العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

قراءة في كتاب " تجديد المنهج وتقويم الثراث " للدكتور طه عبد الرحمان

لبنى السموني

:: متابع ::
إنضم
24 أكتوبر 2013
المشاركات
24
الكنية
ام عمر
التخصص
دراسات اسلامية
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
المالكي
لا شك أن الكتابات المنطقية الفلسفية كثيرا ما تأخذ القارئ اليقظ إلى متاهات معرفية دقيقة، قد يوفق في اكتشاف معالمها، والاطلاع على مراسمها، وجلاء خفاياها، مزودا بآليات، مسلحا بأدوات وقد يفشل في ذلك لأسباب أهمها : ضعف آلياته، وقصور إدراكه، ونفاد زاده، ومغالبة صبره، فيقف عاجزا أمام أعمال غنية، وأفكار دسمة، لا يفك طلاسمها ولا يفرك حبات غامضها إلا الذين أنعم الله عليهم بنعمة الفهم والإدراك، والبصر والبصيرة.
ولعل في التطاولات على هذا الموضوع، ما دعا المؤلف "طه عبد الرحمان" إلى الخوض في موضوعه والغوص في أعماقه، دفاعا عنه، وانتصارا لأصحابه، وانتقادا لأعدائه، في لغة شاعرة جميلة، سبكت في قالب بديع، وانتظمت فقراتها في سلك رفيع، تضم دررا معرفية، وجواهر منطقية، يعز نظيرها عند غير صاحبها، ويندر وجودها عند غير الوعاة من العلماء.
التجني على التراث بباطل الأقاويل، بعيدا عن المعرفة الصحيحة والمنهج العلمي تجن، لا يعدله بل يكاد يفوقه التجني على النفس، ذلك أن الخوض في الموضوع دون التسلح بأدواته الخاصة، وآلياته الحادة، ودون التعمق في سبر أغوار حقائقه يوشك أن يكون إساءة علنية صريحة باسم المعارف الحديثة والمناهج المعاصرة، والنظريات المتطورة، ومن ثم، فإن التريث في إصدار الأحكام واتخاذ المواقف، والتثبت من المعارف، والتيقن من المناهج خلق ومروءة، وشجاعة غير مألوفة، إذ الصمت في مثل هذه الأحوال جناية على التراث وعلى أصحابه، وهدر لجهود المقبلين عليه، الحريصين على رونقه وبهائه.من هذا المنطلق كان كتاب الدكتور طه عبد الرحمان " تجديد المنهج في تقويم الوثائق" دعوة صريحة على القراءة المتأنية المتبصرة للأعمال السابقة، أو للموروث المكتوب كيفما كانت طبيعته، أدبا، وتاريخا، فلسفة.. إلخ، بناء على نظريات، واستنادا إلى آليات، وعملا بمنهجيات، اختراقا للحواجز، ونهوضا بالتراث، وتحقيقا لتواصل أكثر فعالية، وأجدى نفعا. اهتم الدكتور طه عبد الرحمان في مؤلفه الجديد بطرح اجتهاداته ونظرياته طرحا موضوعيا، استهدف الدفاع عن التراث في شموليته وتكامله، وتحليل آلياته، والأدوات التي توسل بها أو استخدمها، متغياه إثبات التقويم التكاملي للتراث، وإلغاء التقويم التفاضلي بناء على أدلة وبراهين وممارسات حية منهجية للتراث تؤدي إلى النتائج المتوخاة، برهنة ودلالة على ما للموضوع من أهمية، وما للاجتهاد من فعالية في إبطال الدعوى التجزيئية في تقويم التراث.
يضم الكتاب "تجديد المنهج في تقويم التراث" أبوابا رئيسية ثلاثة، ينتظم كل باب في فصول بنيتها "دعاوى" ارتكز عليها في نظريته في تقويم التراث، وعمل على البرهنة على صوابها، وإقامة الدليل على منطقيتها.
