رد: سلسلة الاستشكلات العلمية (22): عموم المقتضى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيك أبا فراس على إثارة هذه الاستشكالات العلمية، وقد أحببت أن أدلي بدلوي على وجه المدارسة على قلة بضاعتي.
والكلام في هذا على مسائل:
الأولى: تحديد اسم المسألة، ونوعها:
هذه المسألة مسألة أصولية يذكرها أهل الأصول في مباحث العام، أو في دلالات الألفاظ، أو في البيان وغيرها، وقد يتطرق لها بعض الفقهاء عند بعض المسائل، وهذه المسألة هي هل للمقتضى عموم أو لا؟
الثانية: ضبط كلمة "مقتضى":
هي مقتضَى على صيغة اسم المفعول؛ لأنها مدلول الاقتضاء كما سيأتي، وعليه فلا تنقط الياء قولا واحدا، والخلاف فيما لو كانت على صيغة اسم المفعول.
الثالثة: علاقة هذه المسألة بدلالات الألفاظ:
على وجه الاختصار: أنه في الدلالات التي تسمى دلالة غير المنظوم، أو في دلالة المفهوم: ما يسمى بدلالة الاقتضاء.
وهي دلالة اللفظ على معنى مسكوت عنه يجب تقديره لصدق الكلام أو لصحته شرعا أو عقلا.
والمعنى المدلول عليه بالاقتضاء يسمى مقتضى على صيغة اسم المفعول.
ونفس النص أو العبارة هو المقتضِي.
والاقتضاء هو الواسطة بينهما.
الرابعة: صورة المسألة:
إذا جاءت عبارة فيها دلالة اقتضاء، فإن فيها تقديرا ليصح الكلام، وثمة عدة تقديرات محتملة، ولم يدل الدليل على معين منها، ولا على عام منها؛ فهل نقدر كل المحتملات، أم نقدر واحدا منها؟؟
مثال ذلك: لو قال قائل: "والله لا أركبُ":
- فنفس العبارة: تقتضي مركوبا ليصح الكلام؛ إذ لا يُتصور ركوب بلا مركوب.
وهي-أعني العبارة-المقتضِي، وهل للمقتضي عموم أو لا؟ بحيث تشمل كل ركوب-بقطع النظر عن المركوب المقتضَى-في كل حال في أي زمن، ومكان كان هذا الركوب؛ فيه خلاف، وليس هو المقصود هنا-فيما يظهر-.
- وما تقتضيه العبارة: هو المقتضَى، وهو المقدر، ويحتمل أن يكون المركوب المقدر: سيارة أو حمارا أو خيلا أو غير ذلك، وليس ثمة دليل نأخذ منه أحد هذه المعينات، أو ما يفيد شمول جميع المعينات بالحكم.
فهل للمقتضى عموم أو لا؟ هنا محل المسألة، وهناك اتجاهان للعلماء:
الاتجاه الأول: أن للمقتضى عموما، وهو مذهب بعض الشافعية، والحنابلة، فيشمل في المثال السابق جميع المركوبات، فإن قال إنني نويت السيارة؛ خُص الحنث بركوبها فقط، دون ركوب الخيل والحمار وغيرها؛ لأنه يمكن تخصيص العموم هنا بالنية.
الاتجاه الثاني: أن المقتضى لا عموم له، وهو مذهب بعض الحنفية، بل يكتفى بأقل شيء يمكن به تصحيح الكلام، فإذا صح الكلام بأدنى وأخص تقدير؛ اكتفينا به، وذلك أن التقدير كأكل الميتة حال الضرورة فتتقدر بقدرها، وعليه فلو قال الحالف إنني نويت السيارة؛ فيقال هذا تخصيص، والتخصيص إنما هو للعموم، وليس هنا عموم حتى يخصص؛ فتلغى هذه النية لعدم قبولها محلا، وذلك أن هذه العبارة إنما تقتضي مركوبا، وليس مركوبا صفته أنه كذا.
ومنشأ الخلاف: وبه يتضح الاتجاهان: هل النفي هنا للأفراد (سيارة جمل...)؛ فيُقبل التخصيص، أو أن النفي للماهية، وهي لا أفراد لها؛ فلا يُقبل التخصيص.
