العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

تأصيل مسألة انعقاد البيع بالمعاطاة (8142)

إنضم
2 سبتمبر 2012
المشاركات
423
الكنية
جلال الدين
التخصص
الفقه وأصوله
المدينة
انواكشوط -- أطار
المذهب الفقهي
مالكي
فائدة :من المنهج الذي لاحظته في مختصر خليل أنه يشير أحيانا إلى الأقوال الخارجة عن المذهب بلفظ الاستبعاد "وإن ... ) وهي التي يجعل عليش قبلها هذا اذا كان كذا بل وإن كان
.... ومن هذه المسائل مسألتنا هذه
مسألة انعقاد البيع بالمعاطاة
قال خليل وتبعه بهرام فقالا على التوالي :
8142. وإن بمعاطاة[1]
15834. 8142، وإن بمعاطاة، ((وإن إعطاء = تصويب))[2]
هناك أحاديث استدل بها على انعقاد البيع بالمعاطاة من غير لفظ ايجاب وقبول وهي حديث أنس وحديث القاء خطبة النساء وحديث عائشة رضي الله عنها
فعن أنس بن مالك، أن رجلا من الأنصار، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال: لك في بيتك شيء؟ قال: بلى، حلس نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقدح نشرب فيه الماء، قال: «ائتني بهما» ، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم قال: «من يشتري هذين؟» فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: «من يزيد على درهم؟» مرتين أو ثلاثا، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين، فأعطاهما الأنصاري، وقال: «اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما، فأتني به» ، ففعل، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشد فيه عودا بيده، وقال: «اذهب فاحتطب ولا أراك خمسة عشر يوما» ، فجعل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فقال: «اشتر ببعضها طعاما وببعضها ثوبا» ، ثم قال: «هذا خير لك من أن تجيء والمسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو دم موجع [3]
وعن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع حلسا وقدحا، وقال: «من يشتري هذا الحلس والقدح»، فقال رجل: أخذتهما بدرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يزيد على درهم، من يزيد على درهم؟»، فأعطاه رجل درهمين: فباعهما منه: «هذا حديث حسن، لا نعرفه إلا من حديث الأخضر بن عجلان»، «وعبد الله الحنفي الذي روى عن أنس هو أبو بكر الحنفي» والعمل على هذا عند بعض أهل العلم: لم يروا بأسا ببيع من يزيد في الغنائم والمواريث " وقد روى المعتمر بن سليمان[4]، وغير واحد من كبار الناس [5]، عن الأخضر بن عجلان هذا الحديث [6]
عن أنس بن مالك، أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال: «أما في بيتك شيء؟» قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال: «ائتني بهما»، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: «من يشتري هذين؟» قال رجل: أنا، آخذهما بدرهم، قال: «من يزيد على درهم مرتين، أو ثلاثا»، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: «اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فأتني به،»، فأتاه به، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده، ثم قال له: «اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما»، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا، وببعضها طعاما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع " [7]وبنحو رواية الامام أبي داود اختصره في المشكاة [8] وقد قال ابن كثير أن رواية الترمذي مختصرة وأخصر منها رواية النسائي [9] وذلك أوضح
(فأعطاه) أي النبي صلى الله عليه وسلم (رجل درهمين فباعهما منه) ظاهره دليل على أن المعاطاة كافية في البيع.[10] قلت : هذا إنما يسلم في الرواية التي لم تذكر الايجاب بالقول وإلا فقد أخرجه الامام أحمد بلفظ توجد فيه الصيغة القولية فلا يصح دليلا على المخالف كالشافعية ، ففي مسند أحمد : عن أنس بن مالك، أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الحاجة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما عندك شيء؟» فأتاه بحلس وقدح، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يشتري هذا؟» فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: «من يزيد على درهم؟» فسكت القوم، فقال: «من يزيد على درهم؟» فقال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. قال: «هما لك» ثم قال: " إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاث: ذي دم موجع، أو غرم مفظع، أو فقر مدقع " [11] ونحوه في مسند الحارث : فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يزيد على درهم؟» قال أنس: فسكت القوم فقال: «من يزيد على درهم؟» فقال رجل: أنا آخذهما يا نبي الله باثنين، قال: «هما لك» فأعطاه بدرهمين , وأخذ الدرهمين [12] ونحو هذا في الحث على التجارة والصناعة لابي بكر بن الخلال[13] و المنتقى لابن الجارود [14] وشرح معاني الآثار [15] وحلية الاولياء لابي نعيم [16] و البيهقي في شعب الايمان [17] والسنن الكبرى [18] ومعرفة السنن والآثار [19] ومع هذا الايجاب فقد أبقاه بعضهم دليلا على المعاطاة فقال : (أنا آخذهما بدرهمين) فيه دليل على جواز بيع المعاطاة [20]
