رد: الْخَبَرُ الْمَطْعُونُ .. عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الْمَبْحَثُ الأَوَّلُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخبر الذي لحقه الطعن والنكير من راوي الحديث
أولًا: إنكار الراوي لما رواه:
إذا أنكر المروي عنه الرواية إنكار جحود وتكذيب بأن قال: ما رويتُ لك هذا الحديث قط أو كذبتَ عليَّ، فهذا يُسقط العمل به بلا خلاف؛ لأن كل واحد منهما مكذب للآخر فيما يدعيه، ولا بد من كذب أحدهما، وهو موجب للقدح في الحديث، غير أن ذلك لا يوجب جرح واحد منهما على التعيين؛ لأن كل واحد منهما عدل، وقد وقع الشك في كذبه، والأصل العدالة فلا تترك بالشك، وتظهر فائدة ذلك في قبول رواية كل واحد منهما في غير ذلك الخبر.
أما إذا أنكره نسيان وتوقُّف بأن قال: لا أذكر أني رويتُ لك هذا الحديث أو لا أعرفه ونحو ذلك، فقد اختُلف فيه: فذهب أبو الحسن الكرخي وجماعة من أصحاب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل في رواية عنه: إلى أن العمل يسقط به. وذهب مالك والشافعي وأحمد في أصح الروايتين عنه ومحمد بن الحسن وجماعة من المتكلمين وجمهور المحدثين: إلى أنه لا يسقط العمل به كما لو لم ينكر. راجع: كشف الأسرار (3/ 59)، وأصول السرخسي (2/ 3)، والكافي (3/ 1352)، والفصول في الأصول (3/ 183)، والتقرير والتحبير (2/ 266)، وفواتح الرحموت (2/ 292)، والتوضيح على التلويح (2/ 52)، وشرح المنار (ص 660)، وقواعد في علوم الحديث (ص 201)، والبحر المحيط (4/ 321)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (2/ 151)، والمستصفى (1/ 167).
قال ابن الصلاح في علوم الحديث (ص 116، 118): "إذا روى ثقة عن ثقة حديثًا وروجع المروي عنه فنفاه: فالمختار أنه إن كان جازمًا بنفيه بأن قال: ما رويتُه أو كذب عليَّ أو نحو ذلك فقد تعارض الجزمان، والجاحد هو الأصل فوجب رد حديث فرعه ذلك، ثم لا يكون جرحًا له يوجب رد باقي حديثه؛ لأنه مكذب لشيخه أيضًا في ذلك، وليس قبول جرح شيخه له بأَوْلَى من قبول جرحه لشيخه فتساقطا. أما إذا قال المروي عنه: لا أعرفه أو لا أذكره أو نحو ذلك فذلك لا يوجب رد رواية الراوي عنه...
ومن روى حديثًا ثم نسيه لم يكن ذلك مسقطًا للعمل به عند جمهور أهل الحديث وجمهور الفقهاء والمتكلمين، خلافًا لقوم من أصحاب أبي حنيفة.
والصحيح ما عليه الجمهور؛ لأن المروي عنه بصدد السهور والنسيان والراوي عنه ثقة جازم فلا يرد بالاحتمال روايته، وقد روى كثير من الأكابر أحاديث نسوها بعد ما حدثوا بها عمن سمعها منهم، فكان أحدهم يقول: حدثني فلان عني عن فلان بكذا وكذا، وجمع الحافظ الخطيب ذلك في كتاب ((أخبار من حديث ونَسِي))". اهـ. وراجع: إرشاد طلاب الحقائق (ص 115، 116)، وتدريب الراوي (1/ 334)، وفتح المغيث (2/ 77)، والكفاية (ص 541، 542).
-أمثلة إنكار الراوي لما رواه:
المثال الأول: روى أبو داود والترمذي وابن ماجه من طريق عبدالعزيز الدراوردي عن ربيعة ابن أبي عبدالرحمن عن سهيل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد.
قال عبدالعزيز: فذكرتُ ذلك لسهيل فقال: أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أبي حدثته إياه ولا أحفظه. قال عبدالعزيز: وقد كان أصابت سهيلًا علةٌ أذهبت بعض عقله ونَسِي بعض حديثه، فكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة عنه عن أبيه.
ورواه أبو داود أيضًا من رواية سليمان بن بلال عن ربيعة، قال سليمان: فلقيتُ سهيلًا فسألتُه عن هذا الحديث فقال: ما أعرفه. فقلت له: إن ربيعة أخبرني به عنك. قال: فإن كان ربيعة أخبرك عني فحدث به عن ربيعة عني.
