عمرو بن الحسن المصري
:: نشيط ::
- إنضم
- 30 سبتمبر 2012
- المشاركات
- 685
- التخصص
- طالب جامعي
- المدينة
- القاهرة
- المذهب الفقهي
- حنفي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا مُحمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
فقد طرحتُ موضوعًا في آواخر العام السابق جمعتُ فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتاب الحج بعنوان: ’’المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ الحَجِّ)‘‘، ثم أتبعتُه بموضوعٍ في أوائل هذا العام جمعتُ فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتابي الطهارة والصلاة بعنوان: ’’المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)‘‘، وأطرحُ الآن بين أيديكم هذا الموضوع وقد جمعتُ فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتاب البُيُوع، ..
.. والتزمت بعرض الخلاف الفقهي في المسائل إجمالًا ابتداءً ثم بالتفصيل بنقل بعض العبارات عن كل مذهب، وذلك بالرجوع إلى المصادر المعتمدة لكل مذهب لتوثيق حكاية المذهب؛ لأنني كثيرًا ما وقفت على تناقض في كتب الخلاف في حكاية المذهب الواحد، فعزمت على نفسي ألا أنسب قولًا لمذهب إلا بالرجوع إلى مصادره، ولم أكتفِ بذلك بل ذكرتُ من كلامهم بعض العبارات الدالة على هذا المذهب. كما التزمت غالبًا بذكر أدلة كل مذهب من خلال كتبه، مع الرجوع إلى مصدر كل حديث مذكور حفاظًا على ألفاظ الحديث النبوي؛ لأن كثيرًا من كتب الفقه تذكر الأحاديث بالمعنى، مع الالتزام بتخريج جميع الأحاديث والآثار وذكر بعض عللها وذكر أقوال أئمة الجرح والتعديل في رواتها المُتكلم فيهم، مع ذكر الاعتراضات على الأدلة من أقوال أهل العلم. وعامة هذه المسائل من كتاب الحج اخترتها على وفق اختيار الإمام ابن أبي شيبة -رحمه الله- في كتابه "الرد على أبي حنيفة مما خالف فيه الأثر الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ضمن مصنفه، وهذا العمل نقلته من كتاب "منهج الحنفية في نقد الحديث" للدكتور/ كيلاني محمد خليفة، الصفحات (419- 430) -الصفحات 431- 448-.
أولًا/ مُسْأَلَةُ بَيْعِ الْمُدَبِّرِ
تعريف التدبير: يقال دَبَّرْتُ العبد إذا علقت عتقه بموتك، وهو التدبير: أي أنه يُعتلق بعدما يدبره سيده ويموت - راجع النهاية (2/ 98).(1) حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: دَبَّرَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ غُلامًا لَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَاعَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَاشْتَرَاهُ ابْنُ النذَجَّامِ عَبْدًا قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ الأَوَّلِ فِي إِمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْر. أخرجه البخاري (2231)، ومسلم (997).
(2) حدَّثنا شَرِيكٌ عن سَلَمَةَ عَن عَطَاءٍ وَأَبي الزُّبَيْرِ عن جَابرٍ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بَاعَ مُدَبَّرًا بِسْمِ اللهِ. أخرجه البخاري (2230).
وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لا يُبَاعُ.
***
فالتدبير نوعٌ من أنواعِ العتيق، يؤدي إلى حرية المدبر بعد موت من دبره، والشارع يحرص على تحرير الرقاب والتدبير طريقة ميسرة لذلك؛ لأنه تدوم معه منفعة الرقيق مدة حياته ثم يكون قربة له بعد وفاته.
ويعتق المدبر بعد الموت من ثلث المال في قول أكثر أهل العلم، ويعتق من جميع مال الميت في قول ابن مسعود وغيره.
والفقهاء مختلفون في الآثار التي تترتب على التدبير، فذهب الحنفية والمالكية وهو رواية عن أحمد إلى أنه لا يباع ولا يوهب ولا يرهن ولا يخرج من الملك إلا بالإعتاق أو الكتابة ويستخدم ويستأجر، ومولاه أحق بكسبه وأرشه.
وذهب الشافعية والظاهرية وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد أنه يباع مطلقًا في الدين وغيره، وعند حاجة السيد إلى بيعه وعدمها - الموسوعة الفقهية (11/ 124).
قال في الهداية: لا يجوز بيع المدبر، ولا هبته ولا إخراجه عن ملكه إلا إلى الحرية، كما في الكتابة، وقال الشافعي: يجوز؛ لأنه تعليق العتق بالشرط فلا يمتنع به البيع والهبة كما في سائر التعليقات، وكما في المدبر المقيد؛ ولأن التدبير وصية وهي غير مانعة من ذلك. ولنا قوله صلى الله عليه وسلم: (المدبر لا يباع ولا يوهب ولا يورث وهو حر من الثلث). ولأنه سبب الحرية؛ لأن الحرية تثبت بعد الموت ولا سبب غيره، ثم جعْلُهُ سببًا في الحال أَوْلَى لوجوده في الحال وعدمه بعد الموت، ولأن ما بعد الموت حال بطلان أهلية التصرف فلا يمكن تأخير السببية إلى زمان بطلان الأهلية بخلاف سائر التعليقات. اهـ. الهداية وشروحها: فتح القدير (5/ 20)، والعناية (5/ 22)، ونصب الراية (4/ 25)، وراجع: المبسوط (7/ 178)، وبدائع الصنائع (4/ 120)، والبحر الرائق (4/ 288)، وتبيين الحقائق (3/ 98).
وقال مالك -كما في المنتقى شرح الموطأ (7/ 45)-: لا يجوز بيع المدبر ولا يجوز لأحد أن يشتريه إلا أن يشتري المدبر نفسه من سيده فيكون ذلك جائزًا له، أو يعطي أحد سيد المدبر مالًا ويعتقه سيده الذي دبره فذلك يجوز له أيضًا، قال مالك: وولاؤه لسيده الذي دبره. اهـ. وراجع: التاج والإكليل (8/ 461)، ومواهب الجليل (6/ 342)، وشرح مختصر خليل للخرشي (8/ 133).