وهذا الحديث قد حسنه الامام الترمذي وقوله وحكمه أولى من تضعيفه ممن أتى بعد الترمذي من المتأخرين والمعاصرين ومن ذلك تضعيف الشيخ الالباني [21] وجماعة شعيب الارنؤؤط في تحقيقهم لسنن الترمذي وسنن أبي داود وقد اعتذروا في آخر المطاف فقالوا : ولعل الترمذي حسنه لهذه الشواهد، وقد فاتنا أن ننبه على هذه الشواهد في "سنن الترمذي"، فتستدرك من هنا ويعنون بالشواهد قولهم : ويشهد لبيع المزايدة حديث جابر بن عبد الله عند البخاري (2141). ويشهد لقوله: "المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة" حديث ابن عمر عند البخاري (1475)، ومسلم (1040). ولقوله: "إن المسألة لا تصلح إلا ... " حديث حبشي بن جنادة عند الترمذي (659) و (660).[22]
وهناك حديث خطبة النساء وممن رواه جابر فعنه-: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج يوم الفطر، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة»[23]
وفي رواية[24] «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام فبدأ بالصلاة، ثم خطب الناس، فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء صدقة، قلت لعطاء: أترى حقا على الإمام أن يأتي النساء، فيذكرهن؟ قال: إن ذلك لحق عليهم، وما لهم أن لا يفعلوا؟» .
وفي أخرى [25] قال: «شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم- يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان، ولا إقامة، ثم قام متوكئا على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس، وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكرهن، فقال: تصدقن، فإن أكثركن حطب جهنم، فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين، فقالت: لم يا رسول الله؟ فقال: لأنكن تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير. قال: فجعلن يتصدقن من حليهن، يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتيمهن» . أخرجه البخاري ومسلم.
وأخرجه أبو داود [26] قال: «قام النبي - صلى الله عليه وسلم- يوم الفطر فصلى، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم خطب الناس، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- نزل فأتى النساء، فذكرهن، وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه، يلقي فيه النساء الصدقة، قال: تلقي المرأة فتختها، ويلقين، ويلقين» .
وفي رواية النسائي [27]قال: «شهدت الصلاة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في يوم عيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان، ولا إقامة، فلما قضى الصلاة قام متوكئا على بلال، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ الناس وذكرهم، وحثهم على طاعته، ثم مال ومضى إلى النساء ومعه بلال، فأمرهن بتقوى الله، ووعظهن، وذكرهن، وحمد الله، وأثنى عليه، ثم حثهن على طاعته، ثم قال: تصدقن، فإن أكثركن حطب جهنم، فقالت امرأة من سفلة النساء، سفعاء الخدين: لم يا رسول الله؟ قال: تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير، فجعلن ينزعن قلائدهن وأقرطتهن وخواتيمهن، يقذفنه في ثوب بلال يتصدقن به» [28]
وفيه أن المعاطاة فى العقود تقوم مقام القول الصريح؛ لأن النساء ألقين ما ألقين إذ طلبت منهن الصدقة، فكانت صدقة وإن لم يسمها صدقة.[29]
إيجاب وقبول بل تكفي فيها المعاطاة لأنهن ألقين الصدقة في ثوب بلال من غير كلام منهن ولا من بلال ولا من غيره وهذا هو الصحيح في مذهبنا وقال أكثر أصحابنا العراقيين تفتقر إلى إيجاب وقبول باللفظ كالهبة والصحيح الأول وبه جزم المحققون [30]
وهناك حديث آخر استدل به على جواز بيع المعاطاة وهو حديث عائشة رضي الله عنها
فعن عائشة - رضي الله عنها -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم- صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم ، وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي» [31]
وفي رواية:[32] «أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كانت له خميصة لها أعلام، فكان يتشاغل بها في الصلاة، فأعطاها أبا جهم، وأخذ كساء له أنبجانيا » أخرجه البخاري ومسلم.
