د. فؤاد بن يحيى الهاشمي
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 29 أكتوبر 2007
- المشاركات
- 9,059
- الكنية
- أبو فراس
- التخصص
- فقه
- المدينة
- جدة
- المذهب الفقهي
- مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
غزوة أحد...بطولة ودروس
بقلم: ربيع عبد الباقي
بعدما مُنيت قريش بخسارة فادحة في غزوة بدر؛ حيث فقدت عددًا من زعمائها وأشرافها من أهل الرأي والزعامة والمشورة من سادة قريش، وأهل السلطان كعتبة بن ربيعة وشيبة والوليد بن عتبة، والأسود بن عبد الأسد وأبو جهل وغيرهم، وتناثرت الأنباء في أرجاء الجزيرة العربية قاطبةً تحمل نبأ الانكسار القرشي أمام المسلمين، وأحسَّ القرشيون بخطر ذلك، فقرَّروا الانتقام لقتلاهم واستعادة شرف سمعتهم وسيرتهم بين القبائل، فجهَّزوا لذلك وعبئوا له وكرَّسوا كل جهودهم ومجهودهم للانتقام من المسلمين ورد اعتبارهم واستعادة هيبتهم التي ضاعت في بدر، فكانت غزوة أحد.
الاستعدادات القرشية:
أعلنت قريش التعبئة العامة استعدادًا لحرب المسلمين؛ فبدأت الاستعدادات والتجهيزات على كافة المستويات المادية والمعنوية وغيرها؛ فعلى المستوى المادي كان أبو سفيان قد نجا بالعير التي تحمل بضاعة قريش، والتي كانت سببًا في اندلاع غزوة بدر، فطالبت قريش أصحاب العير بالمساهمة بها في إعداد الجيش القرشي للتجهيز لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت العير تتألف من: 1000 بعير، وألفي دينار، فتنازل أهل العير عنها لتجهيز الجيش، فأنزل الله تبارك وتعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾ (الأنفال: من الآية 36)، وفُتح باب التطوع لمن أراد من الأحابيش وأهل كنانة وتهامة للمشاركة في حرب المسلمين.
وعلى الجانب المعنوي تم استدعاء أبي عزة الشاعر، وكان قد أُسر في بدر ومَنّ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فأطلق سراحه على ألا يعود، لكن أغرته قريش، وكذا مسافع بن عبد مناف الجمحي.. استُدعيا لإقراض الشعر لإلهاب حماس القرشيين للقتال، وكذا أخرجت قريش بعضًا من نسائها لحضور المعركة ولتثبيت القرشيين في ساحة القتال، وكأنهم يدافعون عن أعراضهم، وتكوّن لقريش جيش قوامه 3 آلاف مقاتل و3 آلاف بعير و100 أو 200 فارس و700 درع.
مجلس استشاري في المدينة:
تطايرات الأخبار وتواترت الأنباء إلى المدينة تحمل أنباء التجهيزات والاستعدادات القرشية؛ حيث أرسل العباس بن عبد المطلب برسول يحمل كتابًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك، حتى إن الرسول قطع المسافة بين مكة والمدينة والتي تبلغ 500 كيلو متر في ثلاثة أيام، فلما أن وصل مكة سلم رسالة العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جالسًا في مسجد قباء فقرأ أبي بن كعب الرسالة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالكتمان.
عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا لاستشارة أصحابه بشأن ما تدبِّر قريش ولاتخاذ قرارٍ حيال ذلك، فاجتمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحابة وقال لهم "إني رأيت والله خيرًا.. رأيت بقرًا يذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلمًا، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة" وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأويل الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول الدرع بالمدينة (الرحيق المختوم/ 233).
فكان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحصنوا في المدينة؛ فإن دخلتها قريش قاتلوهم على مداخل أزقتها وحواريها، وقاتل النساء من أسطح البيوت، وكان ممن وافق رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك رأس المنافقين عبد الله بن أُبي بن سلول، وكان رأي جل الصحابة، سيما الذين فاتهم المشاركة في بدر، الخروج لملاقاة قريش خارج المدينة؛ رغبةً في الجهاد، فلما كانت الأغلبية ترى الخروج لملاقاة العدو نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رغبة الأغلبية وتجهز للخروج.
الاستعداد للخروج:
صَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الجمعة، فوعظهم وحثهم على الجهاد، ثم صلى بهم العصر وقد احتشد جمع كبير، ثم دخل بيته فلبس درعين وتقلَّد السيف وخرج على الحشد، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير قد قالا للناس: "استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، فردوا الأمر إليه"، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: "يا رسول الله.. ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت؛ إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته- وهو الدرع- أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه" (الرحيق المختوم/ 234).