وقال النووي في المجموع شرح المذهب (9/ 292): مذهبنا جواز بيع المدبر، سواء أكاد محتاجًا إلى ثمنه أم لا، سواء أكان على سيده دين أم لا، وسواء كان التدبير مطلقًا أو مقيدًا هذا مذهبنا، وبه قالت عائشة أم المؤمنين ومجاهد وطاوس وعمر بن عبدالعزيز وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وغيرهم. وقال الحسن وعطاء: يجوز إذا احتاج إلى ثمنه سيده. وقال أيو حنيفة: إن كان تدبيرًا مطلقًا لم يجز، وإن كان مقيدًا بأن يقول: إن مت من مرضي هذا فأنت حر جاز. وقال مالك: لا يجوز مطلقًا، وهو رواية عن أبي حنيفة وبه قال سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري، ونقله القاضي عياض عن جمهور العلماء من السلف وغيرهم من أهل الحجاز والشام والكوفة. واحتجوا بالقياس على أم الولد، واحتج أصحابنا بحديث جابر المذكور في الكتاب، وقد بيناه وبالقياس على الموصي بعتقه فإنه يجوز بيعه بالإجماع، والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ. وراجع المنهاج وشروحه: مغني المحتاج (6/ 473)، ونهاية المحتاج (8/ 401)، وتحفة المحتاج (10/ 386)، والأم (7/ 257)، (8/ 19).
قال ابن قدامة في المغني (1/ 320) شارحًا قول الخرقي: "وله بيعه في الدَّيْن": ظاهر كلام الخرقي أنه لا يباع في الدين، وقد أومأ إليه أحمد. وروي عن أحمد أنه قال: أنا أرى بيع المدبر في الدين، وإذا كان فقيرًا لا يملك شيئًا رأيت أن أبيعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد باع المدبر، لما علم أن صاحبه لا يملك شيئًا غيره، باعه النبي صلى الله عليه وسلم لما علم حاجته، وهذا قول إسحاق، وأبي أيوب وأبي خيثمة، وقالا: إن باعه من غير حاجة أجزناه. ونقل جماعة عن أحمد جواز بيع المدبير مطلقًا في الدين وغيره، مع الحاجة وعدمها. قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن بيع المدبر إذا كان بالرجل حاجة إلى ثمنه، قال: له أن يبيعه، محتاجًا كان إلى ذلك أو غير محتاج، وهذا هو الصحيح. اهـ. وراجع: الإنصاف (7/ 437).
قال أبو محمد بن حزم في المحلى بالآثار (7/ 925): وبيع المدبر والمدبرة حلال لغير ضرورة ولغير دين، لا كراهة في شيء من ذلك، ويبطل التدبير بالبيع كما تبطل الوصية ببيع الموصى بعتقه ولا فرق. اهـ.
استدل القائلون بجواز بيع المدبر بأدلة، منها:
1- حديث جابر بن عبدالله المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم باع عبدًا مدبرًا. وقد سبق ذكره في أول المسألة.
2- روى أحمد في مسنده عن عَمْرَةَ قالت: اشتكتْ عائشةُ فطال شكواها، فقدم إنسانٌ المدينة يَتَطَيَّبُ، فذهب بنو أخيها يسألونه عن وجعها فقال: والله إنكم تَنْعَتُونَ نَعْتَ امْرَأَةٍ مَطْوُبَةٍ. قال: هذه امرأةٌ مسحورةٌ سَحَرَتْهَا جاريةٌ لها. قالت: نعم أردتُ أن تموتي فَأُعْتَقَ. قال: وكانت مُدَبَّرَةً. قالت: بيعوها في أَشَدِّ الْعَرَبِ مَلَكَةً واجعلوا ثمنها في مثلها. مُسند أحمد (6/ 40)، وأخرجه الدارقطني في سننه (4/ 140)، والحاكم في المستدرك (4/ 244)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقد أجاب جمال الدين الزيلعي -في نصب الراية (4/ 26)- على هذه الأدلة بجوابين:
الجواب الأول: بحملها على المدبر المقيد، والمدبر المقيد عند الحنفية يجوز بيعه، إلا أن يثبتوا أنه كان مدبرًا مطلقًا وهم لا يقدرون على ذلك.
وكونه لم يكن له مال غيره ليس عله في جواز بيعه؛ لأن المذهب فيه أن العبد يسعى في قيمته، يدل عليه ما أخرجه عبدالرزاق في "مصنفه" عن زياد الأعراج -مصنف عبدالرزاق (9/ 164) وزياد تصحف في المطبوعة إلى أبي زياد، وهو أبو يحيى المكي الأعرج، وثقه يحيى بن معين وأبو داود وأبو زرعة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: يُروى عنه. راجع: تهذيب الكمال (9/ 530)، وتهذيب التهذيب (3/ 391)، والجرح والتعديل (3/ 549)، والثقات لابن حبان (4/ 261)- عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل أعتق عبده عند الموت، وترك دينًا وليس له مال قال: يستسعى العبد في قيمته ثم أخرج عن عليٍّ نحوه سواء، والأول مرسل يشده هذا الموقوف -وفي إسناد الحديثين الحجاج بن أرطاة قال فيه أحمد بن حنبل: كان من الحافظ. وقال يحيى بن معين: صدوق ليس بالقوي يدلس. وقال أبو زرعة: صدوق مدلس. وقال أبو حاتم: صدوق يدلس عن الضعفاء. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال الحافظ ابن حجر: صدوق كثير الخطأ والتدليس. راجع: تهذيب الكمال (5/ 420)، والجرح والتعديل (3/ 155)، وتهذيب التهذيب (2/ 172)-.