قال البخاري وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: «كنت أنظر إلى علمها وأنا في الصلاة فأخاف أن يفتنني»[33] وأخرجه الموطأ [34]وأبو داود[35] والنسائي[36]، وأخرج الموطأ أيضا عن عروة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحوه، فجعله مرسلا من هذا الطريق[37]، وفي رواية أخرى لأبي داود:[38] «وأخذ كرديا كان لأبي جهم، فقيل: يا رسول الله، الخميصة كانت خيرا من الكردي»[39]
قال الزرقاني واستنبط منه الباجي [40] صحة المعاطاة لعدم ذكر الصيغة، وهذا الحديث في الصحيحين من رواية الزهري عن عروة عن عائشة: " «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في خميصة له أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي» ".[41]
واختار النووي وجماعة منهم المتولي والبغوي الانعقاد له بكل ما يعده الناس بيعا[42] لأنه لم يثبت اشتراط لفظ فيرجع للعرف كسائر الألفاظ المطلقة [43]
وقول الشافعية: لا دلالة للأفعال بالوضع فلا ينعقد بها البيع ليس بظاهر، لأنه لا يلزم من نفي الدلالة الوضعية نفي مطلق الدلالة، لبقاء الدلالة العرفية على الرضا وهو المقصود، إذ المقصود من التجارة إنما هو أخذ ما في يد غيرك بدفع عوض عن طيب نفس منهما، لقوله تعالى {لا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29][44]
ولهذا ينعقد بالتعاطي في النفيس والخسيس هو الصحيح لتحقق المراضاة.[45] ووجهوه بأنه من باب الاستحسان: استحسانا للعادة. قال أبو معاذ: رأيت سفيان الثوري جاء إلى صاحب الرمان فوضع عنده فلسا وأخذ رمانة ولم يتكلم ومضى وجه الصحيح أن المعنى وهو دلالة على التراضي يشمل الكل وهو الصحيح فلا معنى للتفصيل [46]
ومذهب المؤيد[47] والخراسانيين من الحنفية أنه ينعقد البيع بالمعاطاة، وهو استحسان، والقياس ألا ينعقد [48]
وأما البيع فلا يشترط فيه صيغة الإيجاب والقبول، بل يصح بالمعاطاة؛ ولأنه لا يتعين فيه لفظ، بل يصح بأي لفظ كان مما يؤدي المعنى [49]
لنا أن الله تعالى أحل البيع ولم يبين كيفيته فوجب الرجوع فيه إلى العرف كما رجع إليه في القبض والإحراز والتفريق، والمسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك، ولأن البيع كان موجودا بينهم معلوما عندهم.
وإنما علق الشرع عليه أحكاما وأبقاه على ما كان فلا يجوز تغييره بالرأي والتحكم ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه مع كثرة وقوع البيع بينهم استعمال الإيجاب والقبول.
