العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

محاكمة الإمامين ابن حزم وابن دقيق للإمام الصنعاني

إنضم
16 ديسمبر 2007
المشاركات
290
محاكمة الإمامين ابن حزم وابن دقيق للإمام الصنعاني

قال الإمام العلامة محمد بن إسماعيل الأميرالصنعاني في كتابه الماتع " العدة على إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام " (1/ 131 ـ 140) :
" قوله " وليس هذا من مجال الظنون ، بل هو مقطوع به " أقول :فلا يقال فيه : أن كل مجتهد مصيب ، أذ ذلك في الظنيات لا القطعيات ، فيعلم خطأ من ذهب أليه ، ويجب النكير على من استند اليه ، فان دلالته على استواء الأمرين - وهما حصول البول في الماء من إناء أو من مخرجه ـ دلالة قطعية . واعلم أن الشارح المحقق تعرض لما قاله الظاهرية في شرح الإلمام وبسطه ، وذكر إيرادات لابن حزم على من نازعه ، ورأيت نقل ما هنالك الى هنا لعزة وجوده ، وتعقب الشارح لما قاله أبو محمد بن حزم ، وقد تعقبت ما قاله الشارح كالمحاكمة بين الشارح وابن حزم ، فما أقول فيه " قلت " فهو من المحاكمة ، وقد أقول بعده " أقول " وهو لا يخفي على الناظر .
قال الشارح (أي ابن دقيق العيد ) : ارتكب الظاهرية ههنا مذهبًا وجه به الملامة اليهم وأفاض سيل الازراء عليهم حتى أخرجهم بعض الناس من أهلية الاجتهاد واعتبار الخلاف في الإجماع . قال ابن حزم منهم : إن كل ماء راكد قل أو كثر من البرك العظام وغيرها بال فيه إنسان فانه لا يحل لذلك البائل خاصة الوضوء منه ولا الغسل ، وان لم يجد غيره ففرضه التيمم . وجائز لغيره الوضوء منه والغسل ، فهو طاهر مطهر لغير الذي بال فيه . ولو أنه تغوط فيه أو بال خارجا منه فسال البول الى الماء الدائم أو بال في إناء وصبه في ذلك الماء ـ ولم تغير له صفة _ فالو ضوء منه أو الغسل جائز لذلك المتغوط فيه والذي سال بوله فيه ولغيره . وممن شنع على ابن حزم في ذلك الحافظ أبو بكرابن معود فقال بعد حكاية كلامه : فتأمل أكرمك الله ماجمع هذا القول من السخف وحوى من الشناعة ، يزعم ـ أى قائله ـ أنه الذي شرعه الله وبعث به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم . قال : واعلم أكرمك الله أن هذا الأصل الذميم مربوط على ماأقول ومخصوص على ماأمثل أن البائل على الماء الكثير ولو نقطة أو جزء من نقطة نقطة فحرام عليه الوضوء منه ، وإن تغوط حملا أو جمع بوله في إناء شهراً ثم صبه فيه ولم تتغير له صفة جاز له الوضوء منه ، فأجازله الوضوء منه بعد حمل من الغائط أنزله به أو صب من بوله الذي صبه فيه ، وحرمه عليه لنقطة من بول بالهافيه ، جل الله عن قوله ، وكرم ذينه عن إفكه . والشناعة كلها راجعة إلى ما قررناه من قوة القياس في معنى الأصل ، فانه قد ظهر ظهورا قويا لا يرتاب فيه ، بحيث قد يدعى فيه القطع أن النهى عن استعمال ما وقع فيه البول إنما هو لأجل ما تقنضيه صفته من الاستقذار ، ومتى وجد هذا المعنى ـ بأي طريق كان ـ وجب أن يكون الحكم ثابتا . انتهى .
