سمية
:: فريق طالبات العلم ::
- إنضم
- 22 سبتمبر 2008
- المشاركات
- 508
- التخصص
- فقه وأصوله
- المدينة
- 00000
- المذهب الفقهي
- 00000
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
مراعاة الخلاف من أدلة الإمام مالك رحمه الله تعالى التي كان يستدل بها،ولكنه كان يعمل به تارة و يعدل عنه أخرى،حيث يقول صاحب إيصال السالك إلى أصول مذهب الإمام مالك، محمد يحيى المختار الولاتي (ص: 188):
ورعي خلف كان طوراً يعمل ------ وبه عنه كان طوراً يعدل
وهو ما جعل فقهاء المالكية يختلفون حول هذا الأصل ، ودار بينهم نقاش كبير بين مؤيد ومعارض، وهو ما يتناوله هذا البحث الموسوم بـــ:
تمتاز المدرسة المالكية بتنوع أصولها وقواعدها، بل هي في مقدمة المدارس الفقهية من حيث سعة نطاق الاستدلال. إن هذا التنوع والسعة صبغ المدرسة المالكية بخصائص عديدة، أقل ما يقال فيها أنها أكسبتها الثراء والتجدد. ومن تلك الأصول التي انفرد بها الاجتهاد المالكي، واحتلت مساحة معتبرة: إنه أصل "مراعاة الخلاف"، وقد قال عنه أحد منظري الاجتهاد المالكي الإمام الشاطبي: "إنه من محاسن هذا المذهب". هذا الأصل أبعد المدرسة المالكية عن التقوقع والانغلاق، بل أضاف لها سمة الواسطية والجنوح إلى أعدل الأقوال وأوفقها، وجعل منها فضاء لتقبل قول الغير ودليله.
إن هذا التقبل لا شك أنه من إفرازات القاعدة الروحية السلوكية: التخلية قبل التحلية، فالتخلية تقوم على تنقية النفس وطرح ما بها من نزغات ونزعات وخلفيات وأنانية وحين ذلك تأتي التحلية، وأول مستواها غرس التجرد والموضوعية وينبني على ذلك قبول الفكر الآخر فاحترامه، ثم الرقي إلى درجة اعتباره ثم الوصول إلى حكم متولد من الرأيين معا.
أهم نقاط المداخلة:
1- حقيقة أصل "مراعاة الخلاف" وتكريسه لمبدأ "الغيرية".
2- أقوال المالكية في هذا الأصل، والمناقشات الدائرة.
3- أدلة اعتبار أصل "مراعاة الخلاف" مع إيراد تطبيقات فقهية من أبواب متنوعة.
حقيقة أصل مراعاة الخلاف وتكريسه لمبدأ "الغيرية":
إن حقيقة هذا الأصل تظهر بجلاء من خلال إيضاح وبسط لماهيته وبيان تعريفه الاصطلاحي وضرب مثال توضيحي يبرز مدى مراعاة قول الغير ودليله.
تعريف أصل "مراعاة الخلاف": عرفه ابن عرفة بقوله: "إعمال دليل في لازم مدلوله الذي أعمل في نقيضه دليل آخر". وعرف أيضا بأنه: "إعطاء كل واحد من الدليلين حكمه" ذكره علال الفاسي. قال ابن عبد السلام: "المراعاة في الحقيقة إعطاء كل من دليلي القولين حكمه، أي أن المراعى هو الدليل وليس قول القائل به".
بسط أصل "مراعاة الخلاف":
إن الأدلة الشرعية منها ما تتبين قوته تبيانا يجزم الناظر فيه بصحة أحد الدليلين والعمل بإحدى الأمارتين، فهاهنا لا وجه لمراعاة الخلاف ولا معنى له. ومن الأدلة ما يقوى فيها أحد الدليلين وتترجح إحدى الأمارتين قوة ما ورجحانا لا ينقطع معه تردد النفس وتشوفها إلى مقتضى الدليل الآخر، فهاهنا تحسن مراعاة الخلاف، فهو وسط بين موجب الدليلين.
