عمران محمد محمد
:: متابع ::
- إنضم
- 21 مايو 2016
- المشاركات
- 7
- التخصص
- الشريعة
- المدينة
- الرفاع
- المذهب الفقهي
- شافعي
#مقاطع_مدارك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، وأصلي وأسلم على من لا نبي بعده، وبعد.
فقد أطلعتني أختي الغالية (أم عيسى) حفظها الله على بعض مقاطع مدارك التي تهدف إلى استحلال المحرمات القطعية بأسلوب رخيص، تُشم منه رائحة الزندقة، نسأل الله السلامة والعافية.
فكتبت هذه الرسالة على عجالة ردا على بعض ما جاء في تلك المقاطع من محادة لله ورسوله ﷺ.
فمن ذلك: استحلال الموسيقى بزعمهم أن حديث البخاري معلق، والمعلق منقطع لا تقوم به حجة، وليس هناك دليل آخر على تحريم المعازف غيره.
والجواب عن الشبهة الأولى من ثلاثة أوجه:
الأول: أن دعوى أن الحديث معلق دعوى باطلة وغير مسلمة، فالحديث موصول، فقد أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن شيخه هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثنا عبد الرحمن بن غَنم الأشعري حدثني أبو مالك الأشعري والله ما كذبني: سمع النبي ﷺ يقول: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف).
فالحديث كما ترى موصول بسند صحيح، ومخرج في صحيح البخاري الذي هو أصح كتاب على وجه الأرض بعد كتاب الله عز وجل، فلم يبق بعد ذلك إلا الهوى!
وسبب ظنهم تعليقه قول البخاري فيه: (وقال هشام بن عمار)، فظن من لا علم له بالحديث وقواعده أنه معلق؛ لقوله: (قال)، دون: (حدثني)، وما درى هذا أن المعلق عند أهل الحديث هو ما سقط منه راو أو أكثر من مبادئ السند، وليس هو ما قال فيه الراوي: (قال فلان)!
والصواب في مثل هذا الحكم بالاتصال إذا كان الراوي غير موصوف بالتدليس، والإمام البخاري ليس مدلسا؛ فروايته عن شيخه متصلة وإن لم يصرح بالتحديث.
ولو قلنا باشتراط التصريح بالتحديث في غير المدلس لما سلمت لنا كثير من الأحاديث في صحيح البخاري عن الحكم بالانقطاع والرد، فضلا عن غير البخاري!
لذا حكم الأئمة الحفاظ -كابن منده وابن الصلاح وابن حجر وسبط ابن العجمي والسيوطي والقسطلاني وغيرهم- باتصال الحديث.
وإنما يحصل مثل هذا عندما يتكلم في العلم من ليس له بأهل، ومتى كانت الأحكام الشرعية تؤخذ عن الفسقة؟!
الثاني: هب أنه معلق، فإن البخاري قال فيه: (وقال هشام بن عمار) بصيغة الجزم، ومعلوم عند علماء الحديث أن الحديث الذي يعلقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم *صحيح*، وجزم البخاري به تصحيح منه له، فماذا بعد تصحيح أمير المؤمنين في الحديث في صحيحه الذي أجمع العلماء على صحته؟!
الثالث: هب أن البخاري لم يخرجه أصلا، فقد أخرجه أبو داود في السنن بسند موصول صحيح، وهذا كاف للمنصف، وأخرجه أيضا أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في التاريخ وغيرهم، ووصله أيضا من طريق شيخ المصنف (هشام بن عمار): أبو ذر الهروي، وأبو بكر الإسماعيلي، وأبو نعيم الأصفهاني، والطبراني في الكبير، وابن حبان في الصحيح.
والجواب عن الشبهة الثانية من وجهين:
الأول: أنه قد وردت أحاديث أخرى في تحريم المعازف، فقد أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي نُجَيد عمران بن حصين مرفوعا: (في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف إذا ظهرت القيان *والمعازف*، وشربت الخمور).
وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي بسند صحيح عن أنس مرفوعًا: (ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ، وذلك إذا شربوا الخمور، واتخذوا القينات، وضربوا *بالمعازف*).