وتجمع للمسلمين جيش قوامه: 1000 مقاتل و100 دارع و50 فرسًا، ومن قبل لم يكن معهم من الفرسان شيء، ورُتِّب الجيش ليكون كتيبة المهاجرين يحمل لواءها مصعب بن عمير وكتيبة الأوس يحمل لواءها أسيد بن حضير وكتيبة الخزرج يحمل لواءها الحباب بن المنذر.
تواترت الأنباء إلى المدينة وفي طياتها اقتراب الجيش القرشي من المدينة، فانطلق جيش المسلمين بعدده القليل وعتاده المتواضع حتى كان بمنطقة "الشيخان" استعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش فوجد بعضًا من الفتيان الذين لا يطيقون القتال لحداثة سنهم فردَّهم، وبات الجيش هذه الليلة بين أُحد والمدينة في حراسة 50 رجلاً بقيادة محمد بن مسلمة الأنصاري.
تمرد رأس المنافقين:
تحرَّك جيش المسلمين حتى إذا كان على مرمى البصر من الجيش القرشي تمرَّد زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، فانسحب راجعًا بنحو 300 مقاتل قائلاً: "ما ندري علامَ نقتل أنفسنا؟!"، متذرِّعًا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه، وكان لهذا النكوص من رأس النفاق أثر في نفوس بعض القوم من بني حارثة من الأوس، وكذا من بني سلمة من الخزرج؛ حيث همتا بالرجوع، ولكن الله سلم فعادتا إلى رشديهما، وفيهما نزل قوله تعالى ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (آل عمران: 122).
وبينما ابن سلول ينسحب هو ومن معه خرج عبد الله بن حرام والد جابر بن عبد الله في أثرهم يذكِّرهم ويوبِّخهم ويحضُّهم على الرجوع قائلاً لهم: "تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا"، قالوا: "لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع"، فرجع عنهم عبد الله بن حرام قائلاً: "أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه" (الرحيق المختوم/ 236).
وفيهم نزل قوله تعالى ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ (آل عمران: 167).
خطة الدفاع والقتال:
هيَّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش فوزَّع المهام؛ فجعل المنذر بن عمرو على الميمنة، والزبير بن العوام على الميسرة بمساندة المقداد بن الأسود، وتخيَّر 50 رجلاً من الرماة وأسند قيادتهم إلى عبد الله بن جبير الأنصاري وأمرهم بالتمركز على جبل خلف جيش المسلمين لحماية ظهر الجيش، وكان مما أمرهم به ألا يبرحوا أماكنهم، سواء أكانت الدائرة للمسلمين أم عليهم.
يروي لنا البخاري فيقول: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "لقينا المشركين يومئذٍ، وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشًا من الرماة وأمر عليهم عبد الله وقال: "لا تبرحوا.. إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا"، فلما لقينا هربوا حتى رأيت النساء (نساء قريش) يشتدون في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون- يعني الرماة-: الغنيمة الغنيمة، فقال عبد الله (قائد الرماة): عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ألا تبرحوا، فأبوا، فلما صُرف وجوههم فأصيب سبعون قتيلاً" (البخاري/ 4043).
مناورات قرشية فاشلة:
قبيل اندلاع المعركة حاول أبو سفيان بذكائه المعهود أن يبث الفرقة بين المسلمين، فأرسل إلى الأنصار يقول لهم: "خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم؛ فلا حاجة لنا إلى قتالكم"، لكن باءت محاولته بالفشل أمام روح الإيمان وقوة العقيدة.
ثم تكررت المحاولة؛ حيث خرج أبو عامر الفاسق عمرو بن صيفي الراهب مخاطبًا الأوس، وكان سيدهم قبل أن ينكص على عقبيه فيخرج من المدينة إلى مكة مجاهرًا بالعداء للإسلام ومحرضًا أهل مكة.. خرج هذا الفاسق يخاطب عشيرته من الأوس فقال لهم: "يا معشر الأوس.. أنا أبو عامر" فقالوا: "لا أنعم الله بك عينًا يا فاسق"، فقال: "لقد أصاب قومي بعدي شر".
لم تفلح تلك الجهود القرشية؛ حيث باءت بالفشل، فكيف لها أن تفلح وقد تغلغل الإيمان في قلوب الأنصار أوسهم وخزرجهم؟!
