العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

الرَّأْيُ النَّجِيحِ فِي أَنَّ (تخريج الشيخين، وكثرَة الطرق، وفِقه الراوي) مِن وُجُوهِ التَّرْجِيحِ

إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحَمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسُولِ اللهِ، وبعد..

فقد جاء في ((الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة)) للعلاّمة اللكنوي، مع [التعليقات الحافلة على الأجوبة الفاضلة] للشيخ عبدالفتاح أبو غدّة:
((ص202/
السؤال السّابع
في أن تخريجَ الشيخين وكثرةَ الطرق وفِقه الراوي هل هي من وجوه الترجيح؟
تخريجُ الشيخين: البخاريّ ومُسْلم، وكثرةُ طُرُق الحديثِ مِن دون الوصول إلى حد الشُّهرة والتواتر، وفِقْهُ الراوي، هل هي من ووجُوهِ الترجيح؟ أم لا؟
الجـواب
لكلٍ منها دَخْلٌ في الترجيح، على الرأي النجيح.
فأما تخريج الشيخين: فلِمَا صرَّحوا به أن أعلى أقسام الصحيح ما اتَّفَقَ عليه الشيخان، ثم ما انفرَد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم ما هو صحيحٌ على شرطهما ولم يُخْرجهُ واحدٌ منهما، ثم ما هو على شرْط البخاري وحده، ثم ما هو صحيحٌ على شرْط مُسْلم، ثم ما هم صحيحٌ عند غيرهما. [وأوَّلُ من رأى هذا التقسيم هو الشيخُ ابن الصلاح في ((مقدمته)) ص(28). وقد لقي قولُهُ هذا قيولاً وردًا من العلماء كما ستأتش الإشارة إليه تعليقًا بعد قليل .]
فهذا الترتيبُ قد أطبقتْ عليه كلماتُ المحدِّثين بل يكادُ أن يكونُ مجمعًا عليه بين المتبرحين، ولم يخالِف فيه إِلا
ابن الهُمام
[في كتابهِ ((فتح القدير)) على ((الهداية)) في باب النوافل: (1/ 317) ، وكتابهِ ((التحرير)) في أصول الفقه في (فصلٌ في التعارض): (3/ 30) حيث قال في ((فتح القدير)) بعد أن حكَى ما قاله ابنُ الصلاح: "هذا تحكُّمُ لا يجوز التقليدُ فيهِ، إِذ الأصَحيّةُ ليستْ إلا لاشتمالِ رُواتِهما على الشروط التي اعتبراها، فإن فُرِضَ وجودُ تلك الشروط في رُواةِ حديثٍ في غير ((الكتابينِ))، أفلا يكونُ الحكمُ بأصحيَّة ما في ((الكتابين)) عينَ التحكم؟ ...".
وأيَّده تلميذُه الشيخ ابنُ أمير حاج رحمه الله تعالى في ((التقرير والتحبير في شرح كتاب التحرير)): (3/ 30) ثم قال: "ثم مما ينبغي التنبيهُ له أنَّ أصحيَّتهما على ما سواهما تنزُّلاً إِنما تكونُ بالنظرِ إلى مَنْ بعدُهما، لا المجتهدين المتقدمين عليهما، فإن هذا مع ظهوره قد يخْفق على بعضِهم أو يُغالِطُ به. والله سبحانه أعلم". انتهى بتصرفٍ يسير.
قال شيخنا الإمام الكوثري رحمه الله تعالى فيما علَّقه على ((شروط الأئمة الخمسة)) للحازمي (ص 59) بعد أن نَقَلَ عبارةَ ابنِ أمير حاج هذه: "يُريدُ أنَّ الشيخين وأصحابَ ((السنن)) جماعةٌ متعاصِرون من الحُفاظِ أتوا بعد تدوين الفقه الإسلامي، واعتنوا بقسمٍ من الحديث، وكان الأئمةُ المجتهدون قبلَهم أوفرَ مادةً وأكثرَ حديثًا، بين أيديهم المرفوعُ والموقوفُ والمرسلُ وفتاوى الصحابة والتابعين.