شرح تعريف ابن عرفة مع ضرب مثال توضيحي:
"إعمال" جنس لرعي الخلاف يصدق على رعي الخلاف وغيره. "دليل" أخرج به غير الدليل.
"في لازم مدلوله" أخرج به إعمال الدليل في مدلوله. والدليل هو: ما يمكن التوصل به إلى مطلوب خبري والمطلوب هو: المدلول. فالنهي الوارد مثلا في نكاح الشغار دليل، مدلوله: تحريم نكاح الشغار. ولازم هذا المدلول فسخه، ودل عليه دليل النهي، لأنه يدل على فساد المنهي عنه وفسخه. ونكاح الشغار إذا وقع يجب فسخه عند الإمام مالك رضي الله عنه بطلاق في رواية، ومن خالف مالكا يقول: بأنه لا يجب فسخه. والجاري على هذه الرواية وقوع الميراث بين الزوجين إذا مات أحدهما. فالجاري على أصل دليله ولازم قوله أنه: لا ميراث، فلما قال بثبوت الميراث فقد أعمل دليل خصمه القائل بعدم فسخ نكاح الشغار. وعدم الفسخ لازمه ثبوت الميراث بين الزوجين، فأعمل مالك رحم الله تعالى دليل خصمه القائل بعدم فسخ نكاح الشغار في لازم مدلوله وهو ثبوت الميراث.
أقوال المالكية في أصل "مراعاة الخلاف" والمناقشات الدائرة:
أقوال المالكية في هذا الأصل:
قال المقري: "من أصول المالكية: مراعاة الخلاف، وقد اختلفوا فيه، ثم في المراعي أهو المشهور وحده؟ أم كل خلاف؟ ثم المشهور أهو ما كثر قائله؟ أم ما قوي دليله؟". وقال الشاطبي: "إن الباجي حكى خلافا في اعتبار مراعاة الخلاف". والذي في أحكام الفصول للباجي: "عندنا أنه يصح أن يكون الاختلاف علة" ثم قال الباجي: "وقد منعه قوم من المتفقهة". وقال الشاطبي: "مراعاة الخلاف من محاسن هذا المذهب"، وقال: "وإنه من جملة الاستحسان"، وذكر ذلك علال الفاسي.
المناقشات والاعتراضات الواردة على أصل "مراعاة الخلاف" والأجوبة عليها:
اعترض على أصل "مراعاة الخلاف" جماعة من الفقهاء المالكية، منهم اللخمي وعياض والقباب وابن عبد البر.
وقد جرت مناقشات بين الشاطبي وشيوخه في "مراعاة الخلاف" وتبادل رسائل بينه وبين القباب. وذكر الشاطبي: أن هذه الإيرادات صادرة لمنكري طريقة الاستحسان. وقال الشاطبي: "ولقد كنت أنحى هذا المنحى لولا أنه اعتضد وتقوى لوجدانه في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة وجمهورهم مع عدم النكير.
وجه الاعتراضات:
1- إن الدليل هو المتبع، فحيثما صار صير إليه، ومتى ترجح عند المجتهد أحد الدليلين على الآخر ولو بأدنى وجه الترجيح وجب التعويل عليه، وإلغاء ما سواه على ما هو مقرر في أصول الفقه. فإذا رجوعه إلى قول الغير إعمال لدليله المرجوح عنده، وإهمال للدليل الراجح عنده الواجب اتباعه، وذلك خلاف القواعد والقياس.
2- قول المفتي: هذا لا يجوز ابتداء، وبعد الوقوع يقول بجوازه، أنه يصير الممنوع إذا فعل جائز، وإنما يتصور الجمع في هذا النحو في منع التنزيه لا منع التحريم.
3- إنه غير مطرد في كل مسألة وهو مشكل، لأنه إن كان حجة عمت في كل مسألة وإلا بطلت لأن تخصيصه إن كان حجة ببعض المسائل دون بعض تحكم أي ترجيح بلا مرجح.