نشوب المعركة واندلاع القتال:
تراءى الجيشان وتدانيا وخرج حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري (من بني عبد الدار)، وهم من عُهد إليهم حمل اللواء في المعارك، خرج راكبًا جملاً يدعو إلى المبارزة، فأحجم الكثير عن الخروج لمبارزته لشجاعته، ولكن برز الزبير فوثب حتى صار خلفه على جمله فأسقطه على الأرض وقتله، فكبَّر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إن لكل نبي حواريًّا وحواريِّي الزبير"، وكبَّر المسلمون واندلع القتال، فركَّز المسلمون هجومهم على لواء المشركين؛ فهو رمز لهم، ولمَّا قُتل طلحة تلقَّف أخوه عثمان اللواء ليحمله، فانقض عليه حمزة فقتله، وتنقَّل اللواء بين بني عبد الدار حتى لم يَبْقَ من رجالهم من يحمل اللواء؛ حيث قتل منهم 10 رجال، فتقدم غلام لهم حبشي يسمَّى "صواب" فحمل اللواء وقاتل بشجاعة وضراوة حتى قُتل فسقط اللواء ولم يجد من يحمله، واشتد القتال وحمي في جميع نقاط الالتحام وكان شعار المسلمين "أمت.. أمت".
صور من ملاحم البطولة والشجاعة:
وبينما القتال على أشدِّه برز رجل يختال في مشيته واضعًا عصابة حمراء على رأسه آخذًا بسيف رسول الله في يده، وقد منحه رسول الله سيفه بل فضَّله على غيره بهذا السيف.. إنه أبو دجانة الذي جعل يقاتل هنا وهناك في صفوف المشركين فلا يلقى مشركًا إلا أطاح بعنقه.
يقول الزبير: "وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، وقلت- أي في نفسي-: أنا ابن صفية عمته ومن قريش وقد قمت إليه فسألته إياه قبله فآتاه إياه وتركني، والله.. لأنظر ما يصنع، فاتبعته فأخرج عصابة له حمراء فعصب رأسه بها فقالت الأنصار أخرج أبو دجانة عصابة الموت"، فخرج يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
والكيول: (آخر الصف)أن لا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
أسد الله حمزة بن عبد المطلب:
أبلى بلاءً حسنًا؛ حيث قتل وشارك في إبادة من حملوا اللواء من المشركين من بني عبد الدار حتى أبيدوا عن آخرهم، وجعل يقاتل حتى اندفع بين صفوف المشركين، وكان غلام لجبير بن مطعم يقال له "وحشي" قد ترصَّد لقتله؛ حيث وعده سيده إن قتل حمزة يعتقه.
يروي: "وكمنتُ لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي في ثنّته (عانته) حتى خرجت من بين وركيه" (البخاري/ 4072).
ورغم مقتل حمزة إلا أن زمام المبادرة والغلبة كانت في صالح المسلمين.
حنظلة بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة:
إنه حنظلة بن أبي عامر؛ والده أبو عامر الفاسق الذي سبق ذكره، والذي كان يقاتل في صفوف المشركين، أما حنظلة فقاتل في صفوف المسلمين، زد على ذلك أنه كان حديث عهد بالزواج، فلما نادى منادي الجهاد ترك عروسه ولبَّى نداء الجهاد مؤثرًا متاع الآخرة على متاع الدنيا.
قاتل حنظلة حتى قتل، فلما استشهد غسَّلته الملائكة فسُمِّي حنظلة الغِسِّيل، فأي فضل وتكريم وتشريف هذا الذي ناله حنظلة؟!
موقف الرماة:
قد أشرنا إلى أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم للرماة بالمكوث في أماكنهم وعدم مبارحتها تحت أية حال من الأحوال، لكنهم أبَوا أن يطيعوا، فأغرَّتهم الدنيا؛ أغرَّت بعضهم فترك مكانه لاهثًا لجمع الغنائم فلم تفلح معهم محاولة أميرهم عبد الله بن جبير الذي قال لهم: "أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!".
وكانت المعركة تدور لصالح المسلمين، فقالوا لبعضهم: "الغنيمة الغنيمة، ظهر أصحابكم فماذا تنتظرون؟!" فترك 40 رجلاً أماكنهم وعصَوا أميرهم الذي ظل يقاتل وتسعةٌ ممن معه في أماكنهم، ودارت الدائرة على المسلمين، وانقلبت الموازين لصالح المشركين؛ حيث تحيَّن خالد بن الوليد الفرصة فانقض ليهاجم المسلمين من الخلف وانقلبت الدفة لصالح المشركين؛ حيث عاد من ولَّى منهم إلى ساحة القتال فأحاطوا بالمسلمين من الأمام والخلف.