الجواب الثاني: بحملها على بيع الخدمة والنفقة لا بيع الرقبة، بدليل ما أخرجه الدارقطني -سنن الدارقطني (4/ 137)- عن عبدالغفار بن القاسم -عبدالغفار بن القاسم أبو مريم الأنصاري رافضي ليس بثقة قال علي بن المديني: كان يضع الحديث. وقال يحيى ابن معين: ليس بشيء. وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم. وقال أبو حاتم والنسائي: متروك الحديث. راجع: ميزان الاعتدال (2/ 640)، والجرح والتعديل (6/ 53)، والتاريخ الكبير (6/ 122)- عن أبي جعفر -وأبو جعفر القائ المدني مولى عبدالله بن عياش وثقه يحيى بن معين والنسائي ومحمد بن سعد وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات. راجع: تهذيب الكمال (33/ 200)، والجرح والتعديل (9/ 285)، والثقات (5/ 543)-، قال: ذكر عنده أن عطاء وطاوسًا يقولان عن جابر في الذي أعتقه مولاه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان أعتقه عن دبر فأمره أن يبيعه ويقضي دينه، فباعه بثمانمائة درهم. قال أبو جعفر: ضهدت الحديث من جابر إنما أذن في بيع خدمته. انتهى.
قال الدارقطني -كما في سنن الدارقطني (4/ 138)-: عبدالغفار ضعيف، ورواه غيره عن أبي جعفر مرسلًا. ثم رواه بإسناد صحيح عن أبي جعفر مرسلًا قال: باع رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمة المدبر. اهـ.
واستدل القائلون بعدم جواز بيع المدبر إضافة لما ذكره الزيلعي أثناء جوابه على أدلة المخالفين، استدلوا بما رواه الدارقطني في سننه (4/ 138) من طريق عبيدة بن حسان -عبيدة بن حسان العنبري السنجاري قال فيه أبو حاتم: منكر الحديث. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات. راجع: ميزان الاعتدال (3/ 26)، والجرح والتعديل (6/ 92)، وكتاب المجروحين (2/ 189)- عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من ثلث المال). قال الدارقطني في سننه (4/ 138): لم يسنده غير عبيدة بن حسان وهو ضعيف، وإنما هو عن ابن عمر من قوله.
ثم رواه من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر: أنه كره بيع الدبر، ثم قال: هذا هو الصحيح موقوف، وما قبله لا يثبت مرفوعًا ورواته ضعفاء. اهـ.
ورواه ابن ماجه في سننه (2514) من طريق علي بن ظبيان -علي بن ظبيان قال فيه يحيى بن معين وأبو داود: ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال أبو زرعة: واهي الحديث جدًّا. وقال أبو حاتم وأبو الفتح الأزدي: متروك، وقال ابن حبان: سقط الاحتجاج بأخباره. وعد الحفاظ هذا الحديث من مناكيره. راجع: تهذيب الكمال (20/ 498)، والجرح والتعديل (6/ 191)، وكتاب المجروحني (2/ 105)- عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المدبر من الثلث).
وقد سُئل أبو زرعة الرازي عن حديث علي بن ظبيان هذا فقال: هذا باطل. قال ابن أبي حاتم: ورواه خالد بن إلياس عن نافع عن ابن عمر من قوله. العلل لابن أبي حاتم (2/ 432).
إذًا فالصحيح في هذا الحديث عند المحدثين عن ابن عمر موقوفًا.
ويرى الحنفية أن الحديث إذا روي من طريق مرفوعًا ومن طريق آخر موقوفًا، فإن الحديث يكون مرفوعًا وأن الموقوف يؤيد ثبوت الحديث ولا ينفيه، وبهذا نعلم أن احتجاج الحنفية بمثل هذه الأحاديث يتفق ومنهجهم في قبول الأخبار.
كما أن تقييد حديث ابن النحام ببيع الخدمة بهذا المرسل الصحيح يتفق مع قبولهم للمرسل والاحتجاج به.
فالأدلة في هذه المسائل -كما ترى- متكافئة، وكل فريق رجح بحسب منهجه في قبول الأخبار وردها، فإذا كان الأمر على ما وصفت، فإن الحنفية برآء مما اتهمهم به ابين أبي شيبة من مخالفة الحديث في هذه المسألة.
***
ثانيًا/ مَسْأَلَةُ اسْتِعْمَالِ الرَّهْنِ وَالاسْتِفَادَةِ مِنْهُ
اختلف الفقهاء في انتفاع المرتهن بالرهن بغير إذن الراهن، فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في رواية: إلى أن المرتهن لا ينتفع من المرهون بشيء. وذهب أحمد في المشهور عنه وإسحاق وابن حزم: إلى جواز الانتفاع بالرهن للمرتهن، إذا قام بمصلحته ولو لم يأذن له المالك، وقصروا الانتفاع على حالة ما إذا كان الرهن مما يُركب أو يُحلب تبعًا للحديث ولم يتعدوه إلى غيره من المنافع.(1) حدَّثنا وَكيعٌ عن زكرِيّا عَن عامرٍ عن أبي هُريرة قالَ: قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (الظَّهْرُ يُرْكَبُ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ إذا كانَ مَرهُونًا، وَعَلَى الَّذي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ نَفَقَتُهُ). أخرجه البخاري (2521).
(2) حَدَّثَنَا وَكيعٌ حدَّثنا الأَعْمَشُ عن أبِي صالحٍ عن أبي هُريْرةَ قال: الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ ومَرْكُوبٌ. أخرجه البيهقي في السنن الكبري (6/ 38) موقوفًا ومرفوعًا.
(3) حدَّثنا وَكيعٌ عن سُفْيَانَ عن مَنْصُورٍ عن إِبراهيمَ عن أبي هُريرة قال: الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ ومَرْكُوبٌ.
وذُكِرَ أنَّ أبَا حَنيفةَ قال: لا يُنْتَفَعُ بِهِ ولا يُرْكَبُ.
***
قال صاحب الهداية: (وليس للمرتهن أن ينتفع بالرهن لا باستخدام ولا بسكنى ولا بلبس إلا أن يأذن له المالك)؛ لأن له حق الحبس دون الانتفاع. اهـ. الهداية مع فتح القدير (10/ 150)، وراجع: أحكام القرآن (1/ 724)، والمبسوط (21/ 107).
وقال في شرح رسالة أبي زيد القيرواني: منفعة الرهب للراهن؛ لأنه باقٍ على ملكه ويجوز للمرتهن أن يشترط أخذها. اهـ. الفواكه الدواني (2/ 167)، حاشية العدوي (2/ 273)، وراجع: المدونة (4/ 149)، ومختصر خليل وشروحه: التاج والإكليل (6/ 561)، ومواهب الجليل (5/ 17)، وشرح الخرشي (5/ 250)، ومنح الجليل (5/ 458).
وقال النووي في روضة الطالبين (4/ 79، 99): للراهن استيفاء المنافع التي لا تضر بالمرتهن؛ كسكنى الدار، وركوب الدابة واستكساب العبد، ولبس الثوب إلا إذا نقص باللبس... وليس للمرتهن في المرهون إلا حق الاستيثاق، وهو ممنوع من جميع التصرفات القولية والفعلية ومن الانتفاع. اهـ. وراجع المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (5/ 76)، ونهاية المحتاج (4/ 225)، ومغني المحتاج (3/ 37).
وقال ابن قدامة في المغني (4/ 254) شارحًا قول الخرقي: "ولا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء، إلا ما كان مركوبًا أو محلوبًا، فيركب ويحلب بقدر العلف": أما المحلوب والمركوب فللمرتهن أن ينفق عليه ويركب ويحلب بقدر نفقته متحريًا للعدل في ذلك. ونص عليه أحمد في رواية محمد بن الحكم وأحمد بن القاسم واختاره الخرقي، وهو قول إسحاق. وسواءٌ أنفق مع تعذر النفقة من الراهن لغيبته أو امتناعه من الإنفاق، أو مع القدرة على أخذ النفقة من الراهن واستئذانه. وعن أحمد روايةٌ أخرى: لا يحتسب له بما أنفق وهو متطوعٌ بها، ولا ينتفع من الرهن بشيء. وهذا قول أبي حنيفة ومالكٍ والشافعي. اهـ.
وقال ابن حزم في المحلى (6/ 365): ومنافع الرهن كلها لا تحاشٍ منها شيئًا لصاحبه الراهن له كما كانت قبل الرهن ولا فرق، حاشا ركوب الدابة المرهونة، وحاشا لبن الحيوان المرهون، فإنه لصاحب الرهن كما ذكرنا إلا أن يضيعهما فلا ينفق عليهما، وينفق على كل ذلك المرتهن فيكون له حينئذٍ: ركوب الدابة، ولبن الحيوان، بما أنفق لا يحاسب به من دينه كَثُر ذلك أم قَلَّ. اهـ.
-أدلة الحنابلة والظاهرية:
استدلوا بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الظهرُ يُرْكَبُ إذا كان مرهونًا ولبنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب نفقتُه) -سبق تخريجه-. فذكر هذا الحديث أن وجوب النفقة لركوب ظهره وشرب لبنه، ومعلومٌ أن الراهن إنما يلزمه نفقته لملكه لا لركوبه ولبنه؛ لأنه لو لم يكن مما يركب أو يحلب لزمته النفقة، فهذا يدل على أن المراد به أن اللبن والظهر للمرتهن بالنفقة التي ينفقها.
وقد تأول الشافعي الحديث على الراهن فقال -في الأم (3/ 167)-: يشبه قول أبي هريرة -والله أعلم- أن من رهن ذات در وظهر لم يمنع الراهن درها وظهرها؛ لأن له رقبتها، وهي محلوبة ومركوبة كما كانت قبل الرهن، ولا يمنع الراهن برهنه إياها من الدر والظهر الذي ليس هو الرهن بالرهن الذي هو غير الدر والظهر. اهـ.
ويدفع هذا التأويل رواية هشيمٍ، فإنه رواه عن زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كانت الدابة مرهونةٌ فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقتها ويركب) -أخرجه أحمد في مسنده (2/ 229)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 99)-. فبيَّن في هذا الخبر أن المرتهن هو الذي تلزمه النفقة ويكون له ظهره ولبنه.
واحتج ابن قدامة -في المغني (4/ 254)- بأن نفقة الحيوان واجبةٌ، وللمرتهن حق قد أمكنه استيفاء حقه من نماء الرهن، والنيابة عن المالك فيما وجب عليه واستيفاء ذلك من منافعه، فجاز ذلك كما يجوز للمرأة أخذ مؤنتها من مال زوجها عند امتناعه بغير إذنه، والنيابة عنه في الإنفاق عليها. اهـ. وراجع: إعلام الموقعين (2/ 18).
-أدلة الجمهور:
ذهب الجمهور إلى أن المرتهن لا ينتفع من المرهون بشيء، وتأولوا حديث أبي هريرة لكونه ورد على خلاف القياس من وجهين: أحدهما: التجويز لغير المالك أن يركب ويشرب بغير إذنه. والثاني: تضمينه ذلك بالنفقة لا بالقيمة - فتح الباري (5/ 144).
قال ابن عبدالبر في التمهيد (14/ 216): هذا الحديث عند جمهور الفقهاء يرده أصول مجمع عليها وآثار ثابتة لا يختلف في صحتها. اهـ. واستدل على نسخه بحديث ابن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تُحلب ماشية امرئ بغير إذنه) -رواه البخاري (2435)، ومسلم (4608)-. وبأن ذلك كان قبل تحريم الربا.
وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 99): وكان هذا عندنا -والله أعلم- في وقت ما كان الربا مباحًا، ولم يُنْه حينئذٍ عن القرض الذي يجر منفعةً، ولا عن أخذ الشيء بالشيء وإن كانا غير متساويين، ثم حُرم الربا بعد ذلك وحُرم كل قرضٍ جرَّ نفعًا، وأجمع أهل العلم أن نفقة الرهن على الراهن لا على المرتهن، وأنه ليس للمرتهن استعمال الرهن، فلما حُرم الربا حرمتْ أشكاله كلها، ورُدَّت الأشياء المأخوذة إلى أبدالها المساوية لها، وحُرم بيع اللبن في الضروع، فدخل في ذلك النهي عن النفقة التي يملك بها المنفق لبنًا في الضروع، ولتك النفقة غير موقوفٍ على مقدارها واللبن كذلك أيضًا. فارتفع بنسخ الربا أن تجب النفقة على المرتهن بالمنافع التي يجب له عوضها منها وباللبن الذي يحتلبه فيشربه. اهـ. واستدل الحنفية على نسخه من جهة أخرى، وهي عمل راويه بخلافه، فقد روى إسماعيل بن أبي خالدٍ عن الشعبي قال: لا ينتفع من الرهن بشيءٍ -أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6/ 39)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 100)-. فقد ترك الشعبي العمل بالحديث وهو راويه عن أبي هريرة، فهذا يدل على أحد معنيينِ: إما أن يكون الحديث غير ثابتٍ في الأصل، وإما أن يكون ثابتًا وهو منسوخٌ عنده، وهذا مُقرر في منهج الحنفية.
قال الجصاص في أحكام القرآن (1/ 725): وهو كذلك عندنا منسوخ؛ لأن مثله كان جائزًا قبل تحريم الربا فلما حُرم الربا ورُدّتْ الأشياء إلى مقاديرها؛ صار ذلك منسوخصا. ألا ترى أنه جعل النفقة بدلًا من اللبن قَلَّ أو كَثُر؟ وهو نظري ما روي في المصراة أنه يردها ويرد معها صاعًا من تمرٍ، ولم يعتبر مقدار اللبن الذي أخذه، وذلك أيضًا عندنا منسوخٌ بتحريم الربا. اهـ.
يتضح مما سبق أن جمهور العلماء على تأويل حديث أبي هريرة لتعارضه مع أصول مجتمع عليها، فتأوله الشافعي بأن المراد بالانتفاع الراهن، وتأوله ابن عبدالبر والطحاوي بأنه منسوخ، حتى إن أحمد وردتْ عنه روايتان: رواية وافق فيها الجمهور، وأخرى وافق الحديث، والحق أن هذه الرواية هي أعدل الأقوال في المسألة، ولكن ذلك لا يعني أن الجمهور خالف الحديث؛ لأن القول بنسخ الحديث لا يعد مخالفة له، وعمل الراوي بخلاف مارَوي من القواعد التي ردَّ بها الحنفية خبر الواحد في عدة مسائل.
**
ثالثًا/ مَسْأَلَةُ الخِيَارِ فِي الْبَيْعِ
اختلف أهل العلم في خيار المجلس للمتبايعين، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد ومالك بن أنس: إذا عقد بيع بكلام فلا خيار لها وإن لم يتفرقا. وقال الثوري والليث والشافعي وأحمد: إذا عقدا فهما بالخيار ما لم يتفرقا.(1) حَدثنَا ابنُ عُيَيْنَةَ عن عبدِاللهِ بن دِينَارٍ عن ابنِ عُمَرَ قالَ: قال رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ فِي بَيْعِهِمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، إلا أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ). أخرجه البخاري (2109)، ومسلم (1543).
(2) حدَّثنا يَزيدُ عن شُعْبةَ عَن قَتَادَةَ عنْ صَالِحٍ أبِي الْخَلِيلِ عن عبدِاللهِ بنِ الحَارِثِ عن حَكِيمِ بن حِزَامٍ: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: (البَيِّعَانِ بالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا). أخرجه البخاري (2079)، ومسلم (1532).
(3) حدثَنَا هَاشِمُ بنُ القَاسِمِ حدَّثنا أَيُّوبُ بْنُ عُتْبَةَ حدَّثنا أَبُو كَثِيرٍ السُّحَيْمِيّ عَن أبِي هُريرَة قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (البيِّعَانِ بالخِيَار في بَيْعِهِمَا مَا لَم يتفرَّقا، أو يَكُنْ بَيْعُهُمَا عن خِيَارٍ). أخرجه أحمد في مسنده (2/ 311)، وذكره الهيثمي في المجمع (4/ 100) وقال: رواه أحمد وفيه أيوب بن عتبة، ضعفه الجمهور وقد وثق.
(4) حدَّثنَا الفَضْلُ بنُ دُكَيْنٍ عن حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ عن جَمِيلِ بن مُرَّةَ عن أبِي الوَضِيءِ عَن أَبِي بَرْزَةَ قالَ: قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (البضيِّعَانِ بالخِيَارِ مَا لَم يَتَفَرَّقَا). أخرجه أبو داود (3457)، وابن ماجه (2182).
(5) حَدثَنا عَفَّانُ حدثنا همَّامٌ عن قتادةَ عن الحسَنِ عن سَمُرَةَ عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: (البيِّعَانِ بالخِيَارِ ما لم يَتفرَّقَا). أخرجه النسائي (4481) -44_ كتاب البيوع، 51_ باب ذكر الاختلاف على عبدالله بن دينار في هذا الحديث-، وابن ماجه (2182).
وذُكِرَ أنَّ أبَا حنِيفَةَ قَالَ: يضجُوزُ الْبَيْعُ وإِن لم يتفَرَّقَا.
***
قال صاحب الهداية: وإذا حصل الإيجاب والقبول لزم البيع ولا خيار لواحدٍ منهما إلا من عيبٍ أو عدم رؤيةٍ. وقال الشافعي: يثبت لكل واحدٍ منهما خيار المجلس لقوله عليه الصلاة والسلام: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا). ولنا: أن في الفسخ إبطال حق الغير فلا يجوز، والحديث محمولٌ على خيار القبول وفيه إشارةٌ إليه فإنهما متبايعان حالة المباشرة لا بعدها أو يحتمله فيحمل عليه، والتفرق فيه تفرق الأقول. اهـ. الهداية وشروحها: فتح القدير (6/ 257)، والعناية (6/ 257)، ونصب الراية (4/ 418).
