العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ الحُدُودِ)

إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا مُحمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعدُ..

فقد طرحتُ موضوعًا في آواخر العام السابق جمعتُ فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتاب الحج بعنوان: ’’المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ الحَجِّ)‘‘، ثم أتبعتُه بموضوعٍ في أوائل هذا العام جمعتُ فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتابي الطهارة والصلاة بعنوان: ’’المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)‘‘، ثم طرحتُ بعده موضوعًا في آواخر العام السابق جمعتُ فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتاب البُيُوع (وأتبعته بفوائد طيّبة) وكان بعنوان: ’’المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ البُيُوعِ)‘‘، وأطرحُ الآن بين أيديكم هذا الموضوع وقد جمعتُ فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتاب الحُدُودِ، ..
.. والتزمت بعرض الخلاف الفقهي في المسائل إجمالًا ابتداءً ثم بالتفصيل بنقل بعض العبارات عن كل مذهب، وذلك بالرجوع إلى المصادر المعتمدة لكل مذهب لتوثيق حكاية المذهب؛ لأنني كثيرًا ما وقفت على تناقض في كتب الخلاف في حكاية المذهب الواحد، فعزمت على نفسي ألا أنسب قولًا لمذهب إلا بالرجوع إلى مصادره، ولم أكتفِ بذلك بل ذكرتُ من كلامهم بعض العبارات الدالة على هذا المذهب. كما التزمت غالبًا بذكر أدلة كل مذهب من خلال كتبه، مع الرجوع إلى مصدر كل حديث مذكور حفاظًا على ألفاظ الحديث النبوي؛ لأن كثيرًا من كتب الفقه تذكر الأحاديث بالمعنى، مع الالتزام بتخريج جميع الأحاديث والآثار وذكر بعض عللها وذكر أقوال أئمة الجرح والتعديل في رواتها المُتكلم فيهم، مع ذكر الاعتراضات على الأدلة من أقوال أهل العلم. وعامة هذه المسائل من كتاب الحج (الحدود) اخترتها على وفق اختيار الإمام ابن أبي شيبة -رحمه الله- في كتابه "الرد على أبي حنيفة مما خالف فيه الأثر الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ضمن مصنفه، وهذا العمل نقلته من كتاب "منهج الحنفية في نقد الحديث" للدكتور/ كيلاني محمد خليفة، الصفحات (419- 430) -الصفحات 493- 515-.

أولًا/ مَسْأَلَةُ رَجْمِ الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيَّةِ
(1) حَدَّثنا شَرِيكُ بنُ عبداللهِ عنْ سِمَاكٍ عَن جَابرِ بن سَمُرَةَ: أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ يَهُوديًّا وَيَهُودِيَّةً. أخرجه الترمذي (14377) وقال: حسن غريب. وابن ماجه (2557)، وأحمد في مسنده (5/ 91، 94، 97).
(2) حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ عنِ الأعْمَشِ عن عبدِاللهِ بنِ مُرَّةَ عَن البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ يَهُودِيًّا. أخرجه مسلم (1700)، وأبو داود (4446، 4447)، والنسائي في الكبرى (7218).
(3) حدَّثنَا عبدُالرحيمِ بنُ سُلَيْمَانَ عَن مُجَالِدٍ عَن عَامِرٍ عَنْ جَابِرِ بنِ عبدِاللهِ: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ يَهُودِيًّا وَيَهُودِيَّةً. أخرجه أبو داود (4452)، وابن ماجه (2328).
(4) حدَّثنَا ابنُ نُمَيْرٍ حَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ عَن نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ أَنَا فِيمَنْ رَجَمَهُمَا. أخرجه ابن ماجه (2556)، ومن طريق مالك عن نافع عن ابن عمر أخرجه البخاري (3635)، ومسلم (1699) عن ابن عمر مختصرًا كما ذكره المصنف ومطولاً ولفظه: أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تجدون في التوراة في شأن الزنا). فقالوا: تفضحهم ويجلدون. فقال عبدالله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فجعل أحدهم يده على آية الرجم، ثم جعل يقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له ابن سلام: ارفع يدك. فرفعها فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما.
(5) حَدَّثنَا جَرِيرٌ عن مُغِيرَةَ عنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ يَهُوديًّا ويَهُوديَّةً. أخرجه أبو داود (4453، 4454).
وَذُكِرَ أنَّ أبَا حنفيةَ قالَ: لَيْسَ عَلَيْهِمَا رَجْمٌ.
***
يشترط في إقامة حد الرجم على الزاني أن يكون محصنًا، فلا بد أولاً من تعريف الإحصان وذكر أنواعه وشروطه.
فالإحصان في اللغة: معناه الأصلي المنع، ومن معانيه: العفّة والتزوج والحرية.
ويختلف تعريفه في الاصطلاح بحسب نوعيه: الإحصان في الزنا، والإحصان في القذف.
إحصان الرجم: وهو مجموعة شروط إذا توفرت في الزاني كان عقابه الرجم، وأهم شروطه التزوج.
إحصان القذف: وهو عبارة عن اجتماع صفات في المقذوف تجعل قاذفه مستحقًا للجلد، وأهم شروطه العفة.
وقد اختلف العلماء في اشتراط الإسلام في إحصان الرجم؛ فالشافعي وأحمد وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة لا يشترطون الإسلام في إحصان الرجم، فإن تزوج المسلم ذمية فوطئها صارا محصنين لحديث رجم اليهوديين، ولأن الجناية بالزنا استوت من المسلم والذمي فيجب أن يستويا في الحد، وعلى هذا يكون الذميان محصنين، وحدهما الرجم إذا زنيا فبالأولى إذا كانت الذمية زوجة لمسلم.
وجعل مالك وأبو حنيفة الإسلام شرطًا من شروط الإحصان، فلا يكون الكافر محصنًا ولا تحصن الذمية مسلمًا عند أبي حنيفة لحديث كعب بن مالك -رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 67) ومن طريقه الطبراني في المعجم الكبير (19/ 103)، والدارقطني في سننه (3/ 148) من حديث أبي بكر ابن أبي مريم عن علي ابن أبي طلحة عن كعب بن مالك: أنه أراد أن يتزوج يهودية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتزوجها فإنها لا تحصنك). قال الدارقطني: وأبو بكر بن أبي مريم ضعيف وعلي بن أبي طلحة لم يدرك كعبًا. وأخرجه أبو داود في المراسيل (ص 181) عن بقية بن الوليد عن عتبة بن تميم عن علي بن أبي طلحة عن كعب بن مالك به فذكره. وهو ضعيف أيضًا للانقطاع بين علي وكعب، كما أن عُتبة بن تميم لا يُعرف حاله، وذكره ابن حبان في الثقات على عادته في توثيق المستورين، ورواه عنه بقية وهو ممن يعرف ضعفه. راجع: تهذيب الكمال (19/ 299)، والثقات (8/ 507) ،ونصب الراية (4/ 122)-؛ ولأنه إحصان من شرطه الحرية فكان الإسلام شرطًا فيه كإحصان القذف، وعلى هذا فالمسلم المتزوج من كتابية إذا زَنى يُرجم عند أكثر الفقهاء ولا يُرجم عند أبي حنيفة؛ لأنه لا يعتبر محصنًا؛ لأن الكتابية عنده لا تحصن المسلم، وكذا قال أحمد في رواية. وأما مالك فقد قال برأي الجمهور: أن الذمية تحصن المسلم، ويستحق الرجم إذا زنى. راجع: الموسوعة الفقهية (2/ 223).
قال صاحب الهداية: (وإحصان الرجم أن يكون حرًّا عاقلاً بالغًا مسلمًا قد تزوج امرأة نكاحًا صحيحًا ودخل بها وهما على صفة الإحصان) فالعقل والبلوغ شرط لأهلية العقوبة؛ إذ لا خطاب دونهما، وما وراءهما يشترط لتكامل الجناية بواسطة تكامل النعمة؛ إذ كفران النعمة يتغلّظ عند تَكَثُّرِهَا، وهذه الأشياء من جلائل النعم وقد شرع الرجم بالزنا عند استجماعها فيُناط به.
والشافعي يخالفنا في اشتراط الإسلام وكذا أبو يوسف في رواية لهما: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (رجم يهوديين قد زنيا). قلنا: كان ذلك بحكم التوراة ثم نُسخ، يؤيده قوله عليه الصلام والسلام: (من أشرط بالله فليس بمحصن). اهـ. فتح القدير (5/ 236)، والعناية (5/ 238)، ونصب الراية (4/ 120)، وسيأتي تخريج الحديث.
جاء في المدونة (2/ 204): "هل تحصن الأمة واليهودية والنصرانية الحر في قول مالك؟ قال: نعم إذا كان نكاحهن صحيحًا".