وأيضا: هذا متفرع عن مسألة هل العموم من عوارض المعاني أو الألفاظ؟، فإن قيل بأنه من عوارض المعاني، أو بأنه يمكن أن يستفاد من المعاني؛ قيل بأن للمقتضى عموم، وإن قيل بأن العموم لا يستفاد من المعاني، بل لا يؤخذ إلا من الألفاظ؛ قيل بأن المقتضى لا عموم له، وذلك أن المقتضى من قبيل المعاني.
الخامسة: مثال تطبيقي:
النص الشرعي الذي فيه دلالة اقتضاء: قول النبي ‰: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
الدلالة الظاهرة للنص أن المرفوع عن الأمة هو وقوع الخطأ والنسيان والإكراه منها، ولكن لما كان هذا منتفيا؛ لأن الأمة ليست بمعصومة عن الوقوع فيها، لزم من هذا تقدير ليصح الكلام.
والتقدير إما أن يكون: الإثم، أو الحكم، أو هما معا.
فعند أصحاب الاتجاه الأول-وهو أن للمقتضى عموما-: أن النفي واقع على أفراد، ولا يوجد دليل خارجي نقتصر به على أحد الأفراد؛ فيعم الحكم-وهو الرفع-جميع هذه الأفراد، فيكون المرفوع عن الأمة الإثم والحكم معا.
وعند أصحاب الاتجاه الثاني-وهو أن المقتضى لا عموم له-: أن النفي إنما هو واقع على ماهية واحدة، ولابد أن نقتصر على أدنى تقدير يصح به الكلام، وهو الإثم؛ فيكون المرفوع عن الأمة هو الإثم، ولا نجاوز هذا إلى رفع الحكم؛ لأن هذه ضرورة تقدر بقدرها.
ومثال الاستدلال بهذا الحديث على مسألة فقهية: الكلام في الصلاة ناسيا، فإنه من المقرر أن الكلام في الصلاة ممنوع، فلو تكلم أحد في الصلاة ناسيا، فما الحكم؟
أما الإثم فمرفوع بلا إشكال، وهو مرفوع بالإجماع.
وأما الحكم: فإنه عند أصحاب الاتجاه الأول؛ يصححون صلاته؛ لأن الحكم مرفوع حال النسيان، وعند أصحاب الاتجاه الثاني؛ يبطلون صلاته؛ لأن الحكم باق لم يرفع.
وقد صحح الشافعية الصلاة كما في تحفة المحتاج (2/ 140)، وأبطل الحنفية الصلاة كما البحر الرائق (2/ 2)، وأما الحنابلة فعلى روايات، والمعتمد من المذهب البطلان كما الإنصاف (2/ 134)
والإشكال في هذه المسألة أنه قد يُستدل بدليل خارج؛ فلا يتعين هنا تطبيق الأصل المقرر سابقا، وكذلك في مسألة الطلاق، وأما مسألة الأيمان فقد سبقت، وهي أوضح ما يطبق عليه هذا الأصل.
وآمل من الإخوة تصويبي إن أخطأت.
المراجع:
إتحاف ذوي البصائر (4/2002).
الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (2/ 249)
إرشاد الفحول (1/ 327).
أصول السرخسي (1/ 248)
أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ص: 375).
البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (2/ 2).
البحر المحيط في أصول الفقه (4/ 210).
تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي (2/ 140).
تيسير التحرير (1/ 241).
شرح التلويح على التوضيح (1/ 263)
فتح القدير للكمال ابن الهمام (1/ 396) (3/ 488) (5/ 133).
فصول البدائع في أصول الشرائع (2/ 204)
قواطع الأدلة في الأصول (1/ 171)
كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (1/ 76).
المحصول للرازي (2/ 382).
مختصر التحرير شرح الكوكب المنير (3/ 203).
المستصفى (ص: 237) (ص: 263).
نهاية السول شرح منهاج الوصول (ص: 189)
نهاية السول شرح منهاج الوصول (ص: 189).