الأجوبة على الاعتراضات:
1- إن رعايته يراد اعتبار من لا مطلقا، مثال ذلك: أن يترجح دليل الإباحة عنده ومذهب غيره التحريم، فإذا توسط الأمر وقال بالكراهة كما توسطوا في المشهور في الماء المستعمل بأنه مكروه للخلاف بين القول بنجاسته وبين القول بأنه طاهر غير مطهر. فإن قلت: هذا إسقاط للدليلين معا، إذ الكراهة ضد الإباحة وضد التحريم، فبضدهما عملتم إذا. فالجواب: أنه إذا تعارض دليلان في قاعدة احتياطا عرض حينئذ دليل ثالث يِؤخذ من قواعد الشريعة يقتضي إيجاب طلب السلامة واتقاء الشبهة والتخلص من الإشكال، فرعاية الخلاف حينئذ عمل بدليل ثالث عند تعارض الدليلين، فلا اعتراض حينئذ.
2- أما كون رعي الخلاف حجة في بعض المسائل دون بعض، فضابط ذلك رجحان دليل المخالف عند المجتهد على دليله في لازم مدلول دليل المخالف، فليس تحكما لأن له مرجحا، وثبوت الرجحان ونفيه إنما يكون بحسب نظر المجتهد في النوازل.
3- أما الشاطبي فبعد أن أثبت أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية، قال: "هذا الأصل يبنى عليه قواعد، قاعدة الذرائع، وقاعدة الحيل، وقاعدة مراعاة الخلاف".
ثم قال: "إن الممنوعات إذا وقعت فلا يكون إيقاعها من المكلف سببا في الحيف عليه بزائد على ما شرع له من الزواجر" وبعد أن ذكر هذا التمهيد ليقيس عليه مراعاة الخلاف أي إذا وقع ممنوعا متفق عليه لا يصح أن يكون سببا للحيف عليه فما وقع ممنوعا عند المجتهد مخالف لغيره في منعه من أولى أن يراعى دليل صحته وإن كان مرجوح عند المجتهد فلا يكون سببا للحيف بل ينظر للأمر الواقع والمآل.
ثم قال الشاطبي: "فيرجع الأمر إلى أن النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع لما اقترن من القرائن المرجحة كما وقع التنبيه عليه في حديث تأسيس البيت على قواعد إبراهيم، وفي حديث (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل، فإذا دخل بها فلها المهر بما استحل منها)، وهذا تصحيح للمنهي عنه من وجه ولذلك يقع فيه الميراث ويثبت به النسب للولد. وإجراؤهم النكاح الفاسد مجرى النكاح الصحيح في هذه الأحكام وفي حرمة المصاهرة وغير ذلك دليل على الحكم بصحته على الجملة وإلا كان في حكم الزنا. فالنكاح المختلف يراعى فيه الخلاف، فلا تقع فيه الفرقة إذا عثر عليه بعد الدخول مراعاة لما يقترن بالدخول من الأمور التي ترجح جانب التصحيح".
أدلة اعتبار أصل "مراعاة الخلاف":
1- الأدلة الدالة على وجوب العمل بالراجح.
2- بالحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: كان عتبة عهد إلى أخيه سعد ابن أبي وقاص، أن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك. فلما كان عام الفتح أخذه سعد، فقال: "ابن أخي عهد إلي فيه". فقام عبد بن زمعة، فقال: "أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه". فتساوقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال سعد: "يا رسول الله ابن أخي قد عهد إلي فيه". فقال عبد ابن زمعة: "أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو لك يا عبد ابن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر". ثم قال لسودة بنت زمعة: "احتجبي منه" لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها حتى الله.
قال الحافظ ابن حجر: "واستدل به بعض المالكية على مشروعية الحكم بين الحكمين، وهو أن يأخذ الفرع شبها من أكثر من أصل فبعطى أحكاما بعدد ذلك، وذلك الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة في النسب والشبه يقتضي إلحاقه بعتبة، فأعطي الفرع حكما بين الحكمين، فروعي الفراش في النسب والشبه البين في الاحتجاب، وإلحاقه بهما ولو كان من وجه أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه". وذكر هذا الدليل ابن عرفة كما في المعيار للونشريسي.