وفي موضع آخر (4/ 530): "قلت: أرأيت الذمي إذا زَنى، أيقيم مالك عليه الحد أم لا؟ قال: لا يقيمه عليه وأهل دينه أعلم به. قلت: أرأيت إن أراد أهل الذمة أن يرجموه في الزنا، أيتركون وذلك؟ قال: قال لي مالك: يردون إلى أهل دينهم، فأرى أنهم يحكمون بما شاءوا ولا يمنعون من ذلك ويتركون على دينهم". وراجع: المنتقى شرح الموطأ (7/ 132)، وأحكام القرآن لابن العربي (2/ 126).
وقال الشافعي -في الأم (7/ 166)-: "وإذا زنى المشركان وهما ثيبان فإن أبا حنيفة رضي الله عنه قال: ليس على واحد منهما الرجم وكان ابن أبي ليلى يقول: عليهما الرجم. ويروى ذلك عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم يهوديًّا ويهودية. وبه نأخذ". وراجع: مختصر خلافيات البيهقي (4/ 412).
وقال الشافعي أيضًا (6/ 176): "وإذا تزوج الرجل حرة مسلمة أو يهودية أو نصرانية أو لم يجد طولاً فتزوج أمة ثم أصابها بعد بلوغه فهو محصن، وإذا تزوجت الحرة المسلمة أو الذمية زوجًا حرًّا أو عبدًا فأصابها بعد بلوغها فهي محصنة، وأيهما زَنى أقيم عليه حد المحصن محصنة أو بكر أو أمة أو مستكرهة، وسواء زنت المحصنة بعبدٍ أو حرٍّ أو معتوه يقام على كلِّ واحدٍ منهما حده". وراجع: روضة الطالبين (10/ 90)، والمنهاج وشروحه: مغني المحتاج (5/ 446)، تحفة المحتاج (9/ 108)، ونهاية المحتاج (8/ 427).
قال ابن قدامة في المغني (9/ 43): "ولا يشترط الإسلام في الإحصان. وبهذا قال الزهري والشافعي. فعلى هذا يكون الذميان محصنينِ، فإن تزوج المسلم ذمية فوطئها صارا محصنينِ. وعن أحمد رواية أخرى: أن الذمية لا تحصن المسلم. وقال عطاء والنخعي والشعبي ومجاهد والثوري: هو شرط في الإحصان. فلا يكون الكافر محصنًا، ولا تحصن الذمية مسلمًا، وقال مالك كقولهم، إلا أن الذمية تحصن المسلم، بناءً على أصله في أنه لا يعتبر الكمال في الزوجين".
-جواب الحنفية عن أحاديث المسألة:
كانت هذه مذاهب العلماء في المسألة، وكما نرى فإن أبا حنيفة لم ينفرد بمخالفة ظاهر هذه الأحاديث؛ بل وافقه مالك وغيره كما حكى ابن قدامة، ومع ذلك توجه نقد المحدثين لأبي حنيفة دون غيره، وقد أجاب الحنفية على هذه الأحاديث بأنها منسوخة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكم على اليهوديين بشرع موسى عليه السلام، فإن الحكم في الزناة في عهد موسى عليه السلام هو الرجم على المحصن وغير المحصن، وكذلك كان جواب اليهودي الذي سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حد الزاني في كتابهم، فلم ينكر ذلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان على النبي صلى الله عليه وسلم اتباع ذلك والعمل به؛ لأن على كل نبي اتباع شريعة النبي الذي كان قبله، حتى يُحْدِثَ الله شريعة تنسخ شريعة السابق، قال تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اْقْتَدِهْ) [الأنعام: 90] فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهوديين على ذلك الحكم، ولا فرق حينئذ بين المحصن وغير المحصن.
ثم أحدث الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم شريعة، فنسخت هذه الشريعة فقال: (وَالَّتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِنْ نِسَآئِكُمْ فَاْسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) [النساء: 15]، وكان هذا ناسخًا لما كان قبله، ولم يفرق في ذلك بين المحصن وغير المحصن.
ثم نسخ الله تعالى ذلك فجعل الحد هو الإيذاء بالآية التي بعدها: (وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَئَاذُوهُمَا) [النساء: 16] ولم يفرق في ذلك أيضًا بين المحصن وغيره.
ثم جعل الله لهن سبيلاً (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) -أخرجه مسلم (4509)-؛ ففرق حينئذ بين حد المحصن وحد غير المحصن، ثم اختلف الناس من بعد في الإحصان. - شرح معاني الآثار (4/ 143) .
وهذا الذي أطال الطحاوي في تقريره هو ما أشار صاحب الهداية إليه بقوله: كان ذلك بحكم التوراة ثم نسخ.
وقد سلك الكمال ابن الهمام طريقًا آخر للوصول إلى نسخ هذه الأحاديث أقرب لإقناع المخالفين فقال: واعلم أن الأسهل مما ادَّعى أن يقال حين رجمهما كان الرجم ثبتت مشروعيته في الإسلام، وهو الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم: (ما تجدون في التوراة بشأن الرجم).
ثم الظاهر كون اشتراط الإسلام لم يكن ثابتًا، وإلا لم يرجمهم لانتساخ شريعتهم، وإنما يحكم بما أنزل الله إليه، وإنما سألهم عن الرجم في التوراة ليبكتهم بترك ما أنزل عليهم فحكم بشرعه الموافق لشرعهم.
وإذا لزم كون الرجم ثابتًا في شرعنا حال رجمهم بلا اشتراط الإسلام، وثد ثبت الحديث المذكور المفيد لاشتراط الإسلام، وليس تاريخ يعرف به تقدم اشتراط الإسلام على عدم اشتراطه أو تأخره، فيكون رجمه اليهوديين وقوله المذكور متعارضينِ، فيطلب الترجيح، والقول يقدم على الفعل.
وفيه وجه آخر وهو أن تقديم هذا القول يوجب درء الحد، وتقديم ذلك الفعل يوجب الاحتياط في إيجاب الحد، والأَوْلَى في الحدود ترجيح الدافع عند التعارض، ولا يخفى أن كل مرجح فهو محكوم بتأخره اجتهادًا، ولقد طاح بهذا دفع بعض المعترضين. - فتح القدير (2/ 239) .
-دليل الحنفية:
وقد استدل الحنفية على اشتراط الإسلام في إحصان الرجم بما رواه إسحاق ابن راهويه في ((مسنده)): أخبرنا عبدالعزيز بن محمد ثنا عبيدالله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أشرك بالله فليس بمحصن). قال إسحاق: رفعه مرة، فقال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقفه مرة. -بحثت عنه في القطعة المطبوعة من مسند إسحاق فلم أجده، فنقلته من نصب الراية (4/ 121)-.
ومن طريق إسحاق بن راهويه رواه الدارقطني في ((سننه)) (3/ 146 رقم 199) ثم قال: لم يرفعه غير إسحاق ويقال: إنه رجع عن ذلك والصواب الموقوف. اهـ.
وهذا لفظ إسحاق بن راهويه في ((مسنده)) كما تراه ليس فيه رجوع، وإنما أحل التردد على الراوي في رفعه ووقفه.
وللحديث طريق آخر: أخرجه الدارقطني أيضًا (3/ 641، رقم 991) عن عفيف بن سالم ثنا سفيان الثوري عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحصن الشرط بالله شيئًا). قال الدارقطني: وهم عفيف في رفعه، والصواب موقوف من قول ابن عمر. اهـ.
وقال الدارقطني في ((العلل)): "هذا حديث يرويه موسى بن عقبة واختلف عنه، فرواه عفيف بن سالم عن الثوري عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفه أبو أحمد الزبيري فرواه عن الثوري عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر موقوفًا وهو أصح، وروي عن إسحاق بن راهويه عن الدراوردي عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا، والصحيح موقوف". راجع: نصب الراية (4/ 121).
وهذا الاختلاف في رفع ووقف الحديث لا يضره؛ بل يؤكد رفعه على ما قرره أبو بكر الجصاص، وإذا رفع الحديث الثقات كإسحاق بن راهويه وعفيف بن سالم -تهذيب الكمال (2/ 373)، (20/ 971)- لم يضره وقف من وقفه، وذلك باتفاق المحدثين والحنفية كما هو مقرر في منهج الحنفية.
وهذا الحديث لو لم يرد مفوعًا لكان له حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال بالرأي والاجتهاد، كما هو مقرر أيضًا.
إذًا فحديث الحنفية من الناحية الحديثية صحيح لا مطعن فيه؛ ولذلك نجد أن مخالفيهم ردوا على الحديث من جهة تأويل الحديث لا من جهة ثبوته، فقالوا: إن المراد به إحصان العفائف في حد القذف دون الإحصان الذي هو من شرائط الرجم، فإن ابن عمر هو راوي الحديثين، وحديثنا صريح في الرجم، فيتعين حمل حديث الحنفية على الإحصان الآخر، جمعًا بين الحديثين. راجع: المغني (9/ 43)، ومختصر خلافيات البيهقي (4/ 412)، ومعرفة السنن والآثار (12/ 281).
بعد هذا البيان لمذاهب العلماء في المسألة أرى أن الحنفية أتبع للحديث فيها من غيرهم، ودعوى مخالفتهم للأثر في هذه المسألة دعوى بلا برهان ولا بينة.
***

ثانيًا/ مَسْأَلَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى مِلْكِ الْيَمِينِ
(1) حدَّثنَا ابنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَن عُبيدِالله بنِ عبدالِالله عن زَيْدِ بنِ خَالِدٍ وشِبْلٍ وأَبي هُرَيرةَ قالوا: كُنَّا عِنْدَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فأتَاهُ رجُلٌ فسألَهُ عن الأَمَةِ تَزْنِي قَبْلَ أَنْ تُحصَنَ، قالَ: (اجْلِدُوهَا، فإِن عَادَتْ فَاجْلِدُوهَا). قَالَ في الثَّالِثَة أَوِ الرَّابِعَةِ: (فَبِيعُوهَا ولَوْ بِضَفِيرٍ). أخرجه الترمذي (1503). قال الترمذي: وحديث ابن عيينة وهمٌ وَهِمَ فيه سفيان بن عيينة أدخل حديثًا في حديث. وحديث زيد بن خالد وأبي هريرة: أخرجه البخاري (2154)، ومسلم (4545). وحديث شبل أخرجه النسائي في السنن الكبرى (7260، 7261، 7262)، وابن ماجه (2565).
(2) حَدثنَا أبُو الأضحْوَصِ عنْ عَبدالأَعْلَى عن أَبي جَميلَةَ عن عَليٍّ قالَ: قال رسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَقِيمُوا الْحُدُوَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ). أخرجه أبو داود (4473)، والنسائي في الكبرى (7239).
(3) حدَّثنَا ابنُ عُيَيْنَةَ عن أَيُّوبَ بن مُوسَى عن سعيدٍ عن أبي هُريرةَ قال: قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إِذا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فلْيَجلِدْهَا ولا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، فإِن عَادَتْ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ مِنْ شَعْرٍ). أخرجه مسلم ( 4542).
(4) حَدَّثَنَا شَبَابَةُ عَن لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ عن يَزِيدَ بنِ أَبي حَبِيبٍ عن عُمَارَةَ بن أَبي فَرْوَةَ عن عُرْوَةَ عن عَائِشَةَ أنَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِذَا زَنَتِ الأَمَةُ فَاجْلِدُوهَا، فإنْ عَادَتْ فاجلدوهَا فَغِنْ عَادَتْ فاجلدوها، فإن زَنَت فاجلدوها، ثُمَّ بِيعُوهَا ولو بضَفِيرٍ). وَالضَّفِيرُ: الْحَبْلُ. أخرجه النسائي في الكبرى (7264).
(5) حَدّثنا مُعَلَّى بنُ مَنصُورٍ عن أُوَيْسٍ عن عبدِالله ابنِ أَبي بَكرٍ عن عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عن عَمِّهِ وَكَان بَدْرِيًّا قَالَ: قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إذا زَنَتِ الأَمَةُ فاجلدوها، ثُمَّ إن زَنَتْ فاجلدوها، ثُمَّ إن زنت فاجلدوها، ثُمَّ بيعُوهَا وَلَوْ بضَفِيرٍ). أخرجه النسائي في الكبرى (7238).
وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لا يَجْلِدْهَا سَيِّدُهَا.
***
اتفق المالكية والشافعية والحنابلة على أنه يجوز للسيد أن يقيم الحدود على رقيقه دون رأي الإمام وخالف في ذلك الحنفية فذهبوا إلى أن ذلك لا يجوز إلا بإذن الإمام.
ثم اختلف المجوزون لذلك فيما يقيمه من الحدود، فذهب المالكية والحنابلة -وهو وجه عند الشافعية- إلى أنه يقيم الحد إذا كان جلدًا كحد الزنا والقذف وشرب الخمر، وأما القطع في السرقة والقتل في الردة فلا يملكها إلا الإمام، وذهب الشافعية في أصح الوجهين إلى جواز ذلك كله لعموم حديث: (وأقيموا الحدود على أرقائكم).
قال صاحب الهداية: (ولا يقيم المولى الحد على عبده إلا بإذن الإمام) وقال الشافعي: له أن يقيمه؛ لأن له ولاية مطلقة عليه كالإمام بل أَوْلَى؛ لأنه يملك من التصرف فيه ما لا يملكه الإمام فصار كالتعزير. ولنا قوله صلى الله عليه وسلم: (أربع إلى الولاة -وذكر منها- الحدود) -سيأتي تخريجه قريبًا-. ولأن الحد حق الله تعالى؛ لأن المقصد منها إخلاء العالم عن الفساد، ولهذا لا يسقط بإسقاط العبد فيستوفيه من هو نائب عن الشرع وهو الإمام أو نائبه، بخلاف التعزير؛ لأنه حق العبد، ولهذا يعزر الصبي وحق الشرع موضوع عنه. اهـ. الهداية وشروحها: فتح القدير (5/ 235)، والعناية (5/ 235)، ونصب الراية (4/ 129)، وراجع: أحكام القرآن للجصاص (3/ 415)، وتبيين الحقائق (3/ 171).
وجاء في المدونة (4/ 519): "قلت: أرأيت الحر أيقيم على مملوكه حد الزنا والسرقة والقذف وشرب الخمر في قول مالك أم لا؟ قال: قال مالك: نعم، يقيم ذلك كله عليهم إلا السرقة، فإن السرقة لا يقيمها على العبد إلا الوالي، ولا يقيم سيده عليه حد الزنا حتى يشهد على زنا العبد أربعة سواه". وراجع: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 518)، ومواهب الجليل (6/ 296)، وشرح الخرشي (8/ 85)، والمنتقى شرح الموطأ (7/ 146)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 334).
وقال النووي في روضة الطالبين (10/ 102، 103): "إن كان المحدود مملوكًا فلسيده إقامة الحد عليه وله تفويضه إلى غيره، ولا يحتاج إلى إذن الإمام، وهل الأَوْلَى للسيد أن يقيمه بنفسه ليكون أستر، أم الأَوْلَى تفويضه إلى الإمام، ليخرج من خلاف أبي حنيفة في إلحاقه بالحر؟ وجهان، أصحهما الأول لثبوت الحديث فيه، ولا يراعى الخروج من خلاف يخالف السنة.
وللسيد الجلد في الزنا والقذف والشرب، وهل له قطعه في السرقة والمحاربة وقتله في الردة؟ وجهان الأصح المنصوص: نعم لإطلاق الخبر، ومنهم من جزم بجواز القطع، وأجرى ابن الصباغ وجماعة هذا الخلاف في القطع والقتل قصاصًا، وفي التهذيب: أن الأصح أن القطع والقتل إلى الإمام". وراجع: الأم (6/ 168)، والمنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (9/ 116)، ومغني المحتاج (5/ 455)، ونهاية المحتاج (7/ 433).
وقال ابن قدامة في المغني (7/ 51): "وللسيد إقامة الحد بالجلد على رقيقه القِنِّ في قول أكثر أهل العلم... وإنما يملك إقامة الحد بشروط أربعة: أحدها: أن يكون جلدًا كحد الزنا والشرب وحد القذف، فأما القتل في الردة والقطع في السرقة فلا يملكها إلا الإمام..............
وإنما فوض إلى السيد الجلد خاصة؛ لأنه تأديب، والسيد يملك تأديب عبده وضربه على الذنب وهذا من جنسه، وإنما افترقا في أن هذا مقدر والتأديب غير مقدر، وهذا لا أثر له في منع السيد منه، بخلاف القطع والقتل، فإنها إتلاف لجملته أو لبعضه الصحيح، ولا يملك السيد هذا من عبده ولا شيئًا من جنسه، والخبر الوارد في حد السيد عبده إنما جاء في الزنا خاصة، وإنما قسنا عليه ما يشبهه من الجلد، وقوله: (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم). إنما جاء في سياق الجلد في الزنا". وراجع: الفروع لابن مفلح (6/ 53)، ومطالب أولي النهى (6/ 159) وشرح منتهى الإرادات (3/ 342).
-أدلة الحنفية:
احتج الحنفية بحديث نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع إلى الولاة: الحدود والصدقات والجمعات والفيء). ممن ذكره السرخسي في المبسوط (9/ 80) قال: وعن ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير -رضي الله عنهم- موقوفًا ومرفوعًا: ضَمِنَ الإمام أربعة. وفي رواية: أربعة إلى الولاة: الحدود الوصدقات والجمعات والفيء. وممن ذكره أيضًا صاحب الهداية وقد سبق ذكر كلامه.
وهذا ليس بحديث مرفوع؛ ولذلك فإن الزيلعي عند تخريجه قال: غريب -نصب الراية (4/ 120)-، وهي كلمة يقولها إذا لم يجد الحديث، وهو اصطلاح غريب كما قال قاسم بن قطلوبغا -منية الألمعي (ص 360)-.
وهذا القول يُروى موقوفًا عن مسلم بن يسار عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان ابن عمر يأمرنا أن نأخذ عنه قال: هو عالم فخذوا عنه. فسمعته يقول: الزكاة والحدود والفيء والجمعة إلى السلطان. -رواه ابن حزم في المحلى بسنده (12/ 73)، وقال الحافظ في فتح الباري (12/ 163): احتج الطحاوي بما أورده من طريق مسلم بن يسار... قال الطحاوي: لا نعلم له مخالفًا من الصحابة. وتعقبه ابن حزم فقال: بل خالفه اثنا عشر نفسًا من الصحابة. -.
ورواه ابن أبي شيبة عن الحسن البصري قال: أربعة إلى السلطان: الزكاة والصلاة والحدود والقضاء.
وعن عبدالله بن حيريز قال: الجمعة والحدود والزكاة والفيء إلى السلطان.
وعن عطاء الخراساني قال: إلى السلطان الزكاة والجمعة والحدود. - مصنف ابن أبي شيبة (5/ 506) .
وهذه الآثارة الموقوفة والمقطوعة لا تقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة الصريحة التي احتج بها الجمهور.
-وقد أطال الحنفية في تأييد مذهبهم بعموم الأدلة على أن إقامة الحدود للإمام وبأدلة عقلية، يمكن تلخيصها جميعًا فيما يلي:
1- قال تعالى: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ) [النساء: 25] واستيفاء ما على المحصنات للإمام خاصة، فكذلك ما على الإماء من نصف ما على المحصنات.
2- أن الحدود حق الله تعالى يستوفيه الإمام بولاية شرعية، فلا يشاركه غيره في استيفائه؛ كالخراج والجزية والصدقات، بخلاف التعزير، فإنه ثبت للمولى؛ لأنه من حقوق الملك فلا تقاس الحدود عليه.
3- أن قوله صلى الله عليه وسلم: (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم). خطاب للأئمة كقوله: (فَاْقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) [المائدة: 38] خطاب للأئمة، وفائدة تخصيص المماليك أن لا تحملهم الشفقة على ملكهم على الامتناع عن إقامة الحد عليهم. أو المراد السبب والمرافعة إلى الإمام، وقد يضاف الشيء إلى المباشر تارة وإلى المسبِّب أخرى.
4- أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (اجلدوها) التعزير؛ لأن الجلد وإن ذكر عند الزنا، وإنما أضيف إلى من لم يتعين نائبًا في استيفاء حقوق الله تعالى فكأن المراد التعزير، ولا يبعد الجمع بين الحد والتعزير بسبب فعل واحد كالزنا في نهار رمضان يعزر لتعمُّد الإفطار ويحد للزنى. - ملخصًا من كلام السرخسي في المبسوط (9/ 80).
5- أن ولاية إقامة الحد ثبتت للإمام لمصلحة العباد، وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، والمولى لا يساوي الإمام في هذا المعنى؛ لأن الإمام قادر على الإقامة لشوكته ومنعته وانقياد الرعية له قهرًا وجبرًا، ولا يخاف تبعة الجناة وأتباعهم، كما أن تهمة الميل والمحاباة والتواني عن الإقامة منتفية في حقه، وأما المولى فربما يقدر على الإقامة وربما لا يقدر لمعارضة العبد إياه، وربما خاف المولى على نفسه وماله من انتقام العبد فامتنع عن الإقامة، وربما لا يقيم لما في الإقامة من نقصان قيمة العبد بسبب عيب الزنا والسرقة، أو خوفًا من هلاكه، والمرء مجبول على حب المال، فثبت أن المولى لا يساوي الإمام في تحصيل ما شرع له إقامة الحد، فلا يزاحمه الولاية بخلاف التعزير. - بدائع الصنائع (7/ 57) .
وقد استدل الجمهور بالأحاديث المذكورة في أول المسألة، وهي بظاهرها تؤيد أن يقيم السيد الحدود على رقيقه، وحمل الحنفية الأمر بإقامة الحدود على أنه للأئمة، لعموم الأدلة على أن إقامة الحدود لهم دون سائر الناس، فكل فريق تمسك بالحديث على حسب ما ترجح لديه، وعليه فليس في هذه المسألة مخالفة للأثر.
***

