العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان
القواعد الحسان.jpg

رضا أحمد صمدي
هذا الكتاب

يتناول أهم قضية تشغل السالكين فى طريق الآخرة مما يتعلق بعبادتهم وأسرار طاعتهم وهو إحسان العبادة.
يعرض بطريقة عملية الوسائل التى بها يتمكن العباد من الانتفاع بشهر رمضان.
يساعد على تحصيل لذة العبادة.
يكشف المشكلات التى تواجه السائرين إلى الله فى طاعاتهم بما يساعدهم على تلافيها وعلاجها.
منهج عملى سلفى فى تزكية النفس.




بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا وعلى آله وصحبه وأزواجه وأتباعه إلى يوم وبعد…
فقد أجمع العقلاء على أن أنفس ما صرفت له الأوقات هو عبادة رب الأرض والسموات، والسير في طريق الآخرة، وبذل ثمن الجنة، والسعاية للفكاك من النار.
ولما كان هذا الطريق كغيره من الطرق والدروب تكتنفه السهول والوهاد والوديان والجبال والمفاوز ويتربص على جنباته قطاع الطرق ولصوص القلوب، احتاج السائر إلى تلمس خِرِّيتٍ يبصره الدروب الآمنة، والمسالك النافذة، ويعرفه مكامن اللصوص، وأفضل الأزمنة، أنسب الأوقات للجدّ في السفر، وقد كان هذا الخريت هو منهج سلفنا الصالح في النسك، وطرائقهم في السير إلى الله وعباراتهم في الدلالة عليه، كانت بحق خير مِعْوان على انتحاء جهة الأمان.
وهذا النسك السلفي العتيق، والمنهج السني الرشيد في التزكية، لا غنى عنه لكل طالب طريق السلامة، فلا عصمة لمنهج في مجمله إلا منهج السلف الصالح.
دع عنك ما قاله العصري منتحلاً *** وبالعتيق تمسك قط واعتصمِ

ولما كانت الأزمنة الفاضلة من أنسب أوقات الجد والاجتهاد في الطاعة وكان شهر رمضان من مواسم الجود الإلهي العميم، حيث تُعْتَق الرقاب من النار، وتوزع الجوائز الربانية على الأصفياء والمجتهدين، كان لزامًا أن تتواصى الهمم على تحصيل الغاية من مرضاة الرب في هذا الشهر، وهو من التواصي بالحق المأمور به في سورة العصر، وإذا كان دعاة الباطل واللهو والفجور تتعاظم هِمَمُهُم في الإعداد لغواية الخلق في هذا الشهر بما يذيعونه بين الناس من مسلسلات ورقص ومجون وغناء، فأَخْلِقْ بأهل الإيمان أن ينافسوهم في هذا الاستعداد، ولكن في البر والتقوى.
ولقد صامت أمتنا دهورًا، غير أن صومها لهذا الشهر ما كان يزيدها إلا بعدًا عن ربها ومليكها وحاكمها الحقيقي، فصار رمضان موسمًا مفرّغًا من مضمونه مجردًا من حقائقه، بل صار ميدانًا للعربدة وشغل الأوقات بما يغضب الكريم المتعال.
ولو تجهزت الأمة لهذا الشهر الفضيل وأعدت له عدته، وشمر الناس جميعًا سواعد الجد وشدوا مآزرهم في الطاعة لرأينا أمة جديدة تولد ولادة شرعية، وذلك بعد استعداد جاد ومخاض عولجت فيه الهمم والعزائم لتدخل في الشهر وهي وثابة إلى الطاعات.
وهذه الرسالة نصيحة لعام المسلمين بَثْتُها غَيْرةً على حالهم مع الله في هذا الشهر، وجُهد مُقِلٍّ أبذله تأثّمًا، ويعلم ربي ما هنالك.
هي منهاج في كيفية الاستعداد لشهر رمضان، وجدول أعمال تفصيلي لما ينبغي أن يقوم به سالك طريق الآخرة، إرشادات نفيسة من أئمة التربية والتزكية من السلف الصالح تقود المرء قيادةً حثيثة للوصول إلى درب القَبول.
حرصْنا فيها أن تكون واقعية وعملية وتفصيلية، وقبل ذلك سلفية سنّية.
بينّا فيها طرق الاستعداد للشهر الكريم بعزيمة قوية قادرة على الاجتهاد الحقيقي في الطاعة بدلاً من الأماني والأحلام، وأطلنا النَّفَس جداً في بيان أسرار الطاعات والعبادات وكيفية تحصيل اللذة منها، وسردنا جملة من العبادات المهجورة والطاعات المتروكة، ونصصنا على صفات بعض قطاع الطريق إلى الله، في حنايا هذه الرسالة حرصنا على ذكر بعض منازل السائرين ومقامات السالكين في طريق الآخرة حتى تتواثب الأشواق في قلوب المتنسكين ليصلوا إلى ما وصل إليه القوم، ويحصّلوا المغفرة في شهر المغفرة والرحمة، وقد تركتُ للنفس سجيتها في سطر هذه المعاني ولم أتانق كثيرًا في الترتيب والتبويب، ولكن حرصت على النقل من الكتب المعتمدة عند علمائنا وشيوخنا، وما نقلته عن الغزالي رحمه الله في الإحياء هذبته واختصرته ونقيته من كل ما يشوبه، والحكمة ضالة المؤمن، وحرصت على الاستدلال بالأحاديث الصحاح والحسان إلا بعض الأحاديث والآثار الضعيفة التي استأنست بها مع بيان ضعفها غالبًا.
وأنا لك ناصح أيها الحبيب: إذا أردت استفادة من هذا السفر فلا تمر على ألفاظه مر الكرام، بل جُلْ بخواطرك حول المعنى ومعنى المعنى، فلقد استلَلْتُ لك النقيَّ وانتقيت لك الأطايب، فإذا استدللت بآية فحُمْ حول حماها ثم طف في أعماق مداها، وإذا ذكرت لك حديثًا فتمثل نفسك كأنك جالس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم تسمعه وتتدبر عنه، وإذا رويت لك سيرة عبقري من السلف فهَبْ نفسك ترمُقُه عن كثب كأنك في حضرته تشتار من رحيق كلماته، وبدون ذلك فلا تتعنَّ، فإنما صنفناه لك لتتذوق لا لتقول للناس قرأته.
واعلم أخيرًا أن ما ذكرته لك في هذه الرسالة إن هي إلى محاولة لتكوين صورة عن الشخصية الربانية ذات العلاقة العامرة بإله الكون، والمهيَّئة لسيادة البشرية وإنقاذها من وَهْدَتِها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وكتبه
المعتز بالله أبو محمد رضا بن أحمد صمدي
عفا الله عنه وعن والديه ومشايخه آمين
ظهر الخميس 17 صفر 1417هـ الموافق 7 يوليه 1996م

 
التعديل الأخير:

أم أبي التراب

:: متابع ::
إنضم
6 يونيو 2012
المشاركات
3
الكنية
أم أبي التراب
التخصص
علوم شرعية
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
أدور مع ادليل
رد: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

جزاك الله خيرًا
 

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
التعديل الأخير:

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

القاعدة الأولى
بعث واستثارة الشوق إلى الله

على مر الأيام والليالي يُخْلَقُ الإيمان في القلب (1) وتصدأ أركان المحبة فتحتاج إلى من يهبك سربالاً إيمانًا جديدًا تستقبل به شهر رمضان، واصل القدرة على فعل الشيء معونة الله ثم مؤونة العبد، ونعني بالمؤونة رغَبته وإرادته، فعلى قدر المؤونة تأتي المعونة.
وفي الحديث القدسي: "إذا تقرب العبد إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب إليّ ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني يمشي يمشي أتيته هرولة" رواه البخاري.
فالبداءة من العبد ثم الإجابة حتمًا من الرب: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} .
فلابد من إثارة كوامن شوقك إلى الله عز وجل حتى تلين لك الطاعات فتؤديها ذائقًا حلاوتها ولذتها، وأية لذة يمكن أن تحصلها من قيام الليل ومكابدة السهر ومراوحة الأقدام المتعبة أو ظمأ الهواجر أو ألم جوع البطون إذا لم يكن كل ذلك مبنيًا على معنى:
{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} (2) ؟! ومن لبى نداء حبيبه بدون شوق يحدوه فهو بارد سمج، دعوى محبته لا طعم لها.
لا جرم كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته: "وأسألك الرضا بالقضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك…" رواه النسائي بسند صحيح.
وشوقك لربك ولإرضائه أفناه رَين الشبهات والشهوات وأهلكته جوائح المعاصي ومرور الأزمنة دون كدح إلى الله، فتحتاج يا باغي الخير إلى بعث هذا الشوق من جديد لو كان ميتًا، أو استثارته إن كان موجودًا كامنًا.


(1) عن عبد الله بن عمر قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثواب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم" رواه الطبراني والحاكم (صحيح الجامع) .

(2) قال أبو حيان الأندلسي رحمه الله: (لما نهض موسى- عليه السلام - ببني إسرائيل إلى جانب الطور الأيمن حيث كان الموعد أن يكلم الله موسى بما فيه شرف العاجل والآجل، رأى على وجه الاجتهاد أن يتقدم وحده مبادرًا إلى أمر الله وحرصًا على القرب منه وشوقًا إلى مناجاته) أهـ: البحر المحيط (6/266) .
 

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

عوامل بعث الشوق إلى الله:

1- مطالعة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وتدبر كلامه وفهم خطابه فإن من شأن هذه المطالعة والفهم والتدبر فيها أن يشحذ من القلب همة للوصول إلى تجليات هذه الأسماء والصفات والمعاني، فتتحرك كوامن المعرفة في القلب والعقل ويأتي عندئذٍ المدد (1) .
وتأمل قصة أبي الدحداح في فهمه كلام ربه كيف حرك أريحيَّتُه وألبسه حب البذل.
فعن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} قال أبو الدحداح الأنصاري: وإن الله يريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، قال فناوله رسول الله يده، قال فإني أقرضت ربي حائطي، قال: حائطه له ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها. قال فجاء أبو الدحداح فنادي يا أم الدحداح! قالت: لبيك، قال: أخرجي من الحائط فإني أقرضته ربي عز وجل، وفي رواية أخرى أنها لما سمعته يقول ذلك عمدت إلى صبيانها تُخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كم من عِذْقٍ رَدَاح في الجنة لأبي الدحداح" (2) .
وتأمل رعاك الله من عَطَنِ الشبهات كيف فهم الصحابي من كلام الله عز وجل المعنى الظاهر بدون أن يكون في قلبه تردد أو تهيب لأن شجرة إيمانه قامت على ساق التنزيه (3) .

2-
مطالعة منن الله العظيمة وآلائه الجسيمة فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها ولذلك كثر في القرآن سوقُ آيات النعم الخلق والفضل تنبيهًا لهذا المعنى، وكلما ازددت علمًا بنعم الله عليك كلما ازددت شوقًا لشكره على نعمائه.

3- التحسر على فوت الأزمنة في غير طاعة الله، بل قضاؤها في عبادة الهوى. قال ابن القيم: وهذا اللحظ يؤدي به إلى مطالعة الجناية، والوقوف على الخطر فيها، والتشمير لتداركها والتخلص من رقها وطلب النجاة بتمحيصها. أهـ.

4- تذكر سبق السابقين مع تخلفك مع القاعدين يورثك هذا تحرقًا للمسابقة والمسارعة والمنافسة، وكل ذلك أمر الله به، قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} .