3- أنه موجود في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة وجمهورهم من غير نكير، ذكر ذلك الشاطبي في الاعتصام.
شروط الأخذ بأصل مراعاة الخلاف:
اشترطوا لذلك شرطين:
أولا، أن لا يِؤدي إلى صورة تخالف الإجماع، كمن تزوج بغير ولي ولا شهود بأقل من ربع دينار ذهبي، مقلدا أبا حنيفة في عدم الولي، ومالكا في عدم الشهود، والشافعي في أقل من ربع دينار، فإن هذا النكاح إذا عرض على الحنفي لا يقول به، وكذلك المالكي والشافعي، وغيرهما، فيجب فسخه أبدا.
ثانيا، أن لا يترك المراعي مذهبه بالكلية، كأن يتزوج مالكي زواجا فاسدا على مذهبه، صحيحا عند غيره، ثم يطلق ثلاثا فإن ابن القاسم يلزمه الثلاث مراعاة للقول بصحته. فإن تزوجت من قبل زوج لم يفسخ نكاحه عند ابن القاسم، لأن الفسخ حينئذ إنما كان مراعاة للقول بصحة النكاح الأول، ومراعاة الخلاف مرتين تؤدي إلى ترك المذهب بالكلية.
المصادر:
1 - التمهيد (شرح الموطأ) لابن عبد البر.
2 - فصول الأحكام للباجي.
3 - فتاوى ابن رشد الجد.
4 - القواعد للمقري.
5 - كشف نقاب الحاجب من مصطلح ابن الحاجب لابن فرحون.
6 - الموافقات للشاطبي.
7 - الاعتصام للشاطبي.
8 - تنقيح الفصول للقرافي.
9 - شرح حدود ابن عرفة للرصاع.
10 - فتح الباري (شرح صحيح البخاري) لابن حجر.
11 - المعيار للونشريسي.
12 - مقاصد الشريعة لعلال الفاسي.
مراعاة الخلاف من أدلة الإمام مالك رحمه الله تعالى التي كان يستدل بها،ولكنه كان يعمل به تارة و يعدل عنه أخرى،حيث يقول صاحب إيصال السالك إلى أصول مذهب الإمام مالك، محمد يحيى المختار الولاتي (ص: 188):
ورعي خلف كان طوراً يعمل ------ وبه عنه كان طوراً يعدل
وهو ما جعل فقهاء المالكية يختلفون حول هذا الأصل ، ودار بينهم نقاش كبير بين مؤيد ومعارض، وهو ما يتناوله هذا البحث الموسوم بـــ:
تجذر الغيرية في أصل مراعاة الخلاف في الفكر الاجتهادي المالكي
للدكتور:محمد سنيني - جامعة الجزائر
للدكتور:محمد سنيني - جامعة الجزائر
تمتاز المدرسة المالكية بتنوع أصولها وقواعدها، بل هي في مقدمة المدارس الفقهية من حيث سعة نطاق الاستدلال. إن هذا التنوع والسعة صبغ المدرسة المالكية بخصائص عديدة، أقل ما يقال فيها أنها أكسبتها الثراء والتجدد. ومن تلك الأصول التي انفرد بها الاجتهاد المالكي، واحتلت مساحة معتبرة: إنه أصل "مراعاة الخلاف"، وقد قال عنه أحد منظري الاجتهاد المالكي الإمام الشاطبي: "إنه من محاسن هذا المذهب". هذا الأصل أبعد المدرسة المالكية عن التقوقع والانغلاق، بل أضاف لها سمة الواسطية والجنوح إلى أعدل الأقوال وأوفقها، وجعل منها فضاء لتقبل قول الغير ودليله.
إن هذا التقبل لا شك أنه من إفرازات القاعدة الروحية السلوكية: التخلية قبل التحلية، فالتخلية تقوم على تنقية النفس وطرح ما بها من نزغات ونزعات وخلفيات وأنانية وحين ذلك تأتي التحلية، وأول مستواها غرس التجرد والموضوعية وينبني على ذلك قبول الفكر الآخر فاحترامه، ثم الرقي إلى درجة اعتباره ثم الوصول إلى حكم متولد من الرأيين معا.