ثالثًا/ مَسْأَلَةُ الْحُكْمِ فِي زِنَا الْبِكْرِ
(1) حدَّثنَا ابنُ عُيَيْنَةَ عنِ الزُّهْرِيِّ عن عُبَيدِالله عن أبي هُرَيرةَ وزَيْدِ بن خَالِدٍ وشِبلٍ: أنَّهُم كانوا عِندَ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللهَ إِلا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ. فقال خَصْمُهُ وكانَ أَفْقَهَ مِنْهُ: اقْضِ بَيْنَنَا بكِتَابِ اللهِ وَأْذَنْ لِي حَتَّى أَقُولَ. قَالَ: (قُلْ). قالَ: إِنَّ ابْنِي كانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا وَغِنَّه زَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وخَادِمٍ، فَسَأَلْتُ رِجَالاً مِنْ أَهْلِ العِلْمِ فأُخبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وتَغْرِيبَ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ: المِائَةُ شَاةٍ وَالخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْك، وَعَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا). الحديث من رواية أبي هريرة وزيد بن خالد: أخرجه البخاري (6633، 6634)، ومسلم (4531، 4532). والحديث من رواية الثلاثة أخرجه النسائي (5411)، والترمذي (1500)، وابن ماجه (2549).
(2) حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الحَسَنِ عَنِ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِاللهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْبِكْرُ يُجْلَدُ وَيُنْفَى وَالثَّيِّبُ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ). أخرجه مسلم (1690).
وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لا يُنْفَى.
***
اختلف العلماء في نفي الزاني، فقالت طائفة: الزاني غير المحصن يجلد مائة ويُنفى سنة الحر والحرة، وأما العبد والأمة فجلد خمسين ونفي ستة أشهر. وهو قول الشافعي وأحمد وعطاء وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وطاوي وإسحاق وأبي ثور. وقالت طائفة: يُنفى الرجل الزاني جملة، ولا تنفى النساء. وهو قول الأوزاعي. وقالت طائفة: يُنفى الحر الذكر، ولا تنفى المرأة الحرة ولا الأمة ولا العبد. وهو قول مالك وأصحابه. وقالت طائفة: لا نفي على زانٍ أصلاً، لا على ذكر ولا على أنثى، ولا حر ولا عبد ولا أمة.
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
قال صاحب الهداية: (ولا يجمع في البكر بين الجلد والنفي إلا أن يرى الإمام في ذلك مصلحة فيغربه على قدر ما يرى) وذلك تعزير وسياسة؛ لأنه قد يفيد في بعض الأحوال فيكون الرأي فيه إلى الإمام، وعليه يحمل النفي المروي عن بعض الصحابة. اهـ. الهداية وشروحها: فتح القدير (5/ 242)، والعناية (5/ 242)، ونصب الراية (4/ 124).
قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن (3/ 377): "اختلف أهل العلم في حد غير المحصن في الزنا، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد: يجلد غير المحصن، وليس نفيه بحد وإنما هو موكول إلى رأي الإمام إن رأى نفيه للدعارة -الدعارة: الفسق والفجور. راجع مادة (دعر) في النهاية واللسان- فَعَلَ، كما يجوز حبسه حتى يحدث توبة". وراجع: الفصول في الأصول (2/ 315)، وشرح معاني الآثار (3/ 134)، والمبسوط (9/ 44)، وتبيين الحقائق (3/ 173).
قال أبو الوليد الباجي -كما في المنتقى شرح الموطأ (7/ 144)-: "إن التغريب على الحر الذكر دون المرأة ودون العبد، ومن جهة المعنى أن المرأة عورة في تغريبها تعريض لها لزوال الستر عنها، والأمة حق السيد متعلق بمنافعها، وإنما يغرب الرجل عقوبة لينقطع عن منافعه، وأيضًا فإن العقوبة إذا لم تتبعض لم تلزم العبد بالزنا كالرجم". وراجع: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 462)، ومختصر خليل وشروحه التاج والإكليل (8/ 371)، ومنح الجليل (9/ 263)، وشرح الخرشي (8/ 83).
قال في المنهاج: "حد المكلف البكر الحر الذكر والمرأة مائة جلدة وتغريب عام، وحد العبد خمسون وتغريب نصف سنة". المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (9/ 109)، ونهاية المحتاج (7/ 428)، ومغني المحتاج (5/ 448)، وراجع: الأم (6/ 144).
قال ابن قدامة في المغني (9/ 45) شارحًا قول الخرقي: (وإذا زنى الحر البكر الجلد مائة وغرب عامًا): "لا خلاف في وجوب الجلد على الزاني إذا لم يكن محصنًا، وقد جاء بيان ذلك في كتاب الله تعالى، بقوله سبحانه: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاْجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور: 2]، وجاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لما جاء به الكتاب. ويجب مع الجلد تغريبه عامًا، في قول جمهور العلماء، رُوي ذلك عن الخلفاء الراشدين". وراجع: المحلى (12/ 100).
-أدلة الحنفية:
1- استدل الحنفية على أن نفي الزاني ليس بحد بقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاْجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) وأنه يوجب أن يكون هذا هو الحد المستحق بالزنا وأنه كمال الحد، فلو جعلنا النفي حدًّا معه لكان الجلد بعض الحد، وفي ذلك إيجاب نسخ الآية، فثبت أن النفي إنما هو تعزير وليس بحد، ومن جهة أخرى أن الزيادة في النص غير جائزة إلا بمثل ما يجوز به النسخ، وأيضًا لو كان النفي حدًّا مع الجلد لكان من النبي صلى الله عليه وسلم عند تلاوته توقيف للصحابة عليه لئلا يعتقدوا عند سماع التلاوة أن الجلد هو جميع حده، ولو كان كذلك لكان وروده في وزن ورود نقل الآية، فلما لم يكن خبر النفي بهذه المنزلة؛ بل كان وروده من طريق الآحاد ثبت أنه ليس بحد. - أحكام القرآن للجصاص (3/ 377) .
قال الكمال ابن الهمام في فتح القدير (5/ 242): "لنا قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاْجْلِدُواْ) شارعًا في بيان حكم الزنا ما هو، فكان المذكور تمام حكمه وإلا كان تجهيلاً؛ إذ يفهم أنه تمام الحكم وليس تمامه في الواقع، فكان مع المشروع في البيان أبعد من ترك البيان؛ لأنه يوقع في الجهل المركب وذلك في البسيط، ولأنه هو المفهوم لأنه جعل جزاء للشرط فيفيد أن الواقع هذا فقط، فلو ثبت معه شيء آخر كان شبهة معارضة لا مثبتة لما سكت عنه في الكتاب وهو الزيادة الممنوعة.
وأما ما يفيده كلام بعضهم من أن الزيادة بخبر الواحد إثبات ما لم يوجبه القرآن، وذلك لا يُمنع وإلا بطلت أكثر السنن، وأنها ليست نسخًا وتسميتها نسخًا مجرد اصطلاح؛ ولذا زيد في عدة المتوفى عنها زوجها الإحداد على المأمور به في القرآن وهو التربص، فهو يفيد عدم معرفة الاصطلاح، وذلك أنه ليس المراد من الزيادة إثبات ما لم يثبته القرآن ولم ينفه، لا يقول بهذا عاقل فضلاً عن عالم؛ بل تقييد مطلقه على ما عرف من أن الإطلاق مما يراد، وقد دلَّ عليه باللفظ المطلق وباللفظ يفاد المعنى، فأفاد أن الإطلاق مراد وبالتقييد ينتفي حكمه عن بعض ما أثبته فيه اللفظ المطلق، ثم لا شك أن هذا نسخ، وبخبر الواحد لا يجوز نسخ الكتاب".
2- وبما رواه البخاري (2153)، ومسلم (4545) عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال: (إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير). قال ابن شهاب: لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 137): "فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمة إذا زنت أن تجلد، ولم يأمر مع الجلد بنفي، وقد قال الله عز وجل: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ) [النساء: 25] فعلمنا بذلك أن ما يجب على الإماء إذا زنين هو نصف ما يجب على الحرائر إذا زنت. وكان درء النبي صلى الله عليه وسلم إياه عن الإماء درءًا له عن الحرائر، وفي درئه إياه عن الحرائر دليل على درئه إياه على الأحرار".
وقد ألزم الطحاوي المخالفين برفع التغريب من حد الزاني البكر من جهة أن حديث عبادة قد ذُكر فيه حد البكر وهو: الجلد والتغريب. وحد الثيب وهو: الرجل والجلد. وهم يقولون برفع الجلد من حد الثيب؛ لأنه مسكوت عنه في حديث العسيف، فكذلك يقول الحنفية برفع التغريب من حد البكر، لأنه مسكوت عنه في حديث زنا الجارية، فالتغريب في حد البكر نظير الجلد في حد الثيب، وكلاهما ليسا من الحد، وإلى هذا المعنى أشار صاحب الهداية بقوله: "والحديث منسوخ كشطره". راجع: شرح معاني الآثار (3/ 137)، وفتح القدير (5/ 242).
وبهذا الحديث أيضًا استدل المالكية على تغريب المرأة دون الرجل، قال أبو الوليد الباجي -كما في المنتقى شرح الموطأ (7/ 144)-: "وهذا موضع تعليم فاقتضى أنه استوعب ما عليها".
3- وبما رواه البخاري (1086)، ومسلم (3324) عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاث ليالٍ إلا ومعها ذو محرم).
وبهذا استدل ابن قدامة لمذهب مالك والأوزاعي في تغريب الرجل دون المرأة فقال -كما في المغني (9/ 45)-: "لأن المرأة تحتاج إلى حفظ وصيانة، ولأنها لا تخلو من التغريب بمحرم أو بغير محرم، ولا يجوز التغريب بغير محرم للأحاديث الواردة في النهي عن سفر المرأة بغير محرم، ولأن تغريبها بغير محرم إغراء لها بالفجور، وتضييع لها، وإن غربت بمحرم أفضى إلى تغريب من ليس بزان، ونفي من لا ذنب له، وإن كلفت أجرته، ففي ذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد الشرع به، كما لو زاد ذلك على الرجل، والخبر الخاص في التغريب إنما هو في حق الرجل، وكذلك فعل الصحابة -رضي الله عنهم-، والعام يجوز تخصيصه؛ لأنه يلزم من العمل بعمومه مخالفة مفهومه، فإنه دلَّ بمفهومه على أنه ليس على الزاني أكثر من العقوبة المذكورة فيه، وإيجاب التغريب على المرأة يلزم منه الزيادة على ذلك، وفوات حكمته؛ لأن الحد وجب زجرًا عن الزنا، وفي تغريبها إغراء به، وتمكين منه، مع أنه قد يخصص في حق الثيب بإسقاط الجلد، في قول الأكثرين، فتخصيصه هاهنا أَوْلَى".
ثم قال: "وقول مالك فيما يقع لي أصح الأقوال وأعدلها، وعموم الخبر مخصوص بخبر النهي عن سفر المرأة بغير محرم، والقياس على سائر الحدود لا يصح؛ لأنه يستوي الرجل والمرأة في الضرر الحاصل بها، بخلاف هذا الحد، ويمكن قلب هذا القياس بأنه حد، فلا تزاد فيه المرأة على ما على الرجل كسائر الحدود".
4- واستدل الحنفية بآثار عن الصحابة، منها ما رواة عبدالرزاق في مصنفه (7/ 213) عن أبي حنيفة عن حماد ابن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال: قال عبدالله بن مسعود في البكر يزني بالبكر قال: يجلدان وينفيان سنة. قال إبراهيم: لا ينفيان إلى قرية واحدة، يُنفى كل واحد منهما إلى قرية. وقال علي ابن أبي طالب: حسبهما من الفتنة أن ينفيا.
وقال أيضًا -في مصنفه (9/ 230)، ومن طريقه النسائي (5676)-: أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب قال: غرب عمر ربيعة بن أمية بن خلف في الشراب إلى خيبر، فلحق بهرقل فتنصر، فقال عمر: لا أغرب بعده مسلمًا.
قال الجصاص في أحكام القرآن (3/ 377): "فلو كان النفي ثابتًا مع الجلد على أنهما حد الزاني لما خفي على كبراء الصحابة".
5- ولأن في التغريب فتح باب الزنا لانعدام الاستحياء منا لعشيرة، ثم فيه قطع مواد البقاء، فربما تتخذ زناها مكسبة وهو من أقبح وجوه الزنا، وهذه الجهة مرجحة لقول عليٍّ: حسبهما من الفتنة أن ينفيا. - فتح القدير (5/ 242).
روى محمد بن الحسن أخبرنا أبو حنيفة عن حماد ابن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال: كفى بالنفي فتنة. عزاه له الزيلعي في نصب الراية (4/ 127).
-أدلة الجمهور:
استدل الجمهور بالأحاديث المذكورة في صدر المسألة وبعمل الخلفاء الراشدين.
1- روى الترمذي (1508)، والنسائي في الكبرى (4/ 323) من طريق عبدالله بن إدريس عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب.
قال الترمذي: حديث غريب، هكذا رواه غير واحد عن عبدالله بن إدريس عن عبيدالله فرفعوه، ورواه بعضهم عن ابن إدريس عن عبيدالله بن نافع عن ابن عمر أن أبا بكر ضرب وغرب الحديث. لم يقولوا فيه: عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وقال ابن القطان: وعندي أن الحديث صحيح، ولا يمتنع أن يكون عند ابن إدريس فيه عن عبيدالله جميع ما ذُكر -نقله الزيلعي عنه في نصب الراية (4/ 127)-، والحاصل أن في ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم اختلافًا عن الحفاظ أما عن أبي بكر وعمر فلا اختلاف فيه.
2- روى مالك في ((الموطأ)) عن نافع أن صفية بين أبي عبيد أخبرته أن أبا بكر الصديق أتى برجل قد وقع على جارية بكر فأحبلها، ثم اعترف على نفسه بالزنا، ولم يكن أحصن فأمر به أبو بكر فجلد الحد، ثم نفي إلى فَدَكٍ. موطأ مالك (1515)، والبخاري تعليقًا (6949).
3- وروى عبدالرزاق في ((مصنفه)) (7/ 204) أخبرنا عبيدالله بن عمر عن نافع قال: جاء رجل إلى أبي بكر فذكر أن ضيفًا له افتض أخته، استكرهها على نفسها، فسأله فاعترف، فضربه أبو بكر الحد، ونفاه سنة إلى فدك، ولم يضربها؛ لأنه استكرهها، ثم زوجها إياه أبو بكر، وأدخله عليها.
4- روى ابن أبي شيبة في ((مصنفه)) (5/ 541) حدثنا جرير عن مغيرة عن ابن يسار مولى لعثمان، قال: جلد عثمان امرأة في زنا ثم أرسل بها مولى له -يقال له: المهري- إلى خيبر، نفاها إليها.
5- روى مالك في ((الموطأ)) (1517) عن نافع أن عبدًا كان يقوم على رقيق الخمس، وأنه استكره جارية من تلك الرقيق فوقع بها، فجلده عمر بن الخطاب ونفاه، ولم يجلد الوليدة لأنه استكرهها.
يتضح مما سبق أن السبب الرئيسي في عدم أخذ الحنفية بأحاديث تغريب الزاني أنها خبر واحد ورد بما يقيد مطلق الكتاب، وخبر الواحد ظني، ومطلق الكتاب قطعي، والقطعي لا يُعارض بالظني، وأن ذلك يُسمَّى نسخًا عندهم، والنسخ لا يكون إلا بالمتواتر أو المشهور على ما هو مقرر في منهجهم. وهذا يؤيد أن منهج الحنفية في قبول الأخبار كان سببًا رئيسيًّا في ردهم لكثير من الأخبار، وأنه يتعين على المنتقد لهم أن يقف على منهجهم حتى لا يجور في الحكم عليهم كما فعل ابن أبي شيبة، فاتهمهم بمخالفة الحديث في هذه المسألة، ولم يعلم أنهم خالفوها لعدم قبولها وفقًا لمنجهمهم في قبول الأخبار.
***