ثم إنه رد ابن حزم على من شنع عليه وأجاب بالزامات وتعقبها الشارح فقال : وتجلد ابن حزم وشدّد . ثم نقل كلامه متعقبا له فقال : إنه أورد ابن حزم على مخالفيه أشياء قصد بها أن يساوى بينه وبينهم ، فقال في أثناء كلامه : وهل فرقنا بين البائل وغير البائل إلا كفرقهم معنابين الماء الراكد المذكور في الحديث وغير الراكد الذي لم يذكر ؟ قال الشارح : التشنيع إنما كان لعلمنا بأن المنع من الغسل والوضوء لسبب وقوع النجاسة ولتجنيها فيما يتقرب به الى الله تعالى ، والقطع بمساواة حال البائل خارج الماء وإجراء البول اليه والبائل فيه بالنسبة الى حال التنزه عن النجاسة في الصلاة ليس إلا لاستقذارها وطلب إبعادها عن حال القربة لهذا المعنى . قلت : ابن حزم يقول :هذا الماء الذي بال فيه من نهى عن البول ماء طاهر ، لأن الفرض عنده أنه لم يغيره البول ، والماء الطاهر لم يمنع عنه الشارع ولا نهى عنه ، بل أمر بالوضوء مثلا منه ، ونهى عن هذا الطاهر البائل بخصوصه ، فقلنا بالنهى عنه تعبدا لا لنجاسته التي زعمتم ، فانه لو تغير بالبول قلنا بنجاسته وتحريمه . ومثله البول إذا صب فيه إن غيره صار نجسا ، وإن لم يغيره فهو ماء طاهر لم ينه الشارع عنه أحدا ، فأى وجه للمنع عن التطهر به ؟ بخلاف الذي بال فيه الإنسان فانه يثبت النهى عنه تعبدا . وخلاصة الكلام وأساس المرام أن من خالف ابن حزم علل النهى عن وضوء البائل في الماء الراكد بالنجاسة فألحق به ماشاركه في العلة هو الراكد الذي صب فيه البول ، وابن حزم علل النهى بالتعبد فلا إلحاق ، ثم بناه على أصل آخر وهو أنه لا ينجس من الماء الا ما تغير أحد أوصافه بالنجاسة تقع فيه ، والغرض أن الماء الذي بال فيه من نهى عنه لم تغيرله صفة فهو طاهر نهى عنه البائل فيه تعبدا ولم ينه عنه غيره ، بل غيره مأمور باستعماله . قال الشارح : وأما فرقنا بين الماء الراكد في الحديث وغير الراكد الذي لم يذكر فيه فانا لا ننكر الفرق عند اتحاد المعنى الذي بوقت الفرق ، ولاعند انحسام المعنى ووجوب المصير إلى التعبد ، وإنما انكر ناه عند ظهور المني ظهورا قويا جدا ، واقتضى ذلك المنى التسوية ، فانكار الفرق من ههنا جاء . قلت : وهو محل نزاع ابن حزم فانه يقول : هذا الماء الراكد الذي بال فيه من نهى عنه شرعا لعدم تغير وصف من أوصافه بالبول فلا فرق بينه وبين غير الراكد الذي لم يذكر في الحديث في الطهارة التي هى المعنى الملاحظ في جواز الاستعمال ، لكنه نهى الشارع البائل فيه أى عن الراكد مع طهارته تعبدا ، فأين ظهور المعنى الذي ذكرتم ؟ فانكم أردتم به النجاسة وهى محل النزاع ، فانه عندنا طاهر . ثم قال ابن حزم : وكتفريقهم في الغاصب للماء فيحرم عليه شربه واستعماله ، وحلال لغير الغاصب له . قال الشارح : قلنا هذا ركيك جدا لأن ما ثبت لعلة مقتضية للتفرقة بين الغاصب وغيره ، لأنها ليست إلا العدوان وتحريم مال الغير . قلت : وابن حزم يقول كذلك التفرقة بين البائل في الراكد وغير البائل هو قضاء النص التفرقة بينهما ، فلماذا شغتم علينا ، ولم قبلتم الفرق في الغاصب وغيره بالنص ، ولم تفبلوه بالنص في البائل وغيره ؟ ثم قال ابن حزم : وهل البائل وغير البائل إلا كالزانى وغير الزاني والسارق وغير السارق والشارب وغير الشارب والمصلي وغير المصلى ، لكل اسم منها حكمه . وهل الشنعة والخطاإلا إن برز نص في البائل فيحمل ذلك الحكم عليه وعلى غير البائل ، وهل هذا إلا كمن جعل حكم السارق على غير السارق وحكم الزاني على غير الزاني وحكم المصلي على غير المصلي وهكذا في جميع الشريعة ؟ نعوذ بالله من هذا . قال الشارح : قلنا جميع ما ذكرت من التفرقة في هذه الصور ليس للأسامي كما تزعم ، ولا الاقتصار في هذه الصور لأن الحكم متعلق بالاسم ، بل لأن العلل التي أوجيت تلك الأحكام وعلم أنها أسبابها وهى العقوبات على ارتكاب الجنايات المحرمة شرعا يقتضى الفرق بين من جنى بارتكاب المعصية وبين من لم يجن إن أراد أنها تجب التسوية في خصوص الأحكام ، وهو أن يسوى بين السارق وغيره في العقوبة وهى القطع في السرقة ونحوه في غيرها والجلد في الزنا وأنه يجلد من لم يزن وسائر ماذكره . قلت : معلوم أنه لم يرد ابن حزم هذا ، كيف وهو يورد هذا في سياق الإلزام لمن شنع عليه في تفرقته بين البائل في الماء وغير البائل فيه ، فجعل الحاكم التحريم على الإول ، وذلك كنهيه عن البول في الماء ونقله عن غير البائل فأباح له الماء ، فأراد إلزام من شنع عليه بأنه فرق بين السارق مثلا وغير السارق فأوجب العقوبة على الأول دون الثاني ، فكذلك هو أوجب عقوبة البائل بتحريم الماء عليه وأباحه لمن لم يبل فيه ، لأنه لم يحرم عليه الشارع ذلك الماء فلا عقوبة عليه بتحريم الماء عليه ، فلم يكن مراده تعميم الحكم وهو المنع عن الماء ، بخلاف من شنع عليه فانه عاقب من لم يبل فيه بتحريمه عليه فعمم الحكم فيلزمه أن يعمم الحكم في السارق وغيره في العقوبة إذ غير البائل كغير السارق فما وجه التفرقة بين العقوبتين ؟ قولكم إن غير السارق لم يرتكب جناية السرقة فيعاقب بالقطع ، قال : وغير البائل لم يبل في الماء ، فلماذا عوقب عقاب من بال فيه ؟ إذا عرفت هذا عرفت بطلان إرادة ابن حزم لهذا القسم من الترديد ، ولم يأت الشارح بالطرف الآخر من الترديد . قال ابن حزم : لو انصف المالكيون والشافعيون لأنكروا على أنفسهم تفرقتهم بين مس الذكر باطن الكف فينتقض الوضوء وبين مسه بظاهر الكف فلا ينقض الوضوء . قال الشارح : قلنا سبب التفرقة أن الإفضاء لا يكون الا بباطن الكف وأن هذا نص اللغة واخبار عنها بأن هذا هوالوضع ، فان صح فالا نتقاض على هذا التقدير بالنص ، وإن لم يصح ما ذكر من أن الإفضاء لايكون إلا بباطن الكف فالخطا ههنا مبى على فساد الأصل لا على وجوب المساواة بين باطن الكف وظاهر ها الذي تحاول تقريره . قلت : ابن حزم أنكر التفرقة لعدم ثبوت كون