اضطراب ساحة القتال:
طُوِّق جيش المسلمين واضطربت ساحة القتال حتى اختلط الجيشان ووقع القتل في المسلمين من بعضهم البعض، روى البخاري عن عائشة قالت: "لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس: أي عباد الله أخراكم- أي احترزوا من ورائكم- فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان فقال: "أي عباد الله أبي.. أبي" قالت: فوالله ما احتجزوا عنه حتى قتلوه، فقال حذيفة: "يغفر الله لكم" قال عروة (راوي الحديث عن عائشة)، فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله.
الرسول صلى الله عليه وسلم وما تعرَّض له من أذى:
كان صلى الله عليه وسلم في مؤخرة الجيش في حراسة تسعة من أصحابه يرقب القتال، فلما هجم خالد من الخلف وولَّى البعض، وكان قد تفرَّق معسكر المسلمين إلى ثلاث فرق: فرقة هربت حتى شارفت أطراف المدينة؛ فما عادوا حتى انفض القتال، وقد نزل فيهم قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ (آل عمران: 155)، وفرقة ظلت تدافع وتقاتل في ساحة القتال لكنهم في حيرة من أمرهم، وهم جُلُّ الصحابة ومعظمهم، وفرقة ثبتت حول رسول الله تدافع عنه حتى نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: "عباد الله"، وسمع ذلك المشركون فعلموا موضعه فتكالب عليه المشركون لقتله وحوله تسعة من أصحابه يدافعون عنه.
روى مسلم (2/107) عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعةٍ من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: "من يردهم عنا وله الجنة؟ أو هو رفيقي في الجنة؟" فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضًا فلم يزل كذلك حتى قُتل سبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه- أي القرشيين- "ما أنصفنا أصحابنا؟".
فلم يَبْقَ إلا طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما سعد فقد نثل له النبي صلى الله عليه وسلم كنانته وقال: "ارم فداك أبي وأمي"، وأما طلحة فظل يقاتل حتى ضربت يده فقطعت أصابعه.
روى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: "رأيت يد طلحة شلاء؛ وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد"، وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه يومئذٍ: "من سرَّه أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله" (ابن هشام 2/86).
لم يستمر ذلك طويلاً؛ إذ أسرع الصحابة نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقاموا حوله سياجًا بأجسادهم لئلا يصل إليه الكفار.
استشهاد مصعب وإشاعة مقتل النبي صلى الله عليه وسلم:
اشتد القتال وازداد تجمع المشركين كمًّا وكيفًا، وهجم جمع منهم وابن قمئة على مصعب بن عمير حامل لواء المسلمين فضربوه حتى قطعت يده، فأخذ اللواء بيده اليسرى فقطعت، فاحتضن اللواء بين صدره وعنقه حتى قتل، فظن ابن قمئة أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاح في الناس: إن محمدًا قد قتل (زاد المعاد 2/97).
أخذ اللواء علي بن أبي طالب، وعمَّت الفوضى والاضطراب، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو الجيش حتى عرفه كعب بن مال فنادى بأعلى صوته: "يا معشر المسلمين.. أبشروا.. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فتجمع عدد غير قليل من المسلمين فانسحب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشِّعب.
تمركز رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه في الشِّعب، فحاول أبو سفيان وخالد بن الوليد الهجوم عليهم في الشعب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنه لا ينبغي أن يعلونا" فقاتل عمر بن الخطاب في رهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل (الرحيق/ 258).
وأشرف أبو سفيان على الجبل صائحًا مناديًا: أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه، فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه، فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو الله.. إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله ما يسوءك" (ابن هشام 2/93/ زاد المعاد 2/94- الرحيق 261).
دروس مستفادة من أحد
- نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأي أصحابه بالخروج لملاقاة العدو رغم مخالفة ذلك لرأيه لهو مثلٌ لكل الحكام والسلاطين فلا يستبدوا برأيهم ولا يتسلطوا على شعوبهم بتكميم الأفواه وتدشين السجون، بل مثلٌ لهم لاستشارة الأمة فيما يخصها لتستقيم حياة الحكام وشعوبهم وينصلح الحال؛ فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه، ثم زد على ذلك: يحترم رأيهم وإن خالفوه الرأي، بل ينزل على رأيهم وينفِّذه.- عصيان الرماة بتركهم مواقعهم فيه عصيانٌ للرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه عصيان لأميرهم، فكان نتاج ذلك سوء العاقبة على المسلمين وعلى الرماة أنفسهم، وفي ذلك موعظة ودرس مستفاد في أن من آثر دنياه على آخرته أضر بآخرته ولم يحصِّل دنياه.