ولو استعملوا ذلك في بياعاتهم لنقل نقلا شائعا، ولو كان ذلك شرطا لوجب نقله ولم يتصور منهم اهماله والغفلة عن نقله ولأن البيع مما تعم به البلوى فلو اشترط الإيجاب والقبول لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بيانا عاما ولم يخف حكمه لأنه يفضي إلى وقوع العقود الفاسدة كثيرا وأكلهم المال بالباطل ولم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه فيما علمناه ولأن الناس يتبايعون بالمعاطاة في كل عصر ولم ينقل إنكاره قبل مخالفينا فكان أجماعا ولأن الإيجاب والقبول انما يرادان للدلالة فإذا وجد ما يدل عليه من المساومة والتعاطي قام مقامهما وأجزأ عنهما لعدم التعبد فيه [50]
نص عليه، وجزم به أكثر الأصحاب لعموم الأدلة، ولأن البيع موجود قبل الشرع، وإنما علق الشرع عليه أحكاما، ولم يعين له لفظا، فوجب رده إلى العرف كالقبض والحرز، ولم يزل المسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه استعمال إيجاب وقبول في بيعهم، ولو استعمل لنقل نقلا شائعا ولبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - لعموم البلوى به، ولم يخف حكمه [51]
معلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حدا، لا في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه عين للعقود صفة معينة [من] الألفاظ أو غيرها، أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ الخاصة، بل قد قيل: إن هذا القول مما يخالف الإجماع القديم [52]، وأنه من البدع [53] وليس لذلك حد في لغة العرب، بحيث يقال: إن أهل اللغة يسمون هذا بيعا ولا يسمون هذا بيعا، حتى يدخل أحدهما في خطاب الله ولا يدخل الآخر، بل تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعا: دليل على أنها في لغتهم تسمى بيعا، والأصل بقاء اللغة وتقريرها لا نقلها وتغييرها، فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سموه بيعا فهو بيع، وما سموه هبة فهو هبة.[54] ولأن الناس يتبايعون بالمعاطاة في كل عصر ولم ينقل إنكاره قبل مخالفينا فكان أجماعا [55]
(بمعاطاة) نصا في القليل والكثير لعموم الأدلة ; ولأنه تعالى أحل البيع ولم يبين كيفيته، فوجب الرجوع فيه إلى العرف، كما رجع إليه في القبض والإحراز ونحوهما، والمسلمون في أسواقهم ومبايعتهم على ذلك [56]
ومن تتبع ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من أنواع المبايعات والمؤاجرات والتبرعات: علم ضرورة أنهم لم يكونوا يلتزمون الصيغة من الطرفين، والآثار في ذلك كثيرة ليس هذا موضعها، إذ الغرض التنبيه على القواعد، وإلا فالكلام في أعيان المسائل له موضع غير هذا. فمن ذلك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنى مسجده، والمسلمون بنوا المساجد على عهده وبعد موته، ولم يأمر أحدا أن يقول: وقفت هذا المسجد، ولا ما يشبه هذا اللفظ، بل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة»[57] ، فعلق الحكم بنفس بنائه.[58] وفي الصحيحين: أنه «لما اشترى الجمل من عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: " هو لك يا عبد الله بن عمر»[59] ولم يصدر من ابن عمر لفظ قبول. وكان يهدي ويهدى له، فيكون قبض الهدية قبولها، ولما نحر البدنات قال: " من شاء اقتطع "[60] مع إمكان قسمتها، فكان هذا إيجابا، وكان الاقتطاع هو القبول، وكان يسأل فيعطي، أو يعطي من غير سؤال فيقبض المعطى، ويكون الإعطاء هو الإيجاب، والأخذ هو القبول، في قضايا كثيرة جدا، ولم يكن يأمر الآخذين بلفظ، ولا يلتزم أن يتلفظ لهم بصيغة، كما في إعطائه للمؤلفة قلوبهم وللعباس وغيرهم. وجعل إظهار الصفات في المبيع بمنزلة اشتراطها باللفظ في مثل المصراة ونحوها من المدلسات.[61] وهناك قاعدة من قواعد الشرع عظيمة النفع أن كل ما يعلم أنه لا غنى بالأمة عنه ولم يزل يقع في الإسلام ولم يعلم من النبي صلى الله عليه وسلم تغييره ولا إنكاره ولا من الصحابة فهو من الدين وهذا كإجارة الاقطاع وبيع المعاطاة [62]
والمجوزون للبيع بالمعاطاة احتجوا بدليل الكتاب والسنة والإجماع: أما دليلهم من الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة:275] فالله عز وجل بين في هذه الآية صحة البيع دون أن يفرق بين بيع قائم على القول أو قائم على الفعل، فما فرق بين بيع وآخر.