وأخرج البزار عن أنس مرفوعًا: (صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: *مزمار* عند نعمة، ورنة عند مصيبة)، حسنه الألباني.
وأخرج الترمذي عن جابر مرفوعًا: (لم أنه عن البكاء، إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة *مزمار* شيطان ولعب، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان)، صححه الألباني.
وغيرها من الأحاديث.
الثاني: هب أنه لم يرد في تحريم المعازف حديث صحيح ولا ضعيف، فيكفي فيه الإجماع، فقد أجمع العلماء على تحريم المعازف، نقله ابن جرير، والآجري، وأبو الطيب الطبري، وأبو الليث السمرقندي، والبغوي، وابن رشد، وابن الصلاح، وابن قدامة، والرافعي، والنووي، والقرطبي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن رجب، والهيتمي، وآخرون.
والإجماع حجة قاطعة مستقلة، فلا حاجة معه إلى نص آية أو حديث كما هو معلوم في كتب الأصول، بل لو جاء حديث على خلاف الإجماع حُكم بنسخه؛ لأن الإجماع لا يُنسخ.
ومخالفة البعض للإجماع لا تنقضه؛ لأن الإجماع منعقد قبل مخالفته، ولو أبطلنا كل إجماع خالفه متأخر ما سلمت لنا الشريعة!
وأخيرًا: كثير من العلماء لم يكونوا يتوقعون أن يستحل أحدٌ المعازف استحلالا عقديا؛ لذا فسروا الحديث بالاستحلال العملي، لكن ظهر لنا اليوم من يستحلها استحلالا عقديا ليطبق هذا الحديث بحذافيره! فنسأل الله السلامة والعافية والثبات.
ولا شك أن فعل المعصية مع اعتقاد حلها أشد بكثير من فعلها مع اعتقاد حرمتها، لذا قال عمر لقدامة بن مظعون عندما شرب الخمر: إن قلت: هي حرام جلدناك، وإن قلت: هي حلال قتلناك!
وكثير من أصحاب المعاصي يفرون من تأنيب الضمير باستحلال المعصية، وما علموا أنهم وقعوا في أشد مما كانوا فيه، فأنا أنصح من ابتلي بمعصية أن يقر بها فيما بينه وبين ربه، وأن يعتقد حرمتها، ويعترف بتقصير نفسه، وليعص وهو على هذه الحال؛ فإن حاله هذه أهون بكثير ممن يستحل المعصية لعدة أمور، أهمها أمران:
أحدهما: أن الأول فاسق معصوم الدم، والثاني كافر حلال الدم بعد الاستتابة وتطبيق الشروط وانتفاء الموانع.
والآخر: أن الأول لا يزال يستغفر الله ويتوب ويندم فيغفر الله له، والثاني لا يستغفر ولا يتوب ولا يندم؛ لأنه يظن أنه لم يذنب.
_________________________
ومن ذلك: استحلال النمص بزعمهم أن الحديث الوارد مختلف فيه هل هو مرفوع أو موقوف؟ والموقوف لا تقوم به حجة، وجاء عن عائشة جواز ذلك.
فأقول باختصار: ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه *مرفوعًا*: (لعن الله الواشمات والمُتَوشِّماتِ، والنامصات والمُتَنَمِّصَات، والمُتَفَلِّجَاتِ للحسن، المُغِّيراتِ خلقَ الله).
وليس في رفعه خلاف كما زعموا!! إنما أرادوا بذلك إبطال الحديث!! ورد قول رسول الله ﷺ!!
أما ما جاء عن عائشة فجوابه باختصار من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه لا يصح؛ ففيه راوية مجهولة.
الثاني: أنه لو صح فليس فيه إباحة النمص، وليس موضوعه النمص!!
الثالث: أنه لو صح وكان نصا في جواز النمص لما جاز الاحتجاج به مع وجود الحديث المرفوع باتفاق العلماء، وهذا -والله أعلم- هو ما جعلهم يشككون في رفع الحديث.
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: أجمع المسلمون على أنه من استبانت له سنة رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس كائنًا من كان.