ونظرُ المجتهد ليس بقاصرٍ على قسمٍ من الحديث، ودونك ((الجوامع)) و((المصنَّفات)) ، في كل باب منها تُذكرُ هذه الأنواعُ التي لا يَستغني عنها المجتهد. وأصحابُ ((الجوامع)) و((المصنَّفات)) قبل (السِتّةِ) من الحُفاظ: أصحابُ هؤلاء المجتهدين وأصحابُ أصحابِهم. والنظرُ في أسانيدها كان أمرًا هيّنًا عندهما لعلوْ طبقتهم، لا سيما واستدلالُ المجتهد بحديث تصحيحٌه له. والاحتياجُ إلى (ألسِتّة) والاحتجاجُ بها إِنما هو بالنظر إِلى من تأخَّر عنهم فقط. والله أعلم".]

وابنُ أمير حاج العلام،
[في كتابه: ((التقرير والتحبير في شرح كتاب التحرير)): (3/ 30). ثم دعوى حَصْرِ المخالفةِ في ابنش الهُمام وابنِ أمير الحاج... لا بُرهانَ عليها، فقد جاء ما يدفعُ هذا الترتيبَ عن جمهرةٍ كبيرة من أئمة المحقّقين الذين تقدموا ابنَ الصلاح أو تأخَّروا عنه. وقد أوسعَ البيانَ في ذلك أيما إِيساعٍ الأخُ العلامة المحققُ الناقدُ الشيخ محمد عبدالرشيد النعماني الهندي حفظه الله تعالى في تعليقاتِهِ على كتاب ((دراسات اللبيب)) المسماة: ((التعقيبات على صاحب الدراسات)): (ص 374 حتى 390) ، وفي تعليقاته على ((ذبّ ذُبَابات الدراسات)): (2/ 240-242) فانظرهما لزامًا ففيهما المَقْنَع لكلِّ عالمٍ مُنصف.]
ومن تبِعَهما في هذا المَرام
[أي وافقَهما على ما يَدفع هذا الترتيب، كالحافظِ ابن كثير، والعلامة القسطلاني شارح البخاري، والعلامة عليّ القاري، والعلامة أكرم السنِّندي في شَرْحَيْهما على ((شرح نخبة الفكر))، والعلامة عبدالحق الدهلوي المحدث، وغيرِهم من الأجلَّة. انظر: ((التعقيبات على صاحب الدراسات)) (ص 374-390) ، و((ذبّ ذُبَابات الدراسات)) للعلامة عبداللطيف السندي (2/ 242).] . وقد تعقبَ عليه صاحبُ ((دراسات اللبيب)) [في الدراسة الحادية عشرة ( ص 328-374) ، وأطال في ذلك جدًّا حتى استوعَبَ 46 صفحة وقد تعقَّبهُ صديقنا العلامة الشيخ محمد عبدالرشيد الهندي -كما سبق الإشارةُ إليه- بحواشٍ طويلة علَّقهما هناك كانت كما قال الزمخشري: "الزيتُ مُخُّ الزيتون، والحواشِي مَخمخَةُ المتون". فجزاه الله خيرًا عن العلم وأهلهِ] بتعقباتٍ جيدة وإِيرادات قوية فليُرْجَع إِليه.
فإذا وُجِدَ حديثٌ في
((الصحيحين)) غيرُ مُنتقد، وحديثٌ معارِضٌ له مثلُهُ في السحة بتصريحِ مُعتمَد: يُرجَّحُ الأوَّلُ من حيث الأصحيَّة على الثاني لوجود اتفاق الأمَّة على الأوَّل دون الثاني، وإِن لم يكن مثلَه في الصحةِ فتقديمُ ما في ((الصحيحين)) عليه ظاهر.
ولذا قال
العضد في ((شرح مختصر ابن رجب)) -(2/ 311)-: "السابعُ -أي من وجوه الترجيح- أن يكون مُسْنَدًا إِلى كتابٍ مشهورٍ عُرِفَ بالصحة كـ((البخاري)) و((مسلم)) على ما لم يُعْرَف بالسحة كـ((سُنن أبي داود)) ". انتهى.
نعم قد يرجَّح المُخْرَّجُ في غير
((الصحيحين)) على المُخْرَّج في أحد ((الصحيحين)) بوجوهٍ أُخَر تُوجبُ الترجيح كما قال السيوطي في ((التدريب)) -(ص 65)-: "قد يَعْرِضُ للمَفُوقِ ما يجعله فائقًا كأن يتفقا على إِخراجِ حديثٍ غريب، ويُخْرجَ مسلمٌ أو غيرُه حديثًا مشهورًا أو مما وُصِفاْ ترجمتُه بكونها أصحّ الأسانيد. قال الزركشي: ومِن ههنا يُعْلَم أن ترجيح كتاب ((البخاري)) على ((مسلم)) المرادُ به ترجيحُ الجملة على الجملة لا كلّ فردٍ من أحاديثه على كلِّ فردٍ من أحاديثِ الآخَر". انتهى.