واعلم- يا مريد الخير- أن بعث الشوق وظيفة لا ينفك عنها السائر إلى الله عز وجل، ولكن ينبغي مضاعفة هذا الشوق قبل شهر رمضان لتُضاعف الجهد فيه، وهذا الشوق نوع من أنواع الوقود الإيماني الذي يُحفّز على الطاعة، ثم به يذوق المتعبد طعم عبادته ومناجاته.
ومجالات الشوق عندك كثيرة أعظمها وأخطرها الشوق إلى رؤية وجه الله عز وجل، ويمكنك أن تتمرن على قراءة هذا الحديث مع تحديث نفسك بمنزلتها عند الله، وهل ستنال شرف رؤيته أم لا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيّض وجوهنا؟ ألم تُدخلنا الجنة وتنجّنا من النار؟ فيُكشفُ الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم". رواه مسلم.
وفي مجالات الشوق: الشوق إلى لقاء الله وإلى جنته ورحمته ورؤية أوليائه في الجنة وخاصة الشوق للقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفردوس الأعلى.

واعلم أن لهذا الشوق لصوصًا وقطاعًا يتعرضون لك، فاحذر الترفه (وخاصة في شهر رمضان) واحذر فتنة الأموال، والأولاد والأزواج، خلفهم وراءك ولا تلتفت وامض حيث تؤمر، واجعل شعارك في شهر رمضان: {قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْك رَبِّ لِتَرْضَى} .
فحيَّهلا إن كنت ذا همةٍ فقدْ
حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعدٍ
ودعُه فإن العزم يكفيك حاملاً


***

(1) راجع لزامًا كلام ابن القيم في الفائدة السادسة والثلاثين من فوائد الذكر من كتابه الطيب "الوابل الصيب".
(2) العذق من النخل كالعنقود من العنب، رداح: ثقيل لكثرة ما فيه من التمر، انظر "الإصابة" في (7/57) و"صفة الصفوة" (1/617) .
(3) لابن القيم رحمه الله مقالات رائقة حول كثير من الأسماء والصفات جمعها بعضهم في كتاب مستقل، وللغزالي رسالة اختصرها النبهاني في "مختصر المقصد الأسني" لا تخلو من هنات تظهر لممارس الكتاب والسنة.
 
التعديل الأخير:

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

القاعدة الثانية
معرفة فضل المواسم ومنة الله فيها وفرصة العبد منها


قال ابن رجب رحمه الله: وجعل الله سبحانه وتعالى لبعض الشهور فضلاً على بعض، كما قال تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} وقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} كما جعل بعض الأيام والليالي أفضل من بعض، وجعل ليلة القدر خيرًا من ألف شهر، وأقسم بالعشر وهي عشر ذي الحجة على الصحيح (وما في هذه المواسم الفاضلة موسمٌ إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته، يُترَّب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يعود بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات، وقد خرج ابن أبي الدنيا والطبراني وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات ربكم فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده وسلوا الله أن يستر عوراتكم ويؤُمن روعاتكم" (ضعيف الجامع) .
وفي الطبراني من حديث محمد بن مسلمة مرفوعًا: "إن لله في أيام الدهر نفحات فتعرضوا لها، فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبدًا" (صحيح الجامع) .
وفي مسند الإمام أحمد عن عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس من عمل يوم إلا يُختم عليه" (صحيح الجامع) .
روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن مجاهد قال: ما من يوم إلا يقول: ابن آدم قد دخلت عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم فانظر ماذا تعمل فيّ، فإذا انقضى طواه، ثم يختم عليه فلا يفك حتى يكون الله هو الذي يَفُضُّ ذلك الخاتم يوم القيامة، ويقول اليوم حين ينقضي: الحمد لله الذي أراحني من الدنيا وأهلها، ولا ليلةٍ تدخل على الناس إلا قالت كذلك، وبإسناده (أي ابن أبي الدنيا) عن مالك بن دينار.
وعن الحسن قال: ليس يوم يأتي من أيام الدنيا إلا يتكلم، يقول: يا أيهال الناس: إني يوم جديد وإني على ما يُعمل فيّ شهيد، وإني لو قد غربت الشمس لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة. وعنه أنه كان يقول: يا ابن آدم اليوم ضيفك، والضيف مرتحل يحمدك أو يذمُّك، وكذلك ليلتك، وبإسناده عن بكر المُزني أنه قال: ما من يوم أخرجه الله إلى أهل الدنيا إلا ينادي: ابن آدم اغتنمني، لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلةٍ إلا تنادي: ابن آدم اغتنمني، لعله لا ليلة لك بعدي.
وعن عمر بن ذر أنه كان يقول: اعملوا لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليل وسواده، فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار، والمحروم من حرم خيرهما، وإنما جُعلا سبيلاً للمؤمنين إلى طاعة ربهم ووبالاً على الآخرين للغفلة عن أنفسهم، فأحيوا لله أنفسكم بذكره، فإنما تحيا القلوب بذكر الله. أهـ (1) .
واعلم- رحمني الله وإياك- أن معرفة فضل المواسم يكون بمطالعة ما ورد فيها من فضل وبما يحصل للعبد من الجزاء إذا اجتهد.
ويمكنك مطالعة هذه النصوص والآثار في الكتب المعنية بالفضائل كرياض الصالحين للنووي والترغيب والترهيب للمنذري ولطائف المعارف لابن رجب.

***

(1) "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف" (ص40) فما بعدها بتصرف يسير.
 

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

القاعدة الثالثة
تمارين العزيمة والهمة

إذا كان الأصوليون يعرّفون العزيمة بأنها ما بُنيت على خلاف التيسير كالصوم في السفر لمن أطاقه، وعدم التلفظ بكلمة الكفر وإن قتل، فإن العزيمة عند أهل السلوك لها حظ من هذا المعنى فالعزيمة أو العزم عندهم هو استجماع قوى الإرادة على الفعل.
وكأن صاحب العزيمة لا رخصة له في التخلف عن القيام بالهمة، بل هو مطالب باستجماع قوته وشحذها حتى يطيق الأداء.
وغالب من تكلم في هذا الباب لم يشر إلى أهمية تمارين العزيمة أي تحفيز الهمة لتقوى على المجاهدة في الأزمنة الفاضلة، مع أن الشرع أشار إلى ذلك باستحباب صوم شعبان لتتأهب النفس وتقوى على صيام رمضان بسهولة.
وكان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في قيام الليل أن يبدأ بركعتين خفيفتين حتى تتريض نفسه ولا تضجر.
وأشار الشاطبي في الموافقات إلى أن السنن والنوافل بمثابة التوطئة وإعداد النفس للدخول في الفريضة على الوجه الأكمل.
وكثير من الناس يعقد الآمال بفعل جملة من الطاعات في شهر رمضان فإذا ما أتى الشهر (أصبح خبيث النفس كسلان) وذلك لأنه لم يحل عقدة العادة والكسل والقعود.
فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} .

والعزيمة لا تكون إلا فيما لا تألفه النفوس أو لا تحبه فتحتاج النفس إلى المجاهدة في معرفة فضل ذلك العمل المكروه إليها ثم في مجاهدة وإرادات العجز والكسل، ولذلك قال الله عن الجهاد: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } .
وتمارين العزيمة من صميم القيام بحق شهر رمضان وتحصيل المغفرة فيه لأنه لا قوة للنفس ما لم تُعد العدة للطاعة قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُم
قال ابن الخراط- في كتابه الصلاة والتهجد- كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز- رحمهما الله-: أما بعد، فإنه من حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر، ومن نظر العواقب نجا، ومن أطاع فهو أفضل، ومن حلُم غنم، ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم، فإذا ندمت فأقلع، وإذا جهلت فَسَلْ، وإذا غضبت فأمسك، واعلم أن أفضل الأعمال ما أُكرهم النفسُ عليه. وقد اعترض بعض العلماء بظاهر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المُنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى" (1) ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اكفلوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا" (2) ، وبالحديث الآخر: "ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر أو كسل فليقعد" (3) ، ولم يُرد - عليه السلام - ألا تعمل حتى تنشط بحسك للعمل، وحتى تقبل عليه وتبادر إليه، فإن النفس كسلى ثقيلة عن فعل الخير، بطيئة النهوض إلى أعمال البر، فلو لم تصلّ مثلاً حتى تدعوك نفسك للصلاة وحتى تنشط إليها وتخف عليها لما صليت إلا قليلاً، وربما لم تصل معها أبدًا، ولا قامت لك عن فراشها ولا تركت راحتها ولا لذيذ نومها.


(1) رواه البيهقي في السنن وفيه ضعف.
(2) (3) رواه البخاري ومسلم وأحمد.
 
التعديل الأخير:

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

وإنما أمر - عليه السلام - بالرفق وحذر من الإفراط في التعب الذي يقطع بصاحبه ويُقعده، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اكفلوا من الأعمال ما تطيقون" ما يدل على الاجتهاد ويبيح أخذ النفس بما تكره منه، فإن الإنسان قد يكره على الضرب (النوع) من العمل ويكسل عنه، فإذا كُلِّفهُ أطاقه وقام به وتحمل المشقة فيه مع كراهيته له وكسله عنه، فلا بد من الحمل على النفس وأخذها بالجد والكد، وتخويفها بأن تُسبق إلى الله عز وجل، وتحذيرها من أن يُستأثر دونها بما عند الله، وأن يصل العمل بالعمل والاجتهاد بالاجتهاد حتى يصل إلى الحد الذي حذر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي يخاف معه الانقطاع والانبتات، وفي الخير: "الخير عادة والشر لجاجة" (1) ، وقال أبو الدرداء لرجل يقال له صبيح: "يا صبيح تعود العبادة فإن لها عادة، وإنه ليس على الأرض شيءٌ أثقل عليها من كافر". وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - "ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر أو كسل فليقعد" فما أراد- والله أعلم- أن تصلي ما دمت على نشاط فإذا خالطك الكسل أن تترك الصلاة، وإنما أراد - صلى الله عليه وسلم - الكسل الذي لا يقدر معه صاحبه على شيء إلا بعد جهد جهيد وحمل على النفس شديد، حتى لو قيل مثلاً صلِّ وخذ كذا وكذا- لثواب حاضر يُعرض عليه ويُرغب فيه- لم يقدر فهذا هو الكسل الذي يُنهى صاحبه عن العمل معه مخافة الانقطاع وترك العمل، هذا أو نحوه، والله أعلم، والدليل على هذا القول تكلُّفه - عليه السلام - الصلاة حتى تشققت قدماه، وهذا إنما هو في النافلة وأما الفريضة فتُصلى على كل حال، في الصحة والمرض يصليهما قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا أو مكتوفًا أو كيف كان وكيفما أمكن أهـ. من كتاب الصلاة والتهجد لابن الخراط (1) .

ولعل هذا التحقيق النفيس قد جلّى لك كوامن أسرار، فكن منها على ذُكر فإن هذا المقام من أنفس ما تجده في كتب الزهد والرقائق والسلوك.
(لقد فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا، ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت همتهم على السفاسف فلا تراهم إلا صوامين قوامين، باكين والهين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشي بعلو همتهم في التوبة والاستقامة، وقوة عزيمتهم في العبادة والإخبات، وهاك طرفًا من عباراتهم وعباداتهم التي تدل على تشميرهم وعزيمتهم وهمتهم:
قال الحسن: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره.

(1) رواه ابن حبان مرفوعًا بإسناد حسن.
(1) "الصلاة والتهجد" (ص305) .
 