رابعًا/ مَسْأَلَةُ الزِّنَا بِالْمَحَارِمِ
(1) حَدَّثنَا حَفْصٌ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عن البَرَاءِ: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَرسلَهُ إلى رِجُلٍ تزوَّجَ امرأَةَ أَبيهِ فأَمَرَهُ أن يأتيَهُ برأْسِهِ. لم أجده من مُسند البراء بن عازب.
(2) حدَّثنَا وَكِيعٌ عَن حَسَنِ بنِ صَالِحٍ عن السُّدِّيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَقِيتُ خَالِي وَمَعَهُ الرَّايَةُ فَقُلْت: أَيْنَ تَذْهَبُ؟ فَقَالَ: أَرْسَلَنِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى رَجُلٍ تزوَّجَ امرأَةَ أَبِيهِ أن أقتُلَهُ، أَو أَضْرِبَ عُنُقَهُ. أخرجه أبو داود (4457)، والترمذي (1362)، وابن ماجه (2607).
وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لَيْسَ عَلِيْهِ إِلا الْحَدُّ.
***
من تزوج ذات محرمٍ منه وهو عالمٌ بحرمتها عليه فدخل بها، وجب عليه حد الزنا في قول أكثر أهل العلم؛ منهم مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن. وقال أحمد في رواية: يجب عليه حد القتل على كل حال. وقال أبو حنيفة والثوري: لا يجب عليه إلا الحد، ولكن يجب فيه التعزير والعقوبة البليغة.
وقد وهم ابن أبي شيبة في حكاية مذهب أبي حنيفة، ولعله اشتبه عليه بمذهب صاحِبَيْه، وعلى العموم فما أورده من أحاديث يَرِدُ على مذهب الجمهور وعلى مذهب أبي حنيفة من باب أَوْلَى.
قال صاحب الهداية: (ومن تزوج امرأةً لا يحل له نكاحها فوطئها لا يجب عليه الحد عند أبي حنيفة) ولكن يوجع عقوبةً إذا كانً عِلمَ بذلك. وقال أبو يوسف ومحمدٌ والشافعي: عليه الحد إذا كان عالمًا بذلك. اهـ. الهداية وشروحها: فتح القدير (5/ 259)، والعناية (5/ 259)، ونصب الراية (4/ 138).
جاء في المدونة (4/ 477): "قلت: أَرأيت من تزوج أخته منا لرضاع أو النسب أو نساءً من ذوات المحارم عامدًا عارفًا بالتحريم أيقام عليه الحد في قول مالكٍ؟ قال: نعم يقام عليه الحد". وراجع: التاج والإكليل (8/ 389)، ومواهب الجليل (3/ 424).
قال النووي في روضة الطالبين (10/ 94): "لو تزوج بنته أو غيرها من محارمه بنسب أو رضاع أو مصاهرة، أو من طلقها ثلاثًا أو من لاعنها، أو نكح مَنْ تَحْتَهُ أربعٌ خامسةً، أو نكح أختًا على أخت، أو معتدة أو مرتدة، أو نكح ذات زوج، أو نكح كافرٌ مسلمةً، ووطئ عالمًا بالحال، وجب الحد؛ لأنه وطء صادف محلًّا لا ملك له فيه ولا شبهة ملك، وهو مقطوع بتحريمه فتعلق به الحد". وراجع: المنهاج وشروحه: مغني المحتاج (5/ 459)، ونهاية المحتاج (7/ 435)، وتحفة المحتاج (7/ 107).
قال ابن قدامة في المغني (9/ 54): "وإن تزوج ذات محرمه بالنكاح باطلٌ بالإجماع، فإن وطئها فعليه الحد في قول أكثر أهل العلم؛ منهم الحسن وجابر بن زيدٍ ومالكٌ والشافعي وأبو يوسف ومحمدٌ وإسحاق وأبو أيوب وابن أبي خيثمة. وقال أبو حنيفة والثوري: لا حد عليه. إذا ثبت هذا فاختلف في الحد: فروي عن أحمد أنه يقتل على كل حالٍ. وبهذا قال جابر بن زيدٍ وإسحاق وأبو أيوب وابن أبي خيثمة. ورَوَى إسماعيل بن سعيدٍ عن أحمد في رجلٍ تزوج امرأة أبيه أو بذات محرمٍ فقال: يقتل ويؤخذ ماله إلى بيت المال. والرواية الثانية: حده حد الزاني وبه قال الحسن ومالكٌ والشافعي لعموم الآية والخبر". وراجع: الإنصاف (10/ 177).
واستدل الجمهور بأنه وطءٌ في فرج امرأةٍ مجمعٌ على تحريمه من غير ملكٍ ولا شبهة ملكٍ والواطئ من أهل الحد عالمٌ بالتحريم، فيلزمه الحد كما لو لم يوجد العقد، وليس العقد شبهة؛ لأنه باطلٌ محرمٌ، وفعله جنايةٌ تقتضي العقوبة انضمت إلى الزنا فلم تكن شبهةٍ. - المغني (9/ 54) .
واعتبر الحنفية العقد شبهة يُدرأ بها الحد عنه؛ فالعقد صادف محله؛ لأن محل التصرف ما يقبل مقصوده، والأنثى من بنات آدم قابلةٌ للتوالد وهو المقصود، وكان ينبغي أن ينعقد في جميع الأحكام إلا أنه تقاعد عن إفادة حقيقة الحل فيورث الشبهة؛ لأن الشبهة ما يشبه الثابت لا نفس الثابت، إلا أنه ارتكب جريمةً وليس فيها حد مقدرٌ فيعزر. - الهداية (5/ 259) .
فمدار الخلاف أن هذا العقد يوجب شبهة أم لا؟ فالجمهور يرى أنه لا يوجب شبهة، وأبو حنيفة يرى أنه يوجب شبهة يدرأ الحد بها.
واستدل أحمد على الرواية الأولى بظاهر حديث البراء السابق، وبما رواه ابن ماجه (2564) عن ابن عباسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وقع على ذات محرمٍ فاقتلوه) -وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل ابن أبي حبيبة وثقه أحمد وضعفه الجمهور، قال عنه يحيى بن معين: صالح يكتب حديثه ولا يحتج به. وفي رواية: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: شيخ ليس بقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به، منكر الحديث. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: ضعيف. وقال الدارقطني: متروك. راجع: تهذيب الكمال (2/ 42)، وميزان الاعتدال (1/ 19)-. ورُفع إلى الحجاج رجلٌ اغتصب أخته نفسها، فقال: احبسوه، وسلوا من ها هنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فسألوا عبدالله ابن أبي مطرفٍ فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تخطى الحرمتين الاثنتين فخطوا وسطه بالسيف). قال: وكتبوا إلى عبدالله بن عباس يسألونه عن ذلك فكتب إليهم بمثل قول عبدالله ابن أبي مطرف. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/ 379)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 269): رواه الطبراني وفيه رِفْدَةُ بن قضاعة، وثقة هشام بن عمار وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات. وقال الذهبي في ميزان الاعتدال (2/ 53): وله حديث باطل في قتل من زنا بأخته. وقال أبو حاتم: هذا غَلَطٌ غَلِطَ فيه رفدة بن قضاعة، إنما هو عبدالله بن مطرف بن عبدالله بن الشخير. راجع: الجرح والتعديل (5/ 152)، والعلل (1/ 456). قلت: يشير أبو حاتم إلى أن أصل الحديث هو ما رواه ابن أبي شيبة عن بكر بن عبدالله المزني قال: رفع إلى الحجاج رجل زنى بابنته فقال: ما أدري بأي قتلة أقتل هذا. وهَمَّ أن يصلبه، فقال له عبدالله بن مطرف وأبو بردة: ستر الله هذه الأمة بأحب ما ستر الإسلام، اقتله. قال: صدقتما. فأمر به فقتل. فغلط فيه رفدة فرفعه وجعله عن عبدالله بن أبي مطرف. وقال الحافظ ابن حجر موضحًا ضعف قوله: وكتبوا إلى ابن عباس. وابن عباس مات قبل أن يلي الحجاج الأمر بخمس سنين، فإن الحجاج ولي إمارة الحجاز بعد قتل عبدالله بن الزبير سنة ثلاث وسبعين، فأقام سنتين ثم ولي إمرة العراق، وكان موت عبدالله بن عباس سنة ثمان وستين ولكن له طريق أخرى إلى ابن عباس أخرجها الطحاوي وضعف راويها. راجع: الإصابة ترجمة عبدالله ابن أبي مطرف (4/ 238)، وفتح الباري (12/ 118)، وفيض القدير (6/ 100).
وهذه الأحاديث أخص مما ورد في الزنا فتقدم، والقول في مَن زَنى بذات محرمه من غير عقدٍ، كالقول في من وطئها بعد العقد. - المغني (9/ 54)، وراجع: الإنصاف (10/ 177) .
وحديث البراء حمله الجمهور على من استحل ذلك بعد العلم بتحريمه، بقرينة الأمر بأخذ ماله كما جاء في لفظ الحديث عند أبي داود: فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله، وبدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد له الراية، ولم تكن الرايات تعقد إلا لمن أمر بالمحاربة، والمبعوث على إقامة حد الزنا غير مأمورٍ بالمحاربة، فعُلم من ذلك أن القتل ليس حدًّا للزنا، وإنما حد للكفر؛ لأنه بذلك يصير مرتدًّا. - فتح الباري (12/ 118)، وشرح معاني الآثار (3/ 148)، وراجع: المحلى (12/ 200) .
وعلى ذلك فمذهب أبي حنيفة ليس فيه مخالفة للحديث؛ لأنه قائل به إذا كان الفاعل مستحلاًّ كما هو مذهب الجمهور، ولم يقل بوجوب حد الزنا لثبوت الشبهة بالعقد، والحدود تدرأ بالشبهات كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ادْرَؤوا الحدودَ عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فإنَّ الإمامَ أَنْ يُخْطِئَ في العفو خيرٌ من أن يخطئ في العقوبة). أخرجه الترمذي (1489).
***

