العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

جديد مصطلحات ابن خلدون والمعاصرين للمذاهب الاصولية"نقد وتقويم"

إنضم
17 مايو 2013
المشاركات
33
الكنية
أبو ساري
التخصص
أصول الفقة
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
الحنبلي
*

*

*

*

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

الحمد لله كثيرا طيّبا مباركا فيه, وصلّى الله وسلّم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين, وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:

أما بعد:

فمنذ أولى سنىّ الطلب ونحن نتلقى أنّ المذاهب (المناهج, المدارس) الأصولية ثلاث:

-*مذهب المتكلمين, ويعنون به: الشافعية والمالكية والحنابلة.

-*مذهب الفقهاء, ويعنون به: الحنفية

-*مذهب من جمع بين الطريقتين السابقتين

حتى استقرت هذه الاصطلاحات في الأذهان, فلا تكاد تجد دراسة أو بحثا- يتعلق بهذا الموضوع- أو مقدمة تحقيق, إلا وهذا التقسيم حاضر, وهذه المصطلحات غالبة, حتى صارت من المسلمات.

وأصل هذا التقسيم والاصطلاح مسطور في "التاريخ" لابن خلدون, فهو- فيما أعلم- أول من اخترع هذه الاصطلاحات, ثم علّلها فقال ما نصّه: (ثم- أى بعد الشافعي- كتب فقهاء الحنفية فيه, وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها, وكتب المتكلمون أيضا كذلك, إلا أن كتابة الفقهاء أمسُّ بالفقه, وأليق بالفروع لكثرة الأمثلة منها والشواهد, وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية. والمتكلمون يجرّدون صور تلك المسائل عن الفقه ويميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن, لأنه غالب فنونهم, ومقتضى طريقتهم, فكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى من الغوص على النكت الفقهية, والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن).

وضرب مثلا على طريقة من سماهم ب(الفقهاء),بكتاب أبي زيد الدبوسي : "تقويم الأدلة", وعلى من سماهم ب(المتكلمين),بأربعة كتب: "البرهان" لإمام الحرمين, و "المستصفى" للغزالي, و"العهد" للقاضي عبد الجبار المعتزلي, و"المعتمد" لأبي الحسين البصري, وعدّ هذه الكتب من (قواعد هذا الفن وأركانه),كُنْ من هذا التمثيل على ذُكْرٍ, فنحن بحاجة إليه حين نتعرّض لنقد هذه الاصطلاحات.

أما الطريقة الثالثة, فضرب لها مثلا بكتاب "البديع" لابن الساعاتي.

وبقى هذا التقسيم والاصطلاح حبيس "التاريخ" قرونا طويلة, لم يحفل به أحد من أهل العلم, حتى انتصف القرن الثالث عشر الماضي, حين أحيا بعض علماء الأزهر هذا الاصطلاح بعد موات, فبالغوا في تقريره, وزادوا في تعليله, وهم:

-*الشيخ محمد الخضري (ت1345ه),فقسّم هذه المذاهب على منوال تقسيم ابن خلدون وزاد : (فأما المتكلمون فإنه كان من رأيهم البحث على طريقة أهل الكلام , وتقرير الأصول من غير التفات إلى موافقة فروع المذهب, أو مخالفتها إياها, فما أيدته العقول والحجج من القواعد أثبتوه, وما خالف ذلك نفوه...وأما الحنفية فطريقتهم كان يُراعى فيها تطبيق الفروع المذهبية على تلك القواعد, وقد يؤدي ذلك إلى تقرير قواعد غريبة الشكل-كذا!-, وإذا كانت القاعدة يترتب عليها مخالفة فرع شكلوها-كذا!- بالشكل الذي يتفق معه)ثم أورد الكتب الأربعة التي مثّل لها ابن خلدون لهذه الطريقة, وأقرّ الشيخ الخضري أنه لم يطّلع إلا على "المستصفى" للغزالي, أما كتاب "البرهان" لإمام الحرمين فرأى شذرات منقولة في "شرح الإسنوي على منهاج البيضاوي.

بل أشْعرنا كلامه أنه لم يطّلع حتى على كتابى : "المحصول" للرازي, و"الإحكام" للآمدي, فقال : (و"المحصول" موجود بأسره في دار الكتب المصرية, و"الإحكام" يوجد معظمه),وكأنه يشير إلى عدم طباعة هذه الكتب, وبقائها على أصلها المخطوط.

-*والآخر هو الشيخ : عبد الوهاب خلاف (ت1375),فنقل كلام شيخه السابق كالمقرر له ولم يزد.

-*وثالثهم: الشيخ محمد أبو زهرة (ت1394ه), وهو- فيما أرى- أعظمهم تأثيرا, وأوسعهم انتشارا, وأحسنهم بيانا فقال-بعد نقل التقسيم السابق- : ( أصول المتكلمين كان اتجاها نظريا خالصا, لأن عناية الباحثين فيه متجهة إلى تحقيق القواعد وتنقيحها من غير اعتبار مذهبي, بل يريدون انتاج أقوى القواعد سواء أكان يؤدي إلى خدمة مذهبهم أم لا), ومثّل لهذا بصنيع الآمدي الشافعي, حين رجّح حجية الإجماع السكوتي, مخالفا إمامه الشافعي, الذي يرى حجيته

ثم قال الشيخ أبو زهرة: ( ولقد دخل في دراسة هذا الاتجاه طائفة كبيرة من المتكلمين, إذْ قد وجدوا فيه ما يتفق مع دراستهم العقلية, ونظرهم إلى الحقائق مجردة, وبحثوا فيه كما يبحثون في علم الكلام لا يقلدون, ولهذا كانت تسمية هذه الطريقة بطريقة "المتكلمين" لها موضع الحق, وقد كثرت في هذا المنهاج الفروض النظرية, والمناحي الفلسفية والمنطقية, فتجدهم تكلموا في "التحسين والتقبيح العقلي", وفي "شكر المنعم", وهكذا يختلفون في مسائل نظرية لا يترتب عليها عمل, ومن ذلك اختلافهم في "جواز تكليف المعدوم").

ثم ذكر الطريقتين الأخريين على وفق ما ذكره السابقون, وزاد في تقرير مذهب "الفقهاء" بنقول سيأتي بيانها والرد عليها في موضعها إن شاء الله.

ولم يتعدّ هؤلاء الفضلاء في الاستشهاد على مذهب "المتكلمين" بأكثر مما تعداه ابن خلدون من كتبه الخمسة, ناهيك عمّا أقر به الشيخ الخضري من عدم اطّلاعه على أكثرها, وكأنه اعتمد اعتمادا كليا على ما سطّره ابن خلدون في "تاريخه", فكُنْ من هذا التنبيه أيضا على ذُكْر.

ولمّا قرّر هؤلاء المعاصرون مصطلحات ابن خلدون ونفخوا فيها, سُرْعان ما انتشرت بين طلاب العلم والدارسين, بل صار مقرّرا يُدرّس في الجامعات, فأول ما يُلقن الطالب من مبادئ علم الأصول, هذه التقسيمات والمصطلحات, على أنها مبادئ مقرّرة, وقضايا مسلّمة.

*ومن ههنا يبدأ الخلل والزلل, فكم عانيتُ أعواما كثيرة-وما زال يعاني الطلاب حتى مراحل متقدمة-في التوفيق بين هذه المصطلحات, وبين ما أجده مسطورا في كتب الأصول –قديمها وحديثها-,لما أجده من التناقض البيّن:

*فكتب أصول الفقه تقسّم المذاهب على حسب أربابها: الحنفية, المالكية, الشافعية, الحنابلة, الظاهرية

*وربما قسّمت المذاهب حسب الأعلام.

ومصطلح " المتكلمين" و"الفقهاء", دارج واسع الانتشار في هذه الكتب, لكني كنتُ أجد عنتا وحيرة في إنزال هذه المصطلحات والتقسيمات-التي حُشى رأسنا بها-,على ما هو مسطور في هذه الكتب, فكثيرا ما يُعطف على مصطلح "المتكلمين" في هذه الكتب: الشافعية أو المالكية, وأسأل نفسي: أليس الشافعية والمالكية هم المتكلمين؟ فما بالهم عطفوا المثيل بالمثيل!

وربما عطفوا على مصطلح" الفقهاء": الحنفية والشافعية, وأسأل نفسي نفس السؤال, وأزيد: لِمَ دخل الشافعية في هذا المصطلح؟

وأما مصطلح "الشافعية" الذي يُقصد به الجمهور, فما عرفته قط في كتب الأصول بهذا المعنى, بل يُراد به أصحاب ذاك المذهب لا غير.

وما زال الطلاب يجدون حيرة وترددا في التوفيق بين هذا التناقض, وأحسن أحوالهم في دفع هذا التناقض: أنْ يحملوا هذه المصطلحات على المعنى المقرّر المعاصر تارة, وعلى المعنى المذهبي تارة أخرى.

فإن سألتهم: وما هو الضابط على حمله على هذا المعنى أو ذاك؟ لم يجدوا جوابا.

وأثرٌ آخر بالغ السؤ كان نتاج هذه المصطلحات-عانيتُ منه قبلُ-,وهو ما استقرّ في قلوب الناشئة من ذمّ الكلام وأهله, ثم يجدون أن مذهب مالك والشافعي وأحمد في أصول الفقه يُوصم بأنه مذهب "المتكلمين", ونلقنهم بأن أصحاب هذا المذهب : (يقررون الأصول بما يتفق ودراستهم العقلية!, ويبحثون فيه كما يبحثون في علم الكلام) وأنّ هذا المنهج : (قد كثُرت فيه الفروض النظرية والمناحي الفلسفية والمنطقية),ونغرس فيه ثالثة الأثافي بالقول إن هذه الطريقة : (تُثبت ما أثبته العقل وتنفي ما نفاه).

