د. نعمان مبارك جغيم
:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
- إنضم
- 4 سبتمبر 2010
- المشاركات
- 197
- الجنس
- ذكر
- التخصص
- أصول الفقه
- الدولة
- الجزائر
- المدينة
- -
- المذهب الفقهي
- من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
المبالغة في توظيف المقاصد
لا مراء في أن لمعرفة مقاصد الأحكام الشرعية فائدة جليلة في التّفقُّه والاستنباط وتنزيل الأحكام الشرعية (تحقيق المناط)، ولكن الباحث ينبغي أن يكون على حذر في توظيف المقاصد حتى لا يخرج عن جادة التحقيق العلمي، ويحشر الأمور في غير مواضعها.
ولما كان التأليف في مقاصد الشريعة يهدف أساسا إلى إعانة الدارس على التفقُّه في أحكام الدين، فإنه ينبغي التدقيق في الأمثلة حتى لا تكون مثارا للتشويش في أذهان القُرّاء بدلا من التفقُّه.
وقد رأيت شيئا من قِلَّة التدقيق في إطلاق القواعد وفي تحرير الأمثلة فيما كُتب في مقاصد الشريعة والقواعد الفقهية وتخريج الفروع على الأصول. وهذا تنبيه على بعض الأمثلة وردت في كتاب من كتب مقاصد الشريعة. وليس المراد منه لمز الكتاب وصاحبه ولا التنقيص من قدرهما الجليل، وإنما هي مدارسة للإسهام في إثارة ملكة التدقيق والتمحيص عند القراءة وعند التأليف.
جاء في أحد الكتب القيّمة في مقاصد الشريعة عند الحديث عن الترجيح بين المقاصد:
(ومن أمثلة ذلك ما انتهجته عائشة رضي الله عنها في ردها خبر ابن عمر في أن الميت يعذب ببكاء أهله، رادة ظاهر الحكم الذي يتضمنه، مرجحة عليه الحكم الذي يتضمنه قوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" (الأنعام/164)، فهذا الترجيح لدليل على آخر، وبالتالي لحكم على آخر إنما تم جراء تحديد المقصد الشرعي لكل منهما وتقدير نوعه ودرجته، إذ المقصد الشرعي من خبر ابن عمر هو منع الأذى عن السامعين الذن يتأذون بالعويل على الميت، أو لعله قطع الطريق على وساوس النفس بالاحتجاج على قدر الموت، بيمنا المقصد الشرعي من الحكم بأن لا تزر وازرة وزر أخرى هو تحقيق العدالة بين الناس، وهو مقصد ضروري وكلي وأصلي، وليس المقصد الأول كذلك). انتهى كلام المؤلف. (مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة للدكتور عبد المجيد النجار، ص244)
والواقع أن ما فعلته عائشة رضي الله عنها ليس فيه ترجيح مقصد على مقصد، وإنما هو حكمٌ منها بعدم صحة الخبر بالطريقة التي نُقل بها لأنه يُعارض قاعدة كلية ونصا قطعيّا في القرآن الكريم، وهو (لا تزر وازرة وزر أخرى). ولذلك ذهب من ذهب ممن أثبت صحة الخبر إلى تأويل معناه بمن أوصى بالنواح عليه فيكون مسؤولا عن ذلك الفعل.
فما فعلته عائشة رضي الله عنها لا مدخل فيه للموازنة بين المقاصد الكلية والجزئية، أو الضرورية وغير الضرورية، أو الأصلية والتبعية. وإنما هو الاعتراض على خبر لما رأته فيه من مخالفة قاعدة كلية مقطوع بها.
وجاء في الكتاب نفسه:
(ومن أمثلة ذلك أيضا ما انتهجه عامة الفقهاء من الحكم بمنع أن يسلِّم المسلمون أموال السفهاء إليهم ويمكنوهم منها استنتاجا من قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) (النساء/5) مرجحين هذا الحكم على الحكم بمنع أن يسلِّم أي مسلم ماله إلى السفهاء، وهما حكمان يحتملهما نص الآية، ولكن رُجح الأول بناء على تحديد المقصد الشرعي من كل منهما، إذ الحكم الأول مقصده أن تكون كل أموال الأمة مصونة عن عبث السفاهة باعتبار أن المال وإن كان مملوكا للأفراد فإن لمجموع الأمة فيه حقوقا، فهو مقصد كلي، بينما الحكم الثاني مقصده صيانة مال الأفراد عن عبث السفهاء، فهو مقصد جزئي، والكلي من المقاصد مقدم على الجزئي منها.) انتهى كلام المؤلف. (مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة للدكتور عبد المجيد النجار، ص244-245)
وتمام الآية التي يشير إليها المؤلف: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا)
والواقع أن ترجيح كون المعنى هو عدم تمكين السفهاء من التصرف المطلق في أموالهم، لما يؤدي إليه ذلك من تضييع للأموال وإهدار لها في غير فائدة، هو سياق الآية وما حملته من قرائن، منها قوله عز وجل: (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا)، فرزقهم وكسوتهم تجب في أموالهم الخاصة، والقول المعروف لما قد يجده السفهاء في أنفسهم أو يصدر منهم من مكروه بسبب منعهم من التصرف المطلق في أموالهم.
ولا علاقة لهذا الترجيح بالمقاصد الكلية والمقاصد الجزئية سواء قلنا إن المال هو مال السفهاء أو هو مال غيرهم من القيّمين عليهم. كما أن اللجوء إلى الترجيح بين المصالح إنما يكون في حال التعارض، وليس هنا أي وجه للتعارض بين مصلحة كلية ومصلحة جزئية. وحتى إذا أخذنا بفكرة صاحب الكتاب في أن من المقاصد الكلية أن تكون الأموال مصونة عن عبث السفاهة فإن هذا ينطبق على أموال أهل الرشد وأموال أهل السّفه جميعا ولا يكون مخصوصا بمال صنف دون صنف. وبذلك يكون غير صالح للترجيح.
وما دام صاحب الكتاب قد أحال في تفسير الآية على ابن عاشور، فهذا كلام الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في بيان معنى الآية، حيث الترجيح بالسياق لا بالمقاصد:
يقول ابن عاشور: (والمراد بالأموال أموال المحاجير المملوكة لهم، ألا ترى إلى قوله: (وارزقوهم فيها) وأضيفت الأموال إلى ضمير المخاطبين ....) إلى آخر الكلام.
ولا يوجد في كلام ابن عاشور إشارة إلى الترجيح بين مقاصد الأحكام، وإنما هو ترجيح بدلالة السياق.
هذا، والله أعلم