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
وجزاكم الله خيرًا.
والله أعلم.
 
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,279
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ الحُدُودِ)

وهذا الاختلاف في رفع ووقف الحديث لا يضره؛ بل يؤكد رفعه على ما قرره أبو بكر الجصاص، وإذا رفع الحديث الثقات كإسحاق بن راهويه وعفيف بن سالم -تهذيب الكمال (2/ 373)، (20/ 971)- لم يضره وقف من وقفه، وذلك باتفاق المحدثين والحنفية كما هو مقرر في منهج الحنفية.
وهذا الحديث لو لم يرد مفوعًا لكان له حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال بالرأي والاجتهاد، كما هو مقرر أيضًا.
إذًا فحديث الحنفية من الناحية الحديثية صحيح لا مطعن فيه؛ ولذلك نجد أن مخالفيهم ردوا على الحديث من جهة تأويل الحديث لا من جهة ثبوته
في هذا نظر
فإنهم ردوه من حيث ثبوته أيضاً كما نقلتموه عن الدارقطني ، أما رواية عفيف فقد قال الدارقطني أنه وهم فيه ، وكذا ذكره ابن عدي في (الكامل) وقال : "وهو منكر من حديث الثوري"
أما حديث إسحاق بن راهويه فقد قال الدارقطني عقبه أيضاً : "ولم يرفعه غير إسحاق ويقال إنه رجع عنه والصواب موقوف" وما أجاب به الزيلعي رحمه الله من أنه لم يجد ذلك في (مسند إسحاق) غير صحيح لجواز أن يكون الرجوع سماعاً لا في نفس المسند ، وهو الحاصل هنا فقد روى الدارقطني عن موسى بن هارون أنه قال : "قد كان إسحاق رفع هذا الحديث قبل أن أسمعه منه ، ثم رجع عن رفعه ، قرأه علي من كتابي ، فلما بلغ إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ضرب عليه بخطه أو أمرني فضربت عليه" راجع (جزء أبي طاهر) ص 41 فثبت تراجعه.
والاحتجاج بأن الزائد إن كان ثقة قبلت زيادته مطلقاً عند الأحناف ، مُشْكِلٌ عندي لقول بعض الأحناف أن من أصل أبي حنيفة رد الزائد إلى الناقص سنداً ومتناً.

ثم قولكم :
وهذا الاختلاف في رفع ووقف الحديث لا يضره؛ بل يؤكد رفعه
لم أفهمه ؛ كيف يكون الاختلاف في الرفع والوقف مقوياً للرفع؟

وأيضاً هناك إشكالات على مجمل ما قيل في إحصان أهل الكتاب ، وهو أنه روي من طرق عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن الحارث رضي الله عنهم أن اليهودي واليهودية (قد أحصنا) فأثبتوا الأحصان لأهل الكتاب.
وأيضاً حديث رجم اليهوديين متواتر أو مستفيض فإنه مروي من حديث عبد الله بن عمر وعبد الله بن أبي أوفى وأبي هريرة وجابر بن عبدالله جابر بن سمرة والبراء بن عازب رضي الله عنهم وأرسله الشعبي وعبدالله بن مرة.
هذا مع كونه متلقى بالقبول ، وهو مما يفيد اليقين عند كثير من المحققين وقد بينتموه في بعض مواضيعكم.
وما كان هكذا فلا ينسخ ولا يقيد بالآحاد عند الأحناف كالحديث الذي انفرد برفعه ابن راهويه وعفيف على فرض صحته من جهة وصلوحه للنسخ أو التقييد من جهة أخرى.
والله أعلم
 
التعديل الأخير:
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ الحُدُودِ)

في هذا نظر
فإنهم ردوه من حيث ثبوته أيضاً كما نقلتموه عن الدارقطني ، أما رواية عفيف فقد قال الدارقطني أنه وهم فيه ، وكذا ذكره ابن عدي في (الكامل) وقال : "وهو منكر من حديث الثوري"
أما حديث إسحاق بن راهويه فقد قال الدارقطني عقبه أيضاً : "ولم يرفعه غير إسحاق ويقال إنه رجع عنه والصواب موقوف" وما أجاب به الزيلعي رحمه الله من أنه لم يجد ذلك في (مسند إسحاق) غير صحيح لجواز أن يكون الرجوع سماعاً لا في نفس المسند ، وهو الحاصل هنا فقد روى الدارقطني عن موسى بن هارون أنه قال : "قد كان إسحاق رفع هذا الحديث قبل أن أسمعه منه ، ثم رجع عن رفعه ، قرأه علي من كتابي ، فلما بلغ إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ضرب عليه بخطه أو أمرني فضربت عليه" راجع (جزء أبي طاهر) ص 41 فثبت تراجعه.
والاحتجاج بأن الزائد إن كان ثقة قبلت زيادته مطلقاً عند الأحناف ، مُشْكِلٌ عندي لقول بعض الأحناف أن من أصل أبي حنيفة رد الزائد إلى الناقص سنداً ومتناً.

ثم قولكم :

لم أفهمه ؛ كيف يكون الاختلاف في الرفع والوقف مقوياً للرفع؟

وأيضاً هناك إشكالات على مجمل ما قيل في إحصان أهل الكتاب ، وهو أنه روي من طرق عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن الحارث رضي الله عنهم أن اليهودي واليهودية (قد أحصنا) فأثبتوا الأحصان لأهل الكتاب.
وأيضاً حديث رجم اليهوديين متواتر أو مستفيض فإنه مروي من حديث عبد الله بن عمر وعبد الله بن أبي أوفى وأبي هريرة وجابر بن عبدالله جابر بن سمرة والبراء بن عازب رضي الله عنهم وأرسله الشعبي وعبدالله بن مرة.
هذا مع كونه متلقى بالقبول ، وهو مما يفيد اليقين عند كثير من المحققين وقد بينتموه في بعض مواضيعكم.
وما كان هكذا فلا ينسخ ولا يقيد بالآحاد عند الأحناف كالحديث الذي انفرد برفعه ابن راهويه وعفيف على فرض صحته من جهة وصلوحه للنسخ أو التقييد من جهة أخرى.
والله أعلم

أخي الشيخ الحبيب/ وضاح أحمد الحمادي

بارك الله فيكم، وجزاكم الله خيرًا، وقد أنرتم الموضوع بقدومكم.

للعلماء في تعارض الوقف والرفع مذاهب واتّجاهات؛ والمختار في مذهبنا الحنفي أنه (يُحكم للحديث بالرفع؛ لأن راويه مثبت وغيره ساكت، ولو كان نافيا فالمثبت مقدم على النافي؛ لأنه علم ما خفي). وهو مذهب المحققين من أئمة الحديث، وراجع في ذلك: فتح المغيث 1/ 177، والتنكيل 2/ 22، شرح ألفية السيوطي ص29، وقواعد التحديث ص118، ولمحات في أصول الحديث 279 . ويُمكنكم مُراجعة التفصيل في ذلك من كتاب "أثر علل الحديث في اختلاف الفقهاء".

بالنسبة لزيادة الثقة في السند -من اختلاف الرواة في وقف الحديث ورفعه ووصله وإرساله-؛
فقد ذهب أكثر أهل الحديث إلى ترجيح رواية الوقف على الرفع _وكذا رواية الإرسال على الواصل_، وحُكي عن بعضهم أن الحكم للأكثر، وعند بعضهم للأحفظ، وفيه تفصيل.
والراجح الذي عليه المحققون من أئمة الحديث هو ترجيح الرفع على الوقف _والوصل على الإرسال-، إذا كان راويهما حافظًا متقنًا ضابطًا، سواء كان المخالف له واحدًا أو جماعة، أحفظ أم لا. راجع في ذلك: الكفاية للخطيب (ص 411)، وعلوم الحديث لابن الصلاح (ص 72)، وشرح مسلم للنووي (1/ 32).
والحكم بقبول الوصل والرفع ليس على إطلاقه (عندهم)؛ فقد تظهر للمحدث قرائن قوية تجعله يرجح الإرسال أو الوقف، كما يتبين ذلك من مراجعة أحكامهم الجزئية. راجع في ذلك: النكت على ابن الصلاح لابن حجر (2/ 64)، وتدريب الراوي (1/ 221)، والإرشاد (ص 91)، وفتح المغيث (1/ 199)، ومنهج النقد في علوم الحديث (ص 424).
هذا مذهب المحدثين في تعارض الرفع والوقف _والوصل والإرسال-،

أما الحنفية؛ فلا تعارض عندهم أصلاً بين الوصل والإرسال، لأنهما سواء عندهم،
فأما الرفع والوقف فالحكم عندهم للرفع ويَرَوْن أن رواية الوقف مؤكدة رواية الرفع.
يقول الجصاص في الفصول في الأصول (3/ 178، 179): "وإذا روى بعض الصحابة حديثًا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم روى ذلك الحديث عن ذلك الصحابي موقوفًا عليه، فإن ذلك عندنا غير مفسد لرواية من رواه مرفوعًا؛ بل هو مما يؤكد روايته التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم يوجب تأكيد روايته، ويكون دليلاً على أنه رآه ثابت الحكم غير منسوخ". انتهى.
ثم عاب على المحدثين؛ حيث يُرجّحون باعتبار الحفظ دون النظر إلى اعتبارات أخرى، [وقد علمت أن الراجح عند المحدثين خلاف ذلك] .
يقول الجصاص فيه أيضًا (3/ 179): "وقوم من أصحاب الحديث يصنفون الرواة فيجعلونهم طبقات، فإذا روى رجل من أهل الطبقة العليا حديثًا قبلوا عليه زيادة من هو في طبقته، ولم يقبلوا عليه زيادة من هو دون طبقته، وكذلك إذا أسند الرجل من أهل الطبقة العليا حديثًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووقفه رجل ممن هو دون طبقته كان عندهم مسندًا، وإن وقفه من كان من أهل الطبقة العليا على الصحابة ورفعه من هو في طبقة دونها كان ذلك عندهم موقوفًا ولم يكن مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك يقولون فيما يُرسله واحد ويُسنده آخر على هذا الاعتبار، ولا يعتبرون معارضتها للأصول ودلائلها، وإنما يصححون الروايات بالرجال فحسب، ولم نعلم أحدًا من الفقهاء يعتبر في قبول أخبار الآحاد اعتبارهم". انتهى. وراجع في ذلك أيضًا: كشف الأسرار (3/ 7)، وأصول السرخسي (1/ 364)، وشرح المنار (ص 646).

