د. فؤاد بن يحيى الهاشمي
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 29 أكتوبر 2007
- المشاركات
- 9,059
- الكنية
- أبو فراس
- التخصص
- فقه
- المدينة
- جدة
- المذهب الفقهي
- مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
هل ابن حزم الظاهري غير ظاهري؟
يعقد الدكتور المبارك بشار عواد حفظه الله هذه الأيام بعض المجالس العلمية في القصيم، في صورة جميلة وغير مألوفة، ويتناقل طلبة العلم عنه الكثير من الفوائد، وقد تعجبوا من جلده في العلم والتصنيف.
وفي الأجواء الإلكترونية أثار بعض الإخوة ما ذكره الدكتور بشار في بعض هذه المجالس أن ابن حزم ليس ظاهريا، بل هو لا مذهبي، وأنه أقرب ما يكون إلى الإمام أحمد، وأنه في كل المحلى لا ينتقد أحمد بن حنبل، بل كان يجله.
واستشهد على ذلك بأن جميع نسخ المحلى لابن حزم (6نسخ تقريباً) مصنفة في المكتبات في الفقه الحنبلي.
ولعل أول من أثار هذه الطريقة: هو ابن العربي المالكي، الخصم اللدود لابن حزم، فإنه قال في معرض ذمه لابن حزم في كتابه العواصم: (ثم انتسب إلى داود، ثُمَّ خَلَعَ الكل، واستقلَّ بنفسه، وزعم أنه إمام الأئمة ..) العواصم مِن القواصم (ص249 ، 250).
وأقول: هذا الكلام مخالف للحقيقة التي هي فوق الجدل، فإن ابن حزم هو المؤسس الثاني لمذهب أهل الظاهر، بل هو من تكفل بنظم منهجه، ورسم أصوله، وبسط فروعه، والمنافحة عنه.
ولذا تنتظم أصوله في أصول أهل الظاهر، وعلى القائل بأن ابن حزم لم يكن ظاهريا، أن يثبت لنا الأصول المنهجية التي خالف فيها ابنُ حزم أهلَ الظاهر؟
وإذا لم يكن ابن حزم من أهل الظاهر، فمن هم أهل الظاهر؟
ويقول ابن حزم في منظومته في أصول فقه الظاهرية (الرسائل الكمالية الجزء 16، نوادر ابن حزم لابن عقيل الظاهري):
وخُذْ ظَاهِرَ الأَلْفَاظِ لا تَتَعَدَّها ... إِلَى غَايَةِ التَأْوِيل تَبْقَ مُؤَيَّدا
فالأخذ بالظاهر أصل أصيل في منظومة أهل الظاهر، لا يمكن تصور ابن حزم بدونها.
وكذا: الاقتصار على النص، والأخذ بالدليل (اصطلاح خاص لأهل الظاهر)، واعتبار اليقين، وتضييق دائرة الإجماع، وإنكار المفاهيم.... كلها أصول ظاهرية، اعتبرها ابن حزم، وإن خالفهم فيها في أحرف يسيرة، مثل تفسير صورة إجماع الصحابة المحتج به ونحو ذلك.
وأيضا فإن ابن حزم ينتسب إلى أهل الظاهر، ويحكي عن الظاهرية أنهم أصحابه، ولما أثبت بعض المنتسبين إلى أهل الظاهر شيئا مما يعده الظاهرية من القياس، استدرك عليهم ابن حزم، وقال: (هذا ليس يقول به أبو سليمان، ولا أحدٌ مِنْ أصحابنا، وإنما هو قولٌ لقومٍ لا يُعْتَدُّ بهم في جملتنا كالقاساني وضربائه).
فانظر كيف اعتبر الظاهرية أصحابه، وأنه وهم جملة واحدة.
وهذا في كلام ابن حزم كثير.
وأيضا فإن إطباق الناس على إضافة ابن حزم للظاهرية لا يحتاج إلى أن يتكلفه أحد، بل ما أكثر ما تنسب أقوال ابن حزم إلى أهل الظاهر، وإن كان قد خالفهم فيها، فقد بات ابن حزم هو الممثل لأهل الظاهر.
ومن تتبع كلام ابن حزم يعرف القسمة الحصرية بين أهل الرأي والقياس وبين أهل الظاهر، ومن ذلك طائفة من كتبه، مثلا:
- كتاب الإظهار لما شنع به على الظاهرية.
- كتاب كشف الالتباس لما بين أصحاب الظاهر وأصحاب القياس.
- كتاب الإعراب عن الحيرة والالتباس الموجودين في مذاهب أهل الرأي والقياس.
- كتاب الصادع في الرد على من قال بالقياس والرأي والتقليد والاستحسان والتعليل.
