العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

تعليل أفعال الله جل وعلا

إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,277
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
تعليل أفعال الله جل وعلا

إعلم أن علم المقاصد برمته مبني على أن أفعال المكلفين تشتمل على علل هي حِكَمٌ باعثةٌ على شرع الأَحْكَامِ الشرعية، وتلك الحِكَمُ هي ما يترتب على تلك الأفعال من أمور هي حصول مصالح أو درء مفاسد.
وإذا كان التشريع ـ والذي هو وضع الأحكام الشرعية على الأفعال التكليفية ـ فعل الله سبحانه فيرد سؤال هو: هل هذه العلل باعثة له سبحانه على التشريع أم لا؟ أي هل قصد رب العزة سبحانه بشرع الأحكام تحصيل تلك المصالح، أم لا؟
فإن أجبنا بلا، سقط هذا العلم جملة، لأن مبناه كما تقدم على تحصيل تلك المصالح، والحُكْمُ على الأفعال التي لم يرد بها نص ـ ولو في علم المجتهد ـ بالحُكْمِ الشرعي المحصل للمصلحة في تلك الأفعال، فإن لم تكن تلك المصالح مراعاة عند الحاكم سبحانه لم يجز بناء الأحكام الشرعية عليها لجواز أن يكون حكمها في نفس الأمر يخالف ما تقضيه المصلحة التي يشتمل عليها.
أما إن أثبتناها فإما أن يجوز مع ثبوتها في نفس الأمر أن لا يراعيها رب العزة ويحكم بخلاف مقتضاها أو لا يجوز ولا يحكم إلا بمقتضاها. فعلى الأول يسقط علم المقاصد جملة مرة أخرى؛ إذ معرفتنا بالحكمة والمقصد الشرعي وراء فعل ما لا يقتضي المعرفة بحكمه إذ يجوز أن لا تكون الحكمة مراعاة فيه.
وإذا أنت تبين لك ما قدمناه فاعلم أن إثبات العلل فرع التحسين والتقبيح العقليين فلنتكلم عليه