التعديل الأخير:

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

وقال وهيب بن الورد: إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل، وقال الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان التركستاني: ما بلغني عن أحد من الناس أنه تعبد عبادة إلا تعبدت نظيرها وزدت عليه.
وقال أحد العباد: لو أن رجلاً سمع برجل هو أطوع لله منه فمات ذلك الرجل غمًا ما كان ذلك بكثير.
وقيل لنافع: ما كان ابن عمر يفعل في منزله؟ قال: الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما.
وكان ابن عمر إذا فاتته صلاة الجماعة صام يومًا، وأحيا ليلة، وأعتق رقبة.
واجتهد أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - قبل موته اجتهادًا شديدًا، فقيل له: لو أمسكت أو رفقت بنفسك بعض الرفق؟ فقال: عن الخيل إذا أُرسلت فقاربت رأسَ مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلها أقلُّ من ذلك، قال: فلم يزل على ذلك حتى مات.
وعن قتادة قال: قال مورق العجلي: ما وجدت للمؤمن في الدنيا مثلاً إلا مثل رجلٍ على خشبة في البحر، وهو يقول: "يا رب يا رب" لعل الله أن ينجيه.
وعن أسامة قال: كان من يرى سفيان الثوري يراه كأنه في سفينة يخاف الغرق، أكثر ما تسمعه يقول: "يا رب سلّم سلّم".
وعن جعفر: دخلنا على أبي التياح نعوده، فقال: والله إنه لينبغي للرجل المسلم أن يزيده ما يرى في الناس من التهاون بأمر الله أن يزيده ذلك جدًا واجتهادًا، ثم بكى.
وعن فاطمة بنت عبد الملك زوج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: ما رأيت أحدًا أكثر صلاة ولا صيامًا منه ولا أحدًا أشد فرقًا من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه ثم ينتبه فلا يزال يبكي تغلبه عيناه، ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة فينتفض كما ينفض العصفور من الماء ويجلس يبكي فأطرح عليه اللحاف.
وعن المغيرة بن حكيم قال: قالت فاطمة بنت الملك: يا مغيرة، قد يكون من الرجال من هو أكثر صلاة وصيامًا من عمر ابن عبد العزيز ولكني لم أر من الناس أحد قط كان أشد خوفًا من ربه من عمر، كان إذا دخل البيت ألقى نفسه في مسجده، فلا يزال يبكي ويدعو حتى تغلبه عيناه، ثم يستيقظ فيفعل مثل ذلك ليلته جمعاء.
وعن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع أنه دخل على فاطمة بنت عبد الملك فقال: ألا تخبريني عن عمر؟ قالت: ما أعلم أنه اغتسل من جنابة ولا احتلام منذ استُخلِف.
وكان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة، ويصوم في الحر حتى يخضر جسده ويصفر، فكان علقمة بن قيس يقول له: لِمَ تعذب نفسك؟ فيقول: كرامتها أريد، وكان يصوم حتى يخضر جسده ويصلي حتى يسقط، فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا له: إن الله عز وجل لم يأمرك بكل هذا، فقال: إنما أنا عبد مملوك لا أدع من الاستكانة شيئًا إلا جئت به.
وقيل لعامر بن عبد الله: كيف صبرك على سهر الليل وظمأ الهواجر؟ فقال: هل هو إلا أني صرفت طعام النهار إلى الليل ونوم الليل إلى النهار؟ وليس في ذلك خطير أمر، وكان إذا جاء الليل قال: أذهب حرُ النار النوم، فما ينام حتى يصبح.
وعن الحسن قال: قال عامر بن قيس لقوم ذكروا الدنيا: وإنكم لتهتمون؟ أما والله لئن استطعت لأجعلنهما همًا وا حدًا، قال: ففعل والله ذلك حتى لحق بالله.
وعن أحمد بن حرب قال: يا عجبًا لمن يعرف أن الجنة تُزيَّن فوقه والنار تُسَعَّرُ تحته كيف ينام بينهما؟
وكان أبو مسلم الخولاني قد علق سوطًا في مسجد بيته يخوّف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي فوالله لأزحفن بك زحفًا، حتى يكون الكلل منك لا مني، فإذا دخلت الفترة (الفتور) تناول سوطه وضرب به ساقه، وقال: أنت أولى بالضرب من دابتي، وكان يقول: أيظن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يستأثروا به دوننا؟ كلا والله لُتُزاحمَنَّهم عليه زحامًا حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً.
وكان منصور بن المعتمر إذا رأيته قلت: رجلٌ أصيب بمصيبة، منكسر الطرف، منخفض الصوت، رطْب العينين، إن حركته جاءت عيناه بأربع، ولقد قالت له أمه: ماذا الذي تصنع بنفسك؟ تبكي الليل عامته لا تسكت؟ لعلك يا بني أصبتّ نفسًا، لعلك قتلت قتيلاً، فيقول: يا أماه، أنا اعلم بما صنعت نفسي.
وقال هُشيم تلميذ منصور بن زاذان: كان لو قيل له إن ملك الموت على الباب ما عنده زيادة في العمل.
وكان صفوان بن سليم قد تعقدت ساقاه من طول القيام، وبلغ من الاجتهاد ما لو قيل له: القيامة غدًا ما وجد مزيدًا، وكان يقول: اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي.
وعن موسى بن إسماعيل قال: لو قلت لكم إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكًا قط صدقْتُكم، كان مشغولاً بنفسه، إما أن يحدث وإما أن يقرأ وإما أن يسبح وإما أن يصلي، كان قد قسم النهار على هذه الأعمال.
وعن وكيع قال: كان الأعمش قريبًا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه أكثر من ستين سنة فما رأيته يقضي ركعة.
وعن حماد بن سلمة قال: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله عز وجل فيها إلا وجدناه مطيعًا، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصليًا، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوطئًا أو عائدًا أو مشيعًا لجنازة أو قاعدًا في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن يعصي الله عز وجل.

فهؤلاء هم أنموذج السالكين الصادقين.
فتشبهوا بهم إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
وهذه كانت سيرتهم في مجاهدة النفس ومغالبة الهوى فاستحضرها عند هبوب ريح الكسل وسل الله حسن العمل.
***

 

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

القاعدة الرابعة
نبذ البطالة والبطالين ومصاحبة ذوي الهمم



ليس هناك أشأم على السائر إلى الله من البطالة وصحبة البطالين، فالصاحب ساحب، والقرين بالمقارّن يقتدي.
(والبرهان الذي يعطيه السالكون علامة لصدقهم أنهم يأبون غلا الهجرة والانضمام إلى القافلة ويذرون كل رفيق يثبطهم ويزين لهم إيثار السلامة، ينتفضون ويهجرون كل قاعد، ويهاجرون مع المهاجرين إلى الله، ويطرحون أغلال الشهوات وحب الأموال عن قلوبهم) (1) .
ولما أراد قاتل المائة أن يتوب حقًا قيل له: اترك أرضك فإنها أرض سوء واذهب إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم. متفق عليه. فلابد لمن أراد تحصيل المغفرة من شهر رمضان أن يترك المُخْلِدين إلى الأرض ويزامل ذوي الهمم العالية كما قال الجنيد: سيروا مع الهمم العالية.
وقد أمر الله خير الخلق - صلى الله عليه وسلم - بصحبة المجدّين في السير إلى الله وترك الغافلين فقال عز من قائل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} ، وقال عز وجل: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ
الصَّادِقِينَ} .
فلو صحب الإنسان من يظنون أن قيام الساعة من الليل إنجاز باهر فهو مغبون لن يعْدُو قدره، بل سيظل راضيًا عن نفسه مانًّا على ربه بتلك الدقائق التي أجهد نفسه فيها ولكنه لو رأى الأوتاد من حوله تقف الساعات الطوال في تهجد وتبتل وبكاء (وهم مُتَقَالُّونْهَا) فأقل أحواله أن يظل حسيرًا كسيرًا على تقصيره مرددًا.
أنا العبد المخلَّفُ عن أُناسٍ - حوَوْا من كل معروفٍ نصيبا
ونبذ البطالة هجيري الناسك في كل زمان، وقد قيل: الراحة للرجالة غفلة.
وقال شعبة بن الحجاج البصري أمير المؤمنين في الحديث: لا تقعدوا فُراغًا فإن الموت يطلبكم.
وقال الشافعي: طلب الراحة في الدنيا لا يصح لأهل المروءات، فإن أحدهم لم يزل تعبان في كل زمان.
وقيل لأحد الزهاد: كيف السبيل ليكون المرء من صفوة الله؟ فقال: إذا خلع الراحة وأعطى المجهود في الطاعة.
وقيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال: عند أول قدم يضعها في الجنة.

أما البحث عن ذوي الهمم والمروءات وأصحاب السرِّ مع الله
فهي بُغية كل مخلص في سيره إلى الله، قال زين العابدين: إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه.
وقال الحسن البصري: إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، لأن أهلنا يُذّكّروننا بالدنيا وإخواننا يُذّكّروننا بالآخرة، قال شاعر:
لعمرك ما مالُ الفتى بذخيرة ولكنَّ إخوان الثقات الذخائرُ
وكان من وصايا السلف انتقاء الصحة، قال الحسن البصري: إن لك من خليلك نصيبًا، وإن لك نصيبًا من ذكر من أحببت، فاتقوا الإخوان والأصحاب والمجالس.
فاجتهد أيها الأريب باحثًا عن أعوان المسير أصحاب الهمم العالية، ابحث عنهم في المساجد بالضرورة، اسأل عنهم في مجالس التقاة، لا تستبعد المفاوز لتصل إليهم ولو اقتضى الأمر أن تعلن في الصحف السيارة.
(مطلوبٌ: معينٌ على الخير في شهر رمضان)
يا له من إعلان..
مع هذه الصحبة تتحاثون على تدارك الثواني والدقائق، تحاسبون أنفسكم على الزفرات والأوقات الغاليات، لو فرط أحدكم في صلاة الجماعة وجد من يستحثه على عقاب نفسه كما كان يفعل ابن عمر.
ترى البطالين يصلون التراويح سويعة ثم يسهرون ويسمرون ويسمدون وتضيع عليهم صلاة الفجر {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} .
لا أيها الرشيد، تعال أخبرْك بحال من اجتمعوا على السير إلى الله: أوقاتهم بالذكر وتلاوة القرآن معمورة، مساجدهم تهتز بضجيج البكاء من خشية الله، تراهم ذابلين من خوف الآخرة، وعند العبادة تراهم رواسي شامخات كأنهم ما خلقوا إلا للطاعة، ليس في قاموسهم: فاتتني صلاة الجماعة، دع عنك أصل الصلاة، تراهم في قيامهم وقعودهم مطأطئين على حياء من الله يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.
ليلهم، وما أدراك ما ليلهم؟ نحيب الثكالى يتوارى عند نشيجهم {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} صلاتهم في ظلام تُجلِّلُ بأنوار الكرامة، فهم في حللها يتبخترون، وببهاء مناجاتهم لربهم يتيهون، محى استغفار الأسحار سخائم قلوبهم، فهم في نعيم الأنس يتقلبون، وبلذيذ الخطاب يستمتعون، وهذا (الحفظي) يخبرنا:
والجنيد يقول طاحتْ كل عِلْمٍ وإشارهْ
ورسوماتٌ تلاشتْ وانمحت تلك العبارهْ
وركيعات توالتْ سحرًا فيها البشارهْ
ورأينا في المآل ذلك الكنز الدّفينا
فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعينا

واعلم أيها النبيه إن من تمام سعيك لتحصيل المغفرة من شهر رمضان أن تبحث لك عن شيخ مربّ أريبٍ، قد يكون ظاهرًا أو
خفيًا، قد يكون عالمًا أو طالب علم، ولكنك من لحظه ولفظه تعلم أنه صاحب سرّ مع الله، ومثل هؤلاء يشتهر أمرهم غالبًا بين الناس، وإن بالغوا في التخفي فلن تعدم من يدلك عليهم إذا أكثرت التسأل عنهم.
وشرط انتفاعك بهم أن يكونوا من أهل السنة والنسك السلفي، فهؤلاء هم أمنة الأمة وهداتها.
ومثل هؤلاء تنتفع بهديهم ودلهم وسمتهم وبفعالهم قبل أقوالهم، تراهم في الصلاة نموذجًا للرهبوت والتبتل والتنسك، تكبيرتهم في الصلاة وإن خفتت بها أصواتهم فكأنها صرخة في مجرات الكون بحقيقة أكبرية الله.
ركوعهم وسجودهم رمز السجود لكل الكائنات، إذا أبصرت عيناك عبادتهم وددت لو سبحت الخليقة كلها بتسبيحهم، ولعلها تفعل، أما قال الله عن داود: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} .
اللهم إنا نسألك صحبة الصالحين وألحقنا بهم في جنات النعيم.
***





(1) "الرقائق " للراشد (ص140) .
 