قال عبدالعزيز البخاري في كشف الأسرار (3/ 62): "فأصحابنا لم يقبلوا هذا الحديث لانقطاعه بإنكار سهيل، وتمسك به بعض مَنْ قَبِلَ هذا النوع فقال: لما قال سهيل حدثني ربيعة عني، وشاع وذاع ذلك بين أهل العلم ولم ينكر عليه أحد، فكان ذلك إجماعًا منهم على قبوله وهذا فاسد؛ لأنه ليس فيه ما يدل على وجوب العمل به، غايته أنه يدل على جواز أن يقول الأصل بعد النسيان حدثني الفرع عني، ولا يستلزم وجوب العمل به ولا جوازه".
المثال الثاني: روى أحمد في مسنده (6/ 47)، والترمذي (1125)، وابن ماجه (1879) من طريق سفيان بن عيينه عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا نكحت المرأة بغير أمر مولاها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل، فإن أصابها فلها مهرها بما أصاب منها، فإن اشتجروا فالسلطان وَلي من لا ولي له).
قال ابن جريج فلقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه قال: وكان سليمان ابن موسى وكان فأثنى عليه.
قال عبدالعزيز البخاري في كشف الأسرار (3/ 62): "فلما ردَّه المروي عنه وهو الزهري، لم يقم به الحجة عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ويجوز أن يكون قول محمد في هذا الأصل على خلاف قولهما كما دلَّ عليه مسألة الشاهدين شَهِدا على القاضي بقضية وهو لا يذكرها وهو الظاهر، ويجوز أن يكون على وفاق قولهما، إلا أنه لم يجوِّز النكاح بغير ولي لأحاديث أخرى".
ثانيًا: عمل الراوي بخلاف ما روى:
ذهب جمهور العلماء من الفقهاء والأصوليين والمحدثين إلى أن عمل الراوي أو فتواه بخلاف روايته لا يُوجب طعنًا في الحديث؛ لأن الواجب قبول روايته ونقله عن النبي صلى الله عليه وسلم لا قبول فعله وفتواه. وذهب أكثر الحنفية إلى أن ذلك يُسقط الاحتجاج بالحديث؛ لأنه لا يترك العمل بالحديث إلا لعلمه بأنه منسوخ أو ليس بثابت.
وإطلاق كلام العلماء في المسألة يقتضي أن محل النزاع يشمل مخالفة أي راو من رواة الحديث، إلا أن بعضهم قَيَّد ذلك بمخالفة الصحابي فقط دون غيره؛ لأن الصحابي هو المباشر للنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر التنزيل وشاهد الوحي، فهو أعلم بمراد الشارع من غيره، فلعله شاهد أو سمع ما يقتضي مخالفته للحديث، والأمثلة المذكورة من فروع المسألة كلها في مخالفة الصحابي مما يؤيد صحة هذا التقييد. راجع: مخالفة الصحابي (ص 17، 87)، وحكم الاحتجاج بخبر الواحد (ص 123).
وعمل الراوي أو فتواه بخلاف الحديث الذي رواه له ثلاثة حالات عند الحنفية:
1- أن يكون قبل روايته للحديث أو قبل بلوغه إياه.
2- أن لا يعرف تاريخه، وفي هاتين الحالتين لا يوجب ذلك جرحًا في الحديث.
3- أن يكون بعد روايته للحديث أو بلوغه إياه وهو خلاف بيقين، فإن ذلك يوجب جرحًا في الحديث ويسقط العمل به.
راجع: كشف الأسرار (3/ 63)، وأصول السرخسي (2/ 5)، والكافي (3/ 1354)، والفصول في الأصول (3/ 203)، والتقرير والتحبير (2/ 266)، والتوضيح (2/ 25)، وفواتح الرحموت (2/ 163)، وقواعد في علوم الحديث (ص 202)، وشرح المنار (ص 661)، والبحر المحيط (3/ 246)، والإحكام للآمدي (2/ 165).
فعمل الراوي بخلاف الحديث الذي رواه أو فتواه بخلافه، إِنْ كان قبل الرواية وقبل بلوغه إياه لا يوجب ذلك جرحًا في الحديث بوجه؛ لأن الظاهر أن ذلك كان مذهبه، وأنه ترك ذلك الخلاف بالحديث ورجع إليه، فيحمل عليه إحسانًا للظن به.