أما مذهب "الفقهاء"-الحنفية- فهو مذهب: (أمسّ بالفقه, وأليق بالفروع, وبناء المسائل على النكت الفقهية), ولو رُمْتَ حنفيا متعصبا ليقدح في مذهب الجمهور ويُثني على مذهبه, لما وجد خير من هذا التقرير. لذلك كنا نتوجس من هذه الكتب وأصحابها, ونُسىء الظن في مؤلفيها, حتى أني أعرف بعضا من زملائي آثر التحويل من كلية الشريعة- قسم الفقه والأصول- إلى كلية الدعوة- قسم التفسير والحديث- هربا من ضيق "أصول المتكلمين" إلى رحاب التفسير والحديث.

وهذا بحث أقدمه بين يدى طالب العلم, أُزيف فيه هذه التقسيمات والاصطلاحات, وأبيّنُ بطلانها تعليلا ونقلا, وأنها من اختراعات ابن خلدون, وفيه تذكير لإخواني الباحثين والدارسين لإعادة النظر في هذه المصطلحات, والعودة إلى اصطلاحات أهل العلم, وأهل الأصول خاصة.

واللهَ تعالى أسأل أن يوفقنا للصواب, وأن يهدينا ويهدي بنا, وصلى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه الأستاذ الدكتور:
خالد بن محمد العروسي
عضو هئية التدريس بجامعة أم القرى
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
http://uqu.edu.sa/kmabdulqadir

يتبع..
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
إنضم
17 مايو 2013
المشاركات
33
الكنية
أبو ساري
التخصص
أصول الفقة
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
الحنبلي
رد: مصطلحات ابن خلدون والمعاصرين للمذاهب الاصولية"نقد وتقويم"

المبحث الأول

مقارنة بين مصطلح العلماء للمذاهب الأصولية, ومصطلح ابن خلدون

من تتبع اصطلاحات أهل العلم للمذاهب الفقهية يجدها تنقسم إلى مذهبين من حيث الجملة :

-*مذهب أهل الحديث.

-*مذهب أهل الرأى.

أما مذهب أهل الحديث, فربما عبّر بعضهم باصطلاح قريب وهو : مذهب فقهاء الحديث, تمييزا عن أهل الحديث الذين ليست لهم مشاركة في الفقه, وإنما برعوا في العلل والأسانيد كابن المديني رحمه الله, يقول الحافظ ابن رجب : ( ولم يكن ابن المديني من فقهاء الحديث, وإنما كان بارعا في العلل والأسانيد).

والتعبير بهذا القيد تجده كثيرا عند ابن تيمية, وابن القيم ,وابن رجب, لكن الأغلب- يصفونهم ب" أهل الحديث" ويعنون به: مالكا والشافعي وأحمد من أصحاب المذاهب المتبوعة.

أما مذهب أهل الرأى فيعنون به غالبا: مذهب أبي حنيفة. وربما عُبّر عنهم ب"مذهب العراقيين" أو "أهل الكوفة"والعجب أن هذا التقسيم-أى :أهل الحديث وأهل الرأى- مقرّر عند المعاصرين إذا تحدثوا عن الأحكام والفروع, بل هناك مقرر في الجامعات بعنوان: "مدخل لدراسة الشريعة" ,يقرّرها ويقسمها على هذا النحو, لكنها تستحيل إلى مذهب "المتكلمين" في الأصول, وهذا من غرائب العلم والاصطلاح, فالفروع تُبنى على الأصول, فالأصول أحق بهذا الوصف من الفروع.

ولا يعترضن معترض بأن الأصول قد مُزجت بعلم الكلام, فاقتضى إحداث هذا المصطلح, فإن الفقه أيضا لحقه من آفات الكلام المذموم, بل لحقه من البدع *والشركيات المنسوبة للأئمة, ومع هذا لم يَحُل ذلك دون وصفها بفقه "أهل الحديث" فهو اعتراض ساقط. *وسيأتي مزيد بيان وتفصيل لهذه المسألة في المبحث الأخير إن شاء الله.

وكلام ابن خلدون والمعاصرين المنقول آنفا عن أصول من سَمّوهم ب"المتكلمين", هو إلى الذم أقرب منه للمدح, وإلا أىّ مدح في أصول تقوم على الفروض النظرية, والمناحي الفلسفية والمنطقية؟ وأىّ ثناء لأصول تقوم على ما أيدته العقول؟ إلى آخر ما نقلناه عنهم. وكلامهم عن أصول "الفقهاء" –أهل الرأى-هو ثناء محض, وقد عرفْتَ قبلُ المآخذ التي يأخذها أهل الحديث على أهل الرأى في أصولهم وفروعهم, وما جرى بينهم في هذا من مناظرات, ثم انقلب الحال- بقوة ابن خلدون ومن شايعه- إلى العكس.وهذا لعمري خلاف الحق, فأهل الحديث أحق بالثناء من غيرهم, وهم أخصُّ الناس باتّباع سنة النبى صلى الله عليه وسلم, وأصولهم هى أسدُّ وأصحُ الأصول.

يقول ابن تيمية: (ثمّ من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة, وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد, وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما, حتى إن الشافعي لمّا ناظر محمد بن الحسن, حين رجح محمد لصاحبه, على صاحب الشافعي, فقال له الشافعي: بالإنصاف أو بالمكابرة؟ قال له: بالإنصاف. فقال: ناشدتك الله صاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم؟ فقال: بل صاحبكم. فقال: صاحبنا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم صاحبكم؟ فقال: بل صاحبكم. فقال: صاحبنا أعلم بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم صاحبكم؟ فقال: بل صاحبكم. فقال: ما بقى بيننا وبينكم إلا القياس, ونحن نقول بالقياس, ولكن من كان بالأصول أعلم كان قياسه أصح) ومذهب فقهاء الحديث هو المذهب الوسط بين أهل الظاهر وأهل الرأى: يقول ابن تيمية : (والتوسط في ذلك هو طريقة فقهاء الحديث , وهى إثبات النصوص والآثار الصحابية على جمهور الحوادث, وما خرج عن ذلك كان في معنى الأصل, فيستعملون قياس العلة والقياس في معنى الأصل, وفحوى الخطاب, إذْ ذلك من جملة دلالات الألفاظ, وأيضا فالرأى كثيرا ما يكون في تحقيق المناط الذي لا خلاف بين الناس في استعمال الرأى)

أسوق ما تقدّم لتقارن بين تقرير ابن خلدون وتقرير العلماء لمذهب أهل الحديث, الموصوف ب "مذهب المتكلمين", ولتقدر مدى الضرر الذي أصاب طلاب العلم من هذه الاصطلاحات فنتج عنه هذا التوجس والتردد من علم أصول الفقه.

فإن كان هذا التناقض هو من غرائب العلم, فما هو أغرب: أنّا سلّطنا ابن خلدون ومصطلحاته على هذا العلم, وهو ليس من أهل هذا الفن:

فابن خلدون فذٌّ فريدٌ في بابه: "التاريخ والأنساب", وله قراءآت في فنون كثيرة, لكنها لا تبلغ مبلغ الاعتداد والاستشهاد بها, ولم يشهد له-فيما أعلم- أحدٌ من أقرانه أو المتأخرين عنه- حتى المالكية التي ينتسب إليها- بالفقه أو الأصول, وليس له أقوال أو آراء فيهما منقولة أو مأثورة, وليس له في هذين العلمين كتب مسطورة.

وأقوى ما يُستدل على علمه وفقهه, توليه القضاء, فلُقّب ب"قاضي القضاة", لكن من له أدنى تأمل في التاريخ والتراجم يعلم أن تولّي القضاء عند الحكّام له معايير أخرى غير العلم والفقه: كالمذهب, والاعتقاد, والموالاة القبلية والسياسية, ولا شك أن القضاء قد تولاه جبال العلم, لكن أيضا تولاه الأغمار والنكرات, بل والكذّابون:

أتعرفون الحديث المشهور الذي يضربه المحدثون مثلا لمن يضع الحديث تزلّفا للحكام : (لا سبق إلا في نصل أو خفّ أو حافر )؟,فزيد فيه : (أو جناح) فواضعه للرشيد هو : قاضي القضاة: أبو البختري, وهب بن وهب القرشي المديني, ولم يُعرف بعلم أو فقه, غاية ما وُصف به أنه (فقيه أخباري).

فتولي ابن خلدون القضاء لا يُثبت ولا ينفي كونه فقيها, لا سيّما وأنه لم يُنقل شئ من أَقْضيتة أو فتاواه, والهمم والدواعي تتوافر على نقل المنسوبين للفقه وإن صغروا.

ومع هذا راج وذاع مصطلحه للمذاهب الأصولية*أى رواج, وكان حقّه التوقف فيه, لا سيما إذا عرفنا أن أهل العلم لم يحفلوا به, وهجروه في "التاريخ", هذا لو صحّ التعليل الذي قام عليه هذا الاصطلاح والتقرير, كيف وهو باطل لا يقوم على ساق صحيحة, وهو ما سأبينه في المباحث التالية إن شاء الله تعالى

*

المبحث الثاني

تزييف مصطلح المتكلمين, الموصوف به "أهل الحديث"

وتزييفه ببيان بطلانه من حيث المنهج والتعليل والنقل:

-*أمّا المنهج فأقصد به النهج الاستقرائي الذ سلكه ابن خلدون ومن تابعه من المعاصرين في إطلاق هذا الاصطلاح, فمن المعروف أن المنهج الاستقرائي إما أن يكون :

استقراء كاملا: وهو الحكم على كلي بوجوده في كل جزئياته, وهو يفيد القطع.

