شهاب الدين الإدريسي
:: عضو مؤسس ::
- إنضم
- 20 سبتمبر 2008
- المشاركات
- 376
- التخصص
- التفسير وعلوم القرآن
- المدينة
- مكناس
- المذهب الفقهي
- مالكي
لعل أهم الأصول التي انفرد بما الإمام مالك واعتبرها من مصادر فقه الأحكام والفتاوى هو عمل أهل المدينة، لذا اهتم به ودافع عنه في رسالته إلى الليث بن سعد. وهذه الرسالة تعد وثيقة أصولية مهمة تمثل الفكر الأصولي في معالمه واتجاهاته والذي أخذ طريقه إلى التدوين الأولي.
إن عمل أهل المدينة غير الإجماع؛ لأن رسالته إلى الليث بن سعد (1) يفهم منها صراحة أنه يقصد ما هو سنة مأثورة مشهورة. وعلى هذا القول كثير من العلماء منهم "القاضي عياض" و"الباجي" و"ابن القيم" و"ابن خلدون" وغيرهم.
والعلماء يقسمون عمل أهل المدينة إلى أنواع يجمعها قسمان رئيسان: أحدهما يرجع إلى السنة والثاني يرجع إلى الرأي(2) .
وتعتبر رسالة مالك إلى الليث بن سعد في الإحتجاج بعمل أهل المدينة أول رسالة في الأصول، كتبها مالك بنفسه يناصر مذهب أهل المدينة، ويقدم الحجج والبراهين للأخذ بعمل أهل المدينة.
ولعل من الأسباب(3) التي دفعت مالكا إلى اعتبار عمل أهل المدينة حجة كما يفهم من رسالته هذه، ما يلي:
*- إن للمدينة المنورة اعتبارا خاصا لا تشاركها فيه مدن الأمصار الأخرى فهي دار الإسلام الأولى، ومهبط الوحي، وأرض ضمت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومركز الخلافة الراشدة، وموطن أكثر الصحابة الأجلاء علما وعملا، ومنزل أفاضل العلماء من التابعين وتابعيهم.
*- إنه كان يرى أن عمل أهل المدينة توارثوه جماعة عن جماعة وهو بمنزلة الرواية وهم أقرب من مواقع الوحي وأجدر بالحفاظ عليه.
*- كما كانت المدينة تعج بالصحابة وعلمائهم، فهي دار سنة وحديث وفتوى الصحابة وكبار التابعين من بعدهم.
*- إن الأحاديث الواردة في فضل المدينة ومكانتها في الإسلام تجعل عمل أهلها أجدر بالاتباع ونقل مالك إجماع أهل المدينة في موطئه على نيف وأربعين مسألة.
تقسيمات عمل أهل المدينة
لقد قسم الإمام "الباجي" عمل المدينة إلى قسمين :
- قسم طريقه النقل الذي يحمل معنى التواتر كمسألة الأذان، ومسألة الصاع وترك إخراج الزكاة من الخضروات، وغير ذلك من المسائل التي طريقها النقل واتصل العمل بها في المدينة على وجه لا يخفى مثله، ونقل نقلا يحج ويقطع العذر. (4)
- وقسم نقل من طريق الآحاد، أو ما أدركوه بالإستنباط والإجتهاد. قال الباجي: "وهذا لا فرق بين علماء المدينة، وعلماء غيرهم من أن المصير منه إلى ماعضده الدليل والترجيح. ولذلك خالف مالك في مسائل عدة أقوال أهل المدينة(5) .
وقد قام القاضي عياض بتأكيد ما ذكره الإمام الباجي مفصلا ذلك، حيث قسم النوع الأول وهو ما يرجع إلى النقل فيه من عمل أهل المدينة إلى أربعة أنواع:
- إما نقل شرع عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل.
- وإما نقل إقرار منه عليه السلام.
- وإما نقل ترك منه عليه السلام.
- وإما نقل أعيان وتعيين الأماكن، كنقلهم موضع قبره صلى الله عليه وسلم ومسجده ومنبره وغير ذلك(6) .