وجاء في المدونة (3/ 223) -والموطأ (1364)-: قلت لابن القاسم: هل يكون البائعان بالخيار ما لم يفترقا في قول مالكٍ قال: قال مالكٌ: لا خيار لهما وإن لم يفترقا. قال مالكٌ: البيع كلامٌ، فإذا أوجبا البيع بالكلام وجب البيع، ولم يكن لأحدهما أن يمتنع مما قد لزمه. قال مالكٌ في حديث ابن عمر: ليس لهذا عندنا حد معروفٌ ولا أمرٌ معمولٌ به فيه. اهـ.
وقال أبو إسحاق الشيرازي -كما في المهذب مع شرحه المجموع (9/ 205)-: وإذا انعقد البيع ثبت لكل واحدٍ من المتبايعين الخيار بين الفسخ والإمضاء إلى أن يتفرقا أو يتخايرا، لما روى ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما للآخر اختر). والتفرق أن يتفرقا بأبدانهما بحيث إذا كلمه على العادة لم يسمع كلامه لما روى نافعٌ: أن ابن عمر كان إذا اشترى شيئًا مشى أذرعًا ليجب البيع ثم يرجع؛ ولأن التفرق في الشرع مطلقٌ فوجب أن يحمل على التفرق المعهود، وذلك يحصل بما ذكرناه. وأما التخاير فهو أن يقول أحدهما للآخر: اختر إمضاء البيع أو فسخه، فيقول الآخر: اخترت إمضاءه أو فسخه فينقطع الخيار لقوله عليه السلام: (أو يقول أحدهما للآخر اختر). اهـ. وراجع المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (4/ 332)، ومغني المحتاج (2/ 403)، ونهاية المحتاج (4/ 3).
وقال ابن قدامة في المغني (4/ 5) شارحًا قول الخرقي: "والمتبايعان كل واحدٍ منهما بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما": لكل من المتبايعين الخيار في فسخ البيع ما داما مجتمعين لم يتفرقا، وهو قول أكثر أهل العلم. اهـ. وراجع: فتح الباري (4/ 328)، والمحلى (7/ 233).
-أدلة الحنفية والمالكية:
1- قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [النساء: 29] يقتضي جواز الأكل بوقوع البيع عن تراضٍ قبل الافتراق، إن كانت التجارة إنما هي الإيجاب والقبول في عقد البيع، وليس التفرق والاجتماع من التجارة في شيء، ولا يُسمى ذلك تجارة في شرع ولا لغة، فإذا كان الله قد أباح أكل ما اشترى بعد وقوع التجارة عن تراضٍ، فمانع ذلك بإيجاب الخيار خارج عن ظاهر الآية مخصص لها بغير دلالة - أحكام القرآن (2/ 250).
2- أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه) -أخرجه البخاري (2133)، ومسلم (3922)-. فلما أجاز بيعه بعد القبض ولم يشرط فيه الافتراق، فوجب بقضية الخبر أنه إذا قبضه في المجلس أن يجوز بيعه، وذلك ينفي خيار البائع؛ لأن ما للبائع فيه خيار لا يجوز تصرف المشتري فيه - أحكام القرآن (2/ 253).
وقد أجاب النووي -كما في المجموع شرح المهذب (9/ 222)- عن الاحتجاج بهذين الدليلين بأن عموم الآية والحديث مخصوص بحديث إثبات خيار المجلس، ومن المقرر عند الحنفية ان خبر الواحد لا يخصص عموم القرآن ولا عموم السنة المشهورة.
3- واستدل بعض المالكية على نفي خيار المجلس بأنه على خلاف عمل أهل المدينة، ومذهب مالك أن الحديث إذا خالف عمل أهل المدينة تركه، واشتد إنكار ابن عبدالبر وابن العربي على من زعم ذلك، قال ابن العربي: إنما لم يأخذ به مالك؛ لأن وقت التفرق غير معلوم فأشبه بيوع الغرر كالملامسة. اهـ. - فتح الباري (4/ 330)، وسيأتي الكلام على ذلك في الدليل التالي. والحق أن عبارة مالك بالموطأ يُفهم منها أن ترك العمل به للأمرين جميعًا.
قال النووي في المجموع شرح المهذب (9/ 221): وأما قول مالكٍ فهو اصطلاحٌ له وحده منفردٌ به عن العلماء، فلا يقبل قوله في رد السنن لترك فقهاء المدينة العمل بها، وكيف يصح هذا المذهب مع العلم بأن الفقهاء ورواة الأخبار لم يكونوا في عصره، ولا في العصر الذي قبله منحصرين في المدينة ولا في الحجاز؛ بل كانوا متفرقين في أقطار الأرض، مع كل واحدٍ قطعةٌ من الأخبار لا يشاركه فيها أحدٌ، فنقلها ووجب على كل مسلمٍ قبولها، ومع هذا فالمسألة متصورةٌ في أصول الفقه غنيةٌ عن الإطالة فيها هنا، هذا كله لو سلم أن فقهاء المدينة متفقون على عدم خيار المجلس، ولكن ليس هم متفقين، فهذا ابن أبي ذيبٍ أحد أئمة فقهاء المدينة في زمن مالكٍ أنكر على مالكٍ في هذه المسألة، وأغلظ في القول بعباراتٍ مشهورةٍ، حتى قال: يستتاب مالكٌ من ذلك، وكيف يصح دعوى اتفاقهم. اهـ.