وإِنْ لم يُعرف تاريخه، أي لا يُعلم أنه عمل بخلافه قبل البلوغ إليه والرواية أو بعد واحد منهما لا يسقط الاحتجاج به؛ لأن الحديث حجة في الأصل بيقين، وقد وقع الشك في سقوطه؛ لأنه إن كان الخلاف قبل الرواية والبلوغ إليه كان الحديث حجة، وإن كان بعد الرواية أو البلوغ لم يكن حجة،فوجب العمل بالأصل، ويحمل على أنه كان قبل الرواية؛ لأن الحمل على أحسن الوجهين واجب ما لم يتبين خلافه.
وإنْ كان العمل أو الفتوى منه بخلاف الحديث بعد الرواية أو بعد بلوغه إياه وذلك خلاف بيقين -أي لا يحتمل أن يكون مرادًا من الخبر بوجه- فإن ذلك الخلاف جرح في الحديث؛ لأن خلافه إن كان حقًّا بأن خالف للوقوف على أنه منسوخ أو ليس بثابت وهو الظاهر من حاله فقد بطل الاحتجاج بالحديث؛ لأن المنسوخ أو ما هو ليس بثابت ساقط العمل والاعتبار، وإن كان خلافه باطلًا بأن خالف لقلة المبالاة والتهاون بالحديث كان مغفَّلًا وكلاهما مانع من قبول الرواية. راجع: كشف الأسرار (3/ 63)، وأصول السرخسي (3/ 5).
وأما عند المحدثين فإن عمل الراوي أو فتياه على وفق حديث رواه ليس حكمًا منه بصحته ولا بتعديل رواته، لإمكان أن يكون ذلك منه احتياطًا، أو لدليل آخر وافق ذلك الخبر، ومخالفته له ليست قدحًا منه في صحته ولا في رواته، لإمكان أن يكون ذلك لمانع من معارض أو غيره، وفعل الراوي بخلاف روايته لا يلزم منه الأخذ برأيه وترك ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن المعتبر ما رَوَىَ لا ما رأى. راجع: مقدمة ابن الصلاح (ص 111)، وإرشاد طلاب الحقائق (ص 112)، وتدريب الراوي (1/ 315)، وفتح المغيث (2/ 38).
قال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/ 370): "إذا روى الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا ثم روى عن ذلك الصحابي خلاف لما روى، فإنه ينبغي الأخذ بروايته وترك ما روى عنه من فعله أو فتياه؛ لأن الواجب علينا قبول نقله ونذارته عن النبي صلى الله عليه وسلم لا قبول رأيه".
ويرى الجمهور أن ترك الراوي للعمل بالحديث يحتمل أمورًا أخرى غير علمه بنسخ الحديث أو ضعفه -كما قال الحنفية- إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث، أو لا حضره وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول فيه تأويلًا مرجوحًا أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضًا في نفس الأمر، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه.
ولو قدر انتفاء ذلك كله -ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه- لم يكن الراوي معصومًا، ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك. راجع: إعلا الموقعين (3/ 40).
وإذا كان لا بد من توهين إحدى الروايتين فتوهين الرواية عن الصحابي أَوْلَى من توهين روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه هي المفترض علينا قبولها، وأما ما كان موقوفًا على الصاحب فليس فرضًا علينا الطاعة به. النبذ في أصول الفقه (ص 98)، وراجع: الإحكام في أصول الأحكام (2/ 12).
-أمثلة عمل الراوي بخلاف ما روى:
المثال الأول: أخرج البخاري (172)، ومسلم (676) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات).
وفي رواية لمسلم (674): (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرار).
وأخرج الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 23)، والدارقطني في سننه (1/ 66): أن أبا هريرة قال: إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه ثم اغسله ثلاث مرات.
فهذا الحديث من رواية أبي هريرة ورُوي عنه العمل بخلافه، فاختلف العلماء في حكم ولوغ الكلب في الإناء تبعًا لاختلافهم في هذه القاعدة، فذهب جمهور العلماء إلى أنه يجب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبع مرات، ولم يلتفتوا إلى عمل أبي هريرة بخلافه؛ لأن العبرة بما رواه لا ما رآه. راجع: التمهيد (18/ 268)، والمجموع (2/ 598)، والمغني (1/ 46).