- من سنن الله في رسله الابتلاء، وقد يظن البعض أو يتساءل: كيف ينكسر المسلمون وهم على الحق؟! ولماذا لم يحقق النصر لرسوله؟! فنقول تعرض الرسول لذلك هو ابتلاء ومن سنن الله في رسله أن يبتليَهم؛ لذا فإن خُسران الأمة لمعركةٍ ما في زمن ما ليس نهايةً لهذه الأمة، وإنما هو تمحيص وابتلاء وفرز بين الغث والسمين، فتعود الأمة قويةً عفيةً تقود العالم بل الدنيا بأسرها بما تملكه من قيم ومبادئ لا تتوفر لأمة دونها ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾ (النور: من الآية 55)؛ فالانكسار في فلسطين لا يعني نهاية المطاف، ولا الانكسار في العراق يعني نهاية الأمة فنستسلم للشروط ونذعن للركوع، إنما لا بد أن يكون ذلك درسًا لنا.
- لماذا لم يحقق المسلمون النصر يوم أحد وهم على الحق وعدوهم على الباطل؟!.. إن انتصار المسلمين الانتصار المستمر على عدوهم يعطي الفرصة لدخول من ليس منهم في صفوفهم كالمنافقين فلا يتميز الخبيث من الطيب؛ لذا فمن الحكمة أن يتعرضوا لذلك الابتلاء ليميز الله المنافقين من المسلمين فيعرفوا ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ﴾ (آل عمران: من الآية 179).
ها هو ابن أبي سلول وقد تمرَّد وانسحب معه 300 من أعوانه فماذا لو كانوا لم ينسحبوا وظلوا على كيدهم ونفاقهم؟!
- سلعة الله غالية، وسلعة الله هذه هي الجنة؛ فلا بد أن تُنال بالعمل الصالح والطاعة والجهاد والصبر ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 142).
- نموذجان يترائيان لنا:
الأول: هو أبو عامر الفاسق، في معسكر الكفر يحرض على المسلمين، وفي المقابل: ولده حنظلة ابن أبي عامر في معسكر المسلمين كان حنظلة حديث عهد بعرس، فلما نادى منادي الجهاد ترك عروسه ولبَّى نداء الجهاد فقاتل حتى استشهد فغسَّلته الملائكة، ولنا فيه القدوة والمثل؛ تمسَّك بدينه وبعقيدته وإن خالف عليها أهله بل والده؛ فهذا هو قمة الولاء لله ولرسوله وقمة البراء من المشركين ولو كانوا أولي قربى، فكان ثمن ذلك أن غسَّلته الملائكة؛ لأنه فارق أهله وهو جنب ملبيًا نداء الجهاد.
- الثبات وقت الشدائد: أشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل، لكن لم يفتَّ ذلك في نفس أنس بن النضر الذي قالوا له قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء- يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء- يعني المشركين-"، ثم تقدَّم فلقيه سعد بن معاذ فقال: "أين يا أبا عمر؟"، فقال أنس: "واهًا لريح الجنة يا سعد.. إني أجده دون أحد"، ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل (البخاري/ 4048).
وها هو ثابت بن الدحداح يسجِّل الموقف نفسه؛ إذ يقول مخاطبًا الأنصار: "إن كان محمد قتل فإن الله حي لا يموت.. قاتلوا على دينكم فإن الله مظفركم وناصركم"، فما زال يقاتل حتى قتل، إنهما قدوة ومثل للثبات في وقت الشدائد ودليل على عمق الإيمان وقوة العقيدة وسلامتها.
- مصعب بن عمير.. لا نتحدث عن غزوة أحد دون مصعب؛ ذلك الفتى المدلل المرفَّه الغني الثري الذي ترك الثراء والغنى والدنيا وهاجر إلى الله ورسوله؛ فجاهد في الله حق جهاده؛ حمل لواء المسلمين حتى قُتل، فكيف دفن مصعب؟.
لِنَرَ ما يرويه البخاري عن ذلك أن عبد الرحمن بن عوف أتى بطعام وكان صائمًا فقال: "قتل مصعب بن عمير وهو خير مني؛ كُفِّن في بردة؛ إن غُطِّي رأسه بدت رجلاه، وإن غُطِّي رجلاه بدا رأسه" (البخاري/ 4045).
فلننظر كيف باع الدنيا بالآخرة، وكيف آثر الآخرة على الدنيا، فترك حياة الرغد والترف إلى حياة الشظف والصبر والمعاناة والجهاد والتضحية.