ثم إن تعجب فاعجب ممن يرد الحديث المرفوع المتفق عليه لاحتمال كونه موقوفا بزعمه، والموقوفُ لا حجة فيه، ثم يحتج بأثر عائشة الموقوف قطعا!! فهل هذا إلا اتباع الهوى؟! نسأل الله العافية.
وقولهم: إن إزالة الشعر لا تدخل في تغيير خلق الله عنادًا للحديث: (المغيرات خلق الله)!! أقول: نعم؛ هذا فيما أذن الشارع بإزالته، أما ما لم يأذن فهو داخل في المُثلة وتغيير خلق الله.
لذا قال أبو محمد ابن حزم في مراتب الإجماع: وأجمعوا على أن حلق اللحية مُثلةٌ لا تجوز.
تنبيه: قول الصحابي: (لعن رسول الله ﷺ) مرفوع عند أهل الحديث، لا كما ورد في كلامهم!!
______________________
ومن ذلك: استحلال حلق اللحية بزعمهم تعليق الحكم بالعلة! وأن العلماء لم يصححوا حديث عد الإعفاء من خصال الفطرة.
والجواب عن الشبهة الأولى من أربعة أوجه:
الأول: أني تفحصت الأحاديث فلم أجد فيها تعليقا للحكم على العلة كما زعموا، وغاية ما فيها تعليل الحكم بعلة، وفرق بين تعليل الحكم بعلة، وبين تعليق الحكم على علة.
الثاني: أن كثيرا من الأحاديث جاءت مطلقة، فمنها ما أخرجه البخاري عن ابن عمر مرفوعًا: (أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى)، ومسلم عن ابن عمر مرفوعًا: (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى)، وأحمد عن أبي هريرة مرفوعًا: (قصوا الشوارب وأعفوا اللحى)، و الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة مرفوعًا: (وفروا اللحى وخذوا من الشوارب)، والبيهقي في الشعب عن أبي أمامة مرفوعًا: (وفروا عثانينكم وقصوا سبالكم)، وابن سعد وابن أبي شيبة والطبري في التاريخ وأبو نعيم في الدلائل مرفوعًا: (أمرني ربي أن أعفي لحيتي وأن أحفي شاربي)، وقال ﷺ للفارسيَّين الحالقَين لحاهما: (ويحكما!! من أمركما بهذا؟!!)، وفي رواية: (ويلكما!!)، وهما غير مسلمين، لكنه ﷺ فزع من رؤية هذه المُثلة.
الثالث: أن النهي قد تناول القص لفظًا، وما تناوله النهي لفظًا لا يستباح إذا انتفت علته، كالزنا باستخدام الواقي، وشرب الخمر مع عدم الإسكار، وكشف العورة عند أمن الفتنة، ولا أستبعد أن يأتي من يستحل هذه الأمور في يوم من الأيام !!
الرابع: أنهم إذا اطردوا في فهمهم السقيم خرجوا عن مذاهب أهل العلم، فطرد قولهم يؤدي إلى أن حلق اللحية قد يكون مباحًا بل مندوبًا بل واجبًا!! ولا قائل بذلك!! فتأمل!!
ويجاب عن الشبهة الثانية أن حديث عد الإعفاء من خصال الفطرة أخرجه مسلم وأحمد والأربعة من حديث عائشة، وصححه مسلم والألباني وغيرهما، وعلى فرض عدم صحته -وهو الأقرب- فليس هو الدليل الوحيد في الباب.
وأخيرًا أقول: هب أنه لم يرد في الباب حديث صحيح ولا ضعيف ولا موضوع، فيكفي فيه الإجماع، فقد أجمع العلماء على تحريم حلق اللحية، نقله ابن حزم، وابن القطان، وابن تيمية، وابن كثير، وغيرهم.
قال ابن حزم في المحلى: "أجمعوا على أن إعفاء اللحية وقص الشارب فرض".
وهو المنقول عن الأئمة الأربعة بلا خلاف عنهم، وإنما الخلاف فيما زاد عن القبضة.