وذهب الحنفية إلى أنه يكفي غسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاث مرات عملًا بقول أبي هريرة؛ لأنه لما ثبت قول أبي هريرة على خلاف الحديث، حُمل على أنه كان علم انتساخ هذا الحكم، أو علم بدلالة الحال أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم الندب فيما وراء الثلاثة. راجع: أصول السرخسي (3/ 6).
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 23): "فلما كان أبو هريرة قد رأى أن الثلاثة تطهر الإناء من ولوغ الكلب فيه، وقد رَوى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا، ثبت بذلك نسخ السبع؛ لأنا نحسن الظن به، فلا نتوهم عليه أنه يترك ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا إلى مثله، وإلا سقطت عدالته فلم يقبل قوله ولا روايته".
المثال الثاني: أخرج أبو داود (2083)، والترمذي (1125)، وابن ماجه (1879) عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل -ثلاث مرات- فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له).
وروى مالك في الموطأ عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زوجت حفصةَ بنت عبدالرحمن المنذرَ بن الزبير، وعبدُالرحمن غائب بالشام، فلما قدم عبدالرحمن قال: ومثلي يصنع هذا به؟ ومثلي يفتات عليه؟ فكلمت عائشة المنذر ابن الزبير، فقال المنذر: فإن ذلك بيد عبدالرحمن. فقال عبدالرحمن: ما كنت لأرد أمرًا قضيتيه. فقرت حفصة عند المنذر، ولم يكن ذلك طلاقًا.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن المرأة لا تزوج نفسها ولا غيرها، عملًا بحديث عائشة وغيره، وتأولوا تزويج عائشة لحفصة بنت عبدالرحمن، بأنها مهدت أسباب التزويج فأُضيف إليها، وعليه فإن عائشة لم تخالف ما روت. وذهب الحنفية إلى جواز مباشرة الحرة البالغة العاقلة عقد نكاحها ونكاح غيرها؛ لأن عائشة لما رأت أن تزويجها بنت أخيها بغير أمره جائز، ورأت ذلك العقد مستقيمًا، حتى أجازت فيه التمليك الذي لا يكون إلا عن صحة النكاح وثبوته، استحال أن يكون ترى ذلك مع صحة ما روت، فلا بد أن يكون غير ثابت أو منسوخًا.
المثال الثالث: أخرج البخاري (735)، ومسلم (887) عن سالم عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وكان لا يفعل ذلك في السجود.
وروى الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 225) عن مجاهد قال: صليت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة.
ثم قال: "فهذا ابن عمر قد رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع ثم ترك هو الرفع بعد النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخ ما قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وقامت الحجة عليه بذلك".
ثالثًا: عمل الراوي ببعض محتملات الحديث:
اتفق العلماء على أن عمل الراوي ببعض محتملات الحديث لا يعتبر قدحًا في الحديث، ولكن اختلفوا في وجوب العمل بهذا الوجه الذي حمل الصحابي الحديث عليه، وفرقوا في هذا الحكم بين الحديث المشترك ونحوه، وبين الحديث الظاهر.
فأما إذا روى الصحابي حديثًا مشتركًا أو نحوه كالمجمل، فحمله على أحد محمليه، فالمتعين ذلك المحمل عند الجمهور؛ منهم الشافعية وبعض الحنفية؛ لأن الظاهر من حاله عدم حمله عليه إلا بقرينة ظهرت له، والصحابي العارف بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم الواقف على أسراره أعرف بذلك من غيره، فكان حمله بيانًا منه أن النبي صلى الله لعيه وسلم أراد ذلك فلا يترك تأويله إلا بالأقوى منه، وخالف فيه أكثر الحنفية؛ حيث قالوا: لا يجب تقليد تأويل الصحابي لجواز أن يكون حمله عليه برأيه فلا يبطل به احتمال آخر شمله النص.
وأما إذا روى الصحابي حديثًا ظاهرًا في معنى فحمله على غيره؛ فالأكثر منهم الشافعية والمالكية والكرخي من الحنفية يحملونه على الظاهر، ولا يعتبرون قول الصحابي، وأكثر الحنفية يحملونه على ما حمل عليه الصحابي من خلاف الظاهر، ويتركون العمل بالظاهر، بناءً على أن ترك الظاهر بلا وجه حرام، فلا يتركه إلا بدليل مرجح لما ليس بظاهر، ومن ذلك تخصيص العام من الصحابي يجب حمله على سماع المخصص. راجع: كشف الأسرار (3/ 65)، وأصول السرخسي (2/ 6)، والكافي (3/ 1356)، والفصول في الأصول (3/ 203)، والتوضيح على التلويح (2/ 25)، والتقرير والتحبير (2/ 266)، وفواتح الرحموت (2/ 163)، وشرح المنار (ص 662)، وقواعد في علوم الحديث (ص 202)، والأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة (ص 222، 223)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (2/ 165).