وتناول النوع الثاني وهو العمل المبني على اجتهاد واستدلال، مبينا الخلاف الحاصل في قبوله ورفضه سواء داخل المذهب أو خارجه، وأهم ما ذكره مسألة الترجيح بين عمل أهل المدينة وخبر الآحاد قائلا: "ولا يخلو عمل أهل المدينة مع أخبار الآحاد من ثلاثة أوجه:
1- إما أن يكون مطابقا لها، فهذا آكد في صحتها إن كان من طريق النقل، أو ترجيحها إن كان من طريق الاجتهاد فلا خلاف في هذا، إذ لا يعارضه هنا اجتهاد آخر، وقياسهم عند من يقدم القياس على خبر الواحد.
2- وإن كان مطابقا لخبر يعارض خبراً آخر، كان عملهم مرجحا لخبرهم، وهو أقوى ما ترجح به الأخبار إذا تعارضت.
فإذا كان إجماعهم من طريق النقل ترك له الخبر بغير خلاف عندنا في هذا، ولا التفات إليه، إذ لا يترك القطع واليقين لغلبة الظنون، وما عليه الاتفاق لما فيه الخلاف(7).
وكان انفراد المالكية بهذا الأصل سببا في اختلافهم مع غيرهم من العلماء من المذاهب الأخرى في كثير من الفروع الفقهية.
ولعل مالكا رضي الله عنه أكثر الأئمة الأربعة ذكرا للإجماع واحتجاجا به، والموطأ خير شاهد على ذلك.
الإمام مالك بين فكرة الإجماع وإجماع أهل المدينة
إن مدلول كلمة الإجماع عند مالك قد حدده في قوله: "وما كان فيه الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه أهل الفقه والعلم ولم يختلفوا فيه(8). "هذا هو اتفاق أهل الحل والعقد من هذه الأمة في أمر من الأمور ونعني بالإتفاق الإشتراك إما في القول أو في الفعل أو في الإعتقاد. وبأهل الحل والعقد المجتهدين في الأحكام الشرعية"(9) .
هذا هو الإجماع الذي يحتج به مالك رضي الله عنه، ونرى الإحتجاج به كثيرا في كتاب "الموطأ" في المسائل التي لا يعتمد فيها على النص، أو يحتاج النص عنده إلى التفسير، أو تكون الآية دلالتها من قبيل الظاهر الذي يقبل الإحتمال و التخصيص. قال ابن القصار: "مذهب مالك رحمه الله وغيره من الفقهاء: أن إجماع الأعصار حجة".(10)
والإجماع عند المالكية غير خاص بالصحابة والتابعين، وإجماع التابعين على أحد أقوال الصحابة يعتبر إجماعا..
بين فكرة الإجماع وإجماع أهل المدينة
بتتبعنا للمصطلحات التي وظفها مالك في موطئه ندرك أنه يجعل نوعا من التفرقة بين الإجماع وإجماع أهل المدينة، يدل على ذلك قوله: "وما كان فيه "الأمر المجتمع عليه" فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعلم ولم يختلفوا فيه"، وما قلت في "الأمر عندنا" فهو ما عمل الناس به عندنا وجرت به الأحكام وعرفه الجاهل والعالم" (11) .
ولذلك نجد "القرافي" يعد أصول مذهب مالك فيعد الإجماع حجة وحده ويعد ما عليه عمل أهل المدينة حجة أخرى فيقول: "الأدلة هي الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإجماع أهل المدينة." (12)
---------------------------------------------
الهوامش:
(1)- انظر رسالة مالك إلى الليث - ترتيب المدارك وتقريب المسالك - ج1 من ص: 41 إلى ص: 43. طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب.
(2)- المصدر نفسه/ 47 - 481.
(3) - انظر هذه الأسباب في ترتيب المدارك -ج1/36 وما يليها.
(4) - انظر إحكام الفصول في أحكام الأصول، لأبي الوليد الباجي، ص: 480، تحقيق عبد المجيد تركي. دار الغرب الإسلامي. الطبعة الأولى: 1407هـ/1987م.
(5) - المصدر نفسه: ص: 481.
(6) - انظر ترتيب المدارك 1/74 وما بعدها.
(7) - ترتيب المدارك ج1/51 وما بعدها.
(8)- الموطأـ مالك بن أنس، ج2 - ص: 34.
(9) - شرح تنقيح الفصول، لشهاب الدين القرافي، ص: 322، تحقيق طه عبد الرؤوف سعيد، دار الفكر، الطبعة الولى: 1393هـ/1973م.