قال ابن الهمام وابن عابدين وغيرهما: أما الأخذ من اللحية وهي دون القبضة فلم يبحه أحد.
وسبق أن الإجماع يقضي على ما سواه من الأدلة.
وقولهم: كان النبي ﷺ يحب موافقة أهل الكتاب، فهذا حديث صحيح أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس، وهذا قبل النهي عن التشبه بأهل الكتاب، وقد ترك النبي ﷺ تلك الموافقة المذكورة في الحديث المشار إليه بعد ذلك كما في آخر الحديث المشار إليه.
______________________
ومن ذلك: استحلال الاختلاط بزعمهم عدم وجود الدليل على حرمته، وعدم وجود هذا المصطلح في الشرع، وورود قصص أيام النبي ﷺ تدل على اختلاط الرجال بالنساء، وحصول الاختلاط في الطواف.
فأقول باختصار: كذبوا بزعمهم عدم وجود الدليل على حرمة الاختلاط؛ فالأدلة على تحريمه متكاثرة متوافرة متناثرة متواترة، وكذبوا بزعمهم عدم وجود مصطلح الاختلاط في الأحاديث، فلفظ الاختلاط والامتزاج ونحوهما موجود في عدة أحاديث نهيا عنه، وكذبوا عندما زعموا عدم وجود هذا المصطلح في كلام أهل العلم، فكلام العلماء والفقهاء مليء بهذا المصطلح تحريمًا ونهيًا وزجرًا.
وأكتفي هنا -اختصارًا- بذكر دليل واحد لا يدخله الاعتراض ولا يعتريه النسخ ولا يقوى عليه طاغوت التأويل في الغالب، ألا وهو الإجماع، فقد أجمع العلماء على تحريم الاختلاط بين النساء والرجال، قال الحافظ أبو بكر العامري رحمه الله في أحكام النظر: "اتفق علماء الأمة أن من اعتقد هذه المحظورات، وإباحة امتزاج النسوان بالرجال الأجانب فقد كفر واستحق القتل بردته، وإن اعتقَدَ تحريمَه، وفَعَلَه وأقر عليه ورضي به، فقد فسق، لايُسمعُ له قول، ولا تُقبلُ له شهادة".
وأما القصص التي يذكرونها فوقوعها كان قبل تحريم الاختلاط كما لا يخفى على من نور الله بصيرته وقدر هدايته وألهمه رشده.
وأما استدلالهم بوقوع الاختلاط في الحرم في الطواف فمن أسخف ما رأيت من الأدلة؛ إذ كيف يكون فعل الناس -المخالف لما عليه الصحابة كما في صحيح البخاري وغيره- حجة شرعية؟! فهل فعل الناس للمعصية في الحرم تجعلها مباحة؟!!
______________________
هذا، ولهم مقاطع أخرى يستحلون فيها محرمات أخرى يضيق الوقت عنها ويطول المقام بردها، وسقوطُها يغني عن إسقاطها، وإنما أردت التنبيه بالبعض على الكل، ليتبين للناس حالهم.
ولك أن تعجب من جرأتهم على استحلال المحرمات، فكثير منها مجمع على تحريمها، ومع ذلك لم يبالوا باستحلالها، ولو أنهم استحلوا محرمات اختلف العلماء في تحريمها لكان هذا -مع بشاعته وتحريمه- أهون من استحلال محرمات تحريمها محل إجماع.
وسبب هذا كله فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، ودعوة الناس كافة مع قصور الفهم وقلة العلم إلى استنباط الأحكام من أدلتها، فالله المستعان.
______________________
وأخيرا أقول -وبعد أن استفحل الأمر وعظم الخطب وطفح الكيل وبلغ السيل الزبى- إني أدعو القائمين على مقاطع مدارك وغيرهم ممن يستحل المعازف وحلق اللحية وكشف الوجه والاختلاط ونحو ذلك من المحرمات إلى المباهلة والتلاعن على تحريم هذه المحرمات حتى تحل لعنة الله على الكاذبين، ((فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)).