-أمثلة عمل الراوي ببعض محتملات الحديث:
المثال الأول: أخرج مالك في الموطأ (1364)، والبخاري (2111)، ومسلم (3935): عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار). زاد مسلم: فكان ابن عمر إذا بايع رجلًا فأراد أن لا يقيله قام فمشى هُنيهة ثم رجع إليه.
وهذا الحديث دليل ثبوت خيار المجلس لكل واحد من المتبايعين بعد انعقاد البيع حتى يتفرقا من ذلك المجلس، والتفرق يحتمل أن يكون بالأقوال أو بالأبدان، وعمل ابن عمر راوي الحديث يدل أن المقصود التفرق بالأبدان.
فذهب الشافعية إلى أن المقصود هو تفرق الأبدان كما جاء من فعل ابن عمر؛ لأن الصحابي أعرف بذلك من غيره، فكان حمله بيانًا منه أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد ذلك، فلا يترك تأويله إلا بالأقوى منه، وذهب الحنفية إلى أن التفرق بالأقوال لرجحانه عندهم؛ لأن تأويل الصحابي في هذه الحالة لا يكون حجة على غيره.
المثال الثاني: أخرج البخاري (3017) عن عكرمة أن عليًّا حرَّق قومًا، فبلغ ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعذِّبوا بعذاب الله). ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدَّل دينه فاقتلوه).
اختلف الفقهاء في حكم المرتدة فقال مالك والشافعي وأحمد: تقتل المرتدة كما يقتل المرتد سواء. وهو قول ابن أبي ليلى وعثمان البتة والأوزاعي والليث والزهري والنخعي ومكحول وحماد وإسحاق. وقال أبو حنيفة والثوري: لا تقتل المرتدة. راجع: مختصر اختلاف الفقهاء (3/ 471)، والمبسوط (10/ 108)، وفتح القدير (6/ 71)، وروضة الطالبين (10/ 75)، والتمهيد (5/ 312)، والمغني (9/ 16).
احتج مَنْ قال بقتل المرتدة بعموم هذا الحديث لأنه لم يخص ذكرًا من أنثى، واحتجوا أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة). أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (4468).
وتمسك من قال لا تقتل المرتدة بما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 585) عن ابن عباس أنه قال: لا يقتلن النساء إذا هن ارتددن عن الإسلام، ولكن يحبسن ويدعين إلى الإلسلام فيجبرن عليه.
فلما خص ابن عباس الحديث بالرجل دون المرأة وهو راوي الحديث لزم تخصيصه؛ لأن من روى حديثًا كان أعلم بتأويله، واحتجوا أيضًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والولدان. أخرجه أبو داود (2672).
رابعًا: امتناع الراوي عن العمل بالحديث:
والامتناع عن العمل بالحديث مثل العمل بخلافه حتى يخرج به عن كونه حجة؛ لأن ترك العمل بالحديث الصحيح حرام كما أن العمل بخلافه حرام.
والمراد بالامتناع هو أن لا يشتغل بالعمل بما يوجبه الحديث ولا بما يخالفه من الأفعال الظاهرة، كما إذا لم يشتغل بالصلاة في وقت الصلاة ولا بشيء آخر حتى مضى الوقت، كان هذا امتناعًا عن أداء الصلاة لا عملًا بخلافه، ولو اشتغل بالأكل والشرب في وقت الصوم كان هذا عملًا بخلافه، إلا أن كليهما في التحقيق واحد؛ لأن الترك فعل، فكان الاشتغال به كالاشتغال بفعل آخر فيكون عملًا بالخلاف أيضًا، ولهذا ذكر شمس الأئمة السرخسي ترك ابن عمر العمل بحديث رفع اليدين في قسم عمل الراوي بخلاف الحديث، وقسم امتناع الراوي عن العمل بالحديث. اجع: كشف الأسرار (3/ 66)، وأصول السرخسي (2/ 7)، والكافي (3/ 1357).
***
يتبع..