4- واستدلوا من جهة النظر بأن المجلس قد يطول ويقصر، فلو علقنا وقوع الملك على خيار المجلس لأوجب بطلانه لجهالة مدة الخيار الذي علق عليه وقوع الملك، ألا ترى أنه لو باعه بيعًا باتًّا وشَرِطا الخيار لهما بمقدار قعود فلان في مجلسه، كان البيع باطلًا لجهالة مدة الخيار الذي تعلقت عليه صحة العقد - أحكام القرآن (2/ 452). روى الخطيب في تاريخ بغداد (13/ 405) عن سفيان بن عيينة قال: بلغ أبا حنيفة أني أروي: (إن البيعان بالخيار ما لم يتفرقا). فجعل يقول: أرأيت إن كانا في سفينة، أرأيت إن كانا في سجن، أرأين إن كانا في سفر، كيف يفترقان.
قال النووي في المجموع شرح المهذب (9/ 221، 223): والجواب عن قولهم خيارٌ مجهولٌ أن الخيار الثابت شرعصا لا يضر جهالة زمنه كخيار الرد بالعيب والأخذ بالشفعة، بخلاف خيار الشرط فإنه يتعلق بشرطهما، فاشترط بيانه، وأما قول أبي حنيفة: لو كانا في سفينةٍ فنحن نقول به، فإن خيارهما يدوم ما داما مجتمعين في السفينة، ولو بقيا سنةً وأكثر، والدليل إطلاق الحديث. اهـ.
وقال ابن حجر في فتح الباري (4/ 330): والغرر في خيار المجلس معدوم؛ لأن كلًّا منهما متمكن من إمضاء البيع أو فسخه بالقول أو بالفعل فلا غرر. اهـ.
5- واستدلوا أيضًا من جهة النظر باتفاق الجميع على أن النكاح والخلع والعتق على مال والصلح من دم العمد، إذا تعاقداه بينهما صح بالإيجاب والقبول من غير خيار يثبت لواحد منهما، والمعنى فيه بالإيجاب والقبول فيما يصح العقد عليه من غير خيار مشروط - أحكام القرآن (2/ 258).
وأجاب النووي -كما في المجموع شرح المهذب (9/ 223)- عن قياسهما على النكاح والخلع بأنه ليس المقصود منهما المال؛ ولهذا لا يفسدان بفساد العوض بخلاف البيع.
وأجاب ابن قدامة -كما في المغنى (4/ 5)-: بأنه لا يصح قياس البيع على النكاح؛ لأن النكاح لا يقع غالبًا إلا بعد رؤيةٍ ونظرٍ وتمكثٍ، فلا يحتاج إلى الخيار بعده، ولأن في ثبوت الخيار فيه مضرةً، لما يلزم من رد المرأة بعد ابتذالها بالعقد، وذهاب حرمتها بالرد، وإلحاقها بالسلع المبيعة، فلم يثبت فيه خيارٌ لذلك؛ ولهذا لم يثبت فيه خيار الشرط، ولا خيار الرؤية.
-أدلة الشافعية والحنابلة:
استدل الشافعية والحنابلة ومعهم جمهور العلماء على ثبوت خيار المجلس بحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايع المتبايعان فكل واحدٍ منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا أو يكون بيعهما عن خيارٍ). قال: وكان ابن عمر إذا تبايع البيع وأراد أن يجب، مشى قليلًا ثم رجع -أخرجه مسلم (3953)، وقد سبق تخريجه عن جماعة من الصحابة في أول المسألة. وذكر البخاري تعليقًا بصيغة الجزم (2116) عن ابن عمر قال: بعث من أمير المؤمنين عثمان مالًا بالوادي بمالٍ له بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يُرَادَّنِي البيع، وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا. قال ابن عمر: فلما وجب بيعي وبيعه رأيت أني قد غبنته بأني سقته إلى أرض ثمود بثلاث ليالٍ، وساقني إلى المدينة بثلاثٍ ليالٍ. وأخرجه موصولًا البيهقي في السنن الكبرى (5/ 271)-. وقد دلَّ الحديث على أن البيع إذا انعقد ثبت لكل واحدٍ من المتبايعين الخيار بين الفسخ والإمضاء إلى أن يتفرقا بأبدانهما.
وتأول الحنفية والمالكية الحديث على حال التساوم فقالوا: إن حقيقته تقتضي حال التبايع وهي حال السوم، فإذا أبرما البيع وتراضيا فقد وقع البيع، فليسا متبايعين في هذه الحال في الحقيقة، وإنما يقال لهما كانا متبايعين، كما أن المتضاربين والمتقايلين إنما يلحقهما هذا الاسم في حال التضارب والتقايل، وبعد انقضاء الفعل لا يسميان به على الإطلاق، وإنما يقال كانا متقايلين ومتضاربين؛ وإذا كانت حقيقة معنى اللفظ ما وصفنا لم يصح الاستدلال في موضع الخلاف به - أحكام القرآن (2/ 255)، وشرح معاني الآثار (4/ 13)، والمنتقي شرح الموطأ (5/ 55).
وأجاب النووي وابن قدامة عن ذلك من أوجهٍ: أحدها/ أنهما ما داما في المقاولة يسميان متساومين، ولا يسميان متبايعين؛ ولهذا لو حلف بطلاقٍ أو غيره أنه ما بايع، وكان مساومًا وتقاولا في المساومة وتقرير الثمن ولم يعقدا، لم يحنث بالاتفاق. والثاني/ أن المتبايعين اسمٌ مشتق من البيع، فما لم يوجد البيع لم يجز أن يشتق منه؛ لأن كل اسم من معنى لا يصح اشتقاقه حتى يوجد. الثالث/ إن حمل الخيار على ما قلنا يحصل به فائدةٌ لم تكن معروفةً قبل الحديث، وحمله على المساومة يخرجه عن الفائدة، فإن كل أحدٍ يعلم أن المتساومين بالخيار إن شاءا عقدا وإن شاءا تركا. الرابع/ أن راوي الحديث ابن عمر كان إذا أراد إلزام البيع مشى قليلًا لينقطع الخيار، كما ثبت عنه في الصحيحين على ما قدمناه عنه، وهو أعلم بمراد الحديث - المجموع شرح المهذب (9/ 222).