هذا، والله تعالى أعلى وأعلم، وبه التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه/ أبو نُجَيد
عمران بن محمد طيب العوضي
+97333075386
٧ شوال ١٤٣٧هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، وأصلي وأسلم على من لا نبي بعده، وبعد.
فقد أطلعتني أختي الغالية (أم عيسى) حفظها الله على بعض مقاطع مدارك التي تهدف إلى استحلال المحرمات القطعية بأسلوب رخيص، تُشم منه رائحة الزندقة، نسأل الله السلامة والعافية.
فكتبت هذه الرسالة على عجالة ردا على بعض ما جاء في تلك المقاطع من محادة لله ورسوله ﷺ.
فمن ذلك: استحلال الموسيقى بزعمهم أن حديث البخاري معلق، والمعلق منقطع لا تقوم به حجة، وليس هناك دليل آخر على تحريم المعازف غيره.
والجواب عن الشبهة الأولى من ثلاثة أوجه:
الأول: أن دعوى أن الحديث معلق دعوى باطلة وغير مسلمة، فالحديث موصول، فقد أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن شيخه هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثنا عبد الرحمن بن غَنم الأشعري حدثني أبو مالك الأشعري والله ما كذبني: سمع النبي ﷺ يقول: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف).
فالحديث كما ترى موصول بسند صحيح، ومخرج في صحيح البخاري الذي هو أصح كتاب على وجه الأرض بعد كتاب الله عز وجل، فلم يبق بعد ذلك إلا الهوى!
وسبب ظنهم تعليقه قول البخاري فيه: (وقال هشام بن عمار)، فظن من لا علم له بالحديث وقواعده أنه معلق؛ لقوله: (قال)، دون: (حدثني)، وما درى هذا أن المعلق عند أهل الحديث هو ما سقط منه راو أو أكثر من مبادئ السند، وليس هو ما قال فيه الراوي: (قال فلان)!
والصواب في مثل هذا الحكم بالاتصال إذا كان الراوي غير موصوف بالتدليس، والإمام البخاري ليس مدلسا؛ فروايته عن شيخه متصلة وإن لم يصرح بالتحديث.
ولو قلنا باشتراط التصريح بالتحديث في غير المدلس لما سلمت لنا كثير من الأحاديث في صحيح البخاري عن الحكم بالانقطاع والرد، فضلا عن غير البخاري!
لذا حكم الأئمة الحفاظ -كابن منده وابن الصلاح وابن حجر وسبط ابن العجمي والسيوطي والقسطلاني وغيرهم- باتصال الحديث.
وإنما يحصل مثل هذا عندما يتكلم في العلم من ليس له بأهل، ومتى كانت الأحكام الشرعية تؤخذ عن الفسقة؟!
الثاني: هب أنه معلق، فإن البخاري قال فيه: (وقال هشام بن عمار) بصيغة الجزم، ومعلوم عند علماء الحديث أن الحديث الذي يعلقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم *صحيح*، وجزم البخاري به تصحيح منه له، فماذا بعد تصحيح أمير المؤمنين في الحديث في صحيحه الذي أجمع العلماء على صحته؟!
الثالث: هب أن البخاري لم يخرجه أصلا، فقد أخرجه أبو داود في السنن بسند موصول صحيح، وهذا كاف للمنصف، وأخرجه أيضا أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في التاريخ وغيرهم، ووصله أيضا من طريق شيخ المصنف (هشام بن عمار): أبو ذر الهروي، وأبو بكر الإسماعيلي، وأبو نعيم الأصفهاني، والطبراني في الكبير، وابن حبان في الصحيح.
والجواب عن الشبهة الثانية من وجهين:
الأول: أنه قد وردت أحاديث أخرى في تحريم المعازف، فقد أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي نُجَيد عمران بن حصين مرفوعا: (في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف إذا ظهرت القيان *والمعازف*، وشربت الخمور).
وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي بسند صحيح عن أنس مرفوعًا: (ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ، وذلك إذا شربوا الخمور، واتخذوا القينات، وضربوا *بالمعازف*).