(10) المقدمة في أصول الفقه، لأبي الحسين بن القصار، ص: 161. قرأها وعلق عليها محمد بن الحسين السليماني. دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى: 1996م.
11 - ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض، 2/74. طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب.
(12) - شرح تنقيح الفصول لشهاب الدين القرافي، ص: 445.
إن عمل أهل المدينة غير الإجماع؛ لأن رسالته إلى الليث بن سعد (1) يفهم منها صراحة أنه يقصد ما هو سنة مأثورة مشهورة. وعلى هذا القول كثير من العلماء منهم "القاضي عياض" و"الباجي" و"ابن القيم" و"ابن خلدون" وغيرهم.
والعلماء يقسمون عمل أهل المدينة إلى أنواع يجمعها قسمان رئيسان: أحدهما يرجع إلى السنة والثاني يرجع إلى الرأي(2) .
وتعتبر رسالة مالك إلى الليث بن سعد في الإحتجاج بعمل أهل المدينة أول رسالة في الأصول، كتبها مالك بنفسه يناصر مذهب أهل المدينة، ويقدم الحجج والبراهين للأخذ بعمل أهل المدينة.
ولعل من الأسباب(3) التي دفعت مالكا إلى اعتبار عمل أهل المدينة حجة كما يفهم من رسالته هذه، ما يلي:
*- إن للمدينة المنورة اعتبارا خاصا لا تشاركها فيه مدن الأمصار الأخرى فهي دار الإسلام الأولى، ومهبط الوحي، وأرض ضمت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومركز الخلافة الراشدة، وموطن أكثر الصحابة الأجلاء علما وعملا، ومنزل أفاضل العلماء من التابعين وتابعيهم.
*- إنه كان يرى أن عمل أهل المدينة توارثوه جماعة عن جماعة وهو بمنزلة الرواية وهم أقرب من مواقع الوحي وأجدر بالحفاظ عليه.
*- كما كانت المدينة تعج بالصحابة وعلمائهم، فهي دار سنة وحديث وفتوى الصحابة وكبار التابعين من بعدهم.
*- إن الأحاديث الواردة في فضل المدينة ومكانتها في الإسلام تجعل عمل أهلها أجدر بالاتباع ونقل مالك إجماع أهل المدينة في موطئه على نيف وأربعين مسألة.
تقسيمات عمل أهل المدينة
لقد قسم الإمام "الباجي" عمل المدينة إلى قسمين :
- قسم طريقه النقل الذي يحمل معنى التواتر كمسألة الأذان، ومسألة الصاع وترك إخراج الزكاة من الخضروات، وغير ذلك من المسائل التي طريقها النقل واتصل العمل بها في المدينة على وجه لا يخفى مثله، ونقل نقلا يحج ويقطع العذر. (4)
- وقسم نقل من طريق الآحاد، أو ما أدركوه بالإستنباط والإجتهاد. قال الباجي: "وهذا لا فرق بين علماء المدينة، وعلماء غيرهم من أن المصير منه إلى ماعضده الدليل والترجيح. ولذلك خالف مالك في مسائل عدة أقوال أهل المدينة(5) .
وقد قام القاضي عياض بتأكيد ما ذكره الإمام الباجي مفصلا ذلك، حيث قسم النوع الأول وهو ما يرجع إلى النقل فيه من عمل أهل المدينة إلى أربعة أنواع:
- إما نقل شرع عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل.
- وإما نقل إقرار منه عليه السلام.
- وإما نقل ترك منه عليه السلام.
- وإما نقل أعيان وتعيين الأماكن، كنقلهم موضع قبره صلى الله عليه وسلم ومسجده ومنبره وغير ذلك(6) .
وتناول النوع الثاني وهو العمل المبني على اجتهاد واستدلال، مبينا الخلاف الحاصل في قبوله ورفضه سواء داخل المذهب أو خارجه، وأهم ما ذكره مسألة الترجيح بين عمل أهل المدينة وخبر الآحاد قائلا: "ولا يخلو عمل أهل المدينة مع أخبار الآحاد من ثلاثة أوجه:
1- إما أن يكون مطابقا لها، فهذا آكد في صحتها إن كان من طريق النقل، أو ترجيحها إن كان من طريق الاجتهاد فلا خلاف في هذا، إذ لا يعارضه هنا اجتهاد آخر، وقياسهم عند من يقدم القياس على خبر الواحد.