وفي
((شرح نخبة الفكر)) -(ص 47) بحاشية ((لقط الدرر))-لابن حجر: "أما لو رُجِّح قسمٌ على ما هو فوقه بأمورٍ أخرى تقتضي الترجيحَ: فإنَّه يُقدَّمُ على ما فوقه، إِذ قد يَعْرِض للمفوقِ ما يجعله فائقًا، كما لو كان الحديثُ عند مسلم مثلًا، وهو مشهورٌ قاصرٌ عن درجة التواتر، لكنه حفَّتْهُ قرينةٌ صارَ بها مفيدًا للعلم، فإنه يُقدَّمُ على الحديثُ الذي لم يُخْرجه البخاري إِذا كان فردًا مطلقاً، وكما لو كان الحديثُ الذي لم يُخْرجاه مِن ترجمةٍ وُصِفَتْ بكونها أصحّ الأسانيد، كمالك عن نافعٍ عن ابن عمر فإنه يُقدَّم على ما انفرَدَ به أحدُهما مثلاً، ولا سيما إِذا كان في إِسنادهِ مَنْ فيه مقال". انتهى.
وأما كثرةُ طُرُقِ الحديثِ: فاختَلَفوا فيها على قولين:
الأوَّلُ: أنها ليست من أَماراتِ الترجيح، وإِليه ذَهب عامَّةُ الحنفية وبعضُ أصحاب الشافعي، كذا قال البُخاري[هو العلاّمة عبدالعزيز بن أحمد بن محمد البُخاري مؤلِّفُ ((كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، وغيرِه، المتوفى سنة 730 .] في ((التحقيق شرح المنتخَب الحُسامي)) ووَجَّههُ بأنَّ كثرةَ العَدَد لا تكون دليلَ القوة ما لم يَخرُج عن حيِّز الآحاد إِلى حيز التواتر أو الشهرة، وأوضحهُ بأنه لا يَترجَّحُ في الشهادةِ إِحدى الشهادتين بكثرة العَدد.
والثاني: أنها مِن أَمارات الترجيح، وهو قولُ أكثرِ الشافعية، وبه قال أبو عبدالله الجُرْجاني من أصحابنا وأبو الحسَن الكَرْخي في رواية؛ لأن الترجيح إِنما يحصُلُ بقوةٍ لأحدِ الخبرين لا تُوجَدُ في الآخر، ومعلومٌ أنَّ كثرةَ الرواةِ نوعُ قوة في أحدِ الخَبرين؛ لأن قولَ الجماعة أقوى وأبعدُ من السهو، وأقربُ إِلى إِفادة العلم مِن قول الواحد، فإنَّ خبر كلّ واحدٍ يُفيد ظنًّا، والظنونُ المجتمعةُ كلما كانتْ أكثرَ كان الصدقٌ أغلبَ حتى ينتهي إِلى القطع. كذا ذكر البُخاري[عبدالعزيز] في ((التحقيق)) أيضاً -وقال مثلَه أيضًا في ((كشف الأسرار)): (3/ 102)-.
وفي
((مُسلَّم الثبوت)) مع شرْحِه للمولوي وليِّ الله اللكنوي: "لا ترجيحَ بكثرةِ الرواة عند أبي حنيفة وأبي يوسف، خلافاً لأكثر العلماء كالأئمة الثلاثة وغيرِهم ومنهم محمد، فيترجَّحُ بكثرة الأدلَّةِ والرواةِ عندهم وإِن لم تبلغ الشهرةَ، فما في ((كشف المنار))من نسبة الخلاف إِلى بعض أهلِ النظر: ليس على ما ينبغي". انتهى.
