن هنا فقد قذفت به رسائله الصغيرة ضمن المتصدرين للمشهد التصنيفي كما ونوعا.
وهنا أتساءل: أين الذين أحرقوا كتبه؟ وأين الذين مزقوها؟ وأين الذين طردوه؟ وأين الذي حبسوه؟ وأين الذين تضاحكوا عليه؟ وأين الذين اتهموه بالشذوذ؟
بقي ابن حزم بشذوذاته، وذاب أولئك؛ لأن مثلهم كثير! فأحدهم إن لم يصنع ا لمتن فإنه سيشرحه أو سيكون هو المحشي! فعلام ينشط التاريخ لتخزينه في ذاكرته؟
ومنها: أن اتهام الظاهرية بالقصور في استيعاب القضايا غير المنصوصة كان هاجسا يؤرق ابن حزم؛ فلم يمل ولم يسأم من تقرير شمولية النص، وسعة دائرته الظاهرية، فصنع براميل كبرى من العبارات الشمولية كانت كافية لاستيعاب كميات ضخمة من الإنتاج العصري.
ومنها: أن ابن حزم تشبه كتاباته مقالات أديب معاصر يقص شؤونه اليومية؛ ولك أن تتخيل أنه لم يحتشم من ذكر عيوبه حتى ذكر منها "حركات" كان يفعلها في غرارة الصبا!
وله مناظرات في دكان رجل يهودي! وله مراسلات ضد الطوائف التي فتكت بأندلسه، وناظر الباجي، واحترقت كتبه وطرد من بلدة إلى بلدة وعاش في السجن دهرا، واعتزل في آخر عمره مع طلبته في بلدته لبلة! وكان في كل ذلك في غاية التفاعل...
ومنها: أنه أول إنسان على البسيطة تصدى لنقد "الكتاب المقدس" المحرَّف من داخله، وزرع ألغاما في قراطيسه التقطها الفيلسوف اليهودي الهولندي "اسبينوزا" فتفجرت بيديه فلعنه ذووه إلى أبد الدهر!
ومنها: أنه قد ذاب في العشق والنظر وسماع الملاهي؛ وله أخبار وأي أخبار في أيام صباه سرَّبها في طوق الحمامة، حتى اضطر أن يقسم أجل الأقسام أنه بريء الساحة!
ومن هنا احتفى به المستشرقون والأسبان كعاشق ثائر في "طوق الحمامة"، فترجم كتابه باللغات، وغاص الدارسون في إشاراته.
ومنها: أنه رجل حر لا يقف أمام تفكيره عائق اجتماعي أو مذهبي، بل إنه إذا لمح عائقا استثاره ذلك لتحطيمه!
ألم تسمعه وهو يقول:
«لكل شيء فائدة؛ ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحمي فكري، وتهيج نشاطي، فكان ذلك سببا إلى تواليف لي عظيمة المنفعة، ولولا استثارتهم ساكني، واقتداحهم كامني ما انبعثت لتلك التواليف!».

وأخيرا
: فإن ابن حزم نمط عجيب ولون غريب! حتى في زيه! لأنه هو في نفسه واحد دهره! كل هذا إنما هو غيض في فيض! فهو مالئ الدنيا وشاغل الناس! وما أجرأه على الصدع بما يعتقده! وقد أهملتُ ذكر أشياء عنه إبقاء على نفسي! فلقد كان "يسيل" في موضع "الجمود"، و"يجمد" في موضع "السيلان"! ورغم يبسه في "الماضي"؛ فإنه سال "اليوم" وانثال!

الحاشية:
o انثال: يقال: انثال عليه الناس من كل وجه أي انصبوا. لسان العرب (مادة: ثول).
o الأخلاق والسير لابن حزم.
o الموافقات للشاطبي.
o مقدمة إحسان عباس لكتاب ابن حزم: «الإحكام في أصول الأحكام» طبعة منشورات دار الآفاق الجديدة.

مالئ الدنيا، وشاغل الناس والله صدقت فهو وحيد دهره وفريد عصره رحمه الله فكم كان ناصرا للدين ذابا عن النصوص
بارك الله فيكم ونأمل أن توافنا بالمزيد عن هذا العلم ويا حبذا في منهجه الاصولي
 
أعلى