الباب الأول: وخصه لإبطال التقويم التفاضلي للتراث الإسلامي العربي، اعتمادا على مبادئ نظرية، وأخرى عملية، تؤديان في النهاية إلى التدليل على صدق المقولة، والعمل بمقتضاها.
ومن المبادئ التي ارتكز الباحث عليها الدعوة إلى التخلص من الأحكام السابقة التي تعود الباحثون إلصاقها بالتراث، انطلاقا من الفصل الذي يقعون فيه بين الجانب المعرفي والجانب السلوكي، وضرورة تحصيل المعرفة الشاملة بمناهج المتقدمين لوضع نظريات جديدة تسعف على استعادة وحدة العلم والعمل بالصواب كما أقرها أصحاب التراث.
تهتم فصول "الباب الأول" الثلاثة بمناقشة دعوى التقويم التجزيئي للتراث، حيث ينزع المؤلف فيها إلى رفض الدعوى التجزيئية التي تسيء إلى الفهم الجيد للتراث، وإلى التأويل المغرض، اعتمادا على آليات فوقية (عقلانية، إيديولوجية) لا تسعف على تقويم التراث بموضوعية ونزاهة، وبذلك ينصب الاهتمام على نماذج تراثية دون أخرى ويحصل التقطيع والتجزيء الذي يفوت على الباحث الدراسة الشمولية المتوقعة.
ويرى المؤلف أن كتابات الدكتور الجابري في موضوع التراث، تمثل نموذجا لدعوى التعارض في تقويم التراث، منطلقا من آراءه التي انبنت عليها نظريته تحليلا ونقاشا، لينتهي إلى التعارض والتناقض الحاصلين في ذلك التقويم، على خلاف ما تم طرحه على المستويين النظري والآلي.
وبرهنة على القصور في فقه الآليات المتوسل بها في تقويم التراث عند الدكتور الجابري، ينبري المؤلف إلى الوقوف عندها ونقاشها، مستنيرا بما ورد في الاستشهادات والمقولات المتمثل بها في مؤلفاته، (آلية المقابلة، آلية التقسيم، آلية الممثلة...).
الباب الثاني: ويبسط فيه المؤلف الحديث عن النظرة التكاملية للتراث انطلاقا من معيارين:
أولهما: تحقق التداخل والتقريب في مجموع المعارف التراثية، مع ما يلزم ذلك من النظر والتمحيص في العلوم الأقرب والبعد إلى المجال التداولي الإسلامي العربي، وحددها في أربعة علوم: "أصول الفقه"، "علم الأخلاق"، "المنطق الصوري"، "الفلسفة الإلهية".
وثانيهما: ويتعرض لشرائط الرد على اعتراضات خصوم النظرة التكاملية، وما صاحبها ليس فقط، من تجزئ معرفي، ولكن أيضا من تجزئ قطري : مشرقي/ مغربي أندلسي.
وتوزعت هذا الباب فصول ثلاثة:
عالج أولها التقويم التكاملي والبناء الآلي للتراث من حيث كونه يهتم باستكشاف الآليات الإنتاجية التي تصلح لمختلف العلوم، وتستحكم في مضامين النصوص التراثية، وهي آليات مادية وأخرى صورية
ويرى المؤلف أن علاقة الآلية بالعلم علاقة جذرية، تلبس لكل حالة لبوسا، فاصطبغت في تعاملها أو استيعابها للمضمون التراثي بصبغات الخدمة والعمل والمنهج، وفي كل صبغة تبدو ملامح العلاقة قوية بين الآلية والتراث في التناول والمقصدية والنتائج
وعالج ثاني الفصول التداخل المعرفي الداخلي وتكامل التراث، باعتبار التداخل في العلوم ناتجا عن الممارسة التراثية تراتبيا وتفاعليا.