والذي يقتضيه رأيُ المُنْصِف، ويرتضيه غيرُ المتعسِّف، هو اختيارُ ما عليه الأكثر، وأنه بالنسبة إِلى الأوَّل أظهر، وقد مال إِليه
صاحبُ ((مُسلَّم الثبوت)) ، حيث ضعَّفَ دلائلَ المذهبِ الأوَّل، وأشار في دليلِ المذهب الثاني إِلى الثبوت، واختارَهُ أيضًا الزيلعيُّ حيث قال في ((نصب الراية لتخريج أحاديث الهداية)) في بحث (جهر البسملة) -(1/ 359)-: "مع أنَّ جماعةً من الحنفية لا يرون الترجيحَ بكثرة الرواة، وهو قولٌ ضعيفٌ لبُعد احتمال الغلط على العَددِ الأكثر، ولهذا ج‘ِلَت الشهادةُ على الزنا أربعةً؛ لأنه أكبر الحدود". انتهى.
وفي
كتاب ((الاعتبار)) -(ص 9)-للحازمي: "مما يُرجَّح به أحدُ الحديثين على الآخر كَثرةُ العَدَد في أحدِ الجانبين، وهي مؤثرةٌ في باب الرواية؛ لأنها تُقَرِّبُ مما يُوجِبُ العِلمَ وهو التواتر، وقال بعضُ الكوفيين: كثرةُ الرواةِ لا تأثير لها في باب الترجيحات؛ لأن طريقَ كل واحدٍ منهما غلبةُ الظن فصار كشهادة الشاهدينِ مع شهادةِ الأربعة.
يُقالُ على هذا: إِلحاقُ الرواية بالشهادةِ غيرُ ممكن؛ لأنَّ الرواية وإِن شاركت الشهادة في بعض الوجوه فقد فارقَتْها في أكثر الوجوه، ألا ترى أنه لو شهد خمسون امرأةً لرجلٍ بمالٍ لا تُقْبلُ شهادَتُهُنَّ، ولو شَهِدَ به رجلانِ قُبِلَت شهادتُهما؟ ومعلومٌ أنَّ شهادة الخمسين أقوى في النفس من شهادة رجلين؛ لأنَّ غلبة الظن إِنما هي معتبرة في باب الرواية دون الشهادة.
وكذا سَوَّى الشارعُ بين شهادةِ إِمامين عالمينِ وشهادةِ رجلين لم يكونا في منزلتهما. وأما في بابِ الروايةُ ترجذَح رواية الأعلم على غيرِه من غيرِ خلافٍ يُعرَفُ في ذلك، فلاحَ الفَرْقُ بينهما
". انتهى.
ومما ينبغي أن ُعلَم أَنَّ الاعتمادَ على كثرةِ الرواةِ وتعدُّدِ الطُّرٌقِ، والترجيح بها: إِنما يكون بعدَ صِحّةِ الدليلينِ، وإِلا فكم من حديثٍ كثُرَتْ رُواتُهُ وتعدَّدتْ طُرُقُهُ وهو ضعيف. وإِنما يُرجَّح بكثرةِ الرواةِ إِذا كانوا مُحْتجًّا بهم من الطَّرَفينِ، كذا ذكَرَ
الزيلعيُّ في ((تخريج أحاديث الهداية)) -(1/ 360)- والعينيُّ في ((البناية شرح الهداية)) -(1/ 627)- وغيرُهما.
وأما فقه الراوي: ...
