أخي الكريم/ خالد بن عبدالرحمن القاسم
صحيح أن هذا الخبر موقوفٌ عن ابن مسعود رضي الله عنه وهو صحيحٌ إليه، كما تفضلتَ، وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنه مرفوعًا وفيه ضعف، فهو موقوف صحيح سندًا ومعنى متنه صحيح -كما سيأتي-.
أما ما ذكرتُه فهو صحيح بالجُملة، لكن ليس على إطلاقه؛ فيجوز كتمان العلم لدفع الضرر أو إن اقتضت المصلحة بكتمانه ولم تحصل المفسدة بذلك، وعموم قواعد المصالح والمفاسد تتعرّض لهذه المسألة كفرع ومثال لتوضيحها، وهذا له ضوابط وأدلة شاهدة على صحته.
ذكر ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله: باب آفة العلم وغائلته وإضاعته
وكراهية وضعه عند من ليس بأهله. اهـ. وذكر أدلة كثيرة تؤيد ذلك، وعدم وضعه عند من ليس أهله يقتضي كتمانه عنده، ويشهد لذلك قول ابن مسعود وقول غيره من الصحابة كقول علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما يُنكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!. وقول ابن المختار: إضاعة العلم أن تحدثه من ليس من أهله. وإنكار الأعمش على شُعبة لمّا رآه يُحدث قومًا قائلًا: ويحك يا شُعبة تُعلّق اللؤلؤ في أعناق الخنازير! . وقال الأعمش أيضًا: آفة العلم النسيان، وإضاعته أن تحدث به غير أهله.
قال الشيخ صالح في التمهيد: هذا فيه دليل على أن بعض العلم لا يصلح لكل أحد؛ فإن من العلم ما هو خاص، ولو كان نافعًا في نفسه ومن أمور التوحيد، لكن ربما لا يعرفه كثير من الناس، وهذا من مثل بعض أفراد توحيد الأسماء والصفات كبعض مباحث الأسماء والصفات، وذكر بعض الصفات لله جل وعلا فإنها لا تناسب كل أحد حتى إن بعض المتجهين إلى العلم قد لا تطرح عليه بعض المسائل الدقيقة في الأسماء والصفات، ولكن يؤمرون بالإيمان بذلك إجمالًا، والإيمان بالمعروف والمعلوم المشتهر في الكتاب والسنة، أما دقائق البحث في الأسماء والصفات فإنما هي للخاصة، ولا تناسب العامة والمبتدئين في طلب العلم؛ لأن منها ما يشكل، ومنها ما قد يؤول بقائله إلى أن يكذب الله ورسوله، كما قال هنا علي رضي الله عنه : "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟! " . اهـ. وقال رحمه الله: فالواجب على المسلم وبخاصة طالب العلم أن لا يجعل الناس يكذبون شيئا مما قاله الله جل وعلا أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم.. وبوّب على ذلك البخاري في الصحيح في كتاب العلم بقوله:
"باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه"، وهذا من الأمر المهم الذي ينبغي للمعلم والمتحدث والواعظ والخطيب أن يعيه، وأن يحدث الناس بما يعرفون وأن يجعل تقوية التوحيد وإكمال توحيدهم والزيادة في إيمانهم بما يعرفون لا بما ينكرون. اهـ.
قُلتُ: ويندرج في ذلك بعض سمائل الغيبيات والسمعيات في الاعتقاد أيضًا، وأُنبّه إلى أن العلم درجات متفاوتة فالعلم المفروض عينًا على الجميع لا يُكتم بحال ولا يندرج في هذا كأركان الإسلام ونحوها، أما الصغائر ودقائق التفاصيل والفروع الفقهية والعقدية وغيرها فمقصودةٌ بالكلام.
ومن الأدلة على صحّة ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم معاذَ بن جبل رضي الله عنه عن تحديث الناس ببعض العلم وكتمه في حديث: (أتدري ما حق الله على العباد..) وتعليله لذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُواْ).
ومما يشهد لذلك ويؤيد صحّته كتمان أبي هريرة رضي الله عنه بعض ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري (120) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ: فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ. وأيضًا كتمان حذيفة رضي الله عنه لذلك الوعاء وهو أعلم الناس بالفتن مُطلقًا، وذلك الوعاء الذي كتمه هو دقائق أخبار الفتن عمومًا كذكر أسماء دعاة الفتن أو الظالمين أو نحو ذلك، وممن ذكر ذلك: الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح (1/ 216)، والعيني في العُمدة -عُمدة القاري- (3/ 364)، وابن البطّال في شرح صحيح البخاري له (1/ 195)، وابن الجوزي في كشف المُشكل من حديث الصحيحين ص(1014)، والقُرطبي في التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 852) قال: حُمل على ما يتعلق بالفتن من أسماء المنافقين ونحوه،
أما كتمه عن غير أهله فمطلوب بل واجب. اهـ.
وراجع الفتوى أدناه:
http://islamqa.info/ar/ref/143738
فهذا من الفقه والعلم بمكان، وأرى أن الموضوع مفيد وفي محلّه.