رد: الوصية الواجبة
الوصية الواجبة أمر مستحدث في الفقه الاسلامي وتشريع الاحوال الشخصية، وهي لم تأت على لسان الفقهاء المتقدمين ولا المتأخرين بالتفصيل الوارد في قانونين الأحوال الشخصية المعمول به في معظم البلاد الإسلاميَّة، ولم يقل بها أحد من علماء الإسلام قاطبة على مدار أربعة عشر قرناً من الزمان.
ودعوى نسبته إلى من ذكر الباحث من التابعين وأئمة الفقه؛ فيه تجنٍّ عليهم؛ إذ إن كلَّ من ذكر إنما قالوا بوجوب الوصيَّة على العموم في ضمن مسألة بيان حكم الوصيَّة في الأصل؛ هل هي مستحبَّة، أو واجبة؛ في ضوء فهم قوله تعالى: ï´؟
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقينï´¾، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده).
والخلاف بين الفقهاء معلوم في مظانه.
فالإمام أحمد رحمه الله في رواية عنه -المذهب خلافها- أنَّ الوصيَّة واجبة وليست مستحبَّة. ولكن القول بوجوب الوصيَّة لا يختص بالصورة التي ذكرتها قوانين الأحوال الشخصية، وإنما هي لكل قريب غير وارث.
قال المرداوي في الإنصاف (7/143): (قوله: والوصية مستحبة. هذا المذهب في الجملة وعليه جماهير الأصحاب وقطع به كثير منهم.
وعنه: تجب لقريب غير وارث اختاره أبو بكر. ونقل في التبصرة عن أبي بكر وجوبها للمساكين ووجوه البر).
وكذا الأمر عند ابن حزم رحمه الله؛ فابن حزم لا يخصّ الوصية بالأحفاد، بل تكون لجميع الأقارب غير الوارثين، ويوجب على الموصي أن يوصي لثلاثة من أقاربه على الأقل؛ لأن هذا هو أقل الجمع، كما أن ابن حزم لم يحدد الجزء من المال الموصى به بمقدار معين، بل بما يشاء الميت؛ فإن لم يوص فالورثة أو الوصي هم الذين يحددون مقدار ما يخرجونه من المال للأقارب.
قال ابن حزم رحمه الله في المحلى (8/351): (فمن مات ولم يوص؛ ففرضٌ أن يُتصدّق عنه بما تيسّر، ولا بد؛ لأن فرض الوصية واجب، كما أوردنا؛ فصحّ أنّه قد وجب أن يخرج شيء من ماله بعد الموت؛ فإذ ذلك كذلك فقد سقط ملكه عمّا وجب إخراجه من ماله. ولا حدّ في ذلك إلا ما رآه الورثة، أو الوصي ممّا لا إجحاف فيه على الورثة). إلى أن قال : (وفرضٌ على كل مسلم أن يوصي لقرابته الذين لا يرثون، إما لرقٍّ، وإما لكفر، وإما لأن هنالك من يحجبهم عن الميراث، أو لأنهم لا يرثون؛ فيوصي لهم بما طابت به نفسه، لا حدّ في ذلك؛ فإن لم يفعل أُعطوا ولا بدّ ما رآه الورثةُ، أو الوصيُّ).
وبالرجوع إلى الآثار المنقولة عن التابعين؛ نجد أنَّ أقوالهم في هذه المسألة هي عين ما حكي عن الفقهاء من القول بوجوب الوصية على وجه بيان الحكم العام، وأنها تعمُّ جميع قرابات الميت ممن لا يرث، دون تخصيصه بالصورة الواردة في القوانين.
فروى ابن أبي شيبة في مصنفه (رقم 31594) عن الحسن قال : (
نسختها آية الفرائض ، وترك الأقربون ممَّن لا يرث).
وروى سعيد بن منصور (2/664، رقم253) عن طاووس قال: (إنَّ الوصيّة كانت قبل الميراث، فلمّا نزل الميراث نسخ الميراث ممّن يرث، وبقيت الوصيّة لمن لا يرث؛ فهي ثابتة بغير ذي قرابته، لم تجز وصيّته؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تجوز وصيّة لوارث).
وأخيراً: نصحتي للأخ الباحث الذي بذل جهداً يشكر عليه في بحثه؛ ونحسب أن غايته بلوغ الحق والصواب؛ فنسأل الله أن لا يحرمه الأجر والثواب. وعليه كباحث أن يكلّف نفسه عناء الرجوع إلى المصادر والمراجع التي اعتنت بنقل أقوال الأئمّة وبيان آرائهم الفقهيَّة ليبحث فيها، ولا ينقل أقوال الفقهاء بالواسطة من المصادر المعاصرة، لأن هذا في الحقيقة يخالف المنهجية العلميَّة في كتابة البحوث العلميَّة، لا سيّما إذا كان الباحث بلغ مرحلة الدراسات العليا.
ولا يكون النقل من المصادر المعاصرة إلا في أضيق الحدود عند تعذر الرجوع إلى المصادر الأصلية، مع بيان أنّ هذا المصدر هو من من عزا القول لقائله دون أن يجزم هو بذلك.
اللهم اهدنا إلى أحسن القول والعمل، واغفر لنا خطأنا وزللنا، ما علمنا منه وما لم نعلم.
بعد كتابة هذا التعليق وقفت على تعليق سابق لأحد الباحثين في هذا الملتقى المبارك حول الموضوع نفسه؛ فلينظر لمن أراد الاستفادة:
http://www.feqhweb.com/vb/t19663