التعديل الأخير:

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

القاعدة الخامسة
إعداد بيان عن عيوبك وذنوبك المستعصية
وعاداتك القارة في سويداء فؤادك لتبدأ
علاجها جديا في رمضان وكذا إعداد
قائمة بالطاعات التي ستجتهد في
أدائها لتحاسب نفسك بعد ذلك عليها


قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا" رواه البخاري.
لأن همة أبناء الآخرة تأبى إلا الكمال، وأقل نقص يعدونه أعظم عيب، قال الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على التمام
وعلى قدر نفاسة الهمة تشرئب الأعناق، وعلى قدر خساستها تثَّاقل إلى الأرض، قال الشاعر:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وهذا رد على من يقول: ومن لنا بمعصوم عن عيب غير الأنبياء ويردد:
من ذا الذي ترجى سجاياه كلها كفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه

فإن هذه القاعدة في التعامل مع الناس، أما معاملة النفس (أيها الأريب) فهي مبنية على التهمة، وعلى طلب الكمال وعدم الرضا بالدون:
فإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسامُ

فذاك السالك دومًا يستكمل عناصر الإيمان، كلما علم أن ثمة ثلمة، يعزم لذلك عزمة (تأمل) فإذا شرع في الاستكمال، أدرك ضرورة الصفاء فيه، وأن يرفأ ويرتُق بجنس ما وهبه الله من خير آنفًا لئلاً يفضحه النشاز (وجود العيب مع خصال الحُسن) فيعزم لذلك عزمة أخرى فثالثلة تستدعي رابعة في نهضات متوالية حتى يصيب مراده (1) . (أي استكمال عناصر الإيمان) .
هذه العزمات المتوالية تستحثها في كل زمان، ولكن قد يتسرطن عيب ويتجذر ذنب وتتأصل عادة، ولا يجدي مع مثل هذا أساليب علاج تقليدية، إنما هي عملية جراحية استئصالية تتطلب حميةً متوفرة في شهر رمضان، وهِمةً شحذتها قبيل هذا الزمان المبارك، فما بقي إلا أن تضع مبضع العزيمة الحاد وبجلد وصبر على آلام القطع تستأصل تلك الأورام الناهشة في نسيج إيمانك وتقواك، لا تستعمل أي مخدر، فإن شأن المخدر أن يسافر بك في سمادير السكارى وأوهام الحيارى، فتفيق دون أن تدري بأي الورم لم يُستأصل بكامله، بل بقيت منه مُضغةٌ متوارية ريثما تتسرطن ثانية.

فإذا كنت مدخنًا أو مبلتى بالنظر أو الوسوسة أوالعشق فبادر إلى تقييد كل هذا البلاء وابدأ العمليات الجراحية في شهر رمضان ولا تتذرع بالتدرج الذي سميناه مخدرًا، بل اهجر الذنب وقاطع المعصية وابتُر العادة ولا تجزع من غزارة النزيف وشدة الآلام، فإنه ثمن العلاج الناجح، وضرورة الشفاء الباتّ الذي لا يغادر سقمًا.

ووجه كون شهر رمضان فرصة سانحة لعلاج الآفات والمعاصي والعادات، إنه شهر حمية أي امتناع عن الشهوات (طعام وجماع) والشهوات مادة النشوز والعصيان، كما أن الشياطين فيه تصفّد وهم أصل كل بلاء يصيب ابن آدم، أضف إلى ذلك: جماعية الطاعة، حيث لا يبصر الصائم في الغالب إلا أمةً تصوم وتتسابق إلى الخيرات فتضعف همته في المعصية وتقوى في الطاعة، فهذه عناصر ثلاثة مهمة تتضافر مع عزيمة النفس الصادقة للإصلاح فيتولّد طقس صحي وظروف مناسبة لاستئصال أي داء.

وقبل كل ذلك وبعده لا يجوز أن ننسى ونغفل عن ديوان العتقاء والتائبين والمقبولين الذي يفتحه الرب جل وعلا في هذا الشهر، وبنظرة عابرة إلى جمهور المتدينين تجد بداياتهم كانت بعبرات هاطلة في سكون ليلةٍ ذات نفحات من ليالي رمضان.

وما لم تتحفّز الهمم لعلاج الآفات في هذا الشهر لن تبقى فرصة لأولئك السالكين أن يبرأوا، فمن حرم بركة رمضان ولم يبرا من عيوب نفسه فيه، فأي زمان آخر يستظل ببركته.
وفي صحيح ابن خزيمة أن جبريل قال: "من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل آمين، فقلت: "أي النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: آمين". الحديث صحيح.
وروى البطراني بسند ضعيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بعدًا لمن أدرك رمضان فلم يغفر له، إذا لم يفغر له فمتى؟ " قال: وروى الطبراني بإسناد فيه نظر عن عبادة بن الصامت مرفوعًا: "أتاكم رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة ويحُطُّ الخطايا ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه ويباهي بكم ملائكته فأروا الله من أنفسكم خيرًا فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله" الحديث.

أما استحضار أنواع الطاعات وتقييدها وتوطين العزيمة على أدائها في رمضان فهو من أهم ما يُستعدُّ له في هذا الشهر، وعلى هذا الأصل تحمل كل النصوص الواردة في فضل رمضان والاجتهاد فيه، فمعظمها صريح أو ظاهر في أنه قيل قبل رمضان أو في أوله.
ويمنّي بعض الخياليين نفسه بأماني العزيمة التي لا تعدو أن تكون سرابًا يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.
فنراه يحلم أحلامًا وردية بأن يجتهد في هذا الشهر اجتهادًا عظيمًا، وتراه يرسم لنفسه صور الحلال وأُبهة الولاية، فإذا ما هجم الشهر، قال المسكين: اليوم خمر، وغدًا أمر.
ولو أن هؤلاء كانت لهم قبل شهر رمضان جولات في ميادين الاجتهاد في الطاعة لأنسوا من نفوسهم خيرًا لكنهم طمعوا في نوال القُرب ولما يستكملوا زاد المسير كمثل من ذهب إلى السوق بلا مال فلا يجهد إذا نفسه في المساومة بل يقال له: تنكب لا يقطرك الزحام.

لما قال أنس بن النضر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد غزوة بدر: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين، والله لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، ثم رووا لنا أنهم وجدوه في أحُد صريعًا به بضع وستون ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، علمنا ما أضمر الرجل.

ولما قال ذلك الصحابي: يا رسول الله ما بايعتك إلا على سهم يدخل ههنا فأدخل الجنة، قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن تصدُق الله يصدقُكُ" ثم رووا أن السهم دخل من موضع إشارته، علمنا ما عزم عليه الرجل
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغُر في عين العظيم العظائم
***​





(1) "العوائق" (ص38) .

 
التعديل الأخير:

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

القاعدة السادسة
الإعداد للطاعة ومحاسبة النفس عليها

واعلم أن الاستعداد للطاعة ومحاسبة النفس عليها وظيفتان متباينتان، لكنهما متداخلتان أي يتعاقبان ويتوارد أحدهما على الآخر.
أما الإعداد للعمل فهو علامة التوفيق وأمارة الصدق في القصد، قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} ، والطاعة لابد أن يُمهَّد لها بوظائف شرعية كثيرة حتى تؤتي أكلها ويُجتبني جناها، وخاصة في شهر رمضان حيث تكون الأعمال ذات فضل وثواب وشرف مضاعف لفضل الزمان.
فصلاة الجماعة لابد أن تسبق بإحسان الوضوء ونية صادقة حسنة في تحصيل الأجر وزيارة الله عز وجل في بيته وتعظيم أمره والبدار في تلبية ندائه (حي على الصلاة) والمسارعة في سماع خطابه والالتذاذ بمناجاته ولقائه.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الرجل في جماعة تَضعُفُ صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضعفًا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يُخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه ما لم يُحدث، تقول: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في الصلاة ما انتظر الصلاة" متفق عليه.
ويحتفُّ بهذا الإعداد في التطهر والنيات إعدادٌ نفسي للقْيا الله عز وجل، ويكون ذلك بأمور منها: ترداد الأفكار الشرعية الواردة عند الخروج من البيت والمشي إلى المسجد فإنها مهمة في حضور القلب ومنها عدم فعل ما يتنافى مع الوقار والطمأنينة أثناء المشي إلى المسجد كتشبيك الأصابع وكثرة التلفت والتطلع إلى المارة وزخارف وزهرة الدنيا (وخاصة في هذه العصور) وعدم الإسراع والسعي، وذلك أن المشي إلى الصلاة جزء هام ممهد للخشوع في الصلاة، لذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة" متفق عليه، وفي رواية لمسلم: "فإن أحدكم إذا كان يعمدُ إلى الصلاة فهو في صلاة"، ولا ينبغي أن يكثر من الضحك قبل الصلاة وبعدها فإنه يذهب لذة الخشوع ويقسي القلب ويحول بينه وبين الشعور بثمرة الطاعة.
وعند دخول المسجد لابد أن يدخله معظمًا مظهرًا الوجل من مهابة المكان وصاحبه، فإن المساجد منازل الرحمة ومهابط البركات، لذا شرع أن يقول الداخل إلى أي مسجد: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم.
فإذا دخل المسجد شرع في السنة الراتبة أو النافلة ريثما يقام للصلاة، وأهمية هذه السنة أو النافلة تكمن في تهيئتها وتمهيدها للفريضة لكمال الحضور فيها.
ثم يشرع في صلاة الفريضة مستحضرًا ما سنذكره عن وسائل تحصيل لذة الطاعة في الصلاة.
ومن جنس هذا الاستعدادُ لصلاة التراويح فإنها من أعظم العبادات في ليالي رمضان، ففي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، وعن أبي ذر قال: صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمضان فلم يقم بنا شيئًا من الشهر حتى بقي سبعٌ فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلت: يا رسول الله، لو نفلتنا قيام هذه الليلة (أي قمت بنا الليلة كلها) ، قال: فقال: "إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسِب له قيام الليلة" رواه أبو داود بإسناد صحيح.
ويشكو كثير من المواظبين على قيام الليل في رمضان من عدم لمسهم لثمرة هذه الصلاة مع اعتقادهم بأهميتها وسعيهم لبلوغ الغاية من أدائها.
والحق أن هذه الصلاة المهمة كغيرها تحتاج إلى إعداد وتهيئة، فيلزم الراغب في الانتفاع من صلاة التراويح إقلال الطعام للغاية، ويحبَّذ أن يأتي المسجد وفي بطنه مسُّ من جوع، فإنه مثمر جدًا في حضور القلب، وينبغي عليه أن يتطهر جيدًا ويلبس أحسن الثياب ويأتي الصلاة مبكرًا، وقبيح جدًا أن تفوته صلاة العشاء، فهذا دليل الحرمان وعدم الفقه في الدين، فإن صلاة العشاء في جماعة تعدل قيام نصف ليلة كما في الحديث، فوق كونها فريضة والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: "وما تقرب إليّ عبدي بأحب إليّ مما افترضته عليه" رواه البخاري.
ثم يستحضر القدوم على الله والوفادة إليه وانتهاز فرصة التعرض لرحمته ومغفرته والعتق من النار، ويذهب إلى المسجد يدفعه الشوق والرغبة في الفضل، ويكدره الحياء من الله وخوف الرد والإعراض، ويطلب مساجد أهل السنة حتى يُوهَبَ للصالحين إن كان من غير المقبولين ثم يستحضر ما ذكرناه من وظائف عند الدخول في الصلاة وأثنائها.