جاء في "الأَجْوبَة الفَاضِلة لِلأَسئِلةِ العَشْرة الكَامِلةِ" للإمام اللكنوي، مع [التعليقات الحافلة على الأجوبة الفاضلة] للشيخ عبدالفتاح أبو غدّة، ط. (دار السلام) السادسة [2009]:
((ص(202)/
السؤال السابع
في أن تخريجَ الشيخينِ وكثرةَ الطرق وفشقه الراوي هل هي من وجوه الترجيح؟​
تخريجُ الشيخين: البخاريّ ومُسْلم، وكثرةُ طُرٌقٌ الحديثِ مِن دون الوصول إِلى حدّ الشُّهرة والتواتر، وفِقْهُ الراوي، هل هي من وجُوه الترجيح؟ أم لا؟
الجـواب
...​
ص(210) -وما بعدها-/
وأما فقه الراوي: فقال الحازمي -في كتابه "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الأخبار": ص(16)-: "الوجْهُ الثالثُ والعشرون -أي من وجوه الترجيح- أن يكون رُواةُ أحدِ الحديثين -مع تساويهم في الحفظِ اولاتقان- فقهاءَ عارفين باجتِناءِ الأحكام من مُثمِراتِ الألفاظ، فالاسترواحُ إلى حديثِ الفقهاءِ أَولى. وحكَى عليُّ بن خَشْرَم قال: قال لنا وكيع: أيُّ الإِسنادين أحبُّ إليكم؟ الأعمشُ عن أبي وائلٍ عن عبدالله؟ أو سُفيانُ عن منصورٍ عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله؟ فقلنا: الأعمشُ عن أبي وائل عن عبدالله، فقال: يا سبحان الله! الأعمشُ: شيخ، وأبو وائل: شيخ. وسفيانُ: فقيه، ومنصورٌ: فقيه، وإبراهيم: فقيه، وعلقمةُ: فقيه. وحديثٌ تداولُهُ الفقهاءُ خيرٌ من أن تتداوله الشيوخ -رواه الحاكم في نعرفة علوم الحديث ص(11)، وقال ابن الأثير في جامع الأصول: (1/ 62): بعد ذكره: "فهذا من طريق الفقهاء رُباعي إلى ابن مسعود، وثُنائي من طريق المشايخ، ومع ذلك قُدِّم الرُّباعي لأجل فقه رجاله.- ". انتهى.
وفي "التدريب" -للسيوطي ص(389)-: "ثالثها -أي من وجوه الترجيح- فِقْهُ الراوي سواء كان الحديثُ مرويًّا بالمعنى أو اللفظ، لأن الفقيه إذا سَمِعَ ما يمتنع حَمْلُه على ظاهره بحَثَ عنه حتى يطَّلِعَ على ما يزولُ به الإِشكالُ بخلاف العامي". انتهى.
وفي "مُسلَّم الثبوت" -(2/ 206): "وفي السَّنَد: بفقهِ الراوي وقوَّةِ ضبطهِ ووَرَعِه". اهـ.
قال اللكنوي في "شرحه": اعلم أنَّ حصولَ الترجيح بالفقاهة إِنما هو لأنَّ الفقه يميزُ بين ما يجوزُ روايتُه وما لا يجوز، فإذا سمعَ كلامًا لا يجوزُ إِجراؤه على الظاهر لا يجْترِئ على روايته في أوَّل النظر بل يفحصُ عن معناه ويَسْأَلُ عن سببِ ورُودِه، فيطَّلعُ على ما يُزيلُ إِشكالَهُ ثم ينقُلُه، بخلاف غيرِ الفقيه فإنه لا يَقْدِرُ على ذلك فينقل القَدْرَ المسموع، وهذا بعينه يقتضي ترجيح الأَفقهِ على من هو أدنى منه في الفقاهة، فيرجَّحُ رواية من هو أكثرُ فِقهًا على رواية من ليس بتلك المرتبة". انتهى.
وقال أيضًا: "اعلم أنَّ الترجيح بالفقاهة يقع مطلقًا لما عرفتَ، فما قيل إن هذا الترجيحَ يُعتبرُ في خبرينِ مَرْوِيَّيْنِ بالمعنى لا في المَرْويَّيْنِ في اللفظ تحكُّمٌ". انتهى.
وفي "أصول البزدوي" -(2/ 379)-: "قَصُرَتْ رِوايةُ من لم يُعرَف بالفقه عند مُعارضةِ من عُرِفَ بالفقهِ في باب الترجيح، وهذا مذهبُنا في الترجيح". انتهى.
وفي "حاشيته": "قياس مذهب أهل الحديث عدمُ الترجيح بفقه الراوي لأنَّ نقْل الحديث بالمعنى لا يصحُّ عندهم أصلا فيستوي في النقل الفقيهُ وغيرُ الفقيه. وقال قوم هذا الترجيحُ إنما يُعتبرُ في خبرين مَرْوِيينِ بالمعنى؛ أَما باللفظ فلا، والحقُّ أنه يقع به الترجيح مطلقًا". اهـ.
وفي "تنوير المنار" لبحر العلوم اللكنوي: "الحديثُ الذي رُواتُه أفقَهُ مُقدمٌ في العمل على الحديث الذي ليست رُواتُه كذلك" انتهى، مُلخَّصًا مُعربًا.