الإفضاء لايكون إلابباطن الكف في اللغة ، بل الإفضاء فيها هو الإيصال ، قال الله تعالى ( وقد أفضى بعضكم إلى بعض ) فسره ابن عباس رضى الله عنهما بالوطء . والحاصل أن هذا بحث لغوى الحق فيه مع [ ما] (1) فسره ابن عباس في الآية بالوطء ، وغايته أنه كما قاله الشارح أمر يدور على صحة اللفظة . قال ابن حزم : وهؤلاء الشافعيون فرقوا بين البول في مخرجه من الإحليل فجعلوه يطهر بالحجارة وبين ذلك البول في نفسه وبين ذلك الإنسان في نفسه إذا بلغ بوله أعلى الحشفة فجعلوه لا يطهر إلا بالماء . قال ابن دقيق العيد : قلنا فرقو ا للدليل الدال على اجتناب النجاسات مع الدليل الدال على الاكتفاء بالأحجار في محل الإحليل مع قاعدة وهو أن مورد النص إذا اشتمل على وصف يمكن أن يكون معتدا به في الحكم لم يجز إلغاؤه ، لأنه لو ألغى لكان قياسا مع إمكان الفارق ، وهو غلط . ولا شك أن البول في الإحليل ، ويمكن أن يكون الشارع سامح من ذلك مع كون الأصل تجريم استصحاب النجاسة في العبادة لأجل هذه النجاسة المكررة فلا يخلو عن محل النص به لا حتمال اعتبار الفارق الذي في محل النص . انتهى . أقول : مراد ابن دقيق العيد أن وجه فرقهم الذي أوجب جعل الأحجار مطهرة في ثقب الإحليل وغير مطهرة له في الحشفة ، وهو أن الدليل قد دل على الاكتفاء بالأحجار في محل خروج البول فلا يلحق به في الاكتفاء بها ما يقع منه في الحشفة لأنه إلحاق بالقياس ، والفارق الذي لا يتم معه القياس ، ممكن ، إذمورد النص ثقب الإحليل والحكم الاكتفاء بالأحجار منه ، والبول في ثقب الإحليل متكرر يبتلى به المكلف ولا يساويه في غير ثقب الإحليل أى في الحشفة في ذلك . هذا هو الفارق الذي أشار اليه وأنه لا يتم معه القياس للاكتفاء بالأحجار في طهارة الحشفة . قلت . ولا يخفى أن ابن حزم لم يرد إلزام الشافعية بأنهم يقيسون الحشفة التى وقع منها البول بثقب الإحليل في كفاية الأحجار للتطهر بها ، وأنما أراد إلزامهم بأنهم قالوا بما قالته الظاهرية من الفرق بين البائل وغيره . فكذلك هم فرقوا بين بول الانسان بعينه في ثقب ذكره أو في حشفته ، فان كان فرقهم بنص ورد به فهو كما تقوله الظاهرية إنه فرق النص بين البائل وغيره فلا يختص التشنيع بهم ، وان كان لغير نص فأبعد وأشنع . ثم لا يخفى أن ابن دقيق العيد قال : المكلف مبتلى بالبول في الإحليل بتكرره ، ولا يقع هذا الا بتلاء في غير الإحليل ، وهى عبارة قاصرة ، فليس المراد بالإحليل إلا ثقبه وبغيره الحشفة التى هى محل إلزام ابن حزم للشافعية لا غير الإحليل وهو ظاهر فلا بد من إصلاح عبارة ابن دقيق العيد بأن مراده بالإحليل ثقبه وبغيره الحشفة هنا .
ولا يعزب عنك أن الأحاديث في الأحجار أنها تنقى المؤمن ، ولم يأت في الأحاديث تفرقة بين ثقب الإحليل والحشفة ، فلينظر . قال ابن حزم : وفرق بين بول الرضيع وبين غائطه في الصب والغسل ، وهذا هو الذي أنكر واعلينا ههنا بعينه .
قال ابن دقيق : قلنا للتفريق مأخذأن أحدهما: أن الأصل اجتناب النجاسة ، والنص ورد في البول ، فيبقى في الغائط على مقتضى الأصل . وفرقوا بين البول والغائط لا قتضاء الدليل وجوب الاحتراز عن الغائط ، وتفريقهم ههنا بين البول والغائط لايساوى هذا . انتهى . وأقول : لابن حزم أن يقول : ونحن فرقنا بين البول والغائط لا قتضاء الدليل ، فان الشارع نهى البائل عن الماء الذي بال فيه ولم يتغير لونا ولا ريحا ولا طعما هو ماء طاهر اختص بالنهى عنه البائل ولم ينه المتغوط لو تغوط في الماء ولم تتغيرله صفة ، فهو ماء طاهر غير منهى عنه ، فما لكم والتشويش بذكر النجاسة والطهارة ؟ وأما قولكم فبقى الغائط على الأصل ، فنحن نقول كذلك ، إنما كلامنا في قبولكم فرق الشارع بين الأمرين في هذه المسألة ، ولم تسوغوا لنا ما قلناه من فرقه بين البائل وغيره . قال ابن دقيق العيد : وثانيهما: أن التخفيف في البول يمكن أن يكون لما فيه من القصور في الاستقذار عن الغائط ، ويمكن أن يكون الشارع اعتبر هذا المعنى بألحاق غيره به قياسا مع إمكان الفارق ، وأما الحاق الغائط بالبول فيما نحن فيه فعكس هذا ، فانه إذا نص على الأخف بالمنع فالأغلظ أولى قطعا كما في تحريم التأفيف مع الضرب . أقول : ثانيهما أي ثانى مأخذى الفرق . وقوله : ويمكن أن يكون الشارع اعتبر هذا المعنى أى قصور استقذار البول في مسألة البائل في الماء الدائم فألحق به غيره وهو الغائط قياسا ، أى أذن لنا بقياس الغائط على البول في الماء الدائم مع وجود الفارق وهو غلظية استقذار الغائط ، أى فيلزم ابن حزم عدم التفرقة بينهما في الإناء ، بل الغائط أولى لشدة قذارته . ولا يعزب عنك أن ابن حزم لم ينازعهم في خفة استقذار البول عن الغائط ، بل نازعهم في كونهم قبلوا تفرقة الشارع بين بول الصغير وغائطه في مجرد التفرقة لا بالنظر الى تخفيف ولا تغليظ ، ولم يقولوا بها في البائل في الماء والمتغوط فيه مع نص الشارع على النهى لا حدهما دون الآخر.
واما ذكر التغليظ والتخفيف والاستقذار وعدمه فما هو من محل النزاع ، فانه أذا تنجس الماء بتغير أى صفاته خرج من محل النزاع وصار من مسائل الوفاق بينهم وبين ابن حزم . ثم ان ابن حزم لا يقول بالقياس ولا يثبته دليلا ، فلا تقوم عليه الحجة بفرع قد خالف أصله ويفرد قد خالف جملته ، إذ لا يستدل على الخصم إلا بما يسلمه . قال ابن حزم : وهؤلاء الحنفية فرقوا بين بول الشاة في البئر فيفسدها وبين ذلك البول في المقدار من بولها بعينها في الثوب فلا يفسده ، وفرقوا بين بول البعير في البئر فيفسده ولو أنه نقطة فإن وقعت بعرتان من بعر ذلك الجمل في البئر فإنه لا يفسده . وهذا نفس ما أنكر وا علينا وفرقوا بين روث الفرس يكون في الثوب منه أكثر من قدر الدرهم البغلى فيفسد الصلاة ، وبين بول ذلك الفرس نفسه يكون في الثوب فلا يفسد الصلاة إلا أن تكون ربع الثوب عند أبى حنيفة أو شبرا في شبر عند أبي يوسف فيفسدها حينئذ ،ومنهم من يقول : بول ما يؤكل لحمه طاهر كله ورجيعه نجس ، وهذا هو الذى أنكروا علينا وفرقوا بين ما يملأ الفم من القلس ، وبين مالا يملأه منه، وفرقوا بين البول في الجسد فلا يزيله إلاالماء ، وبين البول في الثوب فيزيله غير الماء . ولو تتبعنا سقطاتهم لقام فيها ديوان . قال ابن دقيق العيد : قلنا لسنا ننكر عليك ولا على أحد من المجتهدين ماكان عن اجتهاد فأخطأ فيه ، وإنما ننكر على من فرق بين ما هو في معنى المنصوص عليه قطعا وينكر جحدا ما تبين أنه مقصود المتكلم وعليه الحكم قطعا أو قريبا من القطع ، فان كان شيئا مما ذكرت من هذا القبيل فبينه وإلا فلا مساواة . انتهى .أقول : ابن حزم إنما ساق ما ساقه إلزاما لهم بأنهم فرقوا أحكام بعضها لأدلة ناهضة وبعضها باجتهاد عن أدلة واهية ، وابن دقيق العيد سلم له انه لا نكير على من اجتهد وان اخطا ، وانما الانكار على ابن حزم في أنه فرق بين ما هو في معنى المنصوص قطعا ، وهو هنا مثلا البول في الإناء ثم صبه الى الماء الذائم ، فان هذا في معنى المنصوص ، والمنصوص في البائل في الماء ، فليكن الحكم فيهما واحدا هو النهى عن الماء، فهو الذي أنكروه على ابن حزم ، وكذا أنكروا عليه جحده مقصود المتكلم الذى دار عليه الحكم هو علمنا أنه مامنع الشارع الوضوء أو الغسل من الإناء الذى بال فيه من نهى عنه إلا لأجل النجاسة . وقد صرح بهذا ابن دقيق العيد في أول البحث حيث قال : إنا علمنا أن المنع من الغسل والوضوء إنما كان لسبب وقوع النجاسة ولأجل تجنبها فيما يتقرب به الى الله تعالى . انتهى . قلت : ولا يغرب عن ذهن الناظر أن ابن حزم قائل بأن هذا الماء الذى بال فيه من نهى طاهر مطهر فانه لا ينجس الماء الا ما غير أحد أوصافه ... بالبول فيه صفة وان النهى عنه ليس إلا تعبدا ، وإذا تبين هذا الأصل علمت أنه لا يرد عليه شيئ مما أورده ابن دقيق العيد ، ولا يتم جواب عن إيراداته . ثم قال ابن حزم : فان قالوا من قال بقولكم هذا في الفرق بين البائل والمتغوط في الماء الراكد قبلكم ؟ قلنا : قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وسكت عن المتغوط والمتنخم والمتمخط . قال ابن دقيق العيد : قلنا لم يفرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين البائل والمتغوط في الحكم قط ، وإنما فرق بينهما في الذكر والسكوت.قلت : هذا رد بمحل النزاع ، ثم قال : وأخذ التفريق بينهما في الحكم من التفريق بينهما في الذكر والسكوت يتوقف على دليل خارج من اللفظ ، فلا يجوز أن ينسب الى قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اعنى التفريق بين التفريق في الحكم ، وأقل درجات ما ادعينا فيه القطع أو قريبا منه ان يكون محتملا ، فكيف يحل مع الاحتمال أن يجزم القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ؟ انتهى . قلت : هذا مبنى على أن النهى للنجاسة ، وهو محل النزاع . ثم لا يخفى أنها قد لانت شكيمة ابن دقيق العيد بعد أن قال : إن المسالة مقطوع بها الى الا حتمال . قال ابن حزم : من قال من ولد آدم بفروقكم هذه قبلكم ؟ من الفروق بين بول الشاة في البئر وبولها في الثوب ، وبين بول الشاة تشرب ماء نجساً وبولهاإذا شربت ماءاً: طاهراً ، وبين البول في رأس الحشفة وفوق ذلك ، فهذا هو الذي لم يقله احد قبلهم قط ، إذ قالوه بوجهة منهم أو بعقل . وكذلك سائر فروقهم المذكورة . ونحن لا ننكر القول بما جاء به الكتاب والسنه وان لم نعرف قائلا مسمى به ، وهم ينكرون ذلك ويفعلونه ، فاللوائم لازمة لهم لا لنا . قال ابن دقيق العيد : قلت الواجب أن لا يقول الناظر ما قال أهل الإجماع خلافه ، ودون هذافي الرتية ما اشتهر العمل به بين الامة من غير نكير وان لم يتحقق قول واحد منهم به بمن خالف وابتدع قولا يشنع به عليه . وأما ان الواجب أن لا يقول إلاكما قال بعضهم ... وأن ظهر عليه دليل من كتاب أو سنة ولم يكن من قبيل... والمنكر فهذا موضع نظر ، ومن لم يوجب ذلك لا يشنع عليه فيما يذهب اليه لا من جهتك ولا من جهتهم ، وأما إنكارهم ذلك مع فعله فمنكر على من فعله منهم فبيح . والله أعلم . انتهى . أخر كلام ابن حزم وابن دقيق العيد .
وأقول : الإجماع قد حقق ، إلا أنه كذب من ادعاه إلا في ضرورة والحجة الضرورة . وممن قال بكذب مدعيه الإمام أحمد ، وقوله : ودون هذا في الرتبة الى آخره ، هذا هو الإجماع السكوتى . والتحقيق أنه يقم الدليل إلا على حجية الإجماع القولى ، وأما هذا الذى أشار اليه وهو ألإجماع السكوتى فليس بحجة كما علم في الأصول . فاذا حققت الحق ان دعوى الإجماع طريقة القاصرين ، إذا أعيتهم الادلة ادعوه على منازعهم ، ولا يليق ذلك باممة التحقيق ، فليس العمدة إلا الدليل من الكتاب أو السنة أو قياس في معنى الاصل ، فاذا قام الدليل فلا ينظر الى التنقيش قال به قائل أولا ، فلا وحشة مع الدليل ، ولا ناظر بعد وجوده الى قال ولا قائل ولا قيل ، والله يقول الحق ويهدى السبيل . وقد استوفيت كلام الامامين المحققين ابن حزم وان دقيق العيد بما اشتمل عليه من الإعادة ، وتعقبت ذلك بما هو كالحكم بين الإمامين والترجيح بين المتناظرين ، ولئلا يغتر الناظر بكلام أحد المتنازعين حتى يجمع بين قولهما ويتتبع ما فيهما وينصف إن رزقه الله فهما صحيحا . واعلم أن الشارح المحقق أهمل أصلا أصيلا ورد عليه فلك المناظر ة ، وهو تسليم الخصم للمقدمات التى عليها تصح المناظرة . وهنا آداب المناظرة على مقدمات لا يسلمها الخصم وهى نجاسة الماء الدائم ببول البائل فيه ، وأن تحريم البول للنجاسة ، والخصم مناوع في الحكم وهونجاسة الماء الدائم بالبول فيه حيث لم يغير أحد أوصافه ، ومنازع في كون علة النهى عن البول في الدائم تنجسه ، بل العلة التعبد ، فلا تصح المناظرة ولا نتصار عليه إلا بعد تسليم اساس المناظرة ، فكيف يقول السارح إن بطلان ما قاله الظاهرية ضرورى ؟ وكانه يقول : قد أقمنا أدلة مقدماتنا وعدم الا ... ولنا بعد إقامة الأدلة ... لا يلتف اليه ، ولا يخفى ضعف هذا ان قاله " أ.هــ .
ــــــــــــــــــ
(1) زيادة يقتضيها السياق .
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
بارك الله فيك لي بحث في إدارة هذه المحكمة، سأحاول إنزاله في أقرب فرصة بإذن الله
 
أعلى