يتبع،،
 

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

أما محاسبة النفس على الطاعات فهذا من أنفع الوظائف التي يقوم بها العابدون في شهر رمضان، والأصل أن المحاسبة وظيفة لازمة للسالك طريق الآخرة، ولكنها تتأكد وتزداد في هذا الشهر.
والمحاسبة معناها: فحصُ الطاعة ظاهرًا وباطنًا، وأولاً وآخرًا، بحثًا عن الثمرة ليعرف مأتاها فيحفظَه، وقدرها فينميه، ووصولاً للنقص سابقًا، ليتداركه لاحقًا.
والمحاسبة تكون قبل العمل وأثناءه وبعده.
أما قبله فبالاستعداد له واستحضار ما قصّر فيه حتى يتلافاه، وأثناءه بمراقبة العمل ظاهرًا وباطنًا أوله وآخره، والمحاسبة بعد العمل بإعادة ذلك العمل.
وهذه المحاسبة إذا واظب عليها المرء صارت مسلكًا لا يحتاج إلى تكلّف ومعالجة وسيجد غِبَّ هذه المحاسبة وثمرتها تزايدًا في مقام الإحسان الذي سعى إليه كل السالكون وهي أن يعبد الله كأنه يراه.
ومثل هذه المحاسبة ينبغي أن تكون في الخفاء، يحاور نفسه وهواه ويعالج أي قصور بِلوم نفسه وتقريعها وعقابها على كسلها وخمولها.
ولا يُنصح بمداومة الاعتماد على أوراد المحاسبة الشائعة، وقد اختلف فيها الناس على طرفين، فمنهم من جعلها وسيلة دائمة للتربية، وطريقة ناجحة لتقويم النفس، ومنهم من بالغ ومنع منها مطلقًا واصفًا إياها بالبدعة، والحق التوسط، نعم هي وسلة لم ترد عن سلف هذه الأمة لكن تشهد لها نظائر في الشرع مثل عد التسبيح بالحصى ونحو ذلك مما ثبت عن الصحابة والتابعين، ثم إننا لا نقول بجواز الاعتماد على تلك الأوراد في كل الأحايين بل ننصح بها في بداية السير وأيضًا لا نُلزم بها أحدًا، ولكن من عوّل عليها في بداية سيره لكون نفسه متمردةً شمُوسًا فنرجو ألا يكون ثمة حرج، شرط عدم توالي اعتماده عليها.
والصواب تنشئة النفس على دوام المحاسبة الذاتية والمراقبة الشخصية، وتعويدها على العقاب عند الزلل، فإن هذا من شأنه أن ينقّي العبادة من أي حافز خارجي دخيل على النية الصالحة كرغبة في تسويد ورقة المحاسبة أو نحو ذلك. وقال الحفظي:
شارط النفس وراقب لا تكن مثل البهائم
ثم حاسبها وعاتب وعلى هذا فلازم
ثم جاهدها وعاقب هكذا فعل الأكارم
لم يزالوا في سجالِ للنفوس محاربينا
فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعينا
***
 

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

القاعدة السابعة
مطالعة أحكام الصوم وما يتعلق بشهر رمضان

وهذا من أكد الواجبات، فمفتاح السعادة ومنشور الولاية مرهون بالعلم الصحيح النافع الممهّد للعمل الصالح، وليس ثمة عمل صالح بدون علم نافع.
والعلم النافع ينادي على صالح العمل فإن أجابه وإلا ارتحل، وكما وجب على المصلي تعلم ما يقيم به صلاته وعلى المزكّي ما يخرج به زكاته وهلم جرا
فيقبح قبحًا شرعًا أن يتعرض الناسك لأجل مواسم الطاعات وهو مفلس من طرائق المنافسة فقيرًا في زاد المعاملة.
ولابد من معرفة أحكام الصوم وأعذاره وأركانه ومبطلاته ومباحاته وأحكام صلاة التراويح والاعتكاف، وفي حق المرأة أن تتعلم أحكام الصوم في حق الحائض والمستحاضة والنفساء والصوم في حق الحامل والمرضع.
وننصح بالكتب الآتية في تحصيل أحكام الصيام منها مع عدم الامتناع عن سؤال أهل العلم ومراجعتهم عند المشكلات:
1- "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (باب: هديه - صلى الله عليه وسلم - في الصوم) .
2- "صفوة الكلام في مسالك الصيام" لأبي إدريس محمد عبد الفتاح (رسالة مختصرة) .
3- "فقه السنة" للشيخ سيد سابق مع تمام المنة في التعليق على فقه السنة للشيخ الألباني.
وتجنب أيها الأريب التصدر للفتيا والتبرع بالإفادات حال كونك لست من أهل هذا الشأن، فإنه مشأمة لك ومظلمة لغيرك.
ومما تتأكد مطالعته ما يتعلق بفقه المعاملة مع الرب وما ينبغي فعله في المواسم، وننصح بكتاب "لطائف المعارف" للحافظ ابن رجب رحمه الله.
***
 
التعديل الأخير:

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

القاعدة الثامنة
إعداد النفس لتذوق عبادة الصبر

قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} .
فبعض الخليقة تجعل من مواسم الطاعة مرتعًا لنيل اللذات بكل أنواعها، وهو مرتع وخيم على صاحبه، إذ به يخرج من الشهر كما دخل بل أفسد، وتزداد المسافة بينه وبين حقيقة قصد الآخرة، وتتكاثف غيوم الشهوات حائلة بينه وبين الوصول إلى الله.
وإذا كان شهر رمضان هو شهر الصوم والصبر فما أحرانا أن نتذوق حقيقة الصبر لنتذوق حقيقة الصوم.
وأمامك أيها الساعي إلى الخيرات في هذا الشهر صبر عن المحارم، وصبر على الطاعات، ومع ذلك كله صبر على كل بلية تنالك.
وأنواع الصبر هذه هي أوسمة الولاية وقلادات الإماماة في الدين.
كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنما تُنال الإمامةُ في الدين بالصبر واليقين، واستدل بقول تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} .
قال ابن القيم رحمه الله (1) : "فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن أظهر معاني الصبر: حبس النفس على المكرمة وأنه من أصعب المنازل على العامة وأوحشها في طريق المحبة، وإنما كان صعبًا على العامة لأن العامي مبتدئ في الطريق وليس له دربة في السلوك وليس تهذيب المرتاض بقطع المنازل، فإذا أصابته المحن أدركه الجزع وصعب عليه احتمال البلاء وعز عليه وجدان الصبر لأنه ليس في أهل الرياضة فيكون مستوطنًا للصبر، ولا من أهل المحبة فيلتذ بالبلاء في رضا محبوبه[COLOR=#FF0000 !important][/COLOR]) أهـ.
مما نقلته لك تعلم أيها الحريص على النجاة أن شهر رمضان ميدانك الرحب لتمارس رياضة الصبر وأنت مُعانٌ في كل فجِ.
فعين الله تصنعك، والأبالسة في أصفادها ترمقك، ونفسك ستراها إلى الخير وثابة وعن الشر هيّابة، فلم يبق إلا أن تعالج الخطرات والوساوس الوالجات في حنايا قلبك، ليت شعري ما أشبه قلبك بالمريض في غرفة العناية المركزة، إنه محروم من كل طعام يفسد دورة علاجه، بل محروم من مخاطبة أقرب الأقربين لتتفرغ أجهزة جسمه للانتعاش واسترداد العافية، ثم إنه يتنفس هواءً معقمًا خاليًا من كل تلوث، وتدخل في شرايينه دماء نقية لتمده بأسباب القوة، ويقاس نبضه ودرجة حرارته كل حين ليتأكد الطبيب من تحسن وظائف جسمه، فما أحرى هذا القلب السقيم الذي أوبقته أوزاره، وتعطن بالشهوات، وتلوث بالشبهات، وترهل بمرور الشهور والدهور دون تزكية وتربية، ما أحراه أن يدخل غرفة العناية المركزية في شهور رمضان، فتكون كل إمدادات قوته مادة التقوى وإكسير المحبة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وطاعتهما.
فلتصدر مرسومًا على نفسك أن تلزم جناب الحشمة في هذا الشهر أمام شهوة البطن وغيره، فإن أعلنت عليك التمرد فلا تتردد في فرض الأحكام الاستثنائية وأصدر قرارًا باعتقال هذه النفس الناشز وأدخلها سجن الإرادة حتى تنقاد لأوامرك إذا صدرت، فإن ازداد تمردها وتجرأت في ثورتها فألهب ظهرها بسياط العزيمة وعنفها على مخالفتها أمرك وعصيانها إرادتك، فإن أبت إلا الشرود فلوّح لها بحكم الإعدام وأنها ليست عليك بعزيزة، فإن تمنعت إدلالاً وطمعًا في عطفك فلابد من تنفيذ حكم الإعدام في ميدان العشر الأواخر بحبسها في معتكف التهذيب حتى تتلاشى تلك النفس المتمردة وتفنى، وتتولد في تلك الليالي والأيام نفس جديدة وادعة مطمئنة تلين لك عند الطاعات إذا أمرتها، وتثور عليك عند المعاصي إذا راودتها، فقد وُلدت ولادة شرعية في مكان وزمان طاهرين ونشأت وتربَّت في كنف الصالحين، فلن تراها بعد ذلك إلا على الخير.
إنها ولادةٌ لنفس ذات إمامة في الدين، تنشأت على مهد الولاية، وترفِّت في سلك الرهبوت والتبتل.
***​

(1) "التهذيب" (2/566) .
 