ويستشهد الدكتور طه عبد الرحمان في تحليله ونقاشه وبرهنته على صدق دعواه بما ورد في المصنفات الإسلامية الشهيرة، وآراء مؤلفيها الواضحة في الطرح والتناول، كما عند "ابن حزم" في رسالة "مراتب العلوم" و"الغزالي" في "ميزان العمل" و"الشاطبي" في "الموافقات"
أما ثالث الفصول، فهو أغناها وأكثرها ملامسة لجزئيات الدعوى المطروحة حول التداخل المعرفي الخارجي وتكامل التراث، ممثلة في إنتاج "ابن رشد" في مجال الفلسفة الإلهية، مبرزا أن التشكل بين العلوم لا يعني الانفصام، وإنما يعني الترابط والمطابقة، إضافة إلى أن مسألة التداخل واردة فيما أسماه "بالمسكوت عنه" في النصوص الرشدية.ويتوسل المؤلف في تناول هذا العنصر بآليات وضبط قسمها قسمين : استشكالية واستدلالية.
الباب الثالث: ويجعله المؤلف لتحليل ونقاش دعوى" التقريب التداولي" كمنفذ إلى النظرة التكاملية إلى التراث الإسلامي العربي، من حيث التنوع والتفاعل والاستمرار، باعتبار التقريب " وصل المعرفة المنقولة بباقي المعارف الأصلية" ص :237.
تنتظم هذا الباب أربع فصول يطبعها التسلسل والإحكام في تقديم الدعاوى والاستدلال على صحتها وصوابها، وتبيان خصائصها، فتنهض العبارة بمهمتها، كاشفة عن دلالتها، معبرة عن روحها كما أراد ذلك المؤلف
يتناول الفصل الأول "أصول مجال التداول الإسلامي العربي" باعتباره "الدعامة الأساسية التي تستند إليها نظرية المؤلف في تكامل التراث"، وكذا باعتباره أداة من أدوات تقويم التراث، فيهتم بتحديد مفاهيمه، وتبيان أركانه وقواعده، والإجابة عن كل الأسئلة المفترضة حوله، فيشرح ويحلل ويناقش، وينتهي إلى استخلاص النتائج المتوقعة بعد طرح الدعاوى المفترضة، ومن ثم يتحدد المجال التداولي الإسلامي العربي في العقيدة واللغة والمعرفة
أما الفصل الثاني فيهتم "بأصول التقريب التداولي الإسلامي العربي"، محللا عناصره الثلاثة، مستدلا بما ورد في كتابات الفلاسفة والمناطقة وعلماء الشريعة وغيرهم.
يرتكز العنصر الأول "خصوصية التقريب التداولي" على مبدأين: التمييز والتضاد، ومن خلالهما تتكشف الدعوى الخاصة بالتقريب بمفاهيمها وأوصافها في حالات متعددة : (التوفيق، التسهيل، المقاربة، التطويل التهويل والتعطيل)
ويرتكز العنصر الثاني "الآليات الصورية للتقريب التداولي" على أنوع كثيرة من آليات يقتصر على أهمها مادامت تفي بالمقصود وهي : آلية الإضافة والحذف، والإبدال والقلب، والتفريق والمقابلة
فبعد التعريف بهذه الآليات ينتقل المؤلف إلى المجال التطبيقي ليثبت الدعاوى المثارة، ويؤكد صدق التوجه في الطرح وكان مجال التحولات التي أحدثتها الآليات منصبا على موضوعين : وظيفة المنطق، مضمون الفلسفة
أما العنصر الثالث، فهو "ضروب الإخلال بشرائط التقريب التداولي"فائدة التقريب في مخالفته المنقول، بواسطته يثمر وينتج ويتحرك، فتزداد حظوظ عطائه وإثماره
ونقاشا لفكرة وإثباتا لها، يعمد المؤلف إلى تناول ضروب التقريب الفاسد وشرائطه وآفات وظائفه التداولية، مفصلا القول في شرائط التقريب الثلاثة : الأصلي والتصحيحي، واليقيني، ومبديا أوجه الاختلاف والاتفاق بين كل نوع في حالتي السلب والإيجاب.
ويأتي الفصل الثالث "آليات تقريب المنطق اليوناني"، تطبيقا للدعاوى المطروحة في الممارسة التراثية في المنقول المنطقي.
