الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
إذا سمح لي الشيوخ الأجلاء فلي على هذا الكلام كلمات:
الأولى: كون الإمام أحمد مجتهدًا في الفقه هذا أمر ثابت لا ينبغي أن يكون فيه نزاع كيف وقد شهد له شيخه الإمام الشافعي بالإمامة بالفقه وتحقق الناس من هذا بما نقل عن الإمام من مسائل ولم ينكر اجتهاده الفقهي أحد بعد في القرون التالية فكان إجماعًا والأصحاب فرعوا وشققوا وخرجوا على كلام الإمام المحفوظ وهو كثير وتلقى أصحاب المذاهب الأخرى كلامهم بالقبول الأمر الذي يؤكد هذا الأمر. أما ما نقل عن بعض الأئمة من إنكار كون الإمام أحمد فقيهًا فهو أمر كائن قبل حدوث الإجماع واستقراره ويعتذر عن هؤلاء بأنهم إنما تحدثوا بالنظر إلى أن أحمد لم تكن قد استقرت له مدرسة من خلال أصحابه تكون واضحة المعالم (حال حياة الإمام الطبري مثلا) بالإضافة إلى أن الذي قد يؤثر في أحكام هؤلاء الأفاضل ربما قياسهم من حيث لا يشعرون أو يشعرون أحمد الفقيه بأحمد صاحب الحديث وأحمد الفقيه قد يقارن به غيره لكنا وبحكم كوننا من مقلدي مذهبه لا بد أن نعتقد رجحان طريقته الفقهية على طريقة غيره أما أحمد صاحب الحديث فلم يكن يقارن به أحد ففنون الحديث جميعها كان الإمام دائما على رأس كل فن فن منها وهذا الجزء يحتمل كلامًا أكثر من هذا مدعمًا بشواهد يسر الله كتابة ما هو أوسع في هذا المضمار.
الثانية: بعض من مقلدي مذهب الإمام ربما دقت عليهم مدارك الإمام الفقهية فظن العجول منهم ومن لا خبرة له بطريقة أحمد أنه ليس ثمة ما يميزه عن غيره وبالتالي فليس هناك مسوغ لعده مذهبًا مستقلا وعليه فلا بد من إلحاقه بأحد المذاهب وأقربها بحسب ظن هؤلاء الرهط مذهب الإمام الشافعي وربما انتقل إلى مذهبه أو مذهب آخر. والذي في ذهني الآن وقد قرأته قديما أن ابن عقيل قد لحظ هذا المعنى وعلق عليه بكلام قريب من هذا.
الثالثة: أن عدم تدوين القواعد التي اعتمدها إمام من الأئمة لا يعني أنه لم تكن لديه قواعد قائمة في نفسه ولا يلزم منه أيضًا عدم إمكان معرفة قواعده تلك. ولا شك أنه من المتقرر أن طريقة الحنفية تعرف بطريقة تخريج الأصول على الفروع لأن الحنفية -نظرًا لكون أئمتهم لم يدونوا أصولهم كما صنع الشافعي في رسالته- استنبطوا أصول أئمتهم من خلال الفروع المنقولة عنهم بل قيل إنهم كانوا إذا وجدوا فرعا يخالف ما قرروه من الأصل عدلوا الأصل بحيث يتفق مع ذلك الفرع وإلا جعلوا ذلك الفرع أصلا بنفسه. والمسائل التي نقلت عن أحمد بلغت من الكثرة حدا يمكن معه إجراء عملية التخريج تلك وبعض مسائله كانت نصوصا صريحة في بيان الأصل الذي اعتمده وبعضها كانت مسائل في أصول الدين وبعضها في الحديث ثم جمهرة غفيرة في الفروع الفقهية. فالخلاصة أن مسائله اشتملت من جملة ما اشتملت عليه على بعض من قواعده وأصوله الفقهية صراحة والباقي مضمن في مسائلة وهي بحمد الله كثيرة كثرة تطمئن الباحث إلى صحة ودقة تخريجه للأصول على الفروع والكلام هنا أيضًا فيه اختصار يليق بمقام النت وبضيق وقت الفقير.
الرابعة: أن النظرة الأولى العجلى تكفي لبيان أن الإمام صاحب مدرسة مستقلة ودل على ذلك أمور كثيرة منها:
أ- اعتماده أصولا انفرد بها عن سائر الأئمة كاعتماده الحديث الضعيف بذوق خاص دقيق ولا يغرنك كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فيما ذهب إليه وتابعه آخرون من أن الضعيف عند أحمد حسن عند غيره بل الصواب خلافه ولكن الضعيف عند أحمد بعضه ضعيف عند غيره اتفاقا وبعضه قد يحسنه قوم ويضعفه آخرون وعليه فإما أن تؤول عبارة التقي لتتفق مع ما هو الواقع الكائن في الضعاف التي استدل بها أحمد وإما أن يرد كلامه. واللائق بإمامة التقي أن يفسر كلامه ليتفق مع ما ذكرته إجمالا.
ب- انفراده بأصول عن الشافعي تحديدا منها المرسل ولم يعتبرالضوابط التي اشترطها الإمام الشافعي، ومنها أقوال وفتاوى الصحابة ومنها سد الذرائع.
الخامسة: أنا لو فرضنا أن أحمد قد وافق شيخه في جميع الفروع الفقهية ولم يختلف المذهبان في مسألة فقهية واحدة لم يكن هذا مسوغًا من الناحية العلمية لجعل المذهبين مذهبًا واحدة لأن العبرة في الموافقة والمخالفة إنما تكون بالنظر إلى القواعد والأصول والمنهج الذي توصل به إلى تلك الفروع فلو كان طريق التوصل مختلفا فهما مذهبان لا مذهب واحد ولو اتفقا في جميع الفروع وهما مذهبان -أيضًا- نظرا لاحتمال ألا تحصل تلك الموافقة فيما يستجد من فروع إذ ربما كانت تلك الموافقة راجعة إلى خصوص تلك الفروع.
هذا ما يسر الله لي قوله والله تعالى أعلى وأعلم