وقد انتصر العلامة التهانوي لهذا المذهب في كتابه "قواعد في علوم الحديث" الصفحة (118 - وما بعدها)، ذكر أنه إذا تعارض في الحديث الإرسال والاتصال أو الوقف والرفع من الثقات الضابطين فالصحيح الوصل والرفع، وذكر النصوص في ذلك، ثم قال: "وبهذا ظهر لك أن الرفع والوصل زيادة لا تنافي الإرسال والوقف".
ونقل نص الإمام النووي الذي عزونا إليه أعلاه (في مقدمة شرح مسلم [1/ 32])، ثم ذكر كلامه في (باب صلاة الليل) [6/ 29] قال: "الصحيحُ بل الصوابُ الذي عليه الفقهاءُ والأُصوليون ومحققو المحدِّثين أنه إذا رُوِي الحديث مرفوعًا وموقوفًا، أو موصولاً ومرسلاً: حُكِمَ بالرفع والوصل لأَنها زيادة ثقة، وسواءٌ كان الرافع والواصل أكثر أَو أَقل في الحفظ والعدد". اهـ.
ونقل عن السيوطي (في التدريب [ص 139]): "وقال الماوردي: لا تعارض بين ما ورد مرفوعًا مرةً وموقوفًا على الصحابي أخرى، لأنه يكون قد رواه وأَفتى به". اهـ.

والتفصيل في ذلك يطول، واكتفي بهذا القدر.

والله أعلم.
 
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,279
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ الحُدُودِ)

نعم مسألة زيادة الثقة وما يتعلق بها طويلة الذيل ، لذا لم أخض فيها ، مع مخالفتي لكم فيها ، ولكني ذكرت إشكالاً في مذهب الأحناف خاصة وهو قول بعضهم أن من أصول أبي حنيفة رد الزائد إلى الناقص سنداً ومتناً ، فكيف يوفق بينه وبين قول الأحناف بقبول زيادة الثقة مطلقاً؟
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ الحُدُودِ)

نعم مسألة زيادة الثقة وما يتعلق بها طويلة الذيل ، لذا لم أخض فيها ، مع مخالفتي لكم فيها ، ولكني ذكرت إشكالاً في مذهب الأحناف خاصة وهو قول بعضهم أن من أصول أبي حنيفة رد الزائد إلى الناقص سنداً ومتناً ، فكيف يوفق بينه وبين قول الأحناف بقبول زيادة الثقة مطلقاً؟
لم أقف على ما يؤيد هذا، ولو ثبت نقلاً عن الإمام -ولم أجده- فليس هو على إطلاقه وإنما يلزمه تفصيل، خاصة وأن مذهب الحنفية في الزيادة في السند مختلف عن مذهبهم في الزيادة في المتن! فالثاني فيه تفصيل عندهم، والأول مقبول بإطلاق، فكيف يستقيم مع إطلاق هذا القول (رد الزائد إلى الناقص مطلقًا، سندًا ومتنًا على السواء) ونسبته كأصل لأبي حنيفة؟! .. أقول: بل إن صنيعه في مختلف المسائل يشهد على خلاف ذلك.

أيضًا: لعل هذا هو منشأ الخلط الذي وقع فيه التهانوي في قواعد في علوم الحديث عندما شرع في تحرير وتفصيل مذهب الحنفية في الزيادة (عمومًا).
قال -رحمه الله- في قواعد في علوم الحديث: "زيادة الثقة إنما تقبل إذا لم تكن منافية لرواية الجماعة".
وقال (123) -نقلاً عن ابن الحنبلي في ((قفو الأثر)) (ص11- 12) [وقد جمع فيه أصولَ الحديث على مذهب الحنفية _على حد تعبير التهانوي_]-: "... لا تُقبل زيادة الضعيف إذا خالفت رواية الثقة.
هذا، وذهب بعض أصحاب الحديث إلى رد الزيادة مطلقًا، ونُقِلَ عن معظم أَصحاب أَبي حنيفة [المتقدمين] . والمختارُ عند ابن الساعاتيّ وغيره منا لحنفية أنه إِذا انفرد العدل بزيادة لا تخالف، كما لو نقل أنه صلى الله عليه وسلم دخل البيت فزاد: وصلى، فإن اختَلَفَ المجلس (أي مجلسُ سماع من أتى بالزيادة ومجلسُ سماع من لم يأتِ بها من أصحابه) قُبِلَتْ باتفاق، وإن اتحَد وكان غيره قد انتهى في العدد إِلى حد لا يتصور غفلتهم عن مثل ما زاد لم تُقبَل، وإِن لم ينته -إِلى هذا الحد- فالجمهور على القبول خلافًا لبعض المحدثين وأَحمد في رواية، وإِن جُهِلَ حالُ المجلس فهو بالقبول أَولى مما إِذا اتحد بذلك الشرط، وأَما إِذا كانت الزيادة مخالفة فالظاهر التعارض". اهـ.
ثم قال التهانوي معلّقًًا (124): "وبهذا عَرفتَ أَن الحنفية لا يقبلون زيادة الثقة إذا لم تخالف أَيضًا إِلا بشرائط لا مطلقًا". انتهى.

قلتُ: المعتمد في زيادة السند ما أثبتناه من قبولها عندهم مطلقًا، والمنقول عن ابن الحنبلي والمنسوب لابن الساعاتي؛ هو إنما خاص بالزيادة في المتن لا السند،ويشهد له ما ذكره كمثال أعلاه.
فالحاصل أن الزيادة في المتن يمكن تلخيص تفصيلها عندنا في النقاط التالية:
1- تقبل الزيادة إذا كانت لا تخالف، أو اختلف مجلس السماع، أو جُهل حال المجلس، أو كان المخالفون يغفلون عن مثل هذه الزيادة.
2- لا تقبل الزيادة إذا اتحد المجلس؛ أو كان المخالفون لا يتصور غفلتهم عن الزيادة.
3- إذا كانت الزيادة مخالفة فالظاهر التعارض فيسلك الترجيح.
وهذا التلخيص مستفاد من كلام الفقيه الجصاص في الفصول في الأصول (3/ 177)، والكمال ابن الهمام في التقرير والتحبير (2/ 293-295) و(1/ 285)، وما ورد عن ابن ساعاتي وغيره ونُسب إلى معظم أصحاب أبي حنيفة المتقدمين في قفو الأثر لابن الحنبلي (ص61، 62) [تحقيق عبدالفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب، الطبعة الثانية 1408هـ].
[وتفصيل هذه المسألة يتعدى هذا التلخيص لما ذُكر من اعتبار اتحاد مخرج الحديث من عدمه كما ذكره الجصاص ونقله عن الكرخي (3/ 177، 178)، وما ذهب إليه البزدوي -كما في كشف الأسرار (2/ 295)-، وكذا ما ورد في أصول السرخسي (1/ 257)، وفتح القدير (2/ 288)].

أما الزيادة في السند؛ فالصواب ما أثبتناه سابقًا من قبولها مطلقًا عندنا.

فالجواب في نظري؛ أن يُلجأ للترجيح، تحريرًا لمعتمد المذهب في ذلك، وهذا وارد في مسائل الأصول الحنفية، كمسألة فقه الراوي مثلاً.
[تعديل: وحتى لو سلّمناه موقوفًا، فهو حجة؛ لأن قول الصحابي حجة عند الحنفية].

ولعلي أنشط في قابل الأيام لطرح التفصيل في هذه المسألة في موضوع مستقلّ.

هذا، والله أعلم.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ الحُدُودِ)