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

القاعدة التاسعة
كيفية تحصيل حلاوة الطاعات

أما كون الطاعة ذات حلاوة فيدل له قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً" (1) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" (2) ، ولما نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عن الوصال قالوا: إنك تواصل، قال: "إني لست كهيئتكم، إني أُطعم وأُسقى" (1) ، وفي لفظ: "إني أظل عند ربي يُطعمني ويسقيني" (2) ، وفي لفظ: "إن لي مُطعمًا وساقيًا يسقيني" (3) ، قال ابن القيم: وقد غلُظَ حجاب من ظن أن هذا طعام وشراب حسي للفم، ثم قال: والمقصود أن ذوق حلاوة الإيمان والإحسان أمر يجده القلب تكون نسبته إليه كنسبة ذوق حلاوة الطعام إلى الفم. أهـ.
واعلم أولاً أيها السالك في مرضاة إلهك أن كلمات القوم في هذا الباب رسوم، وإرشاداتهم في هذا الباب عموم، ولا تبقى إلا الحقيقة الثابتة في نفسها، وهذه لا ينالها إلا من أناله الله إياها، ومن ذاق عرف، فكن من هذا على ذكر، لأننا سنسوق إليك كلامًا لا يفهمه غليظ الحجاب كثيف الرين، فإن استعصى عليك الفهم فلن نبادر إلى اتهام صلتك بالله، بل نقول أتمم قراءة الباب ونفذ ما سنوصيك به ثم أعد قراءة هذه السطور فإن وجدت الأمر كما وصفنا فاحمد الله الذي أذاقك طعم الإيمان وحلاوة الطاعة.
بدءًا يجب أن تعلم (أن الفكر لا يُحَدُّ واللسان لا يصمت، والجوارح لا تسكن، فإن لم تشغلها بالعظائم شُغلت بالصغائر وإن لم تُعملها في الخير عملتْ في الشر.
إن في النفوس ركونًا إلى اللذين والهين ونفورًا عن المكروه والشاق، فارفع نفسك ما استطعت إلى النافع الشاق وروّضها وسُسها على المكروه الأحسن، حتى تألف جلائل الأمور وتطمح إلى معاليها، وحتى تنفر عن كل دنية وتربأ عن كل صغيرة، علِّمها التحليق تكره الإسفاف، عرِّفها العزة تنفر من الذل، أّذِقْها اللذات الروحية العظيمة تحقر اللذات الحسية الصغيرة) (1) .
ودومًا نلح على علو الهمة باعتبارها عنصرًا جوهريًا في أي سعي عظيم، وأي سعي أعظم من سعي الآخرة، قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} .
ثم اعلم- علمت كل خير- أن حلاوة الطاعة ملاكها في جمع القلب والهم والسر على الله ويفسره ابن القيم قائلاً: هو عكوف القلب بكليته على الله عز وجل، لا يلتفت عنه يمنة ولا يسرة، فإذا ذاقت الهمة طعم هذا الجمع اتصل اشتياق صاحبها وتأججت نيران المحبة والطلب في قلبه.. ثم يقول: فلله همةُ نفس قطعت جميع الأكوان وسارت فما ألقت عصا السير إلا بين يدي الرحمن تبارك وتعالى فسجدت بين يديه سجدة الشكر على الوصول إليه، فلم تزل ساجدة حتى قيل لها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} ، فسبحان من فاوت- بين الخلق في- هممهم حتى ترى بين الهمتين أبعد ما بين المشرقين والمغربين بل أبعد مما بين أسفل سافلين وأعلى عليين، وتلك مواهب العزيز الحكيم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ثم يقول: وهكذا يجد لذة غامرة عند مناجاة ربه وأنسًا به وقربًا منه حتى يصير كأنه يخاطبه ويسامره، ويعتذر إليه تارة ويتملقه تارة ويثني عليه تارة حتى يبقى القلب ناطقًا بقوله: (أنت الله الذي لا إله إلا أنت) من غير تكلف له بذلك بل يبقى هذا حالاً له ومقامًا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه" (1) ، وهكذا مخاطبته ومناجاته له، كأنه بين يدي ربه فيسكن جأشه ويطمئن قلبه فيزداد لهجًا بالدعاء والسؤال، تذللاً لله الغني سبحانه، وإظهار لفقر العبودية بين يدي عز الربوبية، فإن الرب سبحانه يحب من عبده أن يسأله ويرغب إليه، لأن وصول بره وإحسانه إليه موقوف على سؤاله، بل هو المتفضل به ابتداءًا بلا سبب من العبد ولا توسط سؤاله، بل قدَّر له ذلك الفضل بلا سبب من العبد، ثم أمره بسؤال والطلب منه إظهارًا لمرتبة العبودية والفقر والحاجة واعترافًا بعز الربوبية وكمال غنى الرب وتفرده بالفضل والإحسان، وأن العبد لا غنى له عن فضله طرفة عين، فيأتي بالطلب والسؤال إتيان من يعلم أنه لا يستحق بطلبه وسؤال شيئًا، ولكن ربه تعالى يحب أن يُسأل ويُرغب إليه ويطلب منه.. ثم قال: فإذا تم هذا الذل للعبد: تم له العلم بأن فضل ربه سبق له ابتدءًا قبل أن يخلقه، مع علم الله سبحانه ربه وتقصيره وأن الله تعالى لم يمنعه علمه بتقصير عبده أن يقدر له الفضل والإحسان، فإذا شاهد العبد ذلك اشتد سروره بربه وبمواقع فضله وإحسانه، وهذا فرح محمود غير مذموم قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} أهـ (1) .
وهذا كلام راقٍ يحتاج إلى تَرْدادٍ لفهمه، وتجْوالٍ في حنايا نظمه:
فأدِمْ جرَّ الحبالِ تقطع الصخر الثَّخينا
ولكننا لا ندعك للرسوم والإشارات وعموم تلك العبارات، بل نَلِجُ بك إلى واقع عملي تكابد به حقائق الخدمة، وتتجلى لك من ورائه دقائق علم السلوك، فتستغني- أيها النابه العابد- بالمثال الواحد عن ألف شاهد.
فهاك جملة من الطاعات التي يؤديها كل الناس، ولننظر كيف يجب أن تؤدي وتقام.
***​

(1) رواه أحمد ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(1) ، (2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري وأبو داود.
(1) "لعبد الوهاب عزام عن الرقائق".
(1) رواه البخاري ومسلم.
 

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

القاعدة العاشرة
إحياء الطاعات المهجورة والعبادات الغائبة
شأن التجارة الرابحة مع الله أن تتناول كل مراضيه، والذي يفتش عن مردات إلهه ومحابه فيأتيها هو الحاذق في تجارته مع ربه عز وجل.
وقد اعتاد الناس عباداتٍ معينة ظنوها هي وحدها الأبواب المفتوحة إلى الله، لكن بنبغي أن يكون الساعي في مرضات ربه بحّاثًا عن المسالك المهجورة والأبواب البعيدة ذات الطرق الوعْرة التي تنكبت عنها إرادات الناس كسلاً أو عجزًا.
فمن تلك الطاعات التي غفل عنها الناس وأهملوها ولم نجد من يحافظ عليها إلا القليل، الاستغفار بالأسحار، وهي عبادة الصادقين قال تعالى: {والله بصير بالعباد الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار} .
والسحر هو آخر الليل، وهو وقت السحُّور، لذا استُحب أن يطعم مريد الصوم في هذا الوقت، ثم يستحب له أن يُبقى وقتًا يسيرًا قبل الفجر للاستغفار وطلب العفو والصفح والعتق من النار، وهذا الوقت زبدة الأوقات العامرة وخلاصة الأزمنة السائرة، تتصل الأرض بالسماء، ويعبق ليل المتهجدين بأنفاس الملائكة المُنزلة والألطاف الهاطلة، ويكون النزول الإلهي (1) المهيب في الثلث الأخير من الليل حيث الأقدام مصفوفة في محاريب التبجيل، والمآقِي مُغرورِقة فرحًا بقرب الكبير الجليل، والأيادي مرفوعة بالأدعية والتراتيل، والألسنة لهجة بالذكر وتلاوة التنزيل.
ومن تلك العبادات المهجورة: عبادة التفكر والتأمل في مخلوقات الله وعجائب قدره، والتدبر في أسمائه وصفاته وآلائه ونعمته قال تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار} ، وقال تعالى: {إن في خلق السموات والأرض والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} ، وقال تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمت البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون. وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرًا نخرج منه حبًا متراكبًا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهًا وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} ، وقال تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتًا ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} .
وغير ذلك من الآيات الدالة على قدرة الله الداعية إلى التفكر والتدبر والتأمل فيها.
واعلم أن هذه العبادة هي أصل طريق اليقين في الله عز وجل، وبهذا التدبر يثبت بالضرورة في الذهن وجود الرب الخالق المدبر ومن ثمَّ إلهية هذا الرب المدبر واستحقاقه للعبادة دون غيره، وبهذا التقرير خاطب الله عز وجل المشركين مطالبًا إياهم بأن يتفكروا في هذه الحقائق، قال تعالى: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} . وقال تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون. فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون} .
واعلم أيضًا أن هذه العبادة من أعظم ما يقرب الإنسان من ربه ويوقفه على جلاله وعظمته بل هي العلم الذي أشار الله عز وجل إليه باعتباره موصّلاً لخشية الله، قال تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفًا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود. ومن الناس والدواب والأنعم مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور} .
ومن تلك العبادات الغائبة بين الناس عبادة التبتل، أي الانقطاع إلى الله.
(قال تعالى: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً} والتبتل: الانقطاع وهو تفعل من البتل وهو القطع، وسميت مريم البتول لانقطاعها عن الأزواج، وعن أن يكون لها نظراء من نساء زمانها ففاقت نساء الزمان شرفًا وفضلاً، وقُطعت منهن، ومصدر بتل: تبتلاً كالتعلّم والتفهّم ولكن جاء على التفعيل مصدر- تفعّل- سر لطيف، فإن في هذا الفعل إيذانًا بالتدريج والتكلّف والتعمّل والتكثّر والمبالغة، فأتى بالفعل الدال على أحدهما وبالمصدر الدال على الآخر، فكأنه قيل: بَتِّل نفسك إليه تبتيلاً، وتبتّل إليه تبتُّلاً، ففُهم المعنيان من الفعل ومصدره، فالتبتل الانقطاع إلى الله بالكلية) (1) .

ومثل هذه العبادة تلازم الإنسان في كل زمان ومكان لا تنفك عنه، فهو بين الناس بجسمه ولكن روحه تطوف حول العرش، يكلمهم بمحياه ولسانه، لكن مشاهدة عظمة الله وجلاله في سويداء جنانه. يفرح مع الناس لفرحهم، لكن قلبه قد مُلئ وجلاً وخوفًا وخشية من ربه، يحزن مع الناس لحزنهم ولكن فؤاده قد ملئ أنسًا ورضًا وحبورًا بما قضى الله وقدر، إنه ذلك الحاضر الغائب الموجود المفقود بين الهياكل والصور والأجسام والغِيَر.

ومن العبادات المهجورة في هذا الشهر عبادة الصدقة والإنفاق، وهي من أرجى الطاعات عند السالكين، والفقه فيها عظيم أثرهُ في النفس. في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجودُ بالخير من الريح المرسلة".
قال الشافعي رحمه الله: أُحبُّ للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم وتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم.

وليس المقصود كثرة المُنفق، بل كثرة الإنفاق أي فعله وإن قل المال، ورب درهم ينفقه امرؤٌ من درهمين يملكهما أحب إلى الله من مائة ينفقها مّنْ يملك الآلاف، قال - صلى الله عليه وسلم -: "سبق درهم مائة ألف درهم: رجل له درهمان أخذ أحدهما فتصدق به، ورجل له مال كثير فأخذ من عرضه مائة ألف فتصدق بها" رواه النسائي عن غيره وهو حديث حسن.
وقد خرج أبو بكر من ماله كله وترك لأهله الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وخرج عمر من نصف ماله، وتصدق عبد الرحمن بن عوف بقافلة قدمت المدينة بأحلاسها وأقتابها.
وأدبُ المتصدق أن يعلم منةَ الله عليه إذ رزقه المال ثم وفقه للصدقة ويسر له من يقبل منه صدقته ثم تلقاها منه ربه وقبل منه ما رزقه.
بمنة العبد فيها، فيعمل على إخفائها أو إرسالها مع قريب له أو نحو ذلك.
وكان بعض السلف إذا أعطى الصدقة وضعها على كفه وناولها للفقير على يده مبوسطة حتى يتناولها الفقير بنفسه، فقيل له في ذلك! فقال حتى تكون يده هي اليد العليا، يشير إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "واليد العليا خير من اليد السفلى" وهذا من لطيف ما يقوم به أولئك الأكابر. والله الموفق.
ومن الطاعات المهجورة بل من أعظمها تحديث النفس بالغزو والجهاد، وخاصة في شهر رمضان شهر المعارك الكبرى كبدر وفتح مكة وغيرهما، بل إن المتبادر من الحديث أن هذه الطاعة واجبة لا يجوز الانفكاك عنها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من مات ولم يغزُ ولم يُحدِّث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق". رواه أحمد ومسلم، فالظاهر وجوب أحد الأمرين حتى يبرأ من هذا النفاق.
وفائدة تحديث النفس بالغزو: إحياء معاني الجهاد والعزة والولاء والنصرة للدين والبراءة من الكفر والشرك ومعاداة أهله، والوصول بالنفس إلى أعلى مراتب البذل وهو بذل الأرواح والمُهَج في سبيل الله.
ولقد هجرت هذه المعاني حتى صارت بين الملتزمين فضلاً عن المسلمين نسيًا منسيًا، وما أجدرنا أن نعاود إحياء هذه المعاني في هذا الشهر المبارك شهر الصبر والبذل وجهاد النفس.
فهذه بعض نماذج من العبادات المهجورة الغائبة، ولو تأملت قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان بضع وستون شعبة أو بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" لعرفت كم ضيع الناس من شعب الإيمان العملية وطرق الخير الموصلة لرضا الرب تبارك وتعالى، والله المستعان.
***​
وأن يتصدق بأفضل ما عنده {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وأن يتلطف في إعطائها للفقير أو المحتاج حتى لا يشعرومثل هذه العبادة تلازم الإنسان في كل زمان ومكان لا تنفك عنه، فهو بين الناس بجسمه ولكن روحه تطوف حول العرش، يكلمهم بمحياه ولسانه، لكن مشاهدة عظمة الله وجلاله في سويداء جنانه. يفرح مع الناس لفرحهم، لكن قلبه قد مُلئ وجلاً وخوفًا وخشية من ربه، يحزن مع الناس لحزنهم ولكن فؤاده قد ملئ أنسًا ورضًا وحبورًا بما قضى الله وقدر، إنه ذلك الحاضر الغائب الموجود المفقود بين الهياكل والصور والأجسام والغِيَر.
ومن العبادات المهجورة في هذا الشهر عبادة الصدقة والإنفاق، وهي من أرجى الطاعات عند السالكين، والفقه فيها عظيم أثرهُ في النفس. في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله
(1) "تهذيب مدارج السالكين" (1/742) .



(1) في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ ".
 
التعديل الأخير:

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

القاعدة الحادية عشرة
معرفة قطاع الطريق إلى الله
ها أنت قد شمرت عن ساعد الجد، وحثثت الهمة الخاملة، وأوقدت نار العزيمة الخامدة، وألجمت هواك بلجام الإرادة وجمعت رقاب الأماني بزمام التوكل على الله في الفعل، وبدأت السير إلى الله عز وجل لتصل إلى شهر رمضان وقد توقَّدت عزيمتك وانقادت لك إرادتُك وأذعنت لك همتُك.
لقد بدأت المعركة الحقيقية مُذ تمحّض اختيارك لله وجدَّ سيرك إليه ويممت القلب والقالب في الإقبال عليه، فاحذر حينئذ قطّاع هذا الطريق الوعر، فإنه طريق الجنة، وهو محفوف بالشهوات والهوى والشياطين والنزغ والشبهات، وكلها أنواع لجنس واحد، وهو العائق عن الوصول لدرب القبول المؤِذن لشمس عزمك بالأُفول.
فتعال معًا نتذاكر صفات بعض هؤلاء القطاع ومكامنهم، وخدعهم، فبذلك تتعلم صفة الشر لتتجنبه.
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقّيه ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه
والمقصود بيان نماذج من هؤلاء القطّاع ليستدل بهم على غيرهم فمن هؤلاء القطاع: الفتور والسآمة والملل، وهو من أعظم ما يعتري السالكين، وقدي تعاظم أمره ويستفحل حتى يكون سببًا للردة والنكوص والعياذ بالله.
وغالب شأن هذا الفتور من كثرة الفرح بالطاعة وعدم الشكر عليها ورؤية منة الله فيها ومشاهدة النفس في أدائها، قال ابن القيم رحمه الله واصفًا ومحللاً ومعالجًا لهذا الداء: (فإذا نسي السالك نفسه وفرح فرحًا لا يقارنه خوف فليرجع إلى السير إلى بدايات سلوكه وحدة طلبه، عسى أن يعود إلى سابق ما كان منه من السير الحثيث الذي كانت تسوقه الخشية، فيترك الفتور الذي لابد أن ينتج عن السرور.
فتخلل الفترات للسالكين أمر لازم لابد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد ولم يخرجه من فرض ولم تدخله في محرّم: رجي له أن يعود خيرًا مما كان.
قال عمر بن الخطاب: إن لهذه القلوب إقبالاً وإدبارًا فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل وإن أدبرت فألزموها الفرائض.
وفي هذه الفترات والغيوم والحجب التي تعرض للسالكين من الحِكَم ما لا يعلم تفصيله إلا الله، وبهذا يتبين الصادق من الكاذب، فالكاذب ينقلب على عقبيه ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه، والصادق ينتظر الفرج ولا ييأس من روح الله ويُلقي نفسه بالباب طريحًا ذليلاً مسكينًا مستكينًا، كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه ألبتة ينتظر أن يضع فيه مالك الإناء وصانعه ما يصلح له، لا بسبب من العبد- وإن كان هذا الافتقار من أعظم الأسباب- لكن ليس هو منك، بل هو الذي منّ عليك به، وجرّدك منك وأخلاك عنك وهو الذي: {يحول بين المرء وقلبه} .
فإذا رأيته قد أقامك في هذا المقام فأعلم أنه يريد أن يرحمك ويملأ إناءك، فإن وضعت القلب في غير هذا الموضع فاعلم أنه قلب مُضيَّع فسل ربه ومن هو بين أصابعه أن يردّه عليك ويجمع شملك به.
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن لكل عامل شِرَّة ولكل شرة فَترة" فالطالب الجاد لابد من أن تعرض له فترة فيشتاق في تلك الفترة إلى حالة وقت الطلب والاجتهاد.
وربما كانت للسالك بداية ذات نشاط، كان فيها عالي الهمة، فيفيده عند فتوره أن يرجع إلى ذكريات تلك البداية فتتجدَّد له العزيمة، ويعود إلى دأبه في الشكر.
وكان الجنيد رحمه الله كثير الذكر لبداية سيره، وكان إذا ذكرها يقول: واشوقاه إلى أوقات البداية. يعني لذة أوقات البداية وجمع الهمة على الطلب والسير إلى الله والإعراض عن الخلق. أهـ من تهذيب مدارج السالكين.
أما إذا راودتك السامةُ في عبادتك، كصلاة أو ذكر أو تلاوة قرآن فلا تُرسل زمام هواك للشيطان محتجًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فوالله إن الله لا يملّ حتى تملوا"، وقد ذكرنا لك في تمارين العزيمة فقه هذا الحديث ونحوه عن الأئمة الأعلام، فحريٌ بمن ملّ العبادة أن يعود إلى نفسه هلعًا وخوفًا من أن يكون ذلك من إعراض الله عنه.
وليستحضر في قلبه سوء أدبه مع الله وعدم تعظيمه وقدره حق قدره إذ تطيب نفسه مع شهوات الدنيا ومعافسة الأولاد والزوجات للساعات الطوال ثم هو يُبتلى في عبادته بالملل بعد لويحظات معدودات.
وما روي عن بعض السلف من أنهم كانوا يتكدرون لطلوع الفجر لأنه يحول بينهم وبين لذيذ المناجاة فيُحمل على أنهم يحزنون لعدم تواصل لذة المناجاة لا أنهم كانوا يكرهون طلوع الفجر ويقدّمون قيام الليل على الفريضة، فهذا أبعد ما يكون عن هديهم ومتواتر سيرتهم، كيف وهم يعلمون أن قرآن الفجر مشهود تحضره الملائكة وترفع أمره إلى الله.
ومن قطاع الطريق إلى الله: الوساوس والخواطر الرديئة التي ترد على السالك طريق الآخرة، وتشمل هذه الخواطر الرديئة ما يرد على المبتلين بالشهوات من التفكير في الصور وفيما يعشقون ومن يهوون وكذا أصحاب الحقد والحسد والأمراض والآفات النفسية، وكلها انحرافات سلوكية، أي في السالك طريق الآخرة، ومن أعظمها خطرًا وسواس الشبهات في وجود الله وذاته وصفاته، وهذا مما ابتلى به كثير من شباب هذه العصور لغلبة الأفكار الإلحادية والعلمانية المبنية على المادة والتفسير العلمي لكل الظواهر الكونية وشيوع الفحشاء والشهوات الصارفة للقلوب عن ممارسة عبوديتها في التسليم والإذعان، وتحليلاً للخواطر يمكننا تقسيمها إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: خواطر الشبهات وهي العارضة في شأن وجود الله وذاته وصفاته وفي قرآنه وأنبيائه ورسله وقضائه وقدره.
النوع الثاني: خواطر الشهوات وهي واردات الذهن من الصور ونماذج المعشوقات.
النوع الثالث: خواطر القلب من آفات وأمراض نفسية كالكبرياء والعجب والحقد والحسد.

وعلاج النوع الأول باستحضار اليقين، وكلامنا مع من اعتقد وجود الله، أما الملحد فلا خطاب معه، وعندي أن الإلحاد هو النوع الوحيد من الجنون الذي يؤاخذ الإنسان به، فمن أيقن وجود الله وربوبيته وهيمنته وتصرفه وعدله وحكمته مثَّل هذا اليقين بالشمس يراها ثم يستعرض الشبهات ويمثلها بمن يماريه في رؤيته للشمس، ويجادله في الدليل المفيد لطلوعها، حينئذ يردد قوله عز وجل: {أفي الله شك فاطر السموات والأرض} ، ويردد قوله: آمنت بالله، ويستعيذ بالله من نزغ الشيطان معتصمًا بالله لائذًا بحفظه وكلاءته، متعجبًا من تفاهة شبهته:
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
 
التعديل الأخير:

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

أما النوع الثاني وهو الأعم الأفشى بين الناس، وعلاجه من أصعب العلاجات لكننا نأتي على ذِكر جملةٍ من الفوائد المهمة المُجتثة لهذا المرض من جذوره.
فاعلم أيها الأريب أن الشهوات في أصلها فطرية قدرية لا فكاك للعبد منها، فهو مفطور على الغضب واللذة وحب الطعام والشراب، غير أن هذه الشهوات رُكزت في الجبلة لغايات هي حفظ النفس بالطعام ورد الاعتداء وصيانة الذات بالغضب وحفظ النسل باللذة (أعني شهوة الفرج) فإذا تعدّت هذه الشهوات غاياتها كانت وبالاً على أصحابها، ولذلك جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التنبيه على حفظ الفرج والبطن واللسان وأنه من أعظم أسباب النجاة والفوز.
فإذا علمت ذلك تبين سلطانك على هذه الشهوات، وأن الله عز وجل قد أمرك في الحقيقة عليها، وأعطاك زمام قيادتها فما عليك إلا ممارسة هذه الإمارة دون خوف أو تباطؤ.
وحسم مادة الشهوات يكون بحسم موارد حياتها، وأهم تلك الموارد حب الدنيا والرغبة في نوال كل ما يراه من جميل فيها، فقطع شجرة الدنيا من القلب كفيل بصرف الهمة مطلقًا عن الدنيا والاهتمام بما تحصل به النجاة.
وهاك بعض الفوائد المعينة على حسم مادة الشهوة وصرف واردات الخواطر الشهوانية:
أولاً: التبرؤ من حول النفس وقوتها والالتجاء والاعتصام والاستعاذة بالله، ومن جليل ما ينبغي ترداده في حق المبتلى بالشهوة "لا حول ولا قوة إلا بالله" ومعناها: لا تحوّل عن معصيةٍ إلا بمعونة من الله ولا قوة على طاعة إلا بتوفيق من الله.
ثانيًا: تذكر المنغّصات: سكرات الموت، نزع الروح، القبر وأهواله، سؤال الملكين، البعث والنشور وأهوال يوم القيامة، والمثول بين يدي الله عاصيًا مذنبًا والنار وأهوالها.
ثالثاً: تذّكر المشوقات: كلذة المناجاة وتوفيق الله للطاعة وشرف الولاية والانتساب إلى حزب الله والكرامات اللائقة لأوليائه عند موتهم ودخولهم الجنة وما فيها من الحور العين اللائي لا تقارن الدنيا كلها بأنملة من أنامل الواحدة منهن، ورؤية الله عز وجل يوم القيامة ورضوانه على أهل الجنة.
رابعًا: تذكر جمال خالق الجمال البشري، الذي سماه الرسول - صلى الله عليه وسلم - جميلاً، فكل جمالٍ فُتن به المرء لو قُرن بجمال الله عز وجل لتلاشت كل خواطره الرديئة.
خامسًا: تذكّر مثالب الصور المعشوقة وآفاتها وأمراضها وفساد بواطنها وظواهرها.
سادسًا: البعد عن المثيرات كالسير في الطرقات العامة (وخاصة في هذه الأزمنة وفي أماكن الفجور والفسوق) أو مشاهدة التلفاز والفيديو والمجلات والجرائد الساقطة التي تهدف غواية النفوس المطمئنة وتحت أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
ومن هذا القبيل عدم المكوث في خلوة إذا طرأ عارض الشهوة، بل يشتغل بالصوارف التي تلهيه عن تلك الخواطر كذكر الله وزيارة الصالحين وحضور مجالس العلم أو خدمة الأهل والمسلمين.
وينصح ابن القيم بما يلي:
(1) العلم الجازم بإطلاع الرب سبحانه ونظره إلى قلبك وعلمه بتفصيل خواطرك.
(2) حياؤك منه.
(3) إجلالك له
أن يرى مثل تلك الخواطر في البيت الذي خلقه لتُسكِنَه معرفته ومحبته.
(4) خوفك منه
أن تسقط من عينه بتلك الخواطر.
(5) إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته.
(6) خشيتك أن تتولد تلك الخواطر ويتسرع شررها فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبة الله فتذهب به جملة وأنت لا تشعر.
(7) أن تعلم أن هذه الخواطر بمنزلة الحبِّ الذي يُلقى للطائر ليصاد به، فاعلم أن كل خاطر منها فهو حبة في فخ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر.
(8) أن تعلم أن الخواطر الرديئة لا تجتمع مع خواطر الإيمان ودواعي المحبة والإنابة أصلاً بل هي ضدها من كل وجه.
(9) أن تعلم أن الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له فإذا دخل القلب في غمراته غرق فيه وتاه في ظلماته فيطلب الخلاص فلا يجد إليه سبيلاً فيكون بعيدًا عن الفلاح.
(10) أن تعلم أن الخواطر وادي المحقى وأماني الجاهلين فلا تثمر إلا الندامة والخزي وإذا غلبت على القلب أورثته الوساوس وعزلته عن سلطانها انسدت عليه عينه وألقته في الأسر الطويل أهـ.

أما النوع الثالث وهو آفات القلب كالحقد والحسد والكبرياء والعُجب، فهو باطن الإثم، قال تعالى: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} وجماع دواء هذه الآفات رؤية عجز النفس وقيامها بالله، ومشاهدة حكمة الله عز وجل وتصرفه في الخلق، فمثل هذا الاستحضار يحول بينه وبين الاعتراض على تقسيم الرزق والنعم، ويحول بينه وبين رؤية النفس وقدرتها، ويئول به الحال إلى التسليم بمنة الله وعدله وحكمته.

وقد تكلم الإمام ابن الجوزي كلامًا نفيسًا عن هذه الآفات في كتابه "الطب الروحاني" فراجعه هناك نجد علاجات تفصيلية لكل آفة ومرض وحسبنا من الألف شاهد مثال واحد.
لكن ابن القيم رحمه الله يلمس مكمن الداء ويصفه وصفًا دقيقًا ثم يقترح العلاج المناسب فيقول: (واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذ الفكر فيؤديها إلى التذكر فيؤديها إلى الإرادة فتأخذها الإرادة إلى الجوارح والعمل فتستحكم فتصير عادة، فردُّها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها، ومعلوم أنه لم يُعط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها وهي تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، على رفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه كما قال الصحابة يا رسول الله: إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: "أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان" وفي لفظ "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة" وفيه قولان: أحدهما: أن رده وكراهته صريحُ الإيمان، والثاني: أن وجوده وإلقاء الشيطان له في نفسه صريح الإيمان، فإنه إنما ألقاه في النفس طلبًا لمعارضة الإيمان وإزالته به. وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرَّحا الدائرة التي لا تسكن ولابد لها من شيء تطحنه، فإن وُضع فيها حيُّ طحنته وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته، فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحا ولا تبقى تلك الرحا معطلة قط بل لابد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من يطحن رحاه حبًا يخرج دقيقًا ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصًا وتبنًا ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحنه، أهـ كلامه رحمه الله (الفوائد 161) .
فهؤلاء نماذج من قطاع طريقك إلى الله وسفرك في درب الآخرة وسعيك في عتق رقبتك من النار وبذل ثمن الجنة، فاحذر مثل تلك الصوارف وأعد لها عدتها والله الموفق.
 
التعديل الأخير:

أم طارق

:: رئيسة فريق طالبات العلم ::
طاقم الإدارة
إنضم
11 أكتوبر 2008
المشاركات
7,489
الجنس
أنثى
الكنية
أم طارق
التخصص
دراسات إسلامية
الدولة
السعودية
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
سني
رد: القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان

تتمة في فهم بعض الوصايا
الأولى: الاجتهاد في العشر الأواخر وأواخر العشر.
في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله" هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: "أحيا الليل وأيقظ أهله وجدّ وشد المئزر". وفي رواية لمسلم عنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره".
وروى أبو نعيم بسند فيه ضعف عن أنس قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا شهد رمضان قام ونام، فإذا كان أربعًا وعشرين لم يدق غُمضًا".
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يوصل فليواصل إلى السحر" قالوا فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: "إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مُطعمٌ يطعمني وساق يسقيني".
وأخرج ابن أبي عاصم بإسنادٍ قال عنه ابن رجب إنه مقارب عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان رمضان قام ونام فإذا دخل العشر شد المئزر واجتنب النساء واغتسل بين الأذانين وجعل العشاء سحورًا".
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى".
تحصّل من هذه الأحاديث بعض السنن المؤكدة التي ينبغي الاعتناء بها في العشر الأواخر وهي من أهم وظائف هذا الشهر الكريم لأنها فورة الوداع ومسك الختام.
وسنلخص لك هذه السنن مع الكلام في فقهها وأسرارها.
أولاً: إحياء الليل كله. ويدل عليه ظاهر قول عائشة: أحيا الليل، وفي رواية مضعّفة: "أحيا الليل كله" ويشهد لهذا الأمر أيضًا قولها: "جد" أي اجتهد وبالغ في الطاعة العمل.
وهذه هي العزيمة اللازمة في أخريات رمضان. فيجب تقليل النوم قدر الإمكان وجعله في النهار، وشغل الليل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن.
وقد وردت عن بعض السلف آثار في بيان المراد بإحياء الليل، وأنه يحصل بقيام غالبه (وهو قريب من الأول) أو إحياء نصفه، وقيل تحصيل فضيلة الإحياء بساعة، ونُقل عن الشافعي وغيره أن فضيلة الإحياء تحصل بأن يصلي العشاء في جماعة ويعزم على أن يصلي الصبح في جماعة (1) وهذا الإحياء المذكور يشمل كل ليالي رمضان بوجه عام، والعشر الأواخر بوجه خاص، وليلة القدر بأخص.
ومثل هذا الاجتهاد يحتاج إلى الإعداد الذي تكلمنا عنه فيما مضى من الأبواب، وإلى العزيمة والمجاهدة والمكابدة للنوم والتعب من جَهد العبادة.
ويساعد على ذلك قلة الطعام، وتنويع العبادات بين قيام وركوع وسجود وذكر وتلاوة لقرآن، وصحبة العابدين لشحذ الهمم.
وجماع ذلك كله أن يستمطر العون والمدد والألطاف من الله عز وجل، فهو القادر على أن يقيمك بين يديه الدهر كله دون نصب أو رهق أو سآمة.

ثانيًا: إشاعة الأجواء الإيمانية في البيوت بِحَثّ الأهل على الاجتهاد في الطاعة والعمل وإيقاظهم في الليل لصلاة التهجد، ويدل ذلك قول عائشة: "وأيقظ أهله".
ثالثًا: شد المئزر والمراد به على الراجح: اعتزال النساء وعدم الجماع والمباشرة والاستمتاع، ووجهه: كون النبي - صلى الله عليه وسلم - معتكفًا في المسجد لطلب ليلة القدر (1) ، ويؤخذ من ههنا أنه كان يصيب - صلى الله عليه وسلم - من أهله في العشرين من رمضان ثم يعتزل نساء ويتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر.
رابعًا: الاعتكاف. قال ابن رجب: وإنما كان يعتكف النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه العشر التي يُطلب فيها ليلة القدر، قطعًا لأشغاله وتفريغًا لباله، وتحليًا لمناجاة ربه وذكره ودعائه، وكان يحتجر حصيرًا يتخلى فيها عن الناس فلا يخالطهم ولا يشغل بهم. وذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس حتى ولا لتعليم علم وإقراء قرآن، بل الأفضل له الانفراد بنفسه والتخلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه، وهذا الاعتكاف هو الخلوة الشرعية، وإنما يكون في المساجد لئلا يترك به الجمع والجماعات، فإن الخلوة القاطعة عن الجمع والجماعات منهيٌّ عنها. سئل ابن عباس عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يشهد الجمعة والجماعة؟ قال: هو في النار. فالخلوة المشروعة لهذه الأمة هي الاعتكاف في المساجد خصوصًا في شهر رمضان وخصوصًا في العشر الأواخر منه كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله، فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه، فما بقي له همٌّ سوى الله وما يرضيه عنه.
فمعنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق، وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله بالكلية على كل حال. كان بعضهم لا يزال منفردًا في بيته خاليًا بربه، فقيل له: أما تستوحش؟ قال: كيف استوحش وهو يقول: "أنا جليس من ذكرني" أهـ (1) .
خامسًا: إقلال الطعام للغاية، أو الوصال للسحر، وقد اختلف العلماء في هذا الوصال، وقد أجازه الإمام أحمد وإسحق، والصحيح أن الوصال إلى السحر فقط جائز لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" رواه البخاري.
والغاية منه كما قال العلماء خواء البطن وشرايين الشهوات من مادة الثوران، وخواء البطن مجلبة لامتلاء القلب بصنوف المعارف، وكلما ازداد الجوعُ وألَمُه رقَّ الفؤاد ولان وخشع.
قال ابن رجب: ويتأكد تأخير الفطر في الليالي التي تُرجى فيها ليلة القدر، قال زِرٌّ بن حبيش في ليلة سبع وعشرين: من استطاع منكم أن يؤخر فطره فليفعل وليفطر على ضياح اللبن. وضياح اللبن وروي ضيح هو اللبن الخائر الممزوج بالماء (1) .

(1) وفيه نظر، لأنه يتنافى مع مقاصد الحديث وهو ضرورة البذل الزائد المفضي للتأهل للمغفرة العامة. والله أعلم.
(1) والمعتكف مأمور بمجانبة النساء.
(1) "اللطائف" (348) .
 
التعديل الأخير:
أعلى