رد: على طريق المذاكرات من أوراق المذكّرات (في الأصول)
الأخت الفاضلة أحسن الله إليك ونفع بك الإسلام والمسلمين
معذرة، لقد صادف مروري على هذه المذكرات أن كنت منشغلا منذ مدة بالنظر في بعض مباحث القياس، ومنها المناسبة، وأصابني شيء من التضايق بما يورده بعض الأصوليين من استطرادات وأمثلة افتراضية لا تخدم صلب المسألة المبحوثة، تجعل القارئ يقضي الكثير من الوقت في مسألة بسيطة كان يمكن استيعابها في وقت قصير لو أن تلك الكتب حرَّرتْها وأبرزت جوهرها، فأعربت عن شيء من ذلك التضايق بهذا التعليق.
1. لم أفهم (عدم الحاجة وانتفاء الفائدة) من استنباط علة لحكم ثبتت مشروعيته، فإننا إذا لم نعرف علل الأحكام المراد جعلها أصلا في القياس فكيف نقيس الفرع عليها؟ وكيف نستلهم لطف الله ورحمته وعدله ... من خلال تشريع أحكام دينه؟ ..
لا يخفى عليكم أن هناك فرقا بين الكلام في الحكمة من شرع الأحكام الشرعية الذي نستلهم منه لطف الله ورحمته وعدله، وبين الحديث في التعليل الذي يراد به القياس، كما لا يخفى عليكم أن الأصوليين يفرقون عادة بين الحكمة والعلة في التعليل. والأصل في مباحث القياس أنها وضعت للحديث عما يحتاج إلى القائس في القياس، والأولى الاقتصار فيه على ذلك. وعلى كل حال، كما تفضلتِ، هذه مسألة تختلف فيها وجهات النظر
2. لعلك لا تختلف معي أن الحكم الواحد (تتعدد) علله، كوجوب الوضوء مثلا .. فلا ضير أن يكون جواز الزواج له علل منها تحصيل الولد .. فالكلام لم يحصر علة جواز النكاح في علة واحدة، وإنما هو في آيس راغب في النسل.
..
مسألة تعليل الحكم الواحد بعلل متعددة من المسائل التي كثيرا ما تذكر في كتب الأصول دون تحرير. وإذا كان ما يراد بالعلل المتعددة مما لا يستقل كل منها بالتعليل فهي أجزاء علة واحدة. أما إذا كان يستقل كل وصف بالتعليل وكان من باب قولهم: أحدث ومس وبال، فالناقض للوضوء هو الذي وقع أولاً أما الذي جاء بعده فلم يقع على وضوء حتى يقال إنه ناقض له، فالوضوء قد انتقض وانتهى فهل ينقض بعد ذلك ما هو منتقض أصلا؟ وإن كان من باب تعليل الحكم بالقتل في من زنا وهو محصن وقتل وارتد فقد حرر إمام الحرمين المسألة وذكر، بعد أن أطلق القول بجواز التعليل بأكثر من علة جريا على يذكره الأصوليون عادة، أن هذا في الحقيقة غير واقع، وأن الواقع هو أحكام متعددة بتعدد العلل، ولكن المحل ضاق عن تلك الأحكام، فصار الأمر كأنه حكم واحد معلل بعلل متعددة، وهو يعني بذلك أن الأصل أن يقتل الشخص بكل جريمة، ولكنه لما كان غير ممكن قتل الشخص أكثر من مرة، صار الحكم كأنه واحدا.
في النقطة الثالة أنتقل معك إلى ذات المسألة:
3. عند تأمل كلام الأصوليين والفقهاء في التمثيل بهذا المثال لهذا النوع من المناسبات، نجد أنهم يثبتون (مصلحة التوالد) مقصدا من مقاصد النكاح، وأن اليأس هنا كان نتيجة (طول تجربة مثلا) وليس يأسا قاطعا لا مجال للشك فيه، فالمسألة انخفض فيها منسوب الإيجاب وارتفع فيها منسوب النفي إلى حدّ ما يُصطلح عليه باصطلاح (الوهم) وهو هنا رجحان العدم .. فالحاصل أنه يئس ليس بتيئيس الله له، وإنما بطريق الغالب.
وعليه فموضع الخلاف: هل هذه النسبة الضئيلة الحاصلة من طريق الغالب تكفي في العلية وإثبات المناسب؟
[الآيات البينات، 4/93، نشر البنود 2/ 175، حاشية العطار على جمع الجوامع، 2/320]
..
مقاصد الناس من الزواج متعددة، وقد اختلط الحديث هنا عن علة مشروعية الزواج بالحديث عن مقاصده، والأصل في الحديث عن العلة هو العلة التي جعلت الشارع الحكيم يشرع الزواج، وليس الحديث عن مقاصد الناس من الزواج، وهل إذا قصد شخص من الزواج بالآيس تحصيل الولد يحصل له ذلك المقصد أم لا يحصل. فما علاقة هذه الجزئية بعلة مشروعية الزواج؟ وعلى أية حال هذه وجهة نظر، والحديث في التعليل مطاط يجذبه كل إلى الجهة التي يريد.
4. قد أخالفك يا سيدي في أن إكمال بعض الاحتمالات الممكنة في المسألة الأصولية يسبب تشويشا للطالب، من وجهين:
· أن عدم اكتمال الدائرة الفلسفية لموضوع ما (في الأصول أو غيره) يجعل في النفس تشوفا لمجهول وفراغا علميا يُلح في طلب الامتلاء المعرفي، فمعرفة الطالب لشيء أنه ممكن عقلا غير واقع شرعا لا أظن أنه مشوش لفكره...
هذه المسألة محل اختلاف في وجهات النظر في مناهج البحث، وهي تتعلق بتحديد حدود البيان والتفريع المفيد، وحدود الاستطراد، وحدود الحشو المستقبح، وقد يتنازع فيها الناس على الحدود، والمهم ألا يغزو بعضهم بعضا ويقع النزاع بسبب ذلك.
· أن علم أصول الفقه علم (وصفي) بالنسبة لتقرير قواعده .. وليس علما (تقويميا) يضع القواعد لمباشَرة تعديل سلوك المكلف
..
لقد قصدوا به في الأصل أن يكون معياريا، بمعنى أنه معيار الاستنباط، وإن كان قد جاء في بعض مباحثه وصفيا
ربما يا سيدي المُفيد كتبت كلماتك على عجل على غير ما يُنتظر من مثلكم، ولكني لا أخفيكم أن كلمة (لا فائدة منها) كانت قاسية على جهود العلماء .. تمنيت لو لطّفتها بإعذار يسعنا جميعا، والأمر وجهات نظر لا حدّية فيها إن شاء الله والله واسع كريم ..
لا يهولنك وصف بعض الأمثلة بأنها غير مفيدة، فإنه لو اقتصر الأمر على عدم الإفادة لكان هينا، بل إن الكثير من الأمثلة المذكورة في مسالك العلة، ومنها المناسبة، وقوادح القياس، أمثلة
افتراضية موهِمَةٌ توهم القارئ أن تلك الأقيسة التي ينسبونها إلى بعضهم بعضا هي مآخذ أصحاب المذهب في الأحكام، وهي في الواقع غير ذلك. ومن تعمق في تلك المباحث وسبر ما فيها من أمثلة أدرك ذلك. وقد كانت تلك المباحث من نتاج الجدل الفقهي والأصولي لنصرة المذهب، فشابتها شوائب. وعلى كل حال ليس هذا موضع التفصيل.
والله أعلم بالصواب، وأستغفر الله وأتوب إليه