وأخرج البزار عن أنس مرفوعًا: (صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: *مزمار* عند نعمة، ورنة عند مصيبة)، حسنه الألباني.
وأخرج الترمذي عن جابر مرفوعًا: (لم أنه عن البكاء، إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة *مزمار* شيطان ولعب، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان)، صححه الألباني.
وغيرها من الأحاديث.
الثاني: هب أنه لم يرد في تحريم المعازف حديث صحيح ولا ضعيف، فيكفي فيه الإجماع، فقد أجمع العلماء على تحريم المعازف، نقله ابن جرير، والآجري، وأبو الطيب الطبري، وأبو الليث السمرقندي، والبغوي، وابن رشد، وابن الصلاح، وابن قدامة، والرافعي، والنووي، والقرطبي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن رجب، والهيتمي، وآخرون.
والإجماع حجة قاطعة مستقلة، فلا حاجة معه إلى نص آية أو حديث كما هو معلوم في كتب الأصول، بل لو جاء حديث على خلاف الإجماع حُكم بنسخه؛ لأن الإجماع لا يُنسخ.
ومخالفة البعض للإجماع لا تنقضه؛ لأن الإجماع منعقد قبل مخالفته، ولو أبطلنا كل إجماع خالفه متأخر ما سلمت لنا الشريعة!
وأخيرًا: كثير من العلماء لم يكونوا يتوقعون أن يستحل أحدٌ المعازف استحلالا عقديا؛ لذا فسروا الحديث بالاستحلال العملي، لكن ظهر لنا اليوم من يستحلها استحلالا عقديا ليطبق هذا الحديث بحذافيره! فنسأل الله السلامة والعافية والثبات.
ولا شك أن فعل المعصية مع اعتقاد حلها أشد بكثير من فعلها مع اعتقاد حرمتها، لذا قال عمر لقدامة بن مظعون عندما شرب الخمر: إن قلت: هي حرام جلدناك، وإن قلت: هي حلال قتلناك!
وكثير من أصحاب المعاصي يفرون من تأنيب الضمير باستحلال المعصية، وما علموا أنهم وقعوا في أشد مما كانوا فيه، فأنا أنصح من ابتلي بمعصية أن يقر بها فيما بينه وبين ربه، وأن يعتقد حرمتها، ويعترف بتقصير نفسه، وليعص وهو على هذه الحال؛ فإن حاله هذه أهون بكثير ممن يستحل المعصية لعدة أمور، أهمها أمران:
أحدهما: أن الأول فاسق معصوم الدم، والثاني كافر حلال الدم بعد الاستتابة وتطبيق الشروط وانتفاء الموانع.
والآخر: أن الأول لا يزال يستغفر الله ويتوب ويندم فيغفر الله له، والثاني لا يستغفر ولا يتوب ولا يندم؛ لأنه يظن أنه لم يذنب.
_________________________
ومن ذلك: استحلال النمص بزعمهم أن الحديث الوارد مختلف فيه هل هو مرفوع أو موقوف؟ والموقوف لا تقوم به حجة، وجاء عن عائشة جواز ذلك.
فأقول باختصار: ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه *مرفوعًا*: (لعن الله الواشمات والمُتَوشِّماتِ، والنامصات والمُتَنَمِّصَات، والمُتَفَلِّجَاتِ للحسن، المُغِّيراتِ خلقَ الله).
وليس في رفعه خلاف كما زعموا!! إنما أرادوا بذلك إبطال الحديث!! ورد قول رسول الله ﷺ!!
أما ما جاء عن عائشة فجوابه باختصار من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه لا يصح؛ ففيه راوية مجهولة.
الثاني: أنه لو صح فليس فيه إباحة النمص، وليس موضوعه النمص!!
الثالث: أنه لو صح وكان نصا في جواز النمص لما جاز الاحتجاج به مع وجود الحديث المرفوع باتفاق العلماء، وهذا -والله أعلم- هو ما جعلهم يشككون في رفع الحديث.
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: أجمع المسلمون على أنه من استبانت له سنة رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس كائنًا من كان.