أو استقراء ناقصا : وهو الحكم على كلي بوجوده في أكثر جزئيات, وهو يفيد الظن.

وكلاهما معدوم فيما استقرأه ابن خلدون والمعاصرون, فأطلقوا هذا الحكم الكلي "المتكلمين", باستقراء أربعة أو خمسة كتب من كتب الشافعية, وهذا لعمري (استقراء مريض) إن صحّ أن يُوصف الاستقراء بالمرض. فكتب الجمهور –لا سيما الشافعية- جاوزت المئات, وكثير من مؤلفيها لم يكونوا يوما من أهل الكلام:

فأين كتب- من هذا الاستقراء- مجتهدي المذهب وأصحاب الوجوه: ككتاب "القياس" للمزني, وكتاب " الأعلام" و "الدلائل" للصيرفي, -الذي وُصف بأنه أعلم الناس بأصول الفقه بعد الشافعي-, وكتاب " أصول الفقه" لأبي القاسم بن كج, وكتاب "أصول الفقه" و "الجدل" لأبي علي الطبري, وكتاب "عدة العالم" لابن الصباغ, و"التعليقة" لابن أبي هريرة؟, وغيرها كثير, وهؤلاء هم أرباب التأصيل والتقعيد.

وأين شروح "الرسالة" وشُرّاحها الفحول؟ القفال الشاشي, وأبو الوليد النيسابوري وأبو محمد الجويني, والصيرفي المارّ ذكره.

ثم أين كتب كبار المذهب علما ومقاما ممن عُرف بشدته على أهل الكلام, حتى ميّزوا أصوله عن أصول الأشعرية؟ ك "التعليقة" للشيخ أبي حامد الاسفراييني-يُروى أن القاضي الباقلاني كان يخرج متبرقعا من الحمام خوفا منه-, وكتاب "أصول الفقه" للقاضي أبي الطيب الطبري, وكتاب "اللمع" و "شرح اللمع" و "التبصرة" و "الملخص" و "المعونة" و "الحدود" لأبي إسحاق الشيرازي, و "قواطع الأدلة" لأبي المظفر بن السمعاني.

ثم أين- من هذا الاستقراء- كتب متقدمي المالكية الذين ينتسب إليهم ابن خلدون ممن لم يُعرف بالكلام؟ ككتب ابن خويزمنداد, والقاضي عبد الوهاب, وأبي الوليد الباجي وغيرهم.

وهؤلاء-لا سيما أصحاب الوجوه- أعظم قدْرا ومكانة في المذهب ممن استشهد بهم ابن خلدون, ومذهبهم هو المذهب, أما متأخرو الأصوليين من المتكلمين وغيرهم, فكان لهم فضل الجمع والتصحيح والتوجيه والترتيب, حتى صارت طريقة الرازي والآمدي في الترتيب والتبويب هى المهيمنة, وقد أقرّ بذلك المرداوي الحنبلي في مقدمة كتابه "التحبير"

*وهذه المراجع كانت متوافرة في عهد ابن خلدون (ت808ه),لأن الزركشى (ت794ه) كان عصريّه وقد عدّدها في مقدمة كتابه "البحر المحيط",لكن ابن خلدون اختزل مذهب الجمهور في خمسة كتب! وقضى بهذا المصطلح على قضية كلية بهذا الاستقراء المريض.

والعجب أن من شايعه من فضلاء العصر, لم يزيدوا على ما نقله ابن خلدون إلا قليلا, بل أقر بعضهم-الشيخ الخضري- أنه لم يطّلع على أكثر هذه الكتب, اعتمادا على ما نقله ابن خلدون.

-*أما إبطاله من حيث التعليل, فقد مرّ بك في التمهيد, التعليل الذي قام عليه هذا المصطلح : (أنهم يميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن, لأنه غالب فنونهم, ومقتضى طريقتهم) ,و (لدخول طائفة كبيرة من المتكلمين في دراسة هذا الاتجاه, إذْ قد وجدوا فيه ما يتفق مع دراستهمالعقلية ) إلى آخر ما نقلناه آنفا.

وهذا تعليل باطل, أبطلنا وجها منه في تزييف المنهج, وأن أكابر أصولييي الشافعية والمالكية لم يكونوا من أهل الكلام, بل كان كثير منهم مناقضين مناوئين لهم.

أما الوجه الآخر لبطلانه, فبالاعتراض على تخصيص هذا الوصف "المتكلمين" بالجمهور دون الحنفية, فمن الذي برّأ أصول الحنفية من علم الكلام؟ فهذه كتبهم ومصنفاتهم في الأصول طافحة بعلم الكلام, بل عندهم إمامٌ في المعتقد متّبعٌ هو : الشيخ أبو منصور الماتريدي, وهو بين أتباعه الحنفية كأبي الحسن الأشعري بين أتباعه الشافعية والمالكية, وإليك بعض أسماء نحاريرهم وكتبهم الأصولية:

-*الشيخ أبو منصور الماتريدي, له في الأصول كتابان : "مآخذ الشريعة" و "الجدل", وهذان الكتابان عمدة المتأخرين من أصوليي الحنفية. -*الشيخ علاء الدين السمرقندي, صاحب " الميزان", إمامٌ متكلّم على عقيدة أبي منصور, فإنه قد شرح كتاب "تأويلات السنة" للماتريدي, أما كتابه " الميزان" فمشحون بالمسائل الكلامية, بل هو أقرب لعلم الكلام منه لعلم أصول الفقه, يقول في مقدّمة كتابه : (وأذكر في كل فصل منها مذاهب أهل السنة والجماعة- يقصد الماتريدي-, وعقائد أهل البدع والضلال, ليكونوا على بصيرة من المذهب الصحيح, فلا يقعوا في شىء من المعتقد القبيح, إذْ الفقيه المحض لا يقف على ذلك بخاطره, فربما يتشبث بالمذهب القبيح بحسن ظاهره, وتكون هذه الفصول إلى محض الحق هادية, وإلى رفض الهوى والبدع داعية), بل إن الشيخ عاب من جرّد الأصول على (الفقه المحض), ورأى أن كمال الأصول إنما يتم بعلم الكلام

-*حافظ الدين النسفي, أبو البركات, صاحب "مختصر المنار", ومكانة هذا المختصر بين الحنفية كمكانة "مختصر ابن الحاجب" بين الشافعية, وله كتاب في أصول الدين سماه ب "العمدة" ثم شرحه في كتاب "الاعتماد", ومن رجع إلى شرحه على "المنار" الموسوم ب"كشف الأسرار" وجد فصلا كاملا في بيان عقيدة الإمام أبي حنيفة, وردٍّ على المعتزلة والخوارج والمرجئة

-*أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي, صاحب التصانيف, له شروح عدة على "أصول البزدوي" و "أصول المنار" و "مختصر ابن الحاجب", وله شرحان على "الفقه الأكبر" لأبي حنيفة, و "عقيدة الطحاوي" ,وقد قمْتُ بتحقيق الجزء الأول من "التقرير لأصول البزدوي", والكتاب مشحون بالمسائل الكلامية, والآراء الفلسفية.

-*شيخا المذهب بلا مدافعة: فخر الإسلام البزدوي, وشمس الأئمة السرخسي, أرجأت الكلام عنهما لأنهما لم يكونا على عقيدة الماتريدي,بل كانا مناقضين له, فالأول له شرح على " الفقه الأكبر", فهو متكلم بهذا الاعتبار, ومقدمة كتابه وجد فصلا طويلا في تقرير عقيدة إمام المذهب أبي حنيفة النعمان, ناهيك عن مسائل الكلام التي حفل بها كتابه.

والثاني شهد له صاحب " الجواهر المضية" بعلو كعبه في الكلام فقال : ( كان إما علامة حجة متكلما أصوليا..)*ولو لم يشهد له, لشهد له كتابه "أصول الفقه" فإن فيه مسائل كلامية, ذكرْت طرفا منها في بحثي الموسوم ب " تلبيسات الشرّاح على البزدوي والسرخسي في مسائل الكلام".

وما زعمه الشيخ أبو زهرة من ميزات مذهب "المتكلمين" : (فتجدهم تكلموا في التحسين والتقبيح العقلي, وفي شكر المنعم, وهكذا يختلفون في مسائل نظرية لا يترتب عليها عمل , ومن ذلك اختلافهم في جواز تكليف المعدوم ),فهذه المسائل أصلٌ أصيل في كتب الحنفية, قديمها وجديدها, لمن له أدنى اطلاع عليها.

فكيف تصحّ دعوى تخصيص هذا المصطلح "المتكلمين" بالجمهور فقط؟ أم أن أثر علم الكلام الأشعري يختلف عن علم الكلام الماتريدي في أصول الفقه, فالأول له أثر كما يدّعون والثاني لا أثر له؟! بل لتغوّل الكلام المذموم في المذهب, فقد انتسب طائفة من أهل الاعتزال له, منهم: " بشر بن غياث المريسي" و "الزمخشري" و "أبو سهل السراج" وغيرهم.

ثم إن علم الكلام لا اختصاص له بمذاهب دون مذاهب, أو طائفة دون طائفة : فأهل الحديث فيهم متكلمون, والمتصوفة فيهم كذلك, والمفسرون أيضا, ولو صحّ هذا الاصطلاح, لكان الأولى دخول الحنفية فيه, دون الحنابلة, فالحنابلة وإن كان متقدموهم لهم في الكلام منزع, لكنهم في الأغلب أقل الناس تأثرا به, ومع هذا فمناهجنا *تلقن طالب العلم أن الحنابلة "متكلمون".