2- وإن كان مطابقا لخبر يعارض خبراً آخر، كان عملهم مرجحا لخبرهم، وهو أقوى ما ترجح به الأخبار إذا تعارضت.
فإذا كان إجماعهم من طريق النقل ترك له الخبر بغير خلاف عندنا في هذا، ولا التفات إليه، إذ لا يترك القطع واليقين لغلبة الظنون، وما عليه الاتفاق لما فيه الخلاف(7).
وكان انفراد المالكية بهذا الأصل سببا في اختلافهم مع غيرهم من العلماء من المذاهب الأخرى في كثير من الفروع الفقهية.
ولعل مالكا رضي الله عنه أكثر الأئمة الأربعة ذكرا للإجماع واحتجاجا به، والموطأ خير شاهد على ذلك.
الإمام مالك بين فكرة الإجماع وإجماع أهل المدينة
إن مدلول كلمة الإجماع عند مالك قد حدده في قوله: "وما كان فيه الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه أهل الفقه والعلم ولم يختلفوا فيه(8). "هذا هو اتفاق أهل الحل والعقد من هذه الأمة في أمر من الأمور ونعني بالإتفاق الإشتراك إما في القول أو في الفعل أو في الإعتقاد. وبأهل الحل والعقد المجتهدين في الأحكام الشرعية"(9) .
هذا هو الإجماع الذي يحتج به مالك رضي الله عنه، ونرى الإحتجاج به كثيرا في كتاب "الموطأ" في المسائل التي لا يعتمد فيها على النص، أو يحتاج النص عنده إلى التفسير، أو تكون الآية دلالتها من قبيل الظاهر الذي يقبل الإحتمال و التخصيص. قال ابن القصار: "مذهب مالك رحمه الله وغيره من الفقهاء: أن إجماع الأعصار حجة".(10)
والإجماع عند المالكية غير خاص بالصحابة والتابعين، وإجماع التابعين على أحد أقوال الصحابة يعتبر إجماعا..
بين فكرة الإجماع وإجماع أهل المدينة
بتتبعنا للمصطلحات التي وظفها مالك في موطئه ندرك أنه يجعل نوعا من التفرقة بين الإجماع وإجماع أهل المدينة، يدل على ذلك قوله: "وما كان فيه "الأمر المجتمع عليه" فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعلم ولم يختلفوا فيه"، وما قلت في "الأمر عندنا" فهو ما عمل الناس به عندنا وجرت به الأحكام وعرفه الجاهل والعالم" (11) .
ولذلك نجد "القرافي" يعد أصول مذهب مالك فيعد الإجماع حجة وحده ويعد ما عليه عمل أهل المدينة حجة أخرى فيقول: "الأدلة هي الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإجماع أهل المدينة." (12)
---------------------------------------------
الهوامش:
(1)- انظر رسالة مالك إلى الليث - ترتيب المدارك وتقريب المسالك - ج1 من ص: 41 إلى ص: 43. طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب.
(2)- المصدر نفسه/ 47 - 481.
(3) - انظر هذه الأسباب في ترتيب المدارك -ج1/36 وما يليها.
(4) - انظر إحكام الفصول في أحكام الأصول، لأبي الوليد الباجي، ص: 480، تحقيق عبد المجيد تركي. دار الغرب الإسلامي. الطبعة الأولى: 1407هـ/1987م.
(5) - المصدر نفسه: ص: 481.
(6) - انظر ترتيب المدارك 1/74 وما بعدها.
(7) - ترتيب المدارك ج1/51 وما بعدها.
(8)- الموطأـ مالك بن أنس، ج2 - ص: 34.
(9) - شرح تنقيح الفصول، لشهاب الدين القرافي، ص: 322، تحقيق طه عبد الرؤوف سعيد، دار الفكر، الطبعة الولى: 1393هـ/1973م.
(10) المقدمة في أصول الفقه، لأبي الحسين بن القصار، ص: 161. قرأها وعلق عليها محمد بن الحسين السليماني. دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى: 1996م.
11 - ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض، 2/74. طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب.
(12) - شرح تنقيح الفصول لشهاب الدين القرافي، ص: 445.
التعديل الأخير: