عمرو بن الحسن المصري
:: نشيط ::
- إنضم
- 30 سبتمبر 2012
- المشاركات
- 685
- التخصص
- طالب جامعي
- المدينة
- القاهرة
- المذهب الفقهي
- حنفي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فلا يمكن بحال أن نحصر الأساليب التي يستعملها العلماء في الاستدلال على القضايا الشرعية لأنها أوسع بكثير من الدلائل والأمارات والقرائن المستدل بها، بل إنّ الدليل الواحد تتعد أساليب الاستدلال به كثرة وتنوّعاً تربو عن العدّ، وبقَدْر ما يتفاوت العلماء في تنويع أساليبهم في الاستدلال بقدر ما يتفاوتون في الفضل والتصدر في العلم بالوقوف على أسرار الشريعة المجلّية للحوادث، فالمدلّون على الأحكام هم بصائر للناس، وكذلك كان لطائفة مبرّزة منهم استنتاجات غير مسبوقة في الفقه راجعة إلى حسن الاستدلال، حريّ بنا أن نقف على نماذج منها لندرك دقائق ما قرّروا.
1- الاستدلال بدلالة الإعراب:
قال العلماء في تفسير قوله تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) [البقرة: 280] دلت الآية بلفظها الظاهر على إنظار المَدين في دين الربا إلى ميسرة، يمهله الدائن إلى أن ييسر الله له رأس المال وقد عفا الله عنه زيادة الربا فأبطلها، ويقاس عليه المدين في كل دين، يدل لذلك الرفع في كلمة "ذُو" فالمعنى إن وُجِد ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، ولو كان في دين الربا خاصة لكان الوجه نَصْبَ "ذو" فيقال: وإن كان ذَا عُسْرة ويكون المعنى وإن كان المَدين في دين الربا ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة. [تفسير القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 3/ 372؛ عبدالمجيد صبح، أصول المناهج الفقهية: ص13].
2- الاستدلال بتحرير معاني الألفاظ:
من ذلك ما رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدريّ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يَخْرُجُ فِي هَذِه الأُمَّةِ -وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا- قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ...) [البخاري (9/ 21)؛ مسلم (3/ 112)]. قال ابن حجر: "لم تختلف الطرق الصحيحة عن أبي سعيد في ذلك" [فتح الباري، استتابة: 12/ 21]. قال الإمام المازري: "هذا من أدل الدلائل على سعة علم الصحابة رضي الله عنهم، ودقيق نظرهم وتحريرهم الألفاظ وفرقهم بين مدلولاتها اللغوية؛ لأن لفظة (من) تقتضي كونهم من الأمة لا كفاراً بخلاف (في)" [شرح النووي لمسلم: 164]، وفي هذا إشارة من أبي سعيد إلى تكفير الخوارج وأنهم من غير هذه الأمّة.
3- الاستدلال بالمفهوم:
من ذلك استدلال الشافعي رضي الله عنه على عدم جواز إمامة المرأة للرجال بقوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) [الساء: 34] قال: "وإذا صلت المرأة برجال ونساء وصبيان ذكور، فصلاة النساء مجزئة، وصلاة الرجال والصبيان الذكور غير مجزئة لأن الله عز وجل جعل الرجال قوّامين على النساء وقصرهن عن أن يكنّ أولياء وغير ذلك فلا يجوز أن تكون امرأة إمامَ رجل في صلاة بحال أبداً" [الشافعي، الأم: 1/ 154؛ وأحكام القرآن: ص87].
4- الاستدلال باستصحاب العدم الأصلي المعلوم بدليل العقل في الأحكام الشرعية:
ومثال ذلك قول العلماء: إن الذمة بريئة من التكليف حتى يدلّ دليل شرعي على تغيُّره كنفي صلاة سادسة. [الباجي، إحكام الفصول: 695؛ الشوكاني، إرشاد الفحول: 238].
5- الاستدلال بالقرائن:
وهو منقول عن مالك في قوله: "قد جعل الله سبحانه الفساد قَرِينَ القتل في قوله تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ) [المائدة: 32] وَقَرَنَهُما في المحاربة -(إِنَّمَا جَزَآؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا...) [المائدة: 33]- فأباح دمه بالفساد، فللإمام أن يقتل المحارب وإن لم يقتل" [إحكام الفصول: 675].
6- الاستدلال ببيان العلة:
وهو من أوجه الاستدلال بالقياس، ومثاله: أن يقال في قطع النباش: "إن القطع شرع في السرقة للردع والزجر وقد ثبت أن الأكفان تحتاج في حفظها إلى مثل ذلك من الردع والزجر فوجب أن يقطع سارقها" [إحكام الفصول: ص672].
فهذه الأوجه من الاستدلالات وغيرها .. تُوقِفنا على أهمية العلم النظري الذي هو البرهان في تأسيس المعرفة الشرعية العملية وإذا كان لكلِّ علم تجريبي قواعده وضوابطه فإن علم الفقه المتعلق بأفعال المكلفين في آلهم ومآلهم يقوم على أصول نظرية ترتكز كلها على البرهان الذي هو الاستدلال، وبذلك تتضح الأهمية الكبرى من بحث الطرق التي توصلنا إلى إدراك المعرفة الشرعية على أنه لا يمكن لأحد بحال أن يدّعي الإحاطة التامة بكل الاستدلالات التي بُنيت عليها الأحكام ولا بأغلبها لأن هذا مُدرك بعيد المنال ويحتاج إلى علم غزير ووقت كثير وصبر كبير.
ويُراجع في ذلك: الاستدلال وأثره في الخلاف الفقهي (19-22).
هذا، والله أعلم.