أهم نقاط المداخلة:
1- حقيقة أصل "مراعاة الخلاف" وتكريسه لمبدأ "الغيرية".
2- أقوال المالكية في هذا الأصل، والمناقشات الدائرة.
3- أدلة اعتبار أصل "مراعاة الخلاف" مع إيراد تطبيقات فقهية من أبواب متنوعة.
حقيقة أصل مراعاة الخلاف وتكريسه لمبدأ "الغيرية":
إن حقيقة هذا الأصل تظهر بجلاء من خلال إيضاح وبسط لماهيته وبيان تعريفه الاصطلاحي وضرب مثال توضيحي يبرز مدى مراعاة قول الغير ودليله.
تعريف أصل "مراعاة الخلاف": عرفه ابن عرفة بقوله: "إعمال دليل في لازم مدلوله الذي أعمل في نقيضه دليل آخر". وعرف أيضا بأنه: "إعطاء كل واحد من الدليلين حكمه" ذكره علال الفاسي. قال ابن عبد السلام: "المراعاة في الحقيقة إعطاء كل من دليلي القولين حكمه، أي أن المراعى هو الدليل وليس قول القائل به".
بسط أصل "مراعاة الخلاف":
إن الأدلة الشرعية منها ما تتبين قوته تبيانا يجزم الناظر فيه بصحة أحد الدليلين والعمل بإحدى الأمارتين، فهاهنا لا وجه لمراعاة الخلاف ولا معنى له. ومن الأدلة ما يقوى فيها أحد الدليلين وتترجح إحدى الأمارتين قوة ما ورجحانا لا ينقطع معه تردد النفس وتشوفها إلى مقتضى الدليل الآخر، فهاهنا تحسن مراعاة الخلاف، فهو وسط بين موجب الدليلين.
شرح تعريف ابن عرفة مع ضرب مثال توضيحي:
"إعمال" جنس لرعي الخلاف يصدق على رعي الخلاف وغيره. "دليل" أخرج به غير الدليل.
"في لازم مدلوله" أخرج به إعمال الدليل في مدلوله. والدليل هو: ما يمكن التوصل به إلى مطلوب خبري والمطلوب هو: المدلول. فالنهي الوارد مثلا في نكاح الشغار دليل، مدلوله: تحريم نكاح الشغار. ولازم هذا المدلول فسخه، ودل عليه دليل النهي، لأنه يدل على فساد المنهي عنه وفسخه. ونكاح الشغار إذا وقع يجب فسخه عند الإمام مالك رضي الله عنه بطلاق في رواية، ومن خالف مالكا يقول: بأنه لا يجب فسخه. والجاري على هذه الرواية وقوع الميراث بين الزوجين إذا مات أحدهما. فالجاري على أصل دليله ولازم قوله أنه: لا ميراث، فلما قال بثبوت الميراث فقد أعمل دليل خصمه القائل بعدم فسخ نكاح الشغار. وعدم الفسخ لازمه ثبوت الميراث بين الزوجين، فأعمل مالك رحم الله تعالى دليل خصمه القائل بعدم فسخ نكاح الشغار في لازم مدلوله وهو ثبوت الميراث.
أقوال المالكية في أصل "مراعاة الخلاف" والمناقشات الدائرة:
أقوال المالكية في هذا الأصل:
قال المقري: "من أصول المالكية: مراعاة الخلاف، وقد اختلفوا فيه، ثم في المراعي أهو المشهور وحده؟ أم كل خلاف؟ ثم المشهور أهو ما كثر قائله؟ أم ما قوي دليله؟". وقال الشاطبي: "إن الباجي حكى خلافا في اعتبار مراعاة الخلاف". والذي في أحكام الفصول للباجي: "عندنا أنه يصح أن يكون الاختلاف علة" ثم قال الباجي: "وقد منعه قوم من المتفقهة". وقال الشاطبي: "مراعاة الخلاف من محاسن هذا المذهب"، وقال: "وإنه من جملة الاستحسان"، وذكر ذلك علال الفاسي.
