رد: ما هو الفرق بين المسكر والمفتر والخدر عند السادة الشافعية ؟
فتاوى ابن حجر الهيتمي:
فَأَقُولُ أَمَّا جَوْزَةُ الطِّيبِ فَقَدْ اسْتَفْتَيْت عَنْهَا قَدِيمًا وَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَظَفِرْتُ فِيهَا بِمَا لَمْ يَظْفَرُوا بِهِ فَإِنَّ جَمْعًا مِنْ مَشَايِخِنَا وَغَيْرِهِمْ اخْتَلَفُوا فِيهَا وَكُلٌّ لَمْ يُبْدِ مَا قَالَهُ فِيهَا إلَّا عَلَى جِهَةِ الْبَحْثِ لَا النَّقْلِ وَلَمَّا عُرِضَ عَلَيَّ السُّؤَالُ أَجَبْت فِيهَا بِالنَّقْلِ وَأَيَّدْتُهُ وَتَعَرَّضْت فِيهِ لِلرَّدِّ عَلَى بَعْضِ الْأَكَابِرِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ
وَصُورَةُ السُّؤَالِ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ , أَوْ مُقَلِّدِيهِمْ بِتَحْرِيمِ أَكْلِ جَوْزَةِ الطِّيبِ , أَوْ لَا وَهَلْ يَجُوزُ لِبَعْضِ طَلَبَةِ الْعِلْمِ الْأَخْذُ بِتَحْرِيمِ أَكْلِهَا وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى نَقْلٍ لِأَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ فَهَلْ يَجِبُ الِانْقِيَادُ وَالِامْتِثَالُ لِفُتْيَاهُ أَمْ لَا؟
فَأَجَبْت بِقَوْلِي الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إنَّهَا مُسْكِرَةٌ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَاعْتَمَدُوهُ وَنَاهِيك بِذَلِكَ بَلْ بَالَغَ ابْنُ الْعِمَادِ فَجَعَلَ الْحَشِيشَةَ مَقِيسَةً عَلَى الْجَوْزَةِ الْمَذْكُورَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا حَكَى عَنْ الْقَرَافِيِّ نَقْلًا عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ عَصْرِهِ أَنَّهُ فَرَّقَ فِي إنْكَارِهِ الْحَشِيشَةَ بَيْنَ كَوْنِهَا وَرَقًا أَخْضَرَ فَلَا إسْكَارَ فِيهَا بِخِلَافِهَا بَعْدَ التَّحْمِيصِ فَإِنَّهَا تُسْكِرُ . قَالَ وَالصَّوَابُ إنَّهُ لَا فَرْقَ ; لِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِجَوْزَةِ الطِّيبِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْعَنْبَرِ وَالْأَفْيُونِ وَالشَّيْكَرَانِ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الْبَنْجُ وَهُوَ مِنْ الْمُخَدِّرَاتِ الْمُسْكِرَاتِ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَسْطَلَّانِيِّ فِي تَكْرِيمِ الْمَعِيشَةِ ا هـ . فَتَأَمَّلْ تَعْبِيرَهُ وَالصَّوَابُ جَعْلُهُ الْحَشِيشَةَ الَّتِي أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِهَا لِإِسْكَارِهَا وَتَخْدِيرِهَا مَقِيسَةً عَلَى الْجَوْزَةِ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مِرْيَةَ فِي تَحْرِيمِ الْجَوْزَةِ لِإِسْكَارِهَا أَوْ تَخْدِيرِهَا وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى إسْكَارِهَا الْحَنَابِلَةَ بِنَصِّ إمَامِ مُتَأَخِّرِيهِمْ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَتَبِعُوهُ عَلَى أَنَّهَا مُسْكِرَةٌ وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ فَفِي فَتَاوَى الْمَرْغِينَانِيِّ مِنْهُمْ الْمُسْكِرُ مِنْ الْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ أَيْ أَنَاثِيِّ الْخَيْلِ حَرَامٌ وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو حَفْصٍ وَنَصَّ عَلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ ا هـ .
وَقَدْ عَلِمْت مِنْ كَلَامِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْجَوْزَةَ كَالْبَنْجِ فَإِذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِإِسْكَارِهِ لَزِمَهُمْ الْقَوْلُ بِإِسْكَارِ الْجَوْزَةِ فَثَبَتَ بِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا حَرَامٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِالنَّصِّ وَالْحَنَفِيَّةُ بِالِاقْتِضَاءِ أَنَّهَا إمَّا مُسْكِرَةٌ أَوْ مُخَدِّرَةٌ .
وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي الْحَشِيشَةِ الْمَقِيسَةِ عَلَى الْجَوْزَةِ عَلَى مَا مَرَّ
وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ التَّذْكِرَةِ وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إنَّهَا مُسْكِرَةٌ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَلَا نَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا عِنْدَنَا وَقَدْ يَدْخُلُ فِي حَدِّهِمْ السَّكْرَانُ بِأَنَّهُ الَّذِي اخْتَلَطَ كَلَامُهُ الْمَنْظُومُ وَانْكَشَفَ سِرُّهُ الْمَكْتُومُ , أَوْ الَّذِي لَا يَعْرِفُ السَّمَاءَ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا الطُّولَ مِنْ الْعَرْضِ . ثُمَّ نُقِلَ عَنْ الْعِرَاقِيِّ أَنَّهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ فَنَفَى عَنْهَا الْإِسْكَارَ وَأَثْبَتَ لَهَا الْإِفْسَادَ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَأَطَالَ فِي تَخْطِئَتِهِ وَتَغْلِيظِهِ
وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى إسْكَارِهَا أَيْضًا الْعُلَمَاءُ بِالنَّبَاتِ مِنْ الْأَطِبَّاءِ وَإِلَيْهِمْ الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَتَبِعَهُ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي مَذْهَبِهِ
وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ خِلَافُ الْإِطْلَاقَيْنِ الْإِسْكَارِ إطْلَاقِ وَإِطْلَاقِ الْإِفْسَادِ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِسْكَارَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ تَغْطِيَةِ الْعَقْلِ وَهَذَا إطْلَاقٌ أَعَمُّ وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ تَغْطِيَةُ الْعَقْلِ مَعَ نَشْأَةٍ وَطَرَبٍ وَهَذَا إطْلَاقٌ أَخَصُّ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْإِسْكَارِ حَيْثُ أُطْلِقَ فَعَلَى الْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ بَيْنَ الْمُسْكِرِ وَالْمُخَدِّرِ عُمُومُ مُطْلَقٍ إذْ كُلُّ مُخَدِّرٍ مُسْكِرٍ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْكِرٍ مُخَدِّرًا فَإِطْلَاقُ الْإِسْكَارِ عَلَى الْحَشِيشَةِ وَالْجَوْزَةِ وَنَحْوِهِمَا الْمُرَادُ مِنْهُ التَّخْدِيرُ وَمَنْ نَفَاهُ عَنْ ذَلِكَ أَرَادَ بِهِ مَعْنَاهُ الْأَخَصَّ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مِنْ شَأْنِ السُّكْرِ بِنَحْوِ الْخَمْرِ أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ عَنْهُ النَّشْأَةُ وَالطَّرَبُ وَالْعَرْبَدَةُ وَالْغَضَبُ وَالْحَمِيَّةُ وَمِنْ شَأْنِ السُّكْرِ بِنَحْوِ الْحَشِيشَةِ وَالْجَوْزَةِ أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ عَنْهُ أَضْدَادُ ذَلِكَ مِنْ تَخْدِيرِ الْبَدَنِ وَفُتُورِهِ وَمِنْ طُولِ السُّكُوتِ وَالنَّوْمِ وَعَدَمِ الْحَمِيَّةِ .