وأجاب الجصاص عن الوجه الثاني: بأن ذلك جائز إذا قصدا إلى البيع بإظهار السوم فيه كما تسمي القاصدين إلى القتل متقاتلين وإن لم يقع منهما قتل بعد، وكما قيل لولد إبراهيم المأمور بذبحه: الذبيح لقربه من الذبح وإن لم يذبح، وقال تعالى: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [الطلاق: 2]، والمعنى فيه مقاربة البلوغ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) [البقرة: 232] وأراد به حقيقة البلوغ، فجائز على هذا أن يسمى المتساومان متبايعين إذا قصدا إيقاع العقد - أحكام القرآن (2/ 255).
وأجاب عن الوجه الثالث: بأن الحديث أفاد اعظم الفوائد، وهو أنه قد كان جائزًا أن يظن ظانٌّ أن البائع إذا قال للمشتري: قد بعتك. أن لا يكون له رجوع فيه قبل قبول العبد والمرأة؛ فأبان النبي صلى الله عليه وسلم حكم البيع في إثبات الخيار لكل واحد منهما في الرجوع قبل قبول الآخر، وأنه مفارق للعتق والخلع.
وأجاب على الرابع: بأنه لا دلالة فيه على أنه من مذهبه؛ لأنه جائز أن يكون خافٍ أن يكون بائعه ممن يرى الخيار في المجلس فيحذر منه بذلك حذرًا مما لحقه في البراءة من العيوب، حتى خوصم إلى عثمان فحمله على خلاف رأيه - أحكام القرآن (2/ 254)، وراجع: فتح الباري (4/ 331).
-كما تأول الحنفية والمالكية التفرق الوارد في الحديث على الافتراق بالقول، كما قال الله تعالى: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة: 4] ويقال: تشاور القوم في كذا فافترقوا عن كذا، يراد به الاجتماع على قول والرضا به وإن كانوا مجتمعين في المجلس - أحكام القرآن (2/ 256)، وشرح معاني الآثار (4/ 13)، والمنتقى شرح الموطأ (5/ 55).
وأجاب النووي -كما في المجموع شرح المهذب (9/ 222)-: بأن الإيجاب والقبول ليس تفرقًا منهما في القول؛ لأن من أوجب القول فغرضه أن يقبله صاحبه، فإذا قبله فقد وافقه ولا يسمى مفارقةً.
واستدل الحنفية والمالكية على أن المراد الافتراق بالقول بما رُوي عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله) -أخرجه أبو داود (3456)، والترمذي، والنسائي (4483)-.
وفسروا هذا الحديث باعتباره واردًا في الإقالة فقوله: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا). يُحمل على الافتراق بالقول، وقوله: (ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله) يُحمل على افتراق الأبدان خشية أن يطلب منه الإقالة بعد الافتراق بالقول وصحة وقوع العقد به، وهذا يدل على نفي الخيار بعد وقوع العقد من وجهين:
أحدهما/ أنه لو كان له خيار المجلس لما احتاج إلى أن يسأله الإقالة؛ بل كان هو يفسخه بحق الخيار الذي له فيه.
والثاني/ أن الإقالة لا تكون إلا بعد صحة العقد وحصول ملك كل واحد منهما فيما عقد عليه من قبل صاحبه، فهذا أيضًا يدل على نفي الخيار وصحة البيع - أحكام القرآن (2/ 256).
وأجاب النووي -كما في المجموع شرح المهذب (9/ 223)- عن هذا الحديث بأنه وارد في خيار المجلس، ومعناه مخافة أن يختار الفسخ، فعبر بالإقالة عن الفسخ؛ لأنه لو كان المراد حقيقة الإقالة لا يمنعه من المفارقة مخافة أن يقيله؛ لأن الإقالة لا تختص بالمجلس. وهذا يتفق مع صنيع أبي داود والترمذي والنسائي؛ حيث أوردوا الحديث في مصنفاتهم في باب خيار المجلس.
قال الترمذي بعد روايته: ومعنى هذا أن يفارقه بعد البيع خشية أن يستقيله، ولو كانت الفرقة بالكلام، ولم يكن له خيار بعد البيع، لم يكن لهذا الحديث معنى. اهـ.
وقد فطن الجصاص إلى أن الإقالة لا تختص بالمجلس فقال -كما في أحكام القرآن (2/ 257)-: وقوله: (ولا يحل له أن يفارقه) يدل على أنه مندوب إقالته إذا سأله إياها ما داما في المجلس، مكروه له أن لا يجيبه إليها، وأن حكمه في ذلك بعد الافتراق مخالف له إذا لم يفارقه، في أنه لا يكره له ترك إجابته إلى الإقالة بعد الفرقة ويُكره له قبلها. اهـ.
والخلاف في المسألة -كما ترى- محتدم بين الفريقينِ، وقد حشد كل فريق للآخر أدلةً وردودًا، وما تركتُه من أدلة ومناقشات أضعاف ما ذكرتُه، ولكني اكتفيتُ بالمشهور منها، والذي نخلص إليه من كل ذلك أن رد الحنفية لحديث خيار المجلس يرجع أساسًا لمخالفته ظاهر القرآن، فظاهر القرآن قطعي، وخبر الواحد ظني، والقطعي لا يعارض بالظني، كما هو مقرر في منهجهم.
قال الجصاص في أحكام القرآن (2/ 258): إن الحديث محتمل لما وصفنا ولما قال مخالفنا؛ وغير جائز الاعتراض على ظاهر القرآن بالاحتمال؛ بل الواجب حمل الحديث على موافقة القرآن ولا يحمل على ما يخالفه. اهـ.
ورد الحديث لمخالفته شروط القبول لا يعد مخالفة له كما هو معلوم؛ ومن ثم فدعوى مخالفة أبي حنيفة للأثر في هذه المسألة ليست مقبولة.
***
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
وجزاكم الله خيرًا.
والله أعلم.
وجزاكم الله خيرًا.
والله أعلم.