وفي "فتح القدير" -(1/ 219)، بعد ذكر مناظرة أبي حنيفة مع الأوزاعي-: "فرجَّح بفقه الرواة كما رجَّح الأوزاعيُّ بعلوِّ الإِسناد، وهو -أي الترجيح بفقه الراوي- المذهبُ المنصورُ عندنا". اهـ. ومثلُه في "حلْبة المُجَلِّي شرح مُنْيَة المُصلِّي" -ص(197- 201)- لابن أمير حاج الحلبي.
والمناظرةُ التي جرت بين أبي حنيفة والأوزاعي المشهورةُ بين الفقهاء هي:
اجتمَعَ هو والأوزاعيُّ في دارِ الحَنَّاطين بمكة، فقال الأوزاعيُّ لأبي حنيفة: ما بالُكم لا ترفعو أيديَكم في الصلاةِ عند الركوعِ وعند الرفع منه؟ فقال أبو حنيفة: لأجلِ أنه لم يصحَّ عن رسول الله فيه شيء، فقال: كيف لم يصحَّ وقد حدثني الزهريُّ عن سالمٍ عن أبيه عن رسول الله أنه كان يرفعُ يديه إِذا افتتح الصلاةَ، وعند الركوعِ، وعند الرفع منه؟ فقال أبو حنيفة: حدثنا حمادٌ عن إِبراهيم عن علقمةَ والأسودِ عن عبدالله بن مسعود أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يرفعُ يديه إِلا عند افتتاح الصلاة ولا يعودُ لشيءٍ من ذلك، فقال الأوزاعي: أُحدِّثك عن الزهريّ عن سالم عن أبيه وتقولُ: حدَّثَنا حمَّادٌ عن إِبراهيم؟! فقال أبو حنيفة: كان حمادٌ أفقهَ من الزهريّ، وكان إِبراهيمُ أفقهَ من سالمٍ، وعلقمةُ ليس بدون ابنِ عُمر في الفقه، وإن كانت لابن عُمَر صُحْبَةٌ وله فضلُ صُحْبة. فالأسود له فضلٌ كبير، وعبدُالله: عبدالله، فسكتَ الأوزاعيّ. -فتح القدير: (1/ 219) والجواهر المنفية: (1/ 61)-.
قلتُ: قد اشتهر بين العوامّ أنَّ هذه المناظرة مما لا سَنَدَ لها لا صحيحًا ولا ضعيفًا حتى إِنَّ صاحب "الدراسات" قال -في "دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب" ص(205) منها-: "إِن هذه الحكاية عن سفيان بن عُيَيْنَة معلَّقة، ولم أرَ من أسندها، ومَنْ عنده السند فليأتِ به". انتهى.
وليس كذلك، فقد أسنَدَها أبو محمد بن عبدُالله بن محمد بن يعقوب بن الحارث الحارثيُّ البخاريُّ المعروفُ بالأستاذ، تلميذُ أبي حفصٍ الصغير، ابنِ أبي حفصٍ الكبير، تلميذ الإِمام محمد بن الحسن في "مُسْنَده" بقوله: حدَّثنا محمد بن إِبراهيم بن زياد الرازي، حدثنا سليمان بن الشَّاذكُوني، قال سمعتُ سفيانَ بن عيينة يقول: اجتمَعَ أبو حنيفة والأوزاعيُّ في دارِ الحنَّاطين بمكة... إِلى آخرِ ما مرَّ ذكرُهُ. كذا نقَلَهُ السيد مرتضى الحُسيني في كتابه "عُقود الجواهر المُنيفة في أَدلَّةِ الإِمام أبي حنيفة" -(1/ 60- 61)، وقال المرتضى بعدها: "والشاذكُونيُّ: واهٍ مع حفظه، إِلا أنَّ القصة مشهورة"-.
[وقد أسندها عن الحارثي الإمامُ الموفقُ المكيُّ في "مناقب الإمام الأعظم": (1/ 130). والحارثيُّ إمامٌ حافظ مشهورٌ من كبار فقهاء الحنفية. ذكره الذهبي في "تذكرة الحفاظ" في ترجمة القاسم بن أصبغ ص(854). فقال: "وفي سنة أربعين وثلاثمائة: مات عالمُ ما وراء النهر ومحدّثُه الإمامُ العلامة أبو محمد عبدالله بن محمد بن يعقوب بن الحارث الحارثي البخاري، الملقب بالأستاذ، جامع "مسند أبي حنيفة الإمام"، وله اثنتان وثمانون سنة. أفاده المحقق محمد عبدالرشيد النعماني في تعليقه على "دراسات اللبيب": (ص 205) .]