ثم إن تعجب فاعجب ممن يرد الحديث المرفوع المتفق عليه لاحتمال كونه موقوفا بزعمه، والموقوفُ لا حجة فيه، ثم يحتج بأثر عائشة الموقوف قطعا!! فهل هذا إلا اتباع الهوى؟! نسأل الله العافية.
وقولهم: إن إزالة الشعر لا تدخل في تغيير خلق الله عنادًا للحديث: (المغيرات خلق الله)!! أقول: نعم؛ هذا فيما أذن الشارع بإزالته، أما ما لم يأذن فهو داخل في المُثلة وتغيير خلق الله.
لذا قال أبو محمد ابن حزم في مراتب الإجماع: وأجمعوا على أن حلق اللحية مُثلةٌ لا تجوز.
تنبيه: قول الصحابي: (لعن رسول الله ﷺ) مرفوع عند أهل الحديث، لا كما ورد في كلامهم!!
______________________
ومن ذلك: استحلال حلق اللحية بزعمهم تعليق الحكم بالعلة! وأن العلماء لم يصححوا حديث عد الإعفاء من خصال الفطرة.
والجواب عن الشبهة الأولى من أربعة أوجه:
الأول: أني تفحصت الأحاديث فلم أجد فيها تعليقا للحكم على العلة كما زعموا، وغاية ما فيها تعليل الحكم بعلة، وفرق بين تعليل الحكم بعلة، وبين تعليق الحكم على علة.
الثاني: أن كثيرا من الأحاديث جاءت مطلقة، فمنها ما أخرجه البخاري عن ابن عمر مرفوعًا: (أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى)، ومسلم عن ابن عمر مرفوعًا: (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى)، وأحمد عن أبي هريرة مرفوعًا: (قصوا الشوارب وأعفوا اللحى)، و الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة مرفوعًا: (وفروا اللحى وخذوا من الشوارب)، والبيهقي في الشعب عن أبي أمامة مرفوعًا: (وفروا عثانينكم وقصوا سبالكم)، وابن سعد وابن أبي شيبة والطبري في التاريخ وأبو نعيم في الدلائل مرفوعًا: (أمرني ربي أن أعفي لحيتي وأن أحفي شاربي)، وقال ﷺ للفارسيَّين الحالقَين لحاهما: (ويحكما!! من أمركما بهذا؟!!)، وفي رواية: (ويلكما!!)، وهما غير مسلمين، لكنه ﷺ فزع من رؤية هذه المُثلة.
الثالث: أن النهي قد تناول القص لفظًا، وما تناوله النهي لفظًا لا يستباح إذا انتفت علته، كالزنا باستخدام الواقي، وشرب الخمر مع عدم الإسكار، وكشف العورة عند أمن الفتنة، ولا أستبعد أن يأتي من يستحل هذه الأمور في يوم من الأيام !!
الرابع: أنهم إذا اطردوا في فهمهم السقيم خرجوا عن مذاهب أهل العلم، فطرد قولهم يؤدي إلى أن حلق اللحية قد يكون مباحًا بل مندوبًا بل واجبًا!! ولا قائل بذلك!! فتأمل!!
ويجاب عن الشبهة الثانية أن حديث عد الإعفاء من خصال الفطرة أخرجه مسلم وأحمد والأربعة من حديث عائشة، وصححه مسلم والألباني وغيرهما، وعلى فرض عدم صحته -وهو الأقرب- فليس هو الدليل الوحيد في الباب.
وأخيرًا أقول: هب أنه لم يرد في الباب حديث صحيح ولا ضعيف ولا موضوع، فيكفي فيه الإجماع، فقد أجمع العلماء على تحريم حلق اللحية، نقله ابن حزم، وابن القطان، وابن تيمية، وابن كثير، وغيرهم.
قال ابن حزم في المحلى: "أجمعوا على أن إعفاء اللحية وقص الشارب فرض".
وهو المنقول عن الأئمة الأربعة بلا خلاف عنهم، وإنما الخلاف فيما زاد عن القبضة.
قال ابن الهمام وابن عابدين وغيرهما: أما الأخذ من اللحية وهي دون القبضة فلم يبحه أحد.