وأيضا: فإن أخبر الناس بابن حزم هو صديقه القرطبي وشيخه المعمر، حافظ المغرب، من كان عليه مدار فقه الأندلس: ابن عبد البر، وما أكثر ما يصفه بالظاهري، في معرض الرد عليه في كتابيه: التمهيد، والاستذكار.
أما كون نسخ المحلى مصنفة في المكتبات في الفقه الحنبلي: فهذا ينظر في سببه، علما أنه لم يكن لابن حزم في جملة الأندلسيين عناية بالفقه الحنبلي لا دراسة ولا اعتراضا، لتأخر انتشار كتبه عندهم (في كتابي نظرية الإلزام، دراسة لأسباب ذلك، عند الحديث عن إلزامات ابن حزم للحنابلة).
وأيضا، فقد نص ابن حزم في الرسالة الباهرة على تقديم داود على أحمد، وهو نص في موضع النزاع!
فقد أثنى ابن حزم على أحمد بن حنبل ثناء لا يوصف، لكنه بعد مرتبة داود، انظر إلى قوله:
(أحقُّهم بصفة الفقه داود بن علي...ثم أحمد بن حنبل ..»([1]).
أما داود نفسه فهو غاية الوصف، فقد لحق المتقدمين وآثر على المتأخرين.
وسبب كون داود بن علي أحق الناس بوصف الفقه عند ابن حزم: أنه كان لا يفارق السنن والإجماع أصلاً، ولا يقول برأيه البتة، ولا يقلِّد أحداً، كما أنه واسع الرواية جداً، جامعٌ للسنن غاية الجمع، ضابطٌ لها نهاية الضبط([2]).
ولما أثنى على الشافعي وأحمد في تقديم النصوص وتنقية الآراء، وصف مرحلة داود، فقال: (ثم تلاهما داود: فأكمل تلك الفضيلة، وتمم تلك الحسنة، وأوضح أنَّ القرآن، وكلام رسول الله ï·؛، وأفعاله، وإقراره، وإجماع العلماء كلهم: قد استوعبت هذه الوجوه جميع الشرائع، ونوازل الأحكام كلها، أولها عن آخرها، وبين ذلك بياناً كافياً، فكانت له بذلك درجة موفورة، وذخيرة ... ذخرها له، لَحِقَ بها المتقدِّمين، وآثر على المتأخِّرين، وأحيا ما دثر مِنْ أعمال الصحابة والتابعين لهم رضي الله عنهم أجمعين في اتباع السنن والقرآن فقط، فاقتنى الأجر في أهل الحق والإنصاف، وأقام الحق على الشذوذ والخلاف، وحوى بذلك خصل الجواد إذا استولى على الأمد، وحصل على قَصَبِ السَّبْق، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء([3]).
وهذا الثناء البالغ مِنْ ابن حزم الأندلسي لشيخه داود الأصفهاني والذي كاد أنْ يُضيفَ ابنَ حزم إلى جماعة المقلِّدة، وما قالوه في أئمتهم لولا أنه استدرك على نفسه وَفْقاً لمنهجه الظاهري، فقال: «وإنْ كان قد أخطأ في كثير مِنْ فتاويه، فالعصمة مِن الخطأ ليست لأحد مِن الناس بعد رسول الله ï·؛، ولكنْ له بالتنبيه على ما ذكرنا منزلة رفيعة، ومحلَّة عالية، ويستحق بذلك التقدُّم في الفقه، وليس ذلك بموجب تقليده، لما ذكرنا من أنه لم يُعصم مِن الخطأ بعد رسول الله ï·؛ أحد من الناس، ولا يحل أنْ يقلَّد مَنْ يخطئ، وإنْ أصاب في كثير»([4]).
إذن نستنتج مما سبق ثلاثة أمور:
- تعظيم ابن حزم البالغ لشيخه داود، وأنه أفقه الأئمة على الإطلاق.
- أنَّ داود أخطأ في كثير مِنْ فتاويه، فالعصمة مِن الخطأ ليست لأحد مِن الناس بعد رسول الله ï·؛.
- أن منهجية ابن حزم في الاجتهاد وعدم التقليد لأحد ليست خروجا عن منهج أهل الظاهر، وإنما هو من صميم المنهج الظاهري.
([1]) الرسالة الباهرة (ص48).
([2]) راجع: الرسالة الباهرة (ص42 ، 47).
([3]) الرسالة الباهرة (ص48 ، 49 ).
([4]) الرسالة الباهرة (ص49 ، 50).
([5]) «رسائل ابن حزم» ( 2/ 82، 84)، «نفح الطيب» (2 / 83)، «البدر الطالع» (2/281).
التعديل الأخير: