العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

ابن حزم وبداية طلبه للعلم [بين أبي زهرة وابن عقيل]

إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
ابن حزم وبداية طلبه للعلم

[بين أبي زهرة وابن عقيل]


أولا: القصة كما في كتاب: معجم الأدباء، الأصل الذي رويت منه:
قال ياقوت الحموي: قرأت ُبخطّ أبي بكر محمد بن طَرْخَانَ بن بَلْتكين بن بُجْكَم، قال الشيخ الإمام أبو محمد عبد الله بن محمد بن العربي الأندلسي: توفي الشيخ الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بقريته، وهي من غرب الأندلس على خليج البحر الأعظم، في شهر جمادى الأولى من سنة سبع وخمسين وأربعمائة [الصحيح أنه توفي سنة 456]، والقرية التي له على بعد نصف فرسخ من أونبه يقال له متليجم، وهي ملكه وملك سلفه من قبله.
قال: وقال لي أبو محمد ابن العربي: إن أبا محمد ابن حزم ولد بقرطبة، وجده سعيد ولد بأونبه، ثم انتقل إلى قرطبة، وولي فيها الوزارة [ابنه أحمد]، ثم ابنه علي الإمام، وأقام في الوزارة من وقت بلوغه إلى انتهاء سنه ستا وعشرين سنة، وقال: إنني بلغت إلى هذا السن وأنا لا أدري كيف أجبر صلاة من الصلوات!
قال: قال لي الوزير أبو محمد ابن العربي، أخبرني الشيخ الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم: أنّ سبب تعلّمه الفقه، أنه شهد جنازة لرجل كبير من إخوان أبيه، فدخل المسجد قبل صلاة العصر والحفل فيه، فجلس ولم يركع، فقال له أستاذه- يعني الذي رباه- بإشارة- أن قم فصلّ تحية المسجد، فلم يفهم، فقال له بعض المجاورين له: أبلغت هذه السنّ ولا تعلم أن تحية المسجد واجبة؟! وكان قد بلغ حينئذ ستة وعشرين عاما.
قال: فقمت وركعت، وفهمت إذن إشارة الأستاذ إليّ بذلك.
قال: فلما انصرفنا من الصلاة على الجنازة إلى المسجد مشاركة للأحياء من أقرباء الميت دخلت المسجد، فبادرت بالركوع، فقيل لي: اجلس اجلس؛ ليس هذا وقت صلاة، فانصرفت عن الميت، وقد خزيت، ولحقني ما هانت عليّ به نفسي، وقلت للأستاذ: دلني على دار الشيخ الفقيه المشاور أبي عبد الله ابن دحون، فدلّني فقصدته من ذلك المشهد، وأعلمته بما جرى فيه، وسألته الابتداء بقراءة العلم، واسترشدته، فدلّني على «كتاب الموطأ» لمالك بن أنس رضي الله عنه، فبدأت به عليه([1]).

في الكتاب الموعَب: (ابن حزم خلال ألف عام)، أنكر ابن عقيل الظاهري: هذه القصة من تسعة وجوه، فهو وإن سلَّم بأن ياقوتا الحموي وأن ابن طرخان، وأن ابن العربي: كلهم ثقات، إلا أن متن هذا النص منكر جدا لأن كل حرف منه ينافي البديهي المشهور من حياة ابن حزم.
قال ابن عقيل:
- فإما أن نشك في ياقوت أو ابن طرخان أو ابن العربي لأجل هذا النص، مع أن كل واحد منهم ثقة.
- وإما أن يكون ابن طرخان سمع كلاما من ابن العربي لم يدونه إلا بعد سنين، فوهم.
- وإما أن يكون ياقوت قرأ خط رجل غير ثقة وكان يحسبه خط ابن طرخان.
- وإما أن يكون لا يعرف خط ابن طرخان، فغش بخط غيره.
ولسنا نزعم:بأن النص محرف من ست وعشرين إلى ست عشرة كما قال أبو زهرة، لأن دعوى التحريف لا ترفع جميع بلايا النص([2]).

إذن لدينا طريقتان:
طريقة أبي زَهرة
: وهي صحة القصة، وأن الغلط حصل في تحديد السن فحسب.
طرقة ابن عقيل الظاهري: فإنه أبطلها جملة مِنْ وجوه، منها ما يتصل بمضمون القصة، ومنها ما يتعلق بالنقول التي صاحبتها([3]).

ويظهر لي: صحة طريقة أبي زهرة، وجُلُّ ما ذكره ابن عقيل من بلايا النص تدفع بهذا الاتجاه بعد التعديل من الستة وعشرين إلى ست عشرة سنة.
نقول أولا: إسناد القصة:
لا مجال للتشكيك في إسناد القصة، فياقوت الحموي، علمٌ في رأسه نار، مرجع في بابه، وقد قرأها بنفسه من خط محمد بن طرخان.
أما ابن طرخان: المولود سنة 446 هـ.([4])، فقد وصف بأنه أحد الحفاظ، وكان خطه مليحا معربا حسنا، ونقله صحيح، وكتب بخطه الكثير، وكان يورِّق للناس (ينسخ لهم)، وكان مع فضائله صدوقا، زاهدا، ثقة، كثير العبادة، مستجاب الدعوة[5]، قرأ الفقه على أبي إسحاق الشيرازي، وهو راوي كتاب الإكمال لابن ماكولا[6]، وروى عنه الكبار، مثل ابن عساكر[7]، والسلفي، وابن العربي الأندلسي الأب، وصحب الحميدي ولازمه[8].
وكما تبين لك: فقد لازم ابن طرخان اثنين من أخص تلاميذ ابن حزم، وهما: الحميدي المشرقي، وابن العربي المغربي (والد القاضي أبي بكر)، وأخذ هذه القصة مباشرة من ابن العربي تلميذ ابن حزم، وأحد خواصه الكبار، فقد سمع من ابن حزم مصنفاته ومسموعاته مرات عدة كثيرة، وربما لم يسمع بعض تواليفه في غير بلده في المدة التي تجوّل فيها بشرق الأندلس[9].
وإذا علمنا: أن الحموي متوفى سنة 626 هـ وابن طرخان متوفى سنة 513 هـ فإن ذلك يعني أن بينهما 113 سنة فقط، وقد أخذها ياقوت الحموي من صحيفة ابن طرخان بخط يده المعروف.
وأيضا: فإن بين ابن حزم المتوفى سنة 456 هـ وبين ابن طرخان المتوفى سنة 513 هـ سبعة وخمسون سنة فقط، وقد أخذ القصة كفاحا مشافهة من ابن العربي الأب، تلميذ ابن حزم وصاحبه الملازم له، والذي حدثه بالقصة ابن حزم نفسه.
وأيضا: فإذا كان ابن طرخان قد صحب الحميدي ولازمه، والحميدي أحد أخص تلامذة ابن حزم، حتى أصابته في حبه فتنة، فما أقرب أن يكون ابن طرخان حكى قصة ابن حزم الظريفة للحميدي، في حلقة علم أو جلسة سمر، فلو كانت القصة منكرة، لا تصح بوجه، لبادر بإنكارها، ورأينا أثر ذلك في كتابة ابن طرخان.
فهي إذن سلسلة مرصعة بالذهب: لاسيما إذا قارناها بواقع التراجم، وأكثرها بغير إسناد ولا خطام، بل إذا كان التفسير المتعلق بالوحي، والمغازي المتعلقة بمقام المرسل إليه، أكثرها منقول بغير إسناد فكيف بالتراجم؟ فكيف إذا جاءتنا ترجمة منقولة بإسناد متصل بالثقات والمتخصصين من خلال صحيفة مكتوبة، منقولة عن تلميذ ابن حزم، فأي إسناد أقوى من هذا في نطاق التراجم والتواريخ؟

ثانيا: هذه الصحيفة التي نقلها الحموي من خط ابن طرخان، ليس فيها هذه القصة فقط، بل فيها خمس قصص ليس فيها ما ينكر، بل اعتمدها الجميع، ومنهم الذين أنكروا القصة! سوى أحرف يسيرة تدفع باتجاه صحة التحريف في تحديد السن فقط.

وتذكرت هاهنا تشنيع ابن حزم على الذين يتحكمون في الاستدلال، كالذين يستدلون بصحيفة عمرو بن شعيب إذا وافقت مذاهبهم في حين أنهم يطعنون فيها إذا خالفت! وقد وصف ذلك ابن دقيق العيد بالثعلبة!

ثالثا: لا مجال للتشكيك في نقل الحموي، فهو حدد بداية نقله من خط ابن طرخان، ثم أورد القصص الخمسة، قصة قصة، ثم ختم النقل عنها بقوله: آخر ما كان بخط البجكمي رحمه الله (وهو ابن طرخان).

رابعا: تصحيح المتن بناء على صحة السند وسلامته هي طريقة ابن حزم الظاهري، فعلى أصحابه أن يتفقدوا منهجهم هاهنا.

خامسا: ما دام أن الإسناد صحيح، فسنفترض صحة طلبه للفقه وهو ابن ستة وعشرين سنة، فما الذي يمنع منه؟ كل ما جاء في طلبه للعلم المتقدم فإنما هو في القرآن والسماع والتربية والأدب والأشعار والخط، أو الجدل والمناظرة، وهذه جبلة في شخصيته، وليس في شيء منها أنه درس الفقه.
وما في القصة فقد نص ابن حزم بلسانه أن ما جرى كان سببا لتعلمه لعلم الفقه بالذات! وأنه في أسى ألا يعرف كيف يجبر صلاته! وهذا موضع متصل بالفقه أيضا.

سادسا: يدل على تأخر طلب ابن حزم للفقه نوعا ما القصة الأخرى التي كانت في بلنسية:
قال الذهبي: يقول اليسع بن عيسى بن حزم الغافقي: حدثني عنه عمر بن واجب قال: بينما نحن عند أبي ببلَنْسية، وهو يدرِّس المذهب إذا بأبي محمد بن حزم يسمعنا، ويتعجب، ثم سأل الحاضرين عن شيء مِن الفقه جووب عليه، فاعترض فيه، فقال بعض الحضَّار: هذا العلم ليس مِنْ منتحلاتك، فقام وقعد، ودخل منزله فعكف، ووكَفَ منه وابلٌ فما كفَّ، وما كان بعد أشهر قريبة حتى قصدنا إلى ذلك الموضع، فناظر أحسن مناظرة، قال فيها: أنا أتبع الحقَّ وأجتهد، ولا أتقيَّد بالمذهب([10]). ونلاحظ هاهنا أن السؤال في مسألة من (الفقه)، وأنه اعترض عليه بأن هذا العلم الذي هو الفقه ليس من منتحلاته! ولم يعترض ابن حزم على ذلك، بل استثاره ذلك للاعتكاف عليه، والانقطاع من أجله أشهرا، وفيه دلالة أيضا، أن ابن حزم هجم على الفقه هجمة، وجمع عليه همته وجنانه، فقد تأخر، لكنه جنى منه ما تقدم وما تأخر، فلم يبق ولم يذر. ومع ذلك، فلا نرى الافتراض بأنه طلب العلم وهو ابن ستة وعشرين سنة صحيحا، بل نستبعد ذلك، وإنما أردنا أن نبين أن ما أورد عليه من هذه الناحية لا يسلم له بإطلاق، فالدليل دون الدعوى، فهو سمع وقرأ وتأدب وجادل ومع ذلك لم يكن الفقه من منتحلاته في حقبة من عمره، وذلك بالنص الصريح المنقول عنه، ولم يعترض عليه ابن حزم نفسه، ولسنا أعلم به منه.

سابعا: إذا افترضنا ما ذكره أبو زهرة، وهو أن في النص تحريفا، وأن سنه كان ست عشرة سنة، وليس ستا وعشرين سنة، فإن القصة بذلك ستنتظم تماما في تاريخ حياة ابن حزم، وكأنها بعض ماء تشكل في إناء، وفوق ذلك ينتظم فيها ما أورده ابن عقيل على القصة من جل الوجوه التسعة!
وذلك لما يلي:
1- أن معه أستاذه الذي رباه، والأستاذ يمكن أن يرافق ابن الوزير في نحو الستة عشر عاما لا في الستة وعشرين!
2- أن ابن حزم قبل ذلك كان في القصر الوزاري بين الجواري، وعليه رقباء ورقائب، أساتذته هن النساء، ولم يجالس الرجال إلا حين تبقل وجهه! وهذا قريب من الست عشرة سنة! ومن مضت أيامه بين النساء وكان لا يجالس الرجال فإنه من البديهي جدا أن يحدث له مثل هذا وأكثر! وقد رأينا من يعتزل الناس لا يعرف كيف يخاطب جلساءه.
3- أنه بعد القصة انصرف ابن حزم حزينا إلى أستاذه الذي ربَّاه، وطلب منه أن يدله على دار الفقيه أبي عبد الله ابن دحون، وهذه الحال مِنْ سؤال المربي، وإظهار الشكاة له، وإعلامه بما جرى له، فهذا لا يقع في العادة لمن كان في طريقه إلى سن الثلاثين، لكن ورودها لابن الست عشرة سنة واردٌ بقوة.
4-
وأيضا فإن صحبته لأستاذه، يدل على أنه لا يزال في بقية من أيام عزه في قرطبة.
5-
إذا فترضنا صحة الافتراض بأن حزم طلب العلم في سن الستة عشر عاما في بلدته في قرطبة، وأن القصة وقعت له في هذا السن، فإن طلبه العلم لثلاثة سنوات بعد القصة يتناسب مع مدة بقائه في قرطبة، فإن هذه السنوات الثلاثة هي التي بقيت له في قرطبة من مجموع أربع سنوات، فقد خرج منها سنة 404 هـ. وعمره حينئذ عشرون سنة.
6- ووقوعها في قرطبة في هذا السن يناسب أنه طلب الدراسة على ابن دحون.
7-
إذن:

- تعلم القرآن والخط والشعر في صغره.

- وقعت له سماعات حين تبقل وجهه في وقت بلوغه.
- طلب الفقه وعمره ستة عشر عاما.
- انقطع لطلب العلم ثلاث سنوات حتى بلغ تسعة عشر عاما.
- هاجر من قرطبة وعمره عشرون سنة.

8- أما بعد ذلك: فقد تكالبت عليه النكبات، وتنقل بين البلاد، ولم يعد إلى قرطبة إلا في نحو عام 409، وهذا السن وإن كان يوافق سن الستة وعشرين من عمره إلا أنه كان حينها في اعتراك سياسي، وليس في لحظة انصراف إلى العلم.

9- أن ابن طرخان وإن كان ثقة معروف الخط، أخذ عن أشهر تلامذة ابن حزم الملازمين له، وكتب هاهنا ما رواه عن تلميذه ابن العربي، إلا أنه وقعت له أوهام في القصص الخمسة، كلها تتعلق بتحديد الأزمنة والتواريخ والأعداد:
- فمن جملتها: تحديد عمر ابن حزم عند طلب الفقه، والتشابه بين الستة عشر عاما والستة وعشرين قريب، ثلاثة أحرف فقط.
-ومنها: أن ابن طرخان حدد مولد ابن حزم ب 483 والصواب: 484. - ومنها: أنه حدد وفاته بـ 457 والمتفق عليه أنها في 456.
-ومنها: أنه حدد إقامته في الوزارة من وقت بلوغه إلى السن الذي حدثت فيه القصة، والأمر ليس كذلك. - ومنها: أنه حدد عدد أجزاء الفصل بستة أجزاء، والواقع أنها خمسة أجزاء فقط.
هذه جملة من الوجوه التسعة: التي أوردها ابن عقيل الظاهري دليلا على نكارة القصة، وفي الحقيقة هي تفيد عدم دقة ابن طرخان في تحديد الأرقام، وضبط الأعداد، فيقوى الاحتمال أنه دونه من حفظه، ولذا ارتبكت عليه الأرقام.
إذن:
-
عرفنا وجه الخلل بالتحديد، وأن الوهم من ابن طرخان وليس من ياقوت ولا من ابن العربي تلميذ ابن حزم.
- أن الخلل في الأرقام، وهو يتفق مع أوهام ابن طرخان في القصص الخمسة، مع صحتها كلها، ولم يشكك فيها أحد.

احتراس:
ما ذكره ابن عقيل الظاهري: من أن ابن حزم يرى استحسان صلاة ركعتين بعد العصر، وأنه لا يرى وجوب تحية المسجد، فهذا بعد أن صار فقيها مصنفا، ونحن هنا في موضع الحديث عن نقطة البداية في التفقه، وأيضا فهو في بلد مالكي، وهم ضمن الجمهور في منع الصلاة في أوقات النهي ولو كانت ذات سبب خلافا للشافعية.

إذن استفدنا مما ذكره الشيخ أبو زهرة: اثبات القصة، وتوجيه ما ذكره فيه من السن أنه تحرف بطريقة ما.
واستفدنا من الجهد الذي بذله الشيخ ابن عقيل الظاهري من الوجوه التسعة: في تحديد محل الخطأ وسببه، وأن الأخطاء في الأرقام ظاهرة في القصص التي رواها، بما يؤكد أنه ذكر كل ذلك من حفظه، وكتبه بخط يده المليح.

إذن: الخطأ في الجزء لا يلزم منه بالضرورة الخطأ في الكل، مثل الاضطراب في تحديد مقدار القلتين، لا يقتضي بالضرورة تضعيف أصل الحديث إذا كان محفوظا لا اختلاف فيه.

كنت في السابق: أعتبر صحة القصة، لسبب يتيم، وهو اتصالي بابن حزم، فقد وجدت فيها نفس ابن حزم، وأبصرت تمايل قلمه، لا سيما الحرف الأخير: (وقد خزيت، ولحقني ما هانت عليّ به نفسي، وقلت للأستاذ: دلني على دار الشيخ الفقيه المشاور أبي عبد الله ابن دحون)، فكأنك تستمع لرجع حديثه، الصراحة، حديث النفس، فقرات رقراقة، يجري فيها ماء الحسن، هذا الأسلوب لا يصدر في العادة من الفقهاء في تلك الأزمنة إلا من مثل ابن حزم وبعده ابن الجوزي.

ما أبعد أن تكون القصة مختلقة: فمن هذا الذي يحترف أسلوب ابن حزم المغربي في المشرق! ويدس هذه القصة على تلميذ ابن حزم ابن العربي، ثم يمررها على تلميذه ابن طرخان حتى يثبتها عنه بخطه المعروف؟!

ويشار هاهنا: أن النسخة المحققة لمعجم الأدباء فيها اضطراب معروف، وهي من مخطوطة ملخصة للكتاب، وليس الكتاب نفسه، وعمل على ترميمها الأستاذ إحسان عباس، ولم يتجاسر على حذف ما يظن أنه أقحم فيها، وهناك إشكالات كثيرة في الكتاب لم تحل، وعشرات التراجم التي لا تزال مفقودة من معجم الأدباء، قال الأستاذ إحسان: ومع ذلك ما أقدمه اليوم يعد أقرب صورة لمعجم الأدباء في حالته الأولى؛ ولكن معجم الأدباء- بتمامه- سيظل مطلبا بعيدا، يصعب نيله[11].
ويؤكد هذا أن إحسان عباس علق على لفظة: (وأقام في الوزراة من وقت بلوغه إلى انتهاء سنه ستا وعشرين سنة): هذا نص مضطرب.
ولذا فلا يستبعد أن يكون الخلل من كتاب الحموي، وإن كان الأقرب أنه من جهة ابن طرخان، لأن الأعداد لديه كلها مرتبكة، وإلحاق الخطأ لما كان من جنسه أولى.

§ الخلاصة:
- كان ابن حزم منقطعا عن الرجال، محصورا في قصر الوزارة بين النساء، وهن علمنه القرآن، ودربنه الخط، وروينه الأشعار، ولم يجالس الرجال إلا حين تبقل وجهه (بدأ الشعر يدب في وجهه من شاربه ولحيته).
- طلب العلم لابن حزم وهو صغير هذا أكيد، لما سبق من القرآن والشعر والخط، ثم بعد ذلك السماعات، فإن شيوخه وسماعاته قديمة، فأوَّلُ سماعه:مِنْ أبي عمر أحمد بن محمد بن الجَسُور قبل الأربعمائة، وهذا يبدو أنه حين التبقل.

- أما القصة المشهورة التي فيها طلبه للعلم وهو ابن ظ¢ظ¦ فهي مشكلة، فمنهم من اعتمدها كأبي زهرة، وأن التحريف في تحديد السن، وأنها 16 لا 26، ومنهم من طعن فيها كابن عقيل الظاهري، والأدق أنها صحيحة، فهي ثابتة بإسناد صحيح متصل، وفيها أسلوب ابن حزم، ونفسه يجري فيها، وهي تتواكب مع مرحلة ما بعد تبقل الوجه، وأيضا فإن ظ،ظ¦ من عمر ابن حزم كانت مرحلة الغنى والأدب ، ثم انتقل الى التشريد عن الأوطان والمحن، ولعلها ترافقت مع الاهتمام بالأخبار.
- إذن صحة قصة طلب ابن حزم للفقه وهو نحو ابن ست عشرة سنة، أي عام 400 هـ وهو التاريخ الذي حكيت في حماه سماعاته الأولى من شيوخه القدماء، تزيد قليلا أو تنقص شيئا.
- هذه القصة دليل على ثبوت سماع ابن حزم من شيخه ابن دحون القرطبي، وهو حري بذلك، فقد تفرد ابن دحون بالرئاسة في العلم بقرطبة بعد أن عمر بعد أقرانه حتى عاش إلى سنة 431هـ. قال ابن حيان: وكان يرخص في السماع، ويجادل فيه عن مذهبه([12])، ولعل لذلك أثرا على ظاهرية ابن حزم، فالقول بالسماع من سمات أهل الظاهر.
- في القصة أنه استمر في الدراسة على ابن دحون وغيره نحو ثلاث سنوات، يعني إلى سنة 403هـ.
- هذه القصة تؤكد بداية ابن حزم المالكية، وهو المعتاد في دراسة كل طالب للمذهب السائد في بلده.
- بعد ذلك بدأ ابن حزم بالمناظرة، وهو في نحو تسع عشرة سنة، وهو يعكس الصفة الجدلية المبكرة لابن حزم.

وفي الأخير: هذه مسألة عرضية في تاريخ رجل، جرت العادة حكايتها على سبيل الاستئناس، في الحث على الطلب في الكبر، لا يسرنا ههنا القول بصحتها، ولا يزعجنا الطعن فيها، بقدر ما يهمنا المنهجية التي يقوم عليها نقد (النقد)، فكما أن الأدلة والدعاوى لها شروطها اللازمة، فإن النقد أيضا له مقامه وشرطه، ونحن هنا سلمنا بصحة النقد، وناقشنا في أثره، والله أعلم.




([1]) «معجم الأدباء» (4/1652)، عنه: ابن عبد الهادي في «طبقات علماء الحديث» (3/345)، والصفدي في الوافي بالوفيات (20/95)، «ابن حزم حياته وعصره، آراؤه وفقهه» لمحمد أبو زهرة، ص27، 28، «ابن حزم خلال ألف عام» (2/47).
([2]) ابن حزم خلال ألف عام (2/46-49).
([3]) المراجع السابقة.
([4]) طبقات الشافعية الكبرى (6/106).
[5]) تاريخ الإسلام (11/ 210)، الوافي بالوفيات (3/ 141).
[6]) الأربعون على الطبقات لعلي بن المفضل المقدسي (ص: 529).
[7]) معجم ابن عساكر (2/ 939).
[8]) سير أعلام النبلاء (19/ 423)، وينظر: إكمال الإكمال لابن نقطة (1/ 152)، توضيح المشتبه (9/ 251)، تاريخ دمشق لابن عساكر (32/ 231).
[9]) معجم الأدباء (4/ 1653).
([10]) «تاريخ الإسلام» (10/ 77، 78)، «طبقات علماء الحديث» (3/345)، «سير أعلام النبلاء» (18/191).
[11]) معجم الأدباء (1/3).
([12])ابن دحون: هو عبد الله بن يحيى بن أحمد أبو محمد الأموي، قال ابن حيّان: لم يكن في أصحاب ابن المكوي بإجماع أفقه منه، ولا أغوص على الفتيا، ولا أضبط للروايات، مع نصيب من الأدب والخبر، ولم يكن معه كتب إلا يسيرا من الأصول، وكان بقية علماء وقته بقرطبة، وعاش بعد قرنائه، فانفرد بالرئاسة بقية مدته، وكان فكه المجلس، جم الإفادة، شديد التواضع، مع رفعة حاله وتقديم الناس له. وقال ابن بشكوال: كان من جلة الفقهاء وكبارهم، عارفا بالفتوى، حافظا للرأي على مذهب مالك وأصحابه. ترتيب المدارك (7/ 296)، تاريخ الإسلام (9/ 504)، جمهرة تراجم الفقهاء المالكية (2/ 779 رقم 720).
 
التعديل الأخير:
إنضم
26 فبراير 2010
المشاركات
596
الكنية
أبو الفضل
التخصص
الفقه المقارن
المدينة
الخليل
المذهب الفقهي
فقه مقارن
رد: ابن حزم وبداية طلبه للعلم [بين أبي زهرة وابن عقيل]

مقالة محررة.
لمعلومة شائعة في الأوساط العلمية عن ابن حزم-رحمه الله-
متى طلب العلم؟
ليست معرفة بدايته بتلك الأهمية الكبيرة.
لكن طريقة التحري والتحرير ، والمنهجية في الوصول للمعلومة هي الأهم في هذه المقالة.
شكر الله لكم وزادكم من فضله.
 
التعديل الأخير:
إنضم
13 فبراير 2016
المشاركات
17
الكنية
أبو عبد الله
التخصص
المعاملات المالية المعاصرة
المدينة
أكادير
المذهب الفقهي
مالكي
رد: ابن حزم وبداية طلبه للعلم [بين أبي زهرة وابن عقيل]

السلام عليكم:
شكرا جزيلا على هذا المجهود البحثي القيم، لدي سؤال: هل يمكن اعتبار تجربة ابن حزم وتمرده على المذاهب وعلى المقررات السائدة لدى علماء المسلمين، ظاهرة مستمرة في كل الأعصار؟ وهل يمكن تشبيهه ببعض الشخصيات المعاصرة مع شيء من التحفظ، كالدكتور عدنان إبراهيم بفلسفته وتمرده على الثوابت وغيره من المعاصرين؟ بارك الله فيكم.
 
أعلى