أما تزييف هذا المصطلح من حيث النقل, فلا يحتاج الأمر إلى كبير عناء, أو كثير استقراء, فحسبك أنْ تتناول ما شئت من كتب الأصول المطولة والمتوسطة, لتجد أن تقسيمهم للمذاهب يوافق ما هو موجود في كتب الفروع: الحنفية , المالكية, الشافعية, الحنابلة, الظاهرية.

أما مصطلح " المتكلمين" فلا يُراد به الجمهور البتة, بل يُراد به المشتغلين بعلم الكلام, من سائر المذاهب والطوائف, وكثيرا ما يقيّدون اللفظ, فيقولون : المتكلمين من الأشاعرة, أو المعتزلة, أو أهل الحديث.

وربما عطفوا على هذا المصطلح ما يفسره من الأعلام, فيقولون : وهذا مذهب المتكلمين: ابن فورك وإمام الحرمين..الخ.

والمصنفون في أصول الفقه يقسّمون – حين يعدون مراجعهم- الكتب حسب المذاهب:

انظر إلى صنيع القرافي حين أخذ في تعداد المراجع في "شرح المحصول" فقال : ( وجمعتُ له نحو ثلاثين تصنيفا في أصول الفقه للمتقدمين والمتأخرين من أهل السنة والمعتزلة, وأرباب المذاهب الأربعة)

وحين اختصر "المحصول" في كتاب " التنقيح" طعّمه بكتب المالكية تمييزا عن محصول الشافعية فقال : ( وأضفت إليه مسائل "كتاب الإفادة" للقاضي أبي محمد عبد الوهاب المالكي, وهو مجلدان, وكتاب "الإشارة" للباجي, وكلام ابن القصّار في الأصول, وبيّنت مذهب مالك رحمه الله في الأصول لينتفع بذلك المالكية خصوصا, وغيرهم عموما )*

وارجع كذلك إلى مقدمة *"رفع الحاجب" لابن السبكي, و "البحر المحيط" للزركشي, و "التحبير" للمرداوي, فكلهم ميّزوا المذاهب بعضها عن بعض حين عدّدوا مصادرهم.

*لذل كان تقرير المعاصرين في سبب تسمية هذه الطريقة ب "طريقة المتكلمين" هو : (أن عناية الباحثين متجهة إلى تحقيق القواعد وتنقيحها من غير اعتبار مذهبي, بل يريدون انتاج أقوى القواعد سواء أكان يؤدي إلى خدمة مذهبهم أم لا )*قول مرسل, بل المذهبية في الأصول قوية كقوتها في الفروع, وإلا لم يكن نسبة كتب الأصول للمذاهب معنى.

*وقد ضرب الشيخ أبو زهرة على مدّعاه بمثال يتيم وهو : مخالفة الآمدي للإمام الشافعي في حجية الإجماع السكوتي, فقد قال الآمدي بحجيته, بينما مذهب الشافعي أنه ليس بحجة.

**وهذا الذي ذكره الشيخ أبو زهرة منقوض بوجود مثاله في كل المذاهب , فمخالفة بعض الأصحاب لأئمتهم في آحاد المسائل لا تخرجه عن كونه تابعا ومنافحا عن المذهب, ويعرف ذلك كل من شدا طرفا من هذا العلم, لكن لما كان الشيخ أبو زهرة قد ذكر هذا المثال ليّميزه عن مذهب "الفقهاء" الحنفية, كان لزاما إيراد ما ينقضه من مخالفة كبار الحنفية لمذهب إمامهم:

-*في مسألة : الأمر إذا أُريد به الندب, هل هو حقيقة فيه أو مجاز؟ فنقل الشيخ عبد العزيز البخاري, عن أبي اليسر, أن أبا حنيفة وعامة أصحابه, مذهبهم أن الأمر مجاز فيه.

وذهب فخر الإسلام البزدوي إلى أنه حقيقة فيه.*

-*وفي مسألة : خبر مستور الحال, فقد نقل شمس الأئمة السرخسي نصا عن محمد بن الحسن من كتاب "الاستحسان" أن خبره كخبر الفاسق, ثم نقل رواية الحسن عن أبي حنيفة – وهى المذهب- أنه بمنزلة العدل, لكن شمس الأئمة آثر خلاف المذهب فقال : ( ولكن ما ذكره محمد بن الحسن في "الاستحسان" أصح في زماننا فإن الفسق غالب )

-*وفي مسألة : تقليد الصحابي, فقد نقل الجصاص في " الفصول في الأصول" عن شيخه أبي الحسن الكرخي, نصوصا عن أبي يوسف,في ترك المسائل التي يؤيدها القياس لقول الصحابي, وأن هذا هو المذهب لعدم وجود نصوص عن أبي حنيفة, لكن الكرخي خالف المذهب قائلا : ( أما أنا فلا يُعجبني المذهب )*

ومن تتبّع أمثال هذه المخالفات وجدها , لكنها لا تقدح في أصل المتابعة, ولا تجعله : (محققا للقواعد من غير اعتبار مذهبي),وكتاب "الإحكام" للآمدي ألّفه صاحبه نصرة للمذهب الشافعي ولا ريب, حتى عدّه الإسنوي معيارا لمعرف المذهب فقال : ( الثالث: تبيين مذهب الشافعي بخصوصه ليعرف الشافعي مذهب إمامه في الأصول...الخامس: التنبيه على المواضع التي خالف فيها المصنف فيها كلام الإمام- الرازي- أو كلام الآمدي, أو كلام ابن الحاجب, فإن كل واحد من هؤلاء صار عمدة في التصحيح يأخذ به آخذون )

وقد ينقدح في الذهن اعتراض : هذا الاصطلاح وإن كان لابن خلدون, لكنّ المعاصرين اتفقوا عليه, فأصبح شائعا ذائعا, وقد عُلم أنه لا مشاحة في الاصطلاح.

والجواب : من شأن الاصطلاحات أن تكون معللة, فهى ليست أعلاما, وقد تبين لك عوار هذه العلل, ولو تسامحنا لكان لكل أحد أن يضع اصطلاحا كيفما اتفق.

ثم ما هو الضابط لمعرفة أى الاصطلاحين هو المقصود في كتابة المعاصرين, حين العزو والتوثيق من كتب العلماء؟ وقد عرَفْتَ أن بين الاصطلاحين تباينا. ولا يغرنك ما يُقال عن تشابه أصول الجمهور, لأنهم كانوا على مذهب واحد وطريقة واحدة وهى طريقة "المتكلمين", ففي هذا تدليس لا يخفى, فالتشابه بين هذه الأصول لأنهم كانوا من أهل الحديث, وقد مرّ بك قبل قليل المناظرة بين الشافعي ومحمد بن الحسن في هذا الشأن. المبحث الثالث

تزييف مصطلح "الفقهاء" الموصوف به الحنفية

ولا أعني سلب هذه الصفة عن الحنفية, فإن لم يكن الحنفية هم الفقهاء فمن؟ لكني أقصد تزييف التعليل الذي قام عليه هذا المصطلح, وتزييف اختصاص الحنفية بهذا اللقب دون بقية المذاهب.

وأصل هذا المصطلح عند ابن خلدون- كما سبق نقله في التمهيد- فقال : (كتابة الفقهاء فيها أمسّ بالفقه وأليق بالفروع لكثرة الأمثلة منها والشواهد, وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية ), ثم تلقفها عنه المعاصرون وتوسعوا في التعليل, وزعموا أن الحنفية يقرّرون قواعدهم على وفق الفروع الفقهية, حتى زعم الشيخ الخضري أن صنيعهم هذا ( يؤدي إلى تقرير قواعد غريبة الشكل, وإذا كانت القاعدة يترتب عليها مخالفة في فرع فقهي شكلوها بالشكل الذي يتفق معه )

وزاد الشيخ أبو زهرة في هذا المقام نقلا عن ولي الله الدهلوي من كتابه " الإنصاف في بيان أسباب الخلاف" ما يؤيد هذه المقالة فقال- ولي الله الدهلوي- : ( واعلم أني وجدتُ أكثرهم يزعمون أن بناء الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي – رحمهما الله – على هذه الأصول المذكورة في " كتاب البزدوي" ونحوه, وإنما الحقُّ أن أكثرهما أصول مخرجة على قولهم, وعندي أن المسألة القائلة بأن الخاص مبيّن ولا يلحقه بيان, وأن الزيادة نسخ, وأن العام قطعي, وأنْ لا ترجيح بكثرة الرواة, وأنه لا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد باب الرأى, وأنْ لا عبرة بمفهوم الشرط والوصف أصلا, وأن موجب الأمر هو الوجوب, وأمثال ذلك أصول مخرّجة على كلام الأئمة, ,أنه لا تصح بها رواية عن أبي حنيفة وصاحبيه, وأنه ليست المحافظة عليها والتكلّف في جواب ما يرد عليها من صنائع المتقدمين في استنباطهم كما يفعله البزدوي ).

وكلام ولي الله الدهلوي وجّهه في حق المذهبين – الشافعي والحنفي- حين قال : (وإنما الحق أن أكثرهما –أى: الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة- أصول مخرّجة على قولهم ) غير أن الشيخ أبو زهرة وجّهه في حق مذهب الحنفية, وهذا غلطٌ في المنهج, فالشهادة إما أن تقبلها كلها في حقّ المذهبين أو أن تردها مطلقا.

ثم إن شهادة الشيخ الدهلوي ليست في محلّ الدعوى, فدعوى ابن خلدون ومن شايعه من المعاصرين: أن أصول الحنفية بُنيت على فروع المذهب, وأنهم يقرّرون القواعد وفق مقتضى الفروع.

أما كلام الدهلوي فهو ردٌّ على من لم يفرّق بين التخريج والرواية, فإنه قال عقيب ذلك : ( وقد وجدْتُ بعضهم يزعم أن جميع ما يوجد في هذه الشروح الطويلة هو قول أبي حنيفة وصاحبيه, ولا يفرّق بين القول المخرّج وبين ما هو قول حقيقة )

وهذا الذي قاله الدهلوي حقٌ في الجملة, فإن أحدا لم يدّع أن كل هذه الأصول هي روايات عن أبي حنيفة, بل طائفة منها مخرّجة ولا شكّ, لكن التخريج أعم من أن يكون تخريجا على فرعٍ كما قصره ابن خلدون والمعاصرون, فقد يكون تخريجا على أصل,

ثم رُتَبُ التخريج تختلف باختلاف المخرّجين, وليس كما أطلقه الشيخ الدهلوي, وسيأتي مزيد بيان لهذا بعد قليل إن شاء الله.

ودعوى ابن خلدون – والمعاصرين- تخالها تتحدث عن القاعدة الفقهية لا القاعدة الأصولية, فإن تتبّع الفروع ومن ثَمّ صياغة قاعدة تستوعبه هو من شأن القاعدة الفقهية لا الأصولية, والعلماء قاطبة يفرّقون بينهما.

ثمّ وجدْتُ كلاما لأكمل الدين البابرتي فيه ردٌّ على هذه الدعوى, وكأنه يعنيهم بهذا الكلام, فقد نقل في "العناية شرح الهداية", في باب السّلم, عن المصنف ما يجوز وما لا يجوز في السّلم من آحاد المسائل, ثم نقل القاعدة الفقهية التي تجمعها : (كل ما أمكن ضبط صفته ومعرفة مقداره جاز السلم فيه ) أورد ما سماه بحثا في هذا المقام فقال : ( إنه- أى: المرغيناني- ذكر القاعدة بعد ذكر الفروع, والأمثل ذكر القاعدة ثم تفريع الفروع عليها) فأجاب عن هذا البحث بما نصّه : (تقديم القاعدة على الفروع يليق بوضع أصول الفقه, وأما في الفقه: فالمقصود معرفة المسائل الجزئية فتقدّم الفروع ثم يُذكر ما هو الأصل الجامع للفروع الفقهية- أى: القاعدة الفقهية-)

ونصوص أكابر الحنفية كلها دالّة على هذا المعنى- تقديم الأصل على الفرع-, وإنما بدأت بالبابرتي لأني وجدت كلامه فُصّل على دعوى المعاصرين تفصيلا, فمن ذلك:

قول فخر الإسلام البزدوي في "أصوله" : (وهذا الكتاب لبيان النصوص بمعانيها وتعريف الأصول بفروعها) قال شارحه الشيخ عبد العزيز البخاري : ( يعني بيّن فيه الأصول ثم بنى على كل أصل فروعه مما يليق ذكره فيه )

ومن المتأخرين الكمال بن الهمام في "التحرير", عند حديثه عن استمداد أصول الفقه, ثم عرّج على تصورات الأحكام الشرعية, فقال : (على أن الظاهر أن يكون استمداد الفقه إياها, أى : تصورات الأحكام المذكورة منه, أى : من علم أصول الفقه, لسبقه: أى : الأصول الفقه, لكونه فرعا عليه وإن لم يدون )

ولو لم تكن هناك نصوص عن أئمتهم تنفي هذه الدعوى- بناء الأصول على الفرع- فبأدنى تأمل في مصنفات الحنفية يتبيّن زيف هذا الإطلاق, فهم كغيره من أرباب المذاهب يبدأون بذكر القاعدة الأصولية, ثم الاستدلال لها, وذكر مذهب الخصوم وأدلتهم, ومناقشة هذه الأدلة, ثم اخيرا يذكرون ما يليق بها من فروع, ولا يختلفون عن غيرهم إلا في ترتيب القواعد, وتبويب المسائل, فلا يهولنك ما تسمعه عن : (منهج الحنفية) و (طريقة الحنفية), فهذا كله تهويل في تهويل.

ثم إن هذا هو اللائق بهذا العلم, فالقاعدة الأصولية: دليل كلي أو إجمالي, والفروع الفقهية*مدلولها, ولا يصح أن يسبق المدلول دليله

والذي حمل هؤلاء هذا المحمل عدم وجود مصنف أو روايات لأبي حنيفة في "أصول الفقه", فكانت النتيجة السهلة القريبة: أن الأصحاب بنَوْا الأصول على فروع الإمام الموجودة, والحمد لله رب العالمين.

ونسى هؤلاء أن هذا ينطبق على بقية الأئمة, فليس لمالك أو أحمد مصنف في أصول الفقه, حتى "الرسالة" للشافعي لم تستوعب إلا قليلا من مئات المسائل الأصولية المنسوبة إليه, فهلاّ طردوا هذا الحكم على بقية المذاهب؟

ثم إن هذا القول يفترض أنه بعدم تدوين أصول أبي حنيفة, أو ضياع كتابه "الرأى" في أصول الفقه, و"أصول الفقه" لأبي يوسف, فقد فُقد هذا العلم.

وهذا خطأ بيّن, لا سيما لأرباب المذاهب الأربعة, فالأسانيد بهم متصلة, والهمم والدواعي تتوافر على نقل مذاهبهم في الأصول والفروع, وإن لم يكن مسطورا في قرطاس.

وقد قيّض الله لمذهب أبي حنيفة محمد بن الحسن, فترك تراثا ضخما من المصنفات ك"الجامع الصغير" و "الجامع الكبير"- فالصغير هو من روايته عن أبي يوسف عن الإمام, والكبير من روايته عن الإمام بلا واسطة- و "المبسوط" و "الزيادات" و "السير الصغير"

و "السير الكبير", وتُسمى هذه الكتب ب "كتب ظاهر الرواية" أو "الأصل", لأنها رُويت عن محمد بن الحسن برواية الثقات, فهى ثابتة عنه أو متواترة, أو مشهورة.

*وهذا "الأصل" وإن كان غالبه في الفروع, لكنه حوى كثيرا من أصول الفقه بشهادة من لا تُردّ شهادته : شمس الأئمة السرخسي فإنه قال في "شرح السير الكبير" : ( اعلم بأن أدق مسائل هذا الكتاب وألطفها في أبواب الأمان, فقد جمع بين دقائق علم النحو ودقائق أصول الفقه, وكان شاور فيها علي بن حمزة الكسائي- رحمه الله- فإنه كان ابن خالته, وكان مقدّما في علم النحو )*

ويعني بالمقدّم في علم النحو: محمد بن الحسن, وثلثا الأصول هو في دلالات الألفاظ, ومن تأمل مصنفات الحنفية الأصولية, وجد المنصوص عن محمد بن الحسن كثيرة, فهى إما نقلا عن أبي حنيفة, أبي يوسف, أو اجتهادا منه, ثم يزعمون أن أصول أبي حنيفة كلها مبناها على الفروع.

وحتى التخريج الذي غضّ هذا التقرير منه, يختلف باختلاف المخرّج, فأبو يوسف ومحمد بن الحسن هم من طبقة المجتهدين في المذهب, فأقوالهم وتخريجاتهم وفتاواهم- فيما لا نصّ للإمام فيه- كالمنصوص عليه, لذا كان كلام الدهلوي السابق في التفريق بين التخريج والرواية مطلقا غير صحيح, والصواب التقييد, فمجتهد المذهب: لسان المذهب.

وحُق لمعترض أن يقول في هذا المقام: إن تخريج الأصول عن الفروع , أو بناء الأصول على الفروع معروف عند الأصوليين, فَلِم المجادلة في هذا التقرير؟

والجواب: هذا وإن كان معروفا, لكنه قليل, ويترددون في قبوله, ويسمونه ب" التخريج الدوري" كذا سمّاه الطوفي اعتراضا على من خرّج من الأصحاب قاعدة : "لزوم المكلّف حكم الناسخ قبل علمه" على مسألة "لزوم انعزال الوكيل قبل علمه بالعزل", فقال : ( تخريج أبي الخطاب لهذه المسألة على مسألة انعزال الوكيل, يلزم منه الدور, لأن هذه المسألة أصولية, ومسألة*عزل الوكيل فرعية, فهى فرع على مسألة النسخ, لأن العادة تخريج الفروع على الأصول, فلو خرجنا هذا الأصل المذكور في "النسخ", على هذا الفرع المذكور في "الوكالة", لزم الدور, لتوقف الأصل على الفرع المتوقَّفِ عليه, فيصير من باب توقف الشىء على نفسه بواسطة)

ونقل الزركشي عن ابن برهان تغليطه من خرّج قاعدة "الأمر لا يفيد الفور" عند الشافعي وأبي حنيفة, على " الحج" فقد نصّا على التراخي, فقال : ( وهذا خطأ في نقل المذاهب, إذْ الفروع تُبنى على الأصول, لا العكس)

فبناء الأصول على الفروع خلاف الأصل, أما هذا التقرير فقد جعل هذا هو الأصل عند الحنفية, ففرق بين المذكور في كتب الأصول, وهذا التقرير, كالفرق بين السماء والأرض.

أما تزييف هذا التقرير من حيث النقل: فدونك ما شئت من كتب المتقدمين والمتأخرين, فلن تجد أحدا اعتمد هذا الاصطلاح "الفقهاء" في حق الحنفية, ويتداوله أهل العلم على معنى غير المعنى الذي اخترعه ابن خلدون والمعاصرون: فلفظ الفقهاء يتبين من خلال السياق, فإن ذُكر بإزاء " المتكلمين" فيقصد به المشتغلون بالفقه أصلا وفرعا. وإن ذُكر بإزاء الأصوليين فيقصد به المشتغلون بالفروع دون الأصول, لكنه قطعا لا يراد به طائفة أو مذهبا معينا.

هل بقى شىء يُلحق بهذا المبحث؟

نعم, وهى تلك الميزة التي صبغ بها ابن خلدون ومن شايعه من المعاصرين مذهب الحنفية, من الاعتناء بالنكت الفقهية, وكثرة الشواهد والأمثلة, و(كانت لهم اليد الطولى من الغوص على النكت الفقهية).ولولا ما تضمنه هذا التوجيه من تنقّص لمذهب أهل الحديث "المتكلمين!",لما حفلت بالرد, فإن الأمر ليس بذي شأن.

ووقع ابن خلدون في نفس الخطأ المنهجي الذي وقع فيه سابقا, وهو الحكم على المذهب من خلال كتاب واحد أو كتابين, والصواب أن هذا لا يختص به مذهب دون مذهب, بل يعود إلى الأفراد والأعلام, فمن كان بارعا في العلمين, فنزعته الأصولية أو الفقهية تغلبه إذا صنّف في أحد العلمين, واسمع إلى كلام خبير ناقد –الغزالي-وهو يقرّر هذا قائلا : (وإنما أكثر المتكلمون من الأصوليين لغلبة الكلام على طبائعهم, فحملهم حب صناعتهم على خلطه بهذه الصنعة, كما حمل حب اللغة والنحو بعض الأصوليين على مزج جملة من النحو بالأصول, فذكروا فيه معاني الحروف ومعاني الإعراب جملا هى من علم النحو خاصة, وكما حمل حب*الفقه جماعة من فقهاء ما وراء النهر كأبي زيد وأتباعه على مزج مسائل كثيرة من تفاريع الفقه بالأصول, فإنهم أوردوها في معرض المثال وكيفية اجراء الأصل في الفرع)

وهذا حقّ, فلا شأن للمذهب أو الطريقة بكثرة الأمثلة والتفاريع الفقهية, بل (حب الصنعة) وأسميها :(النزعة الأصولية ) هي الغالبة, وإلا فمن كتب الحنفية ما كان فقيرا في التمثيل لمن تأمله : ك"أصول الجصاص" و "الميزان" للسمرقندي و" المغني" للخبازي.

ومن علماء أهل الحديث من حفلت كتبهم الأصولية بالتفاريع الفقهية, وهذه قراءة ونماذج لبعض الكتب:

-*"قواطع الأدلة" لابن السمعاني, وكتابه من أعظم كتب الشافعية نقلا وحجاجا, وقد وعد في مقدمة كتابه بالتمثيل للمسائل الشهيرة فقال : ( وأشير عند وصولي إلى المسائل المشتهرة بين الفريقين إلى بعض المسائل التي تتفرع عنها لتكون عونا للناظر ومتعلقا للمناظر )*ووفّى الشيخ بوعده.

-*"رفع الحاجب لابن الحاجب" لتاج الدين السبكي, فقد (حشا) كتابه بالأمثلة الفقهية فقال : ( ومع ما حشوناه فيه من فروع الفقه, وفنون الفوائد, ومع تخريج الفروع على الأصول)

-*"نهاية السول عن منهاج الأصول" لجمال الدين*الإسنوي, فقال في المقدمة : ( الرابع : ذكر فائدة القاعدة من فروع مذهبنا في المسائل المحتاجة إلى ذلك)

-*المطولات من كتب الأصول, فإنها حافلة بالشواهد الفقهية, ك"البحر المحيط" للزركشي, و "التحبير" للمرداوي, حتى أن كتاب " البحر المحيط" للزركشي قُدمت فيه رسالتا دكتوراه في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة, بعنوان : "تخريج الفروع على الأصول" لوفرة وكثرة الأمثلة والشواهد فيه.

-*"الإحكام شرح عمدة الأحكام" و "شرح الإلمام" لابن دقيق العيد, ولا تعجب من كونهما كتابين من شروح الحديث, فقد حوى هاذان الكتابان من التحقيقات الأصولية ما حمل الزركشي على جعلهما من مراجع الأصول, بل قال : (وبهما خُتم التحقيق في هذا الفن)ولعل ما سماه الغزالي ب (حب الصنعة) أو (النزعة الأصولية) يظهر في هذا التأليف.

ولا أبالغ إن قُلْتُ : إن مذهب أهل الحديث في الجملة كانوا أمس بالفقه والفروع من غيرهم, فقد انفردوا بصنف من التأليف لم يُعهد من قبل, وهى كتب" تخريج الفروع على الأصول", للزنجاني والإسنوي, و"القواعد والفوائد الأصولية" لابن اللحام, و "مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول" للشريف التلمساني.

ولا تلتفت لما قيل : إن "المتكلمين!" عمدوا إلى هذا النوع من التصنيف استدراكا لخصومهم " الفقهاء", ولشح الأمثلة في كتبهم.

فإن هذا مردود بشهادة الحنفية أنفسهم, فالتمرتاشي الحنفي أقرّ بأن هذا النوع من التأليف لم يعرفه أصحابه الحنفية, فقال : ( لما كان كتاب "تمهيد الأصول" للشيخ الإمام , مفتي الأنام, جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي الشافعي, كتابا في بابه عديم النظير, حاويا من القواعد الأصولية, والفروع الفقهية, للجم الغفير, لم أقف على كتاب من مؤلفات مشائخنا يشبهه في الترتيب, ويضاهيه في حسن التهذيب, سنح لي أن أصنف كتابا على منواله الغريب, واسلوبه العجيب)

فإن شغّب عليك مشغّب بكتاب "تأسيس النظر" للدبوسي, على أنه من هذا النوع من التصنيف, فاقرأ عليه القاعدة الأولى : ( الأصل عند أبي حنيفة على ما ذكره أبو الحسن الكرخي أن ما غيّر الفرض في أوله غيّره في آخره) ثم اقرأ عليه آخر قاعدة : ( الأصل أن البيان يعتبر بالابتداء إن صح الابتداء وإلا فلا ),فسيعلم –إن كان له ذوق في هذا الفن- أن هذا كتاب في القواعد الفقهية وليس من الأصول في شىء. والله تعالى أعلم.

*
المبحث الثالث

تزييف ما يسمى بالطريقة الثالثة الجامعة بين الطريقتين

كان حقّ هذا المبحث أن يكون لاغيا, لأنه نتاج الطريقتين السابقتين, فإن بَطُلتا فهذه الطريقة أبْطَلُ, لكني آثرتُ إبقاءها لتعلم مقدار الزيف والتهويل الذي صاحب تقريره وتمثيله, لكن قبل الخوض في البيان فهذه مقدّمة بين يدى هذا المبحث, نحتاج إليها في الردّ والتزييف:

-*أصول الفقه هو الأدلة الإجمالية أو الكلية, فالقاعدة الأصولية بابها : باب البيّنات والدعاوى, فمثلا: قاعدة " وجوب العمل بخبر الواحد", دعوى تحتاج إلى بيّنة ودليل, فإذا توافرت البيّنات والأدلة من الأحاديث والآثار وعمل الصحابة, ورُدّ ما يُقدح فيها من الطعون والشُبه استحالت إلى "دليل كلي", لهذا أصول الفقه علم لا يُبحثُ ولا يُدرس إلا مقارنا, لأنك إذا نقلت دعوى وبيّنة أبي حنيفة مثلا, لا يمكنك الحكم عليها إلا بعرض دعاوى وبيّنات بقية الأئمة : مالك والشافعي وأحمد.

وأصول الفقه منذ أن أوجده الله على يد الشافعي, وهو يُبحث مقارنا وموازنا, وإذا نُسبت للمذهب ك "أصول السرخسي" للحنفية أو "أصول ابن مفلح" للحنابلة, فهى نسبة نصرة وتحرير, أما مباحثه وأدلته ومناقشاته, فتكون مقارنة مع بقية المذاهب.

ومن هنا جاء التغرير بما يُسمى ب " الطريقة الجامعة بين المتكلمين والفقهاء", ومثّل لها ابن خلدون بكتاب " بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي والإحكام" لابن الساعاتي الحنفي , ووجه التغرير: أن هذه طريقة دارجة متبعة منذ أن خلق الله أصول الفقه, وكلُّ الذي صنعه ابن الساعاتي أنه اقتصر على مذهبين- البزدوي الآمدي- لم يتجاوزهما, فيذكر مذهب أبي حنيفة والشافعي في القاعدة الأصولية من هذين الكتابين, ثم يقارن, ثم يُرجّح, وقد صرّح المؤلف بذلك في مقدّمته فقال : (قد منحتك أيها الطالب لنهاية الوصول إلى علم الأصول, بهذا الكتاب " البديع" في معناه, المطابق اسمه مسماه, لخصته لك من كتاب "الإحكام" ورصعته بالجواهر النفيسة من " أصول فخر الإسلام").

لذلك لم نسمع تهليلاً أو تكبيراً على هذا الفتح في التأليف, بل عدّوا هذا الكتاب مرجعا من مراجع الحنفية, سار فيه مؤلفه على سَنَن أهل الأصول في التأليف. فإن كان ثمّة جديد, فهو اقتصار مؤلفه على مذهبين ولا يتوسع. وقد أخذ الكتاب صيته لأن مؤلفه : (أعلم أهل زمانه في أصول الفقه) كما صرّح بذلك الزركشي.

وكذلك صنع الكمال بن الهمام في "التحرير", ولا تتوهم أن كلمة (الطريقة) التي سطّرها الكمال في مقدمته عنى بها هذه الطريقة المخترعة, فقد قال : (وبعد فإني لما صرفْتُ طائفة من العمر للنظر في طريقتي الحنفية والشافعية, في الأصول..) , والطريقة يقصد بها : أصول الشافعية والحنفية, وعلّل ذلك شارحه أمير بادشاه بقوله : (لما كان علم الأصول يُتوصل به إلى كيفية استنباط الأحكام سُمّى طريقا ),

وتغرير آخر- وقعنا فيه ردْحا من الزمن-, وما زال*كثير من طلاب العلم المبتدئين يعتقدونه وهو : أن القسمة الثلاثية تقتضي أن يكون هذا المذهب الثالث الجامع بين طريقتين, قد مُزج بينهما, حتى استحالت إلى طريقة ثالثة, كمن أتى بلونين : أبيض وأسود, ثم قال هذا لون ثالث يجمع بينهما, فلا تصحّ هذه القسمة حتى يمزج بينهما ليستحيل إلى اللون ( الرمادي), أما لو وضع اللون الأبيض بجوار اللون الأسود, ثم ادعى أن هذا لون ثالث, فهذا مدعاة للسخرية والضحك. لكن واقع الحال أن ما يسمى ب "الطريقة الثالثة" إنما هو مقارنة بين مذهبين ليس إلا.

ثم جاء المعاصرون فتوسعوا في التمثيل, فأدخلوا كتاب "جمع الجوامع" لابن السبكي, و "إرشاد الفحول" للشوكاني, وعلّل هذا الصنيعَ الشيخُ الخضري بأن ابن السبكي قال في مقدّمة كتابه " جمع الجوامع" بأنه جمعه من زهاء مئة مصنّف, ولمّا كان "إرشاد الفحول" قد عاد إلى مراجع كثيرة, استحق أنْ يدخل تحت مسمى " الطريقة الثالثة"!

وهذا كلام لا يصح إقراره ولا تدريسه, حتى ابن خلدون لا أظنه قصد هذا المقصد من ذكر " المذهب الثالث", وإلا فيلزم أن تكون كل كتب الأصول مؤلفة على هذه الطريقة:

-*"نفائس الأصول في شرح المحصول" للقرافي, جمعه من نحو ثلاثين تصنيفا من المتقدمين والمتأخرين, من أهل السنة والمعتزلة, وأرباب المذاهب الأربعة, كما نقلنا نصّه في المبحث السابق.

-*"رفع الحاجب عن ابن الحاجب" لابن السبكي, عدّد زهاء مئة مصنّف بالاسم, ثم قال : (وغير ذلك مما لو عددناه لضيعنا الأنفاس وضيعنا القرطاس), فليُلحق هذا الكتاب بالطريقة الثالثة!

-*"البحر المحيط" للزركشي عدّد أكثر من مئة مصنّف, وقال ( وقد اجتمع عندي بحمد الله من مصنفات الأقدمين في هذا الفن ما يربو على المئين ),فلْيُضرب به المثل في مناهجنا على هذه الطريقة الثالثة!

-*بل كل كتب الأصول لا بد لها من مراجع, فينقل بعضهم عن بعض, ويعتمد بعضهم على بعض, وإن لم يعدّدوها في المقدمة.

وكم آسف أن هذه الطريقة المزعومة تُدرّس لطلاب العلم, وبهذه الأمثلة الموهومة, فلا يزداد طالب العلم إلا حيرة وترددا, ولا حول ولا قوة إلا بالله.

المبحث الخامس

أثر هذه المصطلحات على الدعوات المعاصرة ل"تصفية أصول الفقه" وتحرير القول فيه

هذا ما أظنه, فهذه التقسيمات والمصطلحات, والتعليل الذي قامت عليه, ومن ثَمَّ تدريسه وتلقينه لطلاب العلم المبتدئين, ومبالغة الدارسين والباحثين في نشره وإذاعته كان له أثر بالغ السؤ على هذا العلم وطلابه, حتى آل الأمر إلى توجس كثير من طلاب العلم المبتدئين من أصول الفقه, كونه نتاج أهل الكلام ,إلى دعوات محمومة لتصفية أصول الفقه مما علق به من مسائل الكلام, بل والمطالبة بإعادة كتابته على وِفق منهج أهل السنة والجماعة.

وإنْ كُنْتَ في شكٍّ من ظني, فأعلمني : ما بالنا لا نسمع مثل هذه الدعوات, ولا نرى هذا التوجس لبقية العلوم والفنون؟ فكتب التفسير, وشروح الحديث, والفقه, طافحة بمسائل الكلام, بل كتب الفقه – لا سيما المتأخرة- فيها من المستشنعات العقدية, والبدع ما يعرفه كل شادٍ لهذا العلم.

هل سمعتم بدعوات لتصفية علم الفقه مما علق به من باطل الكلام, وسىء العقيدة؟

هل بلغتكم دعوة مثلها في حقّ التفسير وشروح الحيث؟

وإن سمعتم فهى دعوات مهموسة, لا تكاد تُسمع, على خلاف علم أصول الفقه, فهى دعوات أخالها أحيانا كالعويل.

فإن قال قائل: كتب التفسير وشروح الحديث, ناسب إيراد علم الكلام فيها, لأنها احتوت على آيات وأحاديث وآثار في الأسماء والصفات, فأما علم أصول الفقه, فلا معنى لإيراد علم الكلام فيه؟

والجواب : أن المآخذ- في الأغلب- على علم الكلام الموجود في كتب الأصول, هو كونه باطلا ومخالفا للكتاب والسنة, لا مطلق علم الكلام, وقد علمتَ أن كثيرا من كتب التفسير وشروح الحديث قد تصدى لتفسيرها وشرحها كثير من المتكلمة, فسطّروا فيها من الأقوال المبتدعة, والتأويلات الباطلة, ما هو معروف ومشهور, فَلِمَ لا يطالبون بإعادة كتابتها وتصفيتها؟

والعجب, أن تأثير هذه الدعوات بلغت أهل التخصصات الأخرى من أهل العلم فصاروا يغمزون هذا العلم لوجود الكلام فيه, وربما حقّروا شأنه في نفوس الطلاب, فصحّ فيهم المثل : رمتني بدائها وانسلّت.

ولستُ أبالغ, وهو داء قديم اشتكى منه القرافي – الفقيه الأصولي- فقال : ( وقد أجمع قوم من الفقهاء الجهال على ذمه- أى : أصول الفقه- واهتضامه, وتحقيره في نفوس الطلبة, بسبب جهلهم به, ويقولون : إنما يُتعلم للرياء والسمعة, والتغالب والجدال, لا لقصد صحيح, وما علموا أنه لولا أصول الفقه لم يثبت من الشريعة قليل ولا كثير)

ويؤسفني أن المتخصصين في هذا العلم- أصول الفقه- قد أمدوا هؤلاء المحقّرين لهذا العلم بأعظم مادة يأخذونها عليه, وذلك بإلصاق هذا المصطلح والتعليل المخترع, لأصول الجمهور.

وطالب العلم الناشئ- كذلك كنّا من قبل- قد وقر في نفسه ذمّ الكلام وأهله, وربما لقلة خبرته واطلاعه, لا يفرّق بين الكلام المذموم وغيره, ولا يعرف توجيه كلام السلف في ذم هؤلاء, فيتوجس من علم الكلام مطلقا من غير تفصيل.

وتحقيق القول في هذا المقام:

-*أن علم الكلام الذي ذمه السلف هو العلم المخالف للمنقول, والذي اتخذه أهل الكلام ذريعة لنفي صفات الله, ونفى القدر, ونحو ذلك من المسائل:

يقول ابن حمدان في "صفة المفتي والمستفتي" : ( وعلم الكلام المذموم هو أصول الدين إذا تكلّم فيه بالمعقول المحض, أو المخالف للمنقول الصريح الصحيح, فإنْ تكلم فيه بالنقل فقط , أو بالنقل *والعقل الموافق له فهو من أصول الدين وطريقة المسلمين )

بل وكان آخر الأمرين من شأن الإمام أحمد, المناظرة فيه, ومحاجة أهل البدع, ووضع الكتب في الردّ عليهم, بعد نهي سابق عن جدالهم ومناظرتهم والاكتفاء ببيان السنة, وقد استدلوا على تراجعه برواية ابنه حنبل : ( قد كنا نأمر بالسكوت, فلما دُعينا إلى أمر ما كان لنا بدّ أن ندفع ذلك , ونبيّن من أمره ما ينفي عنه ما قالوه) ثم استدل بقوله تعالى ﴿*وجادلهم بالتي هى أحسن﴾*{النحل:125}

يقول ابن مفلح : (وقد صنّف الإمام أحمد-رحمه الله ورضى عنه- كتابا في الرد على الزنادقة والقدرية في متشابه القرآن وغيره, واحتج فيه بدلائل العقول, وهذا الكتاب رواه ابنه عبد الله, وذكره الخلال في كتابه, وما تمسك به الأولون- من منعه الجدل- فهو منسوخ)

وقول ابن مفلح : ( واحتج فيه بدلائل العقول ) حتى لا يُظن أن الرد عليهم إنما كان بالمنقول فقط, لأن القدرية والمعتزلة كانوا أعظم المتكلمين المعظمين للطرق العقلية, بل جعلوا العقل أصل الشرع, فاحتاج إلى مخاطبتهم باصطلاحهم.