تتوزع هذا الفصل مباحث تنهض بتحليل ونقاش موضوع علم المنطق المعنوي والفكري، ومنهجه التجريدي، سواء تعلق الأمر بالعمل في التقريب اللغوي "الاستعمال"، أو العقدي "الاشتغال" أو المعرفي " الإعمال".
ويختار المؤلف ثلاثة نماذج ليقع عليها تطبق الدعاوى بكثير من الحذر والحيطة في التناول ( ابن حزم، الغزالي، ابن تيمية).
الفصل الرابع " التقريب التداولي لعلم الأخلاق اليوناني"، وينصرف فيه المؤلف إلى علاج موضوع علم الأخلاق في الممارسة التراثية اليونانية، مقاربة بما ورد في الممارسة التراثية الإسلامية، فيناقش الآراء المختلفة في أدق جزئياتها، وأخص ليوناتها، مع الإلحاح على الصلة المتينة التي تربط الشريعة الإسلامية ومدى استفادتها من النظريات الأخلاقية اليونانية والفارسية، أو فيما سماه المؤلف "الكليات الأخلاقية الفطرية".
وقد اهتمت مباحث الفصل بالتقريب اللغوي في علاقة المعنى الاصطلاحي الأخلاقي بالمعنى اللغوي والتقريب العقدي، من حيث المفهوم، ومن حيث المبدأ والتقريب المعرفي اعتمادا على علاقة العقل باللغة
وينهي المؤلف كتابه بملخص شامل لأهم محاوره وفصوله، مبينا المنهج الصارم الذي سلكه في التحليل والنقاش، منتهيا إلى النتائج المتوصل إليها على المستويين التجزيئي والتكاملي الداخلي، منتصرا لعطاء التراث بعد أن تعرض للإهمال والتشنيع
لقد حاولت في هذا العرض التركيز على الجوانب الأساسية والهامة التي تناولها كتاب "تجديد المنهج في تقويم التراث"مبرزة المراحل التي قطعها المؤلف وهو يلم شتات موضوعه المتشابك، بعد أن نظر في هذا التراث، وأبان عن آليات تقويمه بمنهج جديد يتوخى تقصي جزئياته، بأدوات إجرائية وآليات عملية تحمل على النظر في التراث نظرة تكاملية لا تجزيئية، وتدعو إلى إعادة النظر فيه بروح الجدال الهادئ وآداب الاعتراض الراسخ.
يتميز هذا الكتاب بخصائص كثيرة أهمها انسياق اللغة للمؤلف انسياقا عجيبا، طاوعته على حسن التبليغ وجميل الأداء، مع ما تجمله دلالاتها ومضامينها من معان مستغلقة عصية، جاءت عباراته مسترسلة في أسلوب هادئ قوي صارم.
كما يتميز الكتاب بالدقة في التناول والضبط في استعمال المصطلحات، والتمحيص في علاج القضايا العامة وفق معايير مضبوطة ومقاييس مشروطة، متكئا على التفريع كظاهرة مساعدة على الإقناع، وعلى تحقيق النتيجة، متنقلا من النظرية إلى التطبيق، ومن الصورة العامة الكلية إلى ملامسة جزئياتها.
وبالرغم من أن مادة الكتاب دسمة، وأن قراءته ليست بالعمل السهل، فإنها مغرية على التتبع، وإعمال النظر، والضبط، كي لا تختلط المفاهيم، فيقصر الفكر عن الفهم، ويبتعد القارئ عن المقصود.
والدكتور طه عبد الرحمان بهذا العمل، نحا منحى آخر في كتاباته، وخط لنفسه طريقا جديدا في ربط الأدب واللغة والفلسفة والمنطق والأخلاق، بناء على رؤية واضحة في القراءة والملاحظة وإبداء الرأي.
كتاب "تجديد المنهج في تقويم التراث" رؤية جديدة تتسم بالحيطة والحذر في التناول والخطاب، وتستفيد من معطيات المناهج المختلفة لتقويم التراث الإسلامي العربي بروح العالم المتواضع، والدارس المتمكن، والمنطقي الصعب المراس واللغوي المتمرس بأفانين القول في كل وقت.
 
أعلى