وَبِقَوْلِي مِنْ شَأْنٍ فِيهِمَا يُعْلَمُ رَدُّ مَا أَوْرَدَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَلَى الْقَرَافِيِّ مِنْ أَنَّ بَعْضَ شَرَبَةِ الْخَمْرِ يُوجَدُ فِيهِ مَا ذُكِرَ فِي نَحْوِ الْحَشِيشَةِ وَبَعْضُ أَكَلَةِ نَحْوِ الْحَشِيشَةِ يُوجَدُ فِيهِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْخَمْرِ وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ مَا نِيطَ بِالْمَظِنَّةِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ خُرُوجُ بَعْضِ الْأَفْرَادِ كَمَا أَنَّ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ لَمَّا نِيطَ بِمَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ جَازَ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ الْمَشَقَّةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ فَاتَّضَحَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ عَبَّرَ فِي نَحْوِ الْحَشِيشَةِ بِالْإِسْكَارِ وَمَنْ عَبَّرَ بِالتَّخْدِيرِ وَالْإِفْسَادِ وَالْمُرَادُ بِهِ إفْسَادٌ خَاصٌّ هُوَ مَا سَبَقَ . فَانْدَفَعَ بِهِ قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِهِ يَشْمَلُ الْجُنُونَ وَالْإِغْمَاءَ لِأَنَّهُمَا مُفْسِدَانِ لِلْعَقْلِ أَيْضًا
فَظَهَرَ بِمَا تَقَرَّرَ صِحَّةُ قَوْلِ الْفَقِيهِ الْمَذْكُورِ فِي السُّؤَالِ إنَّهَا مُخَدِّرَةٌ وَبُطْلَانُ قَوْلِ مِنْ نَازَعَهُ فِي ذَلِكَ لَكِنْ إنْ كَانَ لِجَهْلِهِ عُذِّرَ وَبَعْدَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْعُلَمَاءِ مَتَى زَعَمَ حِلَّهَا , أَوْ عَدَمَ تَخْدِيرِهَا وَإِسْكَارِهَا يُعَزَّرُ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ الزَّاجِرَ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ بَلْ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَأَقَرَّهُ أَهْلُ مَذْهَبِهِ مَنْ زَعَمَ حِلَّ الْحَشِيشَةِ كَفَرَ فَلْيَحْذَرْ الْإِنْسَانُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ عِنْدَ أَئِمَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ الْمُعَظَّمِ وَعَجِيبٌ مِمَّنْ خَاطَرَ بِاسْتِعْمَالِ الْجَوْزَةِ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ وَالْإِثْمِ لِأَغْرَاضِهِ الْفَاسِدَةِ عَلَى تِلْكَ الْأَغْرَاضِ الَّتِي يَحْصُلُ جَمِيعُهَا بِغَيْرِهَا . فَقَدْ صَرَّحَ رَئِيسُ الْأَطِبَّاءِ ابْنُ سِينَا فِي قَانُونِهِ بِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهَا وَزْنُهَا وَنِصْفُ وَزْنِهَا مِنْ السُّنْبُلِ فَمَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ مِنْهَا قَدْرًا مَا ثُمَّ اسْتَعْمَلَ وَزْنَهُ وَنِصْفَ وَزْنِهِ مِنْ السُّنْبُلِ حَصَلَتْ لَهُ جَمِيعُ أَغْرَاضِهِ مَعَ السَّلَامَةِ عَنْ الْإِثْمِ وَالتَّعَرُّضِ لِعِقَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أَنَّ فِيهَا بَعْضَ مَضَارَّ بِالرِّئَةِ ذَكَرَهَا بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ وَقَدْ خَلَى السُّنْبُلُ عَنْ تِلْكَ الْمَضَارِّ وَقَدْ حَصَلَ بِهِ مَقْصُودُهَا وَزَادَ عَلَيْهَا بِالسَّلَامَةِ مِنْ مَضَارِّهَا الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ا هـ . جَوَابِي فِي الْجَوْزَةِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى نَفَائِسَ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْكِتَابِ بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي حُرْمَةِ الْقَاتِ لِأَنَّ النَّاس مُخْتَلِفُونَ فِي تَأْثِيرِ الْجَوْزَةِ أَيْضًا فَبَعْضُ آكِلِيهَا يُثْبِتُ لَهَا تَخْدِيرًا وَبَعْضُهُمْ لَا يُثْبِتُ لَهَا ذَلِكَ فَإِذَا حَرَّمَهَا الْأَئِمَّةُ مَعَ اخْتِلَافِ آكِلِيهَا فِي تَأْثِيرِهَا فَلْيُحَرِّمُوا الْقَاتَّ وَلَا نَظَرَ لِلِاخْتِلَافِ فِي تَأْثِيرِهَا لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْجَوْزَةَ نَظَرَ فِيهَا وَحَرَّمَهَا مَنْ يُعْتَدُّ بِنَظَرِهِمْ وَبِتَجْرِبَتِهِمْ حَتَّى عَلِمُوا أَنَّ التَّخْدِيرَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَهَا فَلِهَذَا حَكَمُوا بِأَنَّهَا مُخَدِّرَةٌ لِذَاتِهَا وَأَعْرَضُوا عَمَّنْ لَمْ يَرَ مِنْهَا تَخْدِيرًا وَلَوْ تَمَّ ذَلِكَ فِي الْقَاتِ لَأَلْحَقْنَاهُ بِهَا لَكِنَّهُ لَمْ يَتِمَّ كَمَا قَدَّمْتُهُ .