رد: بيع الوفاء عند الحنفية ؟
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
جاء في "
خيار النقد في الفقه الإسلامي وتطبيقاته الاقتصادية المعاصرة" للدكتور/ محمد نجدات المحمد، وهي عبارة عن رسالة ضمن مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية (المجلد 29-العدد الأول-2013 / الصفحات 389 - وما بعدها):
http://www.damascusuniversity.edu.sy/mag/law/images/stories/1-2013/383-410.pdf
((
2- بيع الوفاء:
كذلك من المصطلحات ذات الصلة بخيار النقد بيع الوفاء.
[ظهر هذا النوع من البيع أول مرة في شرق الدولة الإسلامية ببخارى وبلخ في منتصف القرن الخامس الهجري، ثم بعد ذلك نصت عليه مجلة الأحكام العدلية في موادها من المادة (396) إلى المادة (403)، وكان الباعث لظهوره أن صاحب النقد يريد أن ينتفع بماله، ولا يعطيه للآخرين بالقرض الحسن دون أن يستفيد منهم ماديًا ويجد الحرج في أخذ الربا عن ماله، وأنه لا يتحقق له المنفعة الكاملة والمضمونة بالرهن، لأنه إن شرط الانتفاع بالرهن فسدا لعقد، وإن لم يشترطه وأذن الراهن له بذلك، فهذا الإذن عند الحنفية إباحة وتبرع ويحق له أن يرجع عنه، ويمنع المرتهن من الانتفاع بالرهن نهائيًا، ومن جهة أخرى فقد يملك آخرون أعيانًا، ولا يريدون التخلي عنها وبيعها، مع حاجتهم للنقد، فلجأ الناس إلى هذه الطريقة بأن يبيع صاحب العين ما يملكه بمبلغ من النقد، ويسلمه على أمل أن يسترد البائع عينه في المستقبل متى تيسر له رد الثمن، ليستفيد منه حالاً، ويقضي به حاجته، كما يستفيد المشتري من المبيع بالانتفاع به خلال هذه المدة، طالت أم قصرت، ومن ثم يمكن أن يتملك المبيع في المستقبل نهائيًا، وبذلك تتحقق منفعة متبادلة لكل من الطرفين عن طريق البيع بشرط التراد، ثم انتشرت هذه الطريقة وشاعت باسم "بيع الوفاء" لأن المشرتي يتعهد بوفاء الثمن الذي يعدّ كدين في ذمته إلى البائع، وصار لهذا البيع اسم مسمى ومستقل "بيع الوفاء" بحيث يُستغنى بالاسم عن ذكر الشرط، والغالب أن يكون الثمن في بيع الوفاء أقل من قيمة المبيع، وأنه شاع وانتشر في بيع العقار فقد، دون المنقول، ولذلك نص فقهاء الحنفية باتفاقهم على جوازه في العقاء استحسانًا للتعامل به، ثم اختلفوا في جواز بيع الوفاء في المنقول، فقيل يصح لعموم حاجته، وقيل لا يصح لخصوص التعامل. درر الحكام: 2/ 208. مجلة الأحكام العدلية المادة (118). العقود المسماة، د. محمد الزحيلي، ص: 412. ]
...
عرفه الحنفية بأنه: "البيع المشروط فيه رجوع المبيع للبائع متى رد الثمن على المشتري" [حاشية رد المحتار، ابن عابدين: 2/ 364]، وتتفق باقي المذاهب على تعريفه كما عرفه الحنفية.
...
وقد عدّ بعض الحنفية كابن نجيم خيار النقد من أفراد بيع الوفاء بجامع حق استرداد المبيع إذا رد البائع الثمن، وجعل المكان الأنسب لبحث بيع الوفاء هو خيار النقد.
لكن صاحب الحاشية على كتابه ابن عابدين لم يرتض ذلك التعليل حيث نقل عن "النهر" أنه إنما يكون من أفراده بناء على القول بفساد بيع الوفاء إن زاد على الثلاث، لا على القول بصحته، إذ خيار النقد مقيد بثلاثة أيام، وبيع الوفاء غير مقيد بها، فأنى يكون من أفراده؟" [حاشية ابن عابدين: 6/ 8].
وصورة هذا البيع: أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذه العين بدين لك على أني متى قضيت الدين فهو لي.
وقد أطلق على هذا النوع عدة ألفاظ كـ"بيع الأمانة" و"الرهن المُعَاد"، و"بيع الإطاعة" [المرجع السابق: 5/ 276] ، ويسميه المالكية "بيع الثُّنَيَّا" و"بيع المُعَاد" [حاشية الدسوقي: 3/ 175 ، بداية المجتهد، ابن رشد: 1/ 520].
وقد اختلف الفقهاء في جواز بيع الوفاء
الحنفية:
وذهب الحنفية عدا زُفَر إلى جواز هذا البيع، وأن بيع الوفاء من أفراد مسألة الخيار. جاء في حاشية ابن عابدين [5/ 277] بعد أن عرَّف بيع الوفاء: "ولزم الوفاء به ولأنه بمنزلة خيار الشرط وهو لا يورث".ثم اتفق فقهاء الحنفية على عَدِّهِ عقدًا مستقلاً جائزًا، وأطلقوا عليه اسم "بيع الوفاء" لعدم انطباق أحكامه على البيع العادي أو الرهن أو الإجارة أو القرض، ولأن له غلية ومقصدًا مستقلاً وهو:
1- تمليك المشتري منافع المبيع، دون ملك العين التي تبقى للبائع.
2- حق الفسخ والتراد، وهو حق المشتري بفسخ البيع ورد الثمن واسترداد المبيع، ويقابله حق البائع بالمنافع، وحقه بتملك العين نهائيًا إذا عجز المشتري عن رد الثمن أو امتنع.
3- ضمان المشتري للمبيع، فيده يد ضمان، لأنه استلمه لمنفعته ومصلحته، كالرهان عند الحنفية والعارية عند الجمهور. [انظر: العقود المسماة، د. محمد الزحيلي، ص: 413-414].
المالكية:
ذهب المالكية إلى منعه لأنه حيلة إلى الانتفاع بالقرض، بعد أن ترددوا في تكييفه بين البيع الفاسد، والسلف الجارّ لمنفعة، والرهن للوصول إلى حكم غلة المبيع. [حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/ 175]. وقد ذكره المالكية ضمن الكلام عن خيار الشرط في البيوع، وجاء في المدونة تصحيح البيع وبطلان الشرط (إن لم يأت بالنقد فلا بيع بينهما) لأن فيه غررًا ومخاطرة وروت كتب المالكية الأخرى عن الإمام مالك قولين آخرين وهي: صحة البيع والشرط وفسخ البيع. [المدونة الكبرى، مالك بن أنس: 4/ 166].
الشافعية:
منعه المتقدمون من الشافعية لأنه بيع فاسد وهو الصحيح المفتى به في المذهب، وأجازه أبو إسحاق الشيرازي وعدَّهُ بيعًا صحيحًا. [المجموع، النووي: 9/ 139]. جاء في المجموع (9/ 139): "لو اشترى شيئًا بشرط أنه إن لم ينقده الثمن في ثلاثة أيام فلا بيع بينهما، أو باع بشرط أنه إن ردَّ الثمن في ثلاثة أيام فلا بيع بينهما... الصحيح باتفاقهم أن البيع باطل في الصورتين".
إذًا فالبيع مع وجود خيار الشرط يكون بيعًا باطلاً باتفاق الشافعية ووافقهم في هذا زفر من الحنفية. [بدائع الصنائع، الكاساني: 5/ 175].
الحنابلة:
أما الحنابلة فذهبوا إلى عدم جوازه لأنه حيلة إلى الانتفاع بالقرض، وهم على الرغم من إثباتهم خيار النقد قد أبطلوا بيع الوفاء وسموه "بيع الأمانة" وحرموا البائع من حق الاسترداد القائم على اشتراط الخيار.
لكنهم أجازوا خيار النقد وهو حق استرداد المبيع حين إعادة الثمن، أو التأخر في أداء الثمن وبحسب الشرط: البائع أو المشتري. [كشف القناع، البهوتي: 3/ 14].
والصورتان عبارة عن موضوع واحد، ولكن الأولى "بيع الوفاء" وهي التي يمكن فيها الاحتيال على انتفاع بالقرض ليأخذ غلة المبيع ونفعه في مدة انتفاع المقترض بالثمن ثم يرد المبيع بالخيار عند رد الثمن، أمَّا الثانية "خيار النقد المجرد عن فكرة الاحتيال للربا" فهي للحاجة إلى التروي في الثمن هل يصير منقودًا أم لا.
قال ابن قدامة [المغني: 3/ 504]: "إذا شُرط الخيار (حق الاسترداد) حيلة على الانتفاع بالقرض ليأخذ غلة المبيع ونفعه في مدة انتفاع المقترض بالثمن ثم يرد المبيع بالخيار عند رد الثمن فلا خيار فيه لأنه من الحيل، ثم نقل عن الإمام أحمد أنه إن كان حيلة لا يجوز، وأمَّا إن كان إرفاقًا ويجعل له الخيار ولم يرد الحيلة فقال: هذا جائز، إلا أنه إذا مات انقطع الخيار ولم يكن لورثته، قال ابن قدامة: وقول أحمد بالجواز في هذه المسألة محمول على المبيع الذي لا يَنتفع به إلا بإِتلافه، أو أن المشرتي لا ينتفع بالمبيع في مدة الخيار لئلا يفضي إلى أن القرض جر منفعة". )). انتهى.
هذا، والله أعلم.