التحسين والتقبيح العقليين

اختلفوا في الأفعال الإختيارية حال صدورها من غير إلجاء ولا غفلة، هل تشتمل على معاني ـ ذاتية كانت أو لوجوه واعتبارات ـ تقتضي حسن الفعل وقبحه؟
ولا بد قبل الجواب من بيان معنى الحسن والقبح حتى لا تتوارد النقول على أمور مختلفات المعاني، فيضيع موضع الخلاف.
فالمراد بالحسن عند المعتزلة ما يحسن عقلاً الثناء على فاعله عند بعضهم أو ما لا حرج على فاعله في فعله عند آخرين وبالقبح ما ليس لفاعله أن يفعله، أو يحسن في العقل ذم فاعله.
وقال ابن متويه في (المجموع المحيط بالتكليف) 1/ 231 : "الفعل الواقع من العالم به [و]المتمكن من ذلك ولا إلجاء ولا ضرورة ... إما أن يكون له مدخل في استحقاق الذم به أو لا مدخل له في استحقاق الذم به، فإن كان له مدخل في استحقاق الذم به، فإما أن يكون ذلك بالفعل فهو القبيح [و] إما بالإخلال فهو الواجب. وما ليس له في استحقاق الذم به، فإما أن لا يكون له مدخل في استحقاق المدح به، أو له مدخل في استحقاق المدح به ..." وأطلق الكلام في القسم الثاني ولم يسمه حسناً للاختلاف في حده، فأخر الكلام عليه فقال بعد ذلك صفحة 239 من نفس الجزء : "اختلف في أن الحسن هل يحسن لوجه أم لا؟ فالذي عليه الشيخان ـ أي الجبائيان ـ أنه يسحن لوجه، ويكون ذلك الوجه عندهما كونه نفعاً مفعولاً بالنفس أو نفعاً مفعولاً بالغير [أو] دفع ضررٍ عن الغير أو كونه مستحقاً ... والذي اختاره الشيخ أبو عبدالله رحمه الله أنه لا وجه له لأجله يحسن، وإنما يرجع به إلى ما حصل فيه غرض وزالت عنه وجوه القبح. وإليه كان يميل قاضي القضاة" انتهى وما بين الشرطتين أضفته توضيحاً.
قال القاضي عبد الجبار : "القبيح ما يستحق عليه الذم، والحسن ما يستحق المدح" نقلاً عن (الدراية شرح الغاية) ص219 للبدر ابن إسماعيل الأمير.
وفي (شرح الأصول الخمسة) للسيد مانكديم : "الرسم الحقيقي للقبيح ما ليس لفاعله أن يفعله، والحد الرسمي ما يستحق فاعله الذم" نفس المصدر.
وقال الحسين بن بدر الدين : "القبيح: ما ليس للقادر عليه المتمكن من الإحتراز منه أن يفعله. والحسن: هو ما للقادر عليه أن يفعله" (ينابيع النصيحة) ملف 2 ص 2 بتحقيق المحطوري.
قال يحيى بن حمزة (ت 749) : "وذهب الشيخان أبو الحسين ومحمود الخوارزمي إلى أن هذه الأحكام ليست أمراً زائداً على ذات الأفعال على حد ما يقوله الشيوخ من أصحاب أبي هاشم؛ فالحسن عندهما ليس إلا أنه لا حرج على فاعله في فعله. والقبيح أمرٌ يُستحق عليه الذم، فقبح الظلم ليس إلا أنه يستحق عليه الذم، وحسن التفضُّل ليس إلا أنه لا حرج على فاعله" (الإنتصار) 1/ 141
وقد اقر بعض الأشاعرة ـ علىى خلاف العادة ـ لهم بذلك قال البدر بن إسماعيل : "وذكر البرماوي في (شرح منظومته) بعد ذكره لما ذكره أصحابه الاشعرية في محل النزاع من ذكر العاجل والآجل، والثواب والعقاب، أن للمعتزلة مذهباً آخر هو أن العقل يدرك المدح والذم في الحال ولا يدرك الثواب والعقاب في الآجل. قال : واقتصر عليه كثير منهم من النقلة وأقره بعضهم. انتهى.
قلتُ ـ أي الصنعاني ـ هذا الذي ذكره أخيراً هو الذي في كتب المعتزلة لا غير" انتهى (الدراية) ص 219.
وهو معنى الحسن والقبيح عند الماتريدية أيضاً، وكثيراً ما يزيدون هنا استحقاق الثواب والعقاب في الآجل، وهذا على كثرة ما تراه في كتب الأصول حتى يكاد يظن الظان أنه مُطْبَقٌ على نسبته إلى المعتزلة ليس هو مذهب المعتزلة إلا أن يكونوا ذكروه على سبيل اللزوم بعد ثبوت التكليف لا قبله، لأن استحقاق الجزاء الأخروي ثواباً أو عقاباً متوقفٌ عليه، ومسألة الحسن والقبح العقليين أعم من ذلك، لذا فإن الحسن والقبح عندهم يثبت بالعقل عند جميع العقلاء ولو لم يؤمنوا بالله سبحانه وهؤلاء لا يؤمنون بثواب ولا عقاب، وصرح بعضهم بأن الحسن القبح ثابتين في الآخرة مع عدم انتظار ثواب ولا عقاب كما نقله المقبلي عن صاحب (الفائق) من المعتزلة.
لكن من الماتريدية من زاد استحقاق الثواب والعقاب في الحد كقول صدر الشريعة المحبوبي : "أي يكون ذات الفعل بحيث يحمد فاعله عاجلاً ويثاب آجلاً، أو يذم فاعله عاجلاً ويعاقب آجلاً، أو يكون للفعل صفة بحمد فاعل الفعل ويثاب لأجلها أو يذم ويعاقب لأجلها" (التوضيح) 1/406 ط دار الأرقم، وكلام السعد يوافقه، فإما أن يكون هذا مختصٌ بالماتريدية، أو أنه خطأ عليهم هو أيضاً أو أنه ذكر في الحد على معنى اللزوم لفعل الحسن أو القبيح بعد التكليف لا على أنه داخلٌ في الحد. ويرشد إلى أنه ليس من الحد حتى عند الماتريدية أن منهم من لم يذكره في الحد كالأسمندي الذي عرف الحسن بأنه ما لفاعله أن يفعله والقبيح بأنه ما ليس لفاعله أن يفعله ، وفي موضع آخر عرف الحسن بحال يقتضي استحقاق المدح عليه والقبيح بحال يقتضي استحقاق الذم عليه من غير ذكر للآجل والعاجل، مع تصريح الجميع بأن أفعال الله جل وعلا حسنة وهو جل جلاله لا ينتظر بفعله عند الجميع ثواباً لا في العاجل ولا الآجل.
فإذا عرفت معنى الحسن والقبيح فاعلم انه ذهب أئمة الفقهاء والمحدثين والمعتزلة والماتريدية والكرامية والشيعة الزيدية والإمامية وغيرهم إلى إثباته، كما هو واضح مما تقدم، واختلف كلام الأشاعرة فيه، فمتقدموهم على النفي المطلق وأن الحسن والقبح في الأفعال إنما هو بمعنى الملائمة والمخالفة للغرض فقط، فالكذب من حيث هو ليس بحسن ولا قبيح عندهم، وإنما هو حسن بالنسبة إلى من وافق غرضه وقبيح بالنسبة إلى من خالفه، قال الغزالي رحمه الله في (الاقتصاد في الاعتقاد) ص 223 : "الذي يوافق الفاعل يسمى حسناً في حقه، ولا معنى لحسنه إلا موافقته غرضه ، والذي ينافي غرضه يسمى قبيحاً ولا معنى لقبحه إلا منافاته لغرضه" انتهى، وكذا هو بالنسبة لغير الفاعل عنده، ذكره في نفس الصفحة.
أما متأخروهم فمنهم من أثبت للأفعال معاني يصح بها وصف الفاعل بالكمال أو النقص، وهو مراد من سبق بالمدح (أو الحمد) والذم، راجع (المحصل) للرازي ص153 ط دار الفكر اللبناني.
وهذا يكاد ينفي الخلاف بين الفريقين ـ المثبت والنافي ـ ولكن يشكل عليه أن الحسن والقبح بهذا المعنى إما أن يكون ذاتياً للفعل أو بحسب موافقته ومخالفته للغرض أيضاَ، ثم يلزمهم على كل تقدير لوازم لا يلتزمونها وليس هذا موضع بسطها.