المناقشات والاعتراضات الواردة على أصل "مراعاة الخلاف" والأجوبة عليها:
اعترض على أصل "مراعاة الخلاف" جماعة من الفقهاء المالكية، منهم اللخمي وعياض والقباب وابن عبد البر.
وقد جرت مناقشات بين الشاطبي وشيوخه في "مراعاة الخلاف" وتبادل رسائل بينه وبين القباب. وذكر الشاطبي: أن هذه الإيرادات صادرة لمنكري طريقة الاستحسان. وقال الشاطبي: "ولقد كنت أنحى هذا المنحى لولا أنه اعتضد وتقوى لوجدانه في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة وجمهورهم مع عدم النكير.
وجه الاعتراضات:
1- إن الدليل هو المتبع، فحيثما صار صير إليه، ومتى ترجح عند المجتهد أحد الدليلين على الآخر ولو بأدنى وجه الترجيح وجب التعويل عليه، وإلغاء ما سواه على ما هو مقرر في أصول الفقه. فإذا رجوعه إلى قول الغير إعمال لدليله المرجوح عنده، وإهمال للدليل الراجح عنده الواجب اتباعه، وذلك خلاف القواعد والقياس.
2- قول المفتي: هذا لا يجوز ابتداء، وبعد الوقوع يقول بجوازه، أنه يصير الممنوع إذا فعل جائز، وإنما يتصور الجمع في هذا النحو في منع التنزيه لا منع التحريم.
3- إنه غير مطرد في كل مسألة وهو مشكل، لأنه إن كان حجة عمت في كل مسألة وإلا بطلت لأن تخصيصه إن كان حجة ببعض المسائل دون بعض تحكم أي ترجيح بلا مرجح.
الأجوبة على الاعتراضات:
1- إن رعايته يراد اعتبار من لا مطلقا، مثال ذلك: أن يترجح دليل الإباحة عنده ومذهب غيره التحريم، فإذا توسط الأمر وقال بالكراهة كما توسطوا في المشهور في الماء المستعمل بأنه مكروه للخلاف بين القول بنجاسته وبين القول بأنه طاهر غير مطهر. فإن قلت: هذا إسقاط للدليلين معا، إذ الكراهة ضد الإباحة وضد التحريم، فبضدهما عملتم إذا. فالجواب: أنه إذا تعارض دليلان في قاعدة احتياطا عرض حينئذ دليل ثالث يِؤخذ من قواعد الشريعة يقتضي إيجاب طلب السلامة واتقاء الشبهة والتخلص من الإشكال، فرعاية الخلاف حينئذ عمل بدليل ثالث عند تعارض الدليلين، فلا اعتراض حينئذ.
2- أما كون رعي الخلاف حجة في بعض المسائل دون بعض، فضابط ذلك رجحان دليل المخالف عند المجتهد على دليله في لازم مدلول دليل المخالف، فليس تحكما لأن له مرجحا، وثبوت الرجحان ونفيه إنما يكون بحسب نظر المجتهد في النوازل.
3- أما الشاطبي فبعد أن أثبت أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية، قال: "هذا الأصل يبنى عليه قواعد، قاعدة الذرائع، وقاعدة الحيل، وقاعدة مراعاة الخلاف".
ثم قال: "إن الممنوعات إذا وقعت فلا يكون إيقاعها من المكلف سببا في الحيف عليه بزائد على ما شرع له من الزواجر" وبعد أن ذكر هذا التمهيد ليقيس عليه مراعاة الخلاف أي إذا وقع ممنوعا متفق عليه لا يصح أن يكون سببا للحيف عليه فما وقع ممنوعا عند المجتهد مخالف لغيره في منعه من أولى أن يراعى دليل صحته وإن كان مرجوح عند المجتهد فلا يكون سببا للحيف بل ينظر للأمر الواقع والمآل.