بل حتى الاصطلاحات المولدة ك" الجوهر" و" العرض" و"الجسم", وغير ذلك, يجوز التنزل ومخاطبتهم بأمثال هذه العبارات, يقول ابن تيمية: ( فإذا عُرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات, ووُزنت بالكتاب والسنة, بحيث يثبت الحقّ الذي أثبته الكتاب والسنة, وينفي الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة, كان هو الحق) وقاسه على مخاطبة العجم والروم والفرس والتُرك بلغتهم, فهذا جائز حسن للحاجة

فعلم الكلام كمصطلحٍ لا يستلزم مدحا ولا ذمّا, بل المعلوم منه هو الممدوح أو المذموم, أسوق هذا الكلام لأن بعض طلاب العلم, يجعل مجرد وجود علم الكلام في الأصول مدعاة للذم والقدح, من غير تمييز بين السنة والبدعة, وهذا لا شكّ جوْرٌ في الحكم.

فإن قيل : بين علم الكلام وعلم أصول الفقه فرق, فوجود مسائل الكلام الموافقة للمنقول والمعقول في كتب الأصول خطأ ولا ريب.

فالجواب: إن سلّمنا بأنه خطأ, فهو ليس بخطأ عقدي أو علمي يستدعي إنكارا, غاية ما يقال : إنه خطأ منهجي لا أكثر. ومع هذا فوجود علم الكلام في أصول الفقه أضحى ضرورة, وهو ما سأبينه بعد قليل إن شاء الله.

-*أمر آخر يقع فيه بعض طلاب العلم, وهو عدم التفريق بين الخطأ في المسألة الكلامية العقدية, وأصول الفقه, فإنه لا تلازم بينهما:

فمسائل الاعتقاد توصف بالسنة والبدعة, والحقّ والضلال, أما مسائل أصول الفقه, فهى من محض الفقه , وتتعلّق بأفعال المكلفين, فمن أخطأ في مسائل الاعتقاد من أهل الكلام, لا يعني بالضرورة خطؤه في مسائل أصول الفقه.

وصحيح ما نُقل عن طوائف من الأصوليين المناقضين لأهل الكلام من تنقّص لسبيلهم وطريقتهم في تقرير قواعد الأصول, ومن هؤلاء ابن السمعاني, فقد قال : (ورأيت بعضهم قد أزغل وحلّل وداخل, غير أنه حاد عن محجة الفقهاء في كثير من المسائل, وسلك طريق المتكلمين الذين هم أجانب عن الفقه ومعانيه, بل لا قبيل لهم فيه ولا دبير, ولا نقير ولا قطمير," ومن تشبع بما لم يعط فقد لبس ثوبي زور", وعادته: السؤ, وخبث النشؤ, قطاّع طريق الحق, معم عن سبيل الرشد وإصابة الصواب)*نسأل الله تعالى السلامة.

وهذا وأمثاله محمول لمن لم يكن له حظٌّ في الفقه, فأوغل في علمٍ لا يُحسنه, فصح فيه أنه لبس ثوبى زور, وآية ذلك أن ابن السمعاني قد أورد هذا القيد في باب الإجماع : فيمن ينعقد به الإجماع من الأمة, فقال : ( وأما الذين يتكلمون في الجواهر, والأعراض, وعُرفوا بمحض الكلام, ولا يعرفون دلائل الفقه, فلا عبرة بقولهم في الإجماع, وهم بمنزلة العوام, وأما المتفردون بأصول الفقه, فإن وافقوا الفقهاء في ترتيب الأصول, وطرق الأدلة, كان خلافهم مؤثرا يمنع انعقاد الإجماع)

وقد عرَفْتَ شدّة الشيخ على أهل الكلام, فلا شهادة بعد شهادته, بل من تأمل كتابه " القواطع", وجده كثير النقل والإفادة- كما صرّح بذلك محقق الكتاب- عن " البرهان" للجويني, و"المعتمد" لأبي الحسين البصري, وهما من هما عند أهل الكلام!

لذلك تجد كثيرا من الأصوليين يقيّدون- في مسائل الأصول- القبول أو الرد من أهل الكلام, بمن له نظر في الفقه, وهذه أمثلة على ذلك:

-*يقول السرخسي في الاحتجاج على صحة القياس : (وقد كان الصدر الأول اتفاق على استعمال القياس, وكونه حجة, وإنما أظهر الخلاف بعض أهل الكلام ممن لا نظر له في الفقه..)

-*ويقول الجصاص : (وإنما أنكر إثبات القياس قوم من المتأخرين من المتكلمين, لا حظ لهم في الفقه وأصول الأحكام)

وما زال هذا العلم يتحدر إلينا قرنا بعد قرن, والعلماء ينقلون ويقرّرون مسائل الكلام من غير تحفظ ولا تردد, غاية ما هنالك أنْ يشيروا إلى كونها مسألة كلامية لا تعلّق لها بالفقه, حتى الذين وعدوا في مقدّمة كتبهم بأنهم سَيُخلوا مصنفهم من الكلام,-كابن السمعاني- فإنه غالبا ما يغلبه المقام, فيضطر إلى الرد والبيان.

وما حمل أهل العلم على مزج أصول الفقه بعلم الكلام هو الضرورة, كما حملت الضرورة الإمام أحمد على نسخ رأيه في عدم مجادلة أهل الكلام إلى وجوب ذلك.

والضرورة هنا هى : أن المعتزلة هم من أوائل من صنّف في هذا العلم, فدسّوا أصول الاعتزال في هذه الكتب, فكان لزاما على أهل العلم التصدي لهم, فجاء الأشاعرة فردوا فأصابوا وأخطأوا, وبقية الاعتزال التي بقيت فيهم, حملت أهل السنة أيضا على التصدي لهم, كأبي إسحاق الشيرازي, وأبي المظفر ابن السمعاني من الشافعية, وفخر الإسلام البزدوي, وشمس الأئمة السرخسي من الحنفية, وابن قدامة المقدسي من الحنابلة.

لكن الذي حمل لواء إحياء السنة- بلا مدافعة- هو شيخ الإسلام بن تيمية, فقد قرّر هذه المسائل الكلامية الموجودة في أصول الفقه وغيرها كأحسن ما يكون التقرير, أحيا فيها مذهب السلف بعد أنْ كاد أنْ يضمحل, فسرعان ما انتشر مذهب السلف في كتب الأصول من تلاميذ الشيخ ك"إعلام الموقعين" لابن القيم, و"شرح مختصر الروضة" للطوفي, و"أصول الفقه" لابن مفلح, ومن المتأخرين كتاب "التحبير" للمرداوي, فإني أعدّه أجمع كتاب في أصول الفقه, عنى ببيان عقيدة السلف نقلا وحجاجا, ولبعض المعاصرين أيضا جهود مشكورة في هذا البيان كصاحب " المسائل المشتركة". لذا فلْتَقَرّ أعينُ المتوجسين والمترددين من هذا الخلط بين علم الكلام وعلم أصول الفقه, فما من بدعة مسطورة في كتاب, إلا والردّ عليها وبيان السنة فيها تجده في كتاب*آخر, علمه من علمه, وجهله من جهله.

وهذه الدعوات لتصفية أصول الفقه, أو إعادة كتابته على وفق منهج أهل السنة والجماعة, أخشى أن تتضمن ازدراء وتنقصا للسلف, فكما أن الله تعالى عصم هذه الأمة عن الخطأ, فقد عصمها كذلك عن عدم التنبه للحق, أو السكوت على الباطل, وهذه دعوة لم يُسمع بها من قبل.

ثم إن الحكمة تقتضي أن البدعة يُردّ عليها في موضعها وزمانها, فمن سمع بدعة في مجلس أو جماعة, وجب عليه-إن كان قادرا- أن يرد عليها في وقتها ومكانها, ولو أخرها ليوم آخر أو جماعة آخرين كان ذلك عيّا وغباء, فكذلك البدع الكلامية في أصول الفقه, وجب الردّ عليها في موضعها, ولا يُضرب عنها صفحا بحجة أن هذه ليست من مسائل الأصول, وإلا كان ذلك عيّا وغباء.

هذا ما جاد به الخاطر في هذا المبحث, وهو آخره, واللهَ تعالى أسال, أن ينفعني بما كتبتُ, وأن ينفع من يقرأها, وصلى الله وسلّم وبارك على سيّدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.

*

أ.د/خالد بن محمد العروسي
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:

إدارة الملتقى

:: خاص بالتعامل مع الأعضاء ::
إنضم
29 ديسمبر 2007
المشاركات
664
التخصص
إدارة الملتقى
المدينة
الملتقى الفقهي
المذهب الفقهي
الحنبلي
إنضم
17 مايو 2013
المشاركات
33
الكنية
أبو ساري
التخصص
أصول الفقة
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
الحنبلي
رد: مصطلحات ابن خلدون والمعاصرين للمذاهب الاصولية"نقد وتقويم"

وإياكم.
ﻻبأس،المهم ان يستفيد منه الاخوة
 

أحلام

:: متميز ::
إنضم
23 ديسمبر 2009
المشاركات
1,046
التخصص
أصول فقه
المدينة
........
المذهب الفقهي
.......
رد: مصطلحات ابن خلدون والمعاصرين للمذاهب الاصولية"نقد وتقويم"

جزاكم الله خيراً على هذا النقل...
وجزى الدكتور :خالد على هذا البحث خير الجزاء..
 

د. خلود العتيبي

:: فريق طالبات العلم ::
إنضم
27 يونيو 2009
المشاركات
1,052
التخصص
أصول فقه
المدينة
... ... ...
المذهب الفقهي
... ... ...
رد: مصطلحات ابن خلدون والمعاصرين للمذاهب الاصولية"نقد وتقويم"

نفع الله بكم ..
البحث بصيغة word لمن أراد حفظه
 

المرفقات

  • مصطلحات ابن خلدون للعروسي.docx
    80.6 KB · المشاهدات: 0
أعلى