وسبق أن الإجماع يقضي على ما سواه من الأدلة.
وقولهم: كان النبي ﷺ يحب موافقة أهل الكتاب، فهذا حديث صحيح أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس، وهذا قبل النهي عن التشبه بأهل الكتاب، وقد ترك النبي ﷺ تلك الموافقة المذكورة في الحديث المشار إليه بعد ذلك كما في آخر الحديث المشار إليه.
______________________
ومن ذلك: استحلال الاختلاط بزعمهم عدم وجود الدليل على حرمته، وعدم وجود هذا المصطلح في الشرع، وورود قصص أيام النبي ﷺ تدل على اختلاط الرجال بالنساء، وحصول الاختلاط في الطواف.
فأقول باختصار: كذبوا بزعمهم عدم وجود الدليل على حرمة الاختلاط؛ فالأدلة على تحريمه متكاثرة متوافرة متناثرة متواترة، وكذبوا بزعمهم عدم وجود مصطلح الاختلاط في الأحاديث، فلفظ الاختلاط والامتزاج ونحوهما موجود في عدة أحاديث نهيا عنه، وكذبوا عندما زعموا عدم وجود هذا المصطلح في كلام أهل العلم، فكلام العلماء والفقهاء مليء بهذا المصطلح تحريمًا ونهيًا وزجرًا.
وأكتفي هنا -اختصارًا- بذكر دليل واحد لا يدخله الاعتراض ولا يعتريه النسخ ولا يقوى عليه طاغوت التأويل في الغالب، ألا وهو الإجماع، فقد أجمع العلماء على تحريم الاختلاط بين النساء والرجال، قال الحافظ أبو بكر العامري رحمه الله في أحكام النظر: "اتفق علماء الأمة أن من اعتقد هذه المحظورات، وإباحة امتزاج النسوان بالرجال الأجانب فقد كفر واستحق القتل بردته، وإن اعتقَدَ تحريمَه، وفَعَلَه وأقر عليه ورضي به، فقد فسق، لايُسمعُ له قول، ولا تُقبلُ له شهادة".
وأما القصص التي يذكرونها فوقوعها كان قبل تحريم الاختلاط كما لا يخفى على من نور الله بصيرته وقدر هدايته وألهمه رشده.
وأما استدلالهم بوقوع الاختلاط في الحرم في الطواف فمن أسخف ما رأيت من الأدلة؛ إذ كيف يكون فعل الناس -المخالف لما عليه الصحابة كما في صحيح البخاري وغيره- حجة شرعية؟! فهل فعل الناس للمعصية في الحرم تجعلها مباحة؟!!
______________________
هذا، ولهم مقاطع أخرى يستحلون فيها محرمات أخرى يضيق الوقت عنها ويطول المقام بردها، وسقوطُها يغني عن إسقاطها، وإنما أردت التنبيه بالبعض على الكل، ليتبين للناس حالهم.
ولك أن تعجب من جرأتهم على استحلال المحرمات، فكثير منها مجمع على تحريمها، ومع ذلك لم يبالوا باستحلالها، ولو أنهم استحلوا محرمات اختلف العلماء في تحريمها لكان هذا -مع بشاعته وتحريمه- أهون من استحلال محرمات تحريمها محل إجماع.
وسبب هذا كله فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، ودعوة الناس كافة مع قصور الفهم وقلة العلم إلى استنباط الأحكام من أدلتها، فالله المستعان.
______________________
وأخيرا أقول -وبعد أن استفحل الأمر وعظم الخطب وطفح الكيل وبلغ السيل الزبى- إني أدعو القائمين على مقاطع مدارك وغيرهم ممن يستحل المعازف وحلق اللحية وكشف الوجه والاختلاط ونحو ذلك من المحرمات إلى المباهلة والتلاعن على تحريم هذه المحرمات حتى تحل لعنة الله على الكاذبين، ((فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)).
هذا، والله تعالى أعلى وأعلم، وبه التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه/ أبو نُجَيد
عمران بن محمد طيب العوضي
+97333075386
٧ شوال ١٤٣٧هـ