ثم لما ذهب المعتزلة إلى أن الأفعال تحسن وتقبح لذاتها أو لأمور واعتبارات ـ اختلاف ظاهري فقط بينهم ـ قالوا : إن الله لا يفعل القبيح وقالوا كل فعلٍ لو تركه رب العزة لكان قبيحاً فواجبٌ عليه فعله، لا على معنى أنهم فرضوا عليه ذلك، بل على معنى أنه ممتنع منه الإخلال به، كما تقول: واجب له العلم والقدرة مثلاً، لكن إخلالهم كان في إدخال كثير من الجائزات في جنس هذا الواجب فكانوا بذلك عند خصومهم يفرضون على الله ما لا يجب عليه سبحانه بمحض العقل، وهم يعتذرون بأنهم لا يقصدون إلا امتناع الإخلال بهذه الأمور لما يترتب على الإخلال من القبح، وأنهم لو يعلمون جوازها في نفس الأمر ما قالوا بوجوبها عليه سبحانه، فغايته أننا أخطأنا في تعيين افراد القبيح لا أننا نجيز فرض الفرائض على الله سبحانه ـ الكلام بلسان حالهم ولست معتزلياً ـ .
وإلا فقد وافقهم في أصل وصف أفعال الله سبحانه بالوجوب والامتناع أبو العباس ابن تيمية رحمه الله حيث قال في كتاب (النبوات) 2/ 950 : "وأيضاً فأفعال الرب إما واجبة وإما ممتنعة، وإذا لم يكن ممتنعاً تعين أنه واجب ... والمقصود هنا أن هذا كله يستلزم أن الرب منزه عن أن يفعل بعض الأمور الممكنة المقدورة، لكون ذلك يستلزم أمراً يناقض حكمته، ولكون فعل الشيء لا يكون إلا مع لوازمه، وانتفاء اضداده، فيمتنع فعله بدون لوازمه، أو مع ضده، كما يمتنع جعل الدليل دليلاً مغ وجوده بلا مدلول، أو مع وجود ضد المدلول ... " إلى آخر كلام له رائع غاية لولا أن يخرج بنا عن المقصود لاستوفيناه.
على أنه قصر أفعاله سبحانه على الواجب والممتنع والظاهر أن ذلك لأجل ما يذكره عادةً في المرجح لأحد الجائزين، أما المعتزلة فيجعلون من افعاله ما هو جائز فله أن يفعله وأن لا يفعله كأصل التكليف.
وعلى كل حال فقوله أن أفعاله سبحانه إما واجبة أو ممتنعة هو كقول المعتزلة، ولم يقل أحد أن أبا العباس يوجب على الله بعقله أموراً ويمنعه من أفعال أخرى.
وأشكل على جماعة وصف المعتزلة للحسن والقبح بالعقليين فزعموا أنه يثبون الأحكام بالعقل، ليس المقصود هنا أن أصل الحكم وُجِدَ بالعقل؛ فهذا لم يقله المعتزلة ولا اتهمهم به أحد من خصومهم، وإنما وهم فيه بعض الأفاضل في ملتقانا هذا، ولكنهم يريدون أن العقل قد يدرك حسن وقبح الفعل ومن ثم الحكم المترتب على حسنه وقبحه، فظن بعض الأشاعرة وغيرهم أن المعتزلة يزعمون استقلال العقل بمعرفة الأحكام الشرعية وعدم احتياجه إلى شريعة، وهذا وقع جهلاً بمقصود المعتزلة بإدراك العقل لصفتي الحسن والقبح من جهة وكيفية ترتب الأحكام على الأفعال من جهة أخرى.
وهو ما سيأتي الكلام عليه لاحقاً عند الكلام على الأحكام الشرعية
والله أعلم
 
التعديل الأخير:
إنضم
5 يونيو 2008
المشاركات
76
الكنية
أبو صلاح الدين
التخصص
شريعة
المدينة
...........
المذهب الفقهي
شافعي
رد: تعليل أفعال الله جل وعلا

هناك رسالة دكتوراة للدكتور عايض الشهراني اسمها التحسين والتقبيح العقليان وأثرهما في مسائل أصول الفقه , كنت قد لخصت الجزء الرئيس منها, فسأنقله هنا لعله يفيد إخواني.
 

المرفقات

  • التحسين والتقب&#16.pdf
    227.2 KB · المشاهدات: 2
إنضم
31 مارس 2009
المشاركات
1,277
الإقامة
عدن
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمن
التخصص
لغة فرنسية دبلوم فني مختبر
الدولة
اليمن
المدينة
عدن
المذهب الفقهي
شافعي
رد: تعليل أفعال الله جل وعلا

قد اطلعنا عليه، فإذا هو كغيره لا فرق إلا في كونه كبير الحجم
لا يصح أن تنقل مذاهب الناس من كتب خصومهم كما هو شائع دارج اليوم، وهو ما جرى عليه المصنف الفاضل.
والله أعلم
 
أعلى