السلام عليكم

في بيان محل الخبر (خبر الواحد في الحدود)
يقسم الحنفية محل الخبر الذي جعل الخبر فيه حجة خمسة أنواع:
النوع الأول/ ما يخلص حقًّا لله تعالى من شرائعه مما ليس بعقوبة؛ مثل عامة شرائع العبادات وما شاكلها، وخبر الواحد فيها حجة بشرائطه.
النواع الثاني/ ما هو عقوبة من حقوق الله تعالى، وهذا النوع اختُلف فيه، فقال أبو يوسف فيما يروى عنه أنه يجوز إثبات العقوبات بالآحاد، وهو اختبار الجصاص، واختبار الكرخي أنه لا يجوز، وهذا النوع هو ما يخص موضوع البحث؛ ولذلك سأعرض له دون بقية الأنواع.
النوع الثالث/ ما هو من حقوق العباد ما فيه إلزام محض، وهذا لا يثبت إلا بلفظ الشهادة، والعدد عند الإمكان، وقيام الأهلية بالولاية، مع سائر شرائط الأخبار لما فيها من محض الإلزام وتوكيدًا لها، لما يخاف فيها من وجوه التزوير والتلبيس، صيانة للحقوق المعصومة.
النواع الرابع/ من حقوق العباد ما ليس فيه إلزام، وهذا يثبت بأخبار الآحاد بشرط التمييز دون العدالة، وذلك مثل الوكالات والمضاربات والرسالات في الهدايا والإذن في التجارات وما أشبه ذلك.
النوع الخامس/ من حقوق العباد ما فيه إلزام من وجه دون وجه، وهو مثل عزل الوكيل وحجر المأذون، ووقوع العلم للبكر بإنكاح وليها إذا سكتت، ووقوع العلم بفسخ الشركة والمضاربة، ففي هذا كله إذا كان المبلغ وكيلاً أو رسولاً ممن إليه الإبلاغ لم يشترط فيه العدالة؛ لأنه قائم مقام غيره.
والآن ننتقل إلى بيان النوع الثاني وهو قبول خبر الواحد في الحدود؛ إذ هو المقصود بالبحث في هذا الفصل.
اتفقت الشافعية والحنابلة وأبو يوسف وأبو بكر الجصاص وأكثر الناس على قبول خبر الواحد فيما يوجب الحد، وفي كل ما يسقط بالشبهة، خلافًا لأبي عبدالله البصري من المتكلمين ولأبي الحسن الكرخي وأكثر أصحاب أبي حنيفة وإليه مال البزدوي والسرخسي على ما يدل عليه ظاهر كلامهما. راجع: كشف الأسرار (3/ 28)، وأصول السرخسي (1/ 333)، والكافي (3/ 1313)، والتقرير والتحبير (2/ 276)، وفواتح الرحموت (2/ 136)، والإحكام في أصول الأحكام (2/ 168)، والبحر المحيط (4/ 348).
وسبب الاختلاف أن خبر الواحد مما يداخله شبهة الكذب، فمن لم يقبل خبر الواحد في الحدود اعتبرها شبهة يُدرأ بها الحديث لقوله صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات) -أخرجه الحارثي في مسنده عن ابن عباس مرفوعًا كما في عقود الجواهر المنيفة (1/ 182). وأخرج الترمذي (1489) من طريق محمد بن ربيعة عن يزيد بن زياد الدمشقي عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة) ثم رواه الترمذي من طريق وكيع عن يزيد به موقوفًا، ثم قال الترمذي: وحديث وكيع أصح، ويزيد بن زياد الدمشقي ضعيف في الحديث. وأخرجه ابن ماجه (2545) عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعًا: (ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعًا). وسعيد المقبري ضعيف. وأخرجه البيهقي (8/ 238) عن عليٍّ مرفوعًا: (ادرءوا الحدود، ولا ينبغي للإمام أن يعطل الحدود). وفيه المختار بن نافع قال عنه البخاري: منكر الحديث. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 511) عن إبراهيم قال: قال عمر بن الخطاب: لئن أعطل الحدود بالشبهات أحب إليَّ من أن أقيمها بالشبهات. وأخرجه ابن حزم في كتاب الإيصال عن عمر موقوعًا بإسناد صحيح. وأخرجه البيهقي (8/ 238) عن إبراهيم عن ابن مسعود موقوفًا: ادرءوا الحدود ما استطعتم. راجع: كشف الخفاء (1/ 37)، والمقاصد الحسنة (ص 30)-. وأما الجمهور فجعلها كالشبهة في الشهادة ودلالة النص التي يثبت بها الحكم في هذا الباب.
ومما يرجح أن مذهب أبي حنيفة أن الحدود لا تثبت بخبر الواحد: عدم قوله بالحديث الوارد في حد اللوطي -سيأتي تفصيل هذه المسألة بعد قليل-، يقول البزدوي في كشف الأسرار (3/ 28): "ألا ترى أن أبا حنيفة -رحمه الله تعالى- لم يوجب الحد في اللواطة بالقياس ولا بالخبر الغريب من الآحاد".
ومما يدل عليه أيضًا أن أبا حنيفة لم يوجب الحد على مَنْ تزوج ذات محرمٍ منه وهو عالمٌ بحرمتها عليه فدخل بها، واكتفي فيه بالتعزير والعقوبة البليغة -سبق تفصيل هذه المسألة-.
قال الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام (2/ 168): "ودليل قبول خبر الواحد فيما يوجب الحد: أن يغلب على الظن فوجب قبوله لقوله صلى الله عليه وسلم: (نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر). ولأنه حكم يجوز إثباته بالظن بدليل ثبوته بالشهادة وبظاهر الكتاب، فجاز إثباته بخبر الواحد كسائر الأحكام الظنية، والمسألة ظنية فكان الظن كافيًا فيها، وسقوطه بالشبهة لو كان لكان مانعًا من الأعمال، والأصل عدم ذلك وعلى من يدعيه بيانه".
قال عبدالعزيز البخاري في كشف الأسرار (3/ 28): "تمسك الفريق الأول -يعني الجمهور- بأن الحدود شرع عملي من الشرائع، فجاز إثباتها بخبر الواحد كسائر الشرائع، وتحقق الشبهة في خبر الواحد غير مانع عن قبوله في هذا الباب؛ كتحقق الشبهة في البينات لا يمنع عن ذلك، ألا ترى أنها تثبت بدلالة النص، فإن الرجم في حق غير ماعز ثابت بالدلالة، مع أن الدلالة دون الصريح؛ لأنها غير ثابتة بالنظم، ولبقاء الاحتمال فيها حتى ترجح الصريح عليها، فعرفنا أن مجرد الاحتمال غير معتبر في هذا الباب.
واحتج الفريق الثاني بأن مبنى الحدود على الإسقاط بالشبهات بالنص، وخبر الواحد فيه شبهة بالاتفاق فلا يجوز إثباتها به كما لا يجوز بالقياس، فأما إثباتها بالبينات فجوز بالنص الموجب للعلم على خلاف القياس وهو قوله: (فَاْسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) [النساء: 5]، وقد انعقد الإجماع على ذلك أيضًا، فكان ثبوتها مضافًا إلى النص والإجماع فيجوز".
ومن أقوى ما احتج به الجمهور أن القصاص يثبت بخبر الواحد، فيلزم منه أن تثبت به الحدود؛ لأنه لا فرق بينهما من حيث إن كل واحد يسقط بالشبهة.
والحنفية تمسكوا في قتل المسلم بالذمي بخبر مرسل عن عبدالرحمن بن البيلماني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد مسلمًا بذميٍّ وقال: (أنا أحق من وفى بذمته) -أخرجه الدارقطني في سننه (3/ 135)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 30)-. وأثبتوا قتل الجماعة بالواحد بما رُوي عن سعيد بن المسيب: أن عمر قتل نفرًا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه قَتْلَ غِيلَةٍ وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا -أخرجه مالك في الموطأ (1590)، والبخاري (6896)-. وهو دون المرفوع، فكان يلزمهم بذلك إثبات الحدود بخبر الواحد.
روى أبو عبيد عن ابن مهدي عن عبدالواحد بن زياد قال: قلتُ لزُفَرَ: إنكم تقولون إنا ندرأ الحدود بالشبهات، وإنكم جئتم إلى أعظم الشبهات فأقدمتم عليها. قال: وما هو؟ قال: قلت: المسلم يقتل بالكافر. قال: فاشهد أنتَ على رجوعي عن هذا -السنن الكبرى للبيهقي (8/ 30) وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في فتح الباري (12/ 262)-.
فاجتمع بذلك أصحاب أبي حنيفة على خلافه: أبو يوسف ومحمد -كما يظهر من أقواله في فروع المسألة- وزفر، مما يدل على ضعف مسلك أبي حنيفة في هذا الأصل.

مَسْأَلةُ وُجُوبُ الحَدِّ عَلَى اللُّوطِيِّ:

اختلف الفقهاء في حد اللوطي: فقال بعضهم: يجب عليه حد الزنى، فيُرجم إن كان محصنًا، ويُجلد ويُغرب إن لم يكن محصنًا. وهو أظهر قولي الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد، وقول أبي يوسف ومحمد بن الحسن وإبراهيم النخعي وعطاء وقتادة والحسن.
وقال بعضهم: يجب عليه حد القتل. وهو قول علي وابن عباس، ومالك والشافعي في أحد قوليه ورواية عن أحمد، وبه قال سعيد بن المسيب وجابر بن زيد والزهري والشعبي وربيعة وإسحاق. واختلف هؤلاء في كيفية القتل على أقوال: الأول/ يُقتل بالسيف كالمُرتد. والثاني/ يُرجم تغليظًا عليه. والثالث/ يُحرق بالنار. والرابع/ يُهدم عليه جدار أو يُرمى من شاهق حتى يموت، أخذًا من عذاب قوم لوط عليه السلام.
وقال أبو حنيفة والحَكم: لا يجب عليه الحد ولكن يُعزر ويُودع في السجن. راجع: المبسوط (9/ 77)، وفتح القدير (5/ 262)، والمنتقى (7/ 141)، وشرح الخرشي (8/ 81)، والفواكه الدواني (2/ 209)، والمغني (9/ 58)، وروضة الطالبين (10/ 90)، وذم اللواط للدوري وتحريم اللواط للآجري، فقد رويا بأسانيدهما مذاهب العلماء في حد اللوطي.
واحتج من رأى أن حد اللواط كحد الزنا بما رُوي عن أبي موسى قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان) -أخرجه الآجري في ذم اللواط ص(266)-. وبأنه إيلاج فرج آدمي لا ملك له فيه ولا شبهة ملك، فكان زنا كالإيلاج في فرج المرأة، وإذا ثبت كونه زنا دخل في عموم الآية والأخبار فيه. وبأنه فاحشة فكان زنا كالفاحشة بين الرجل والمرأة.
واحتج من رأى أن حد اللوطي القتل بما رُوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) -أخرجه أبو داود (4462)، والترمذي (1528)، وابن ماجه (2561)-.
واحتُج لأبي حنيفة بأنه ليس بزنا لاختلاف الصحابة في موجبه من الإحراق بالنار وهدم الجدار والإلقاء من مكان مرتفع، ولا هو في معنى الزنا؛ لأنه ليس فيه إضاعة الولد واشتباه الأنساب، وكذا هو أندر وقوعًا لانعدام الداعي من أحد الجانبين، والداعي إلى الزنا من الجانبين، وأُجيب عن الحديث بأنه محمول على السياسة أو على المستحل. راجع: فتح القدير (5/ 263).
وأجاب عبدالعزيز البخاري عن الحديث بأن الصحابة تركوا الاحتجاج به مع اختلاف في حكم اللواطة فدل على زيافته، فرد الحديث من خلال قاعدة إعراض الصحابة عن الاحتجاج بالحديث. راجع: كشف الأسرار (3/ 29).
رُوي عن مُحمد بن المُنكدر وصفوان بن سليم: أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر في خلافته: أنه وجد رجلًا في بعض نواحي العرب يُنكح كما تنكح المرأة، وأن أبا بكر جمع الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ذلك، فكان من أشدهم يومئذ قولًا علي بن أبي طالب قال: إن هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة، صنع الله بها ما قد علمتم نرى أن نحرقه بالنار. فاجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار. فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار -أخرجه الآجري في ذم اللواط ص(237)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 232) وقال: هذا مُرسل-.

ويتلخص مما سبق أن نسبة القول برد خبر الواحد في الحدود لأبي حنيفة: ثابت من خلال أقواله الفقهية في مسألة حد اللوطي والزنا بالمحارم، وأن أصحابه أبا يوسف ومحمدًا وزفر قد خالفوه في هذا الأصل، كما خالفه بعض أتباعه كأبي بكر الجصاص، وهو ما رجّحه الكمال ابن الهمام وابن عبدالشكور.
واستدلال بعض الحنفية لهذا الأصل بحديث درء الحدود بالشهبات: ضعيف؛ لأن القصاص يثبت بخبر الواحد، فيلزم منه أن يثبت به الحدود؛ لأنه لا فرق بينهما من حيث إن كل واحد يسقط بالشبهة.
وردَّ بعض الحنفية حديث حد اللوطي بقاعدة عدم قبول خبر الواحد في الحدود، وردَّه بعضهم بقاعدة إعراض الصحابة عن الحديث، وتأوله بعضهم بأنه محمول على السياية وعلى المُستحل، ومُخالفة أصحاب أبي حنيفة له في هذا الأصل، وعدول بعضهم عنه في رد الحديث؛ يدلُّ على أن قبول خبر الواحد في الحدود هو الراجح.

ويُراجع: منهج الحنفية في نقد الحديث ص(285- 289).

والله أعلم.
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ الحُدُودِ)

السلام عليكم

يُمكن الإطلاع على الروابط التالية للاستفادة القصوى:

انفرادات أبي حنيفة عن الأئمة الثلاثة في الحدود الشرعية - أ/ صادق محمد السماوي

مذهب أبي حنيفة حول حكم إقامة الحد على من وطأ المستأجرة للزنا - مركز الفتوى

هل يصح عن ابى حنيفة إسقاطه الحد عن الزانيه المستأجره وإثباته للزانية لشهوة؟


والله الموفق.
 
أعلى