ثم قال الشاطبي: "فيرجع الأمر إلى أن النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع لما اقترن من القرائن المرجحة كما وقع التنبيه عليه في حديث تأسيس البيت على قواعد إبراهيم، وفي حديث (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل، فإذا دخل بها فلها المهر بما استحل منها)، وهذا تصحيح للمنهي عنه من وجه ولذلك يقع فيه الميراث ويثبت به النسب للولد. وإجراؤهم النكاح الفاسد مجرى النكاح الصحيح في هذه الأحكام وفي حرمة المصاهرة وغير ذلك دليل على الحكم بصحته على الجملة وإلا كان في حكم الزنا. فالنكاح المختلف يراعى فيه الخلاف، فلا تقع فيه الفرقة إذا عثر عليه بعد الدخول مراعاة لما يقترن بالدخول من الأمور التي ترجح جانب التصحيح".
أدلة اعتبار أصل "مراعاة الخلاف":
1- الأدلة الدالة على وجوب العمل بالراجح.
2- بالحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: كان عتبة عهد إلى أخيه سعد ابن أبي وقاص، أن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك. فلما كان عام الفتح أخذه سعد، فقال: "ابن أخي عهد إلي فيه". فقام عبد بن زمعة، فقال: "أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه". فتساوقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال سعد: "يا رسول الله ابن أخي قد عهد إلي فيه". فقال عبد ابن زمعة: "أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو لك يا عبد ابن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر". ثم قال لسودة بنت زمعة: "احتجبي منه" لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها حتى الله.
قال الحافظ ابن حجر: "واستدل به بعض المالكية على مشروعية الحكم بين الحكمين، وهو أن يأخذ الفرع شبها من أكثر من أصل فبعطى أحكاما بعدد ذلك، وذلك الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة في النسب والشبه يقتضي إلحاقه بعتبة، فأعطي الفرع حكما بين الحكمين، فروعي الفراش في النسب والشبه البين في الاحتجاب، وإلحاقه بهما ولو كان من وجه أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه". وذكر هذا الدليل ابن عرفة كما في المعيار للونشريسي.
3- أنه موجود في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة وجمهورهم من غير نكير، ذكر ذلك الشاطبي في الاعتصام.
شروط الأخذ بأصل مراعاة الخلاف:
اشترطوا لذلك شرطين:
أولا، أن لا يِؤدي إلى صورة تخالف الإجماع، كمن تزوج بغير ولي ولا شهود بأقل من ربع دينار ذهبي، مقلدا أبا حنيفة في عدم الولي، ومالكا في عدم الشهود، والشافعي في أقل من ربع دينار، فإن هذا النكاح إذا عرض على الحنفي لا يقول به، وكذلك المالكي والشافعي، وغيرهما، فيجب فسخه أبدا.
ثانيا، أن لا يترك المراعي مذهبه بالكلية، كأن يتزوج مالكي زواجا فاسدا على مذهبه، صحيحا عند غيره، ثم يطلق ثلاثا فإن ابن القاسم يلزمه الثلاث مراعاة للقول بصحته. فإن تزوجت من قبل زوج لم يفسخ نكاحه عند ابن القاسم، لأن الفسخ حينئذ إنما كان مراعاة للقول بصحة النكاح الأول، ومراعاة الخلاف مرتين تؤدي إلى ترك المذهب بالكلية.
المصادر:
1 - التمهيد (شرح الموطأ) لابن عبد البر.
2 - فصول الأحكام للباجي.
3 - فتاوى ابن رشد الجد.
4 - القواعد للمقري.
5 - كشف نقاب الحاجب من مصطلح ابن الحاجب لابن فرحون.
6 - الموافقات للشاطبي.
7 - الاعتصام للشاطبي.
8 - تنقيح الفصول للقرافي.
9 - شرح حدود ابن عرفة للرصاع.
10 - فتح الباري (شرح صحيح البخاري) لابن حجر.
11 - المعيار للونشريسي.
12 - مقاصد الشريعة لعلال الفاسي.