وفي "شرح النخبة" لعلي القاري -ص(104)-: "المذهبُ المنصورُ عند علمائُنا الحنفية: الأفقهيةُ دون الأكثرية". انتهى.
فهذه عبارتُ العلماء قد دلَّتْ على اعتبار الترجيح بالفقه، وأن فيه ثلاثَ مذاهب: عدمُ اعتباره مطلقًا، واعتبارُهُ مطلقًا، واعتبارهُ فيما إِذا كان مَرْويًّا بالمعنى دون ما إِذا كان مَرْويًّا باللفظ، وأنَّ مختارَ الحنفيةِ وبعضِ المحدّثين هو المذهبُ الأخير.
وقد أَتى صاحبُ "دراسات اللبيب" ههنا بكلام ينفي اعتبار الترجيح بالفقه عند الحنفية حيث قال -في ص(206) منها، عند ذكر وجوه الإِغراب في المعارضة المشهورة بين أبي حنيفة والأوزاعي في بحث رفع اليدين ما نصُّه-: "الثالثُ: فِقْهُ الرواةِ لا أثرَ له في صحة الحديث. إِذ قِلَّةُ الفقهِ لا تُوجِبُ الوَهْنَ في شرائط التحملِ وما يُلازمُه الوُثوقُ بالرواية، وإذا انتفى ذلك بقيَ العلوُّ لسَنَد ابنُ عمَر مع ما له مِن الصحة، والحنفيةُ لا يعتقدون أيضًا أنَّ قلةَ فِقهِ الراوي مما يتطرَّقُ به الوهْنُ إِلى مرْويه، بل يرَوْن أَنَّ روايةَ قليل الفقه من الصحابة إِذا خالفها القياسُ مِن كلِّ وجهٍ يُقدَّمُ القياسُ عليها مِن غير أن يتطرَّقَ عندهم وهن بعدَم فِقْهِ الراوي في صحَّة مَرْويّه، أو يحصُلَ زيادةُ وُثوقٍ بفقهِ الراوي لصحَّةِ مَرْويه مِن مَرْوِيّ مَنْ دونَه في الفقه.
وما ذهبوا إِليهِ مِن تقديم القياسِ على روايةِ مثلِ أبي هريرة، وأنسٍ، وجابرٍ، وهم عندهم ممن يقلُّ فِقهُهم من الصحابة، قد وقَعَ عليهم بذلك الطعْنُ الشديدُ، لا سيما في حُكمهم على أبي هريرة بقلَّة الفقه". اهـ.
ثم قال -ص(212)- بعد كلامٍ طويلٍ: "وإِذ قد تبيَّنَ أنهُ لا أثرَ لفِقْهِ الراوي في صحة الحديث وقُوَّته على حديثِ غير الفقيه، وأنَّ أصحاب أبي حنيفة إِنما يرَوْن الأثرَ لكثرةِ الفِقه وقِلتِه من جهةٍ أخرى غير ترجيح المرْوِيّ وهي تقديمُ القياس، فنسبةُ القولِ بترجيح رواية الفقيه على غير الفقيه إِلى أبي حنيفة في هذه الحكاية من أمَارات الاختلاق عليها". انتهى.
وهذا الكلامُ فيه نظرُ لا يخفى، فإنه -وإن أصاب في أنه لا أثر للفقه في صحَّة المرويّ، إِنما مَدارُها على العدالة وغيرها من الشروط المذكورة في موضعها، وفي أنَّ قلَّة الفقه لا توجبُ الوَهْنَ في شرائط التحمُّل، وفي أنَّه قد وقعَ الطعنُ على الذين قالوا بعَدَم قبولِ رواية غير الفقيه المخالفة للناس وهم جمعٌ من الحنفية لا كلُّهم كما هو مبسوط في "الكشف" [للعلامة عبدالعزيز البخاري: (2/ 383)] و"التحقيق" و"التلويح" [للسعد التفتازاني (2/ 5)] و"التحرير" [للكمال ابن الهُمَام (2/ 250)] وغيرها- لكنه لم يُصبْ في أنه لا أثرَ لفِقهِ الراوي في قوَّة الحديث على حديثِ غيرِ الفقيه عند الحنفية، وأنهم إِنما يَروْن الترجيح بالفقه من جهة أخرى لا من هذه الجهة. فإنَّ كُتبَ أصول الحنفية متواردةٌ على اعتبار ترجيح مَروي الفقهاء على مروي غيرِ الفقهاء، وليس ابنُ الهُمام متفرِّدًا بنسبته إِلى أبي حنيفة، بل قد صرَّحَ به جمعٌ ممنقَبله ومَنْ بعده، كما لا يخفى على من وسَّعَ نظره وفتَّح بصره.
وقد يتراءى في هذا المقام أنَّه لا أثرَ للفقه في المروي أصلاً، إِنما المؤثرُ في ضعفهِ وقوَّته تفاوتُ درجات الراوي في شروط الصحة نقصانًا وكمالا، وإِنما الفقهُ أمرٌ يتفاضَلُ به الفقيه في نفسهِ على غير الفقيه، فينبغي ألا يقع ترجيحُ مروي الفقيه على مروي غير الفقيه.
والجوابُ عنه: أنَّ التفاوت في الفقه يقع التفاوت في المروي أيضًا، لا أنه لا يقع به فيه أمرٌ أصلا، وذلك لأن الرواية بالمعنى قد شاعَتْ بينهم وقلَّ من لم يُجَوِّزها منهم، فإذا كان الراوي فقيهًا يجتهدُ في فهْم معاني اللفظ المرويّ، ويتأَمَّلُ في المعنى الظاهر والخفي، بخلاف غيرِ الفقيه، فإنه يأخذ ظواهرَ المعاني ولا يصِلُ إِلى بواطن المباني، فمن هذه الجهة يترجَّحُ الأوَّل على الثاني، ولا يكون عند التعارض ترجيحٌ للثاني؛
فإن قلتَ: إِنَّ الصحابة كانوا أكثرَ اعتناءً بحفظ ألفاظ الحديث بعينها وتبليغ الأحاديث بهيئتها، ولذا يُنقَلُ عنهم كثيرًا: الشكُّ بين اللفظينِ والتردُّدُ بين الجملتين، وكانوا أشدَّ نكيرًا على من بدَّلَ لفظَ الخبرِ بلفظٍ آخَرَ وإِن لم يحصُل فسادُ المعنى ولم يتغيَّر، كما لا يخفى على من طالبعَ كتب الفنّ، وتأمَّل روايات "السُّنن"، فمع هذا يُسْتبعَدُ عنهم وإِن كانوا غير فقهاء أن يُبدِّلوا الألفاظَ ولا يتأمَّلوا مواقع الألحاظ.
قلتُ:مع ذلك كان كثيرٌ من الصحابة مكتفين برواية المعنى غيرَ ملتزمين للمبنى ، فيظهر التفاوتُ بالفقهِ عند ذلك وإِن لم يظهر هنالك، مع أن الاعتناء بالألفاظ وإِن كان موجودًا في الصحابة لكنه مفقود فيمن بعدهم من الرواة والأئمة فإنهم جوَّزوا الرواية بالمعنى من دون الاعتناء بالمبنى، وهو مذهبُ أكثر الفقهاء والمحدِّثين خلافًا لطائفة من الفقهاء والمُحدثين، فلا بُدَّ أن يُعتبر الترجيحُ بنَقادتِهم [يريد بنَقْدِهم] في الفقه ومقدارِ تأمُّلِهم وأفهامِهم؛
على أن ههنا وجهًا آخَرَ لاعتبارِ الترجيح بالفقهاة يشمَلُ ملتزمي الألفاظ وغيرَهم من الأئمة والصحابة، وهو أنه قد يكون للحديث مَوْرِدٌ يختصُّ به ولا يتجاوزُ إِلى غيره، وقد يكون له متعلَّقٌ ينكشفُ بضمِّهِ المقصودُ، أو متعلَّقٌ يَنْحَلُّ به المعقودُ، فالفقيهُ إِذا رَواه بعد إِحاطة الأطراف، وغيرُ الفقيه يقتصرُ على رواية الأطراف،
فتترجَّحُ عند التعارضِ مِن هذه الحيثية رِوايةُ الفقيهة على غيرِ الفقيه وإِن تَساويَا في الضبط والعدالةِ وسائر شروط الصحة.)) . انتهى.
)) إلى هُنا ينتهي النقل.

وبالله التوفيق،،
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
أعلى