ثانيا: قوله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الرضا أمر متعلق بالقلب يدل عليه الظاهر بالفعل كما يدل عليه بالقول،[63] أما دليل السنة: فحديث ابن حبان في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما البيع عن تراض)[64] قالوا: إن الرضا -كما في دليل الكتاب- يدل عليه الفعل كما يدل عليه القول، والدليل من الإجماع: هذا الإجماع نقله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [65] وله بحث نفيس حبذا لو يرجع إليه في كتابه النفيس (القواعد النورانية)[66] فقد تكلم على هذه المسألة كلاما نفيسا، وقرر أن الشرع لا يقيدنا بالألفاظ وأن العبرة بالرضا، سواء كان بالقول أو بالفعل، ونقل كلاما نفيسا عن السلف [67]، وأنهم كانوا ينزلون دلالة الأفعال منزلة دلالة الأقوال [68]
هناك بعض العلماء [69] يحتج بدليل عزيز غريب، وهو في الحقيقة أنفس ما استدل به في هذا الباب، وهو قوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} [التوبة:111] قال: {إن الله اشترى} [التوبة:111] وقال بعد ذلك: {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} [التوبة:111] فسماه بيعا، مع أنه لا يقول: بعت ولا يقول: اشتريت، ولكن نزلت الأفعال -من خوضه في سبيل الله مقبلا غير مدبر يحتسب الأجر عند الله- منزلة صريح القول، فقالوا: وهذا يدل على صحة بيع المعاطاة.[70]
العقود يرجع فيها إلى عرف الناس. فما عده الناس بيعا أو إجارة أو هبة: كان بيعا وإجارة وهبة؛ فإن هذه الأسماء ليس لها حد في اللغة والشرع. وكل اسم ليس له حد في اللغة والشرع فإنه يرجع في حده إلى العرف.[71]
انعقاد التبايع في سائر الأعصار والأمصار بمجرد المعاطاة، من غير لفظ، اكتفاء بالقرائن والأمارات الدالة على التراضي، الذي هو شرط في صحة البيع.[72]
قد خرج عليش البيع بالمعاطاة على العادة والعرف مطلقا فقال :
مذهب السادة المالكية أن الإعطاء إن جرت العادة بعقد البيع به في الجليل والحقير انعقد به البيع فيهما، وإن لم تجر العادة بذلك فيهما فلا ينعقد به، وإن جرت العادة بذلك في الحقير دون الجليل انعقد به في الأول دون الثاني قال ابن عمار المالكي في شرح جمع الجوامع ينبغي للمالكي الوقوف عند هذا فإن العادة ما جرت قط بالمعاطاة في الأملاك والجواري ونحوهما اهـ ثم إن جرت العادة بعقد البيع بالإعطاء فإن حصل من الجانبين، وهي المعاطاة انعقد البيع لازما للعاقدين بحيث لا ينحل إلا بإقالة، وإن حصل من جانب فقط، ومن الآخر الرضا بالبيع بغير الإعطاء انعقد غير لازم فلكل منهما حله ابن عرفة بياعات زماننا في الأسواق إنما هي بالمعاطاة فهي منحلة قبل قبض المبيع، ولا يعقدونها بالإيجاب والقبول اللفظيين بحال انتهى هذا ملخص ما في عبد الباقي والبناني[73]
خرج ابن شريح له قولا أنه ينعقد بالمعاطاة واختلف أصحابه من أين خرجه؟ فقال بعضهم: خرجه من قوله في الهدي: "إذا عطب قبل المحل فإن المهدي ينحره ويغمس نعله في دمه ويخلي بينه وبين المساكين ولا يحتاج إلى لفظ بل القرينة كافية". واعترض على هذا التخريج بأن ذلك من باب الإباحات وهي مبنية على المسامحات يغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها كتقديم الطعام للضيف والبيع من باب المعاوضات التي تعقد على المسامحة ويطلب الشارع قطع النزاع والخصومة بكل طريق. وقال بعضهم: هو مخرج عن مسألة الغسال والطباخ ونحوهما فإنه يستحق الأجرة مع انه لم يسم شيئا. واعترض على ذلك بأنه لا نص للشافعي فيها إلا عدم الاستحقاق وإنما قال بعض أصحابه يستحق الأجرة.
وقال بعضهم: هو مخرج من مسألة الخلع إذا قال لها أنت طالق إن أعطيتني ألفا فوضعتها بين يديه فإنها تطلق ويملك الألف مع أنه لم يصدر منها لفظ يدل على التمليك، وحكى أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام كان يرجع التخريج من ههنا واعترض عليه بأن في الخلع شائبة التعلق والمعاوضة وأما البيع فمعاوضة محضة ولهذا يصح الخلع بالمجهول دون البيع. [74]
فرع الشافعية المسألة المتقدمة معنا وهي تحريم بيع المعاطاة، والمعاطاة قائمة على النبذ بدون صيغة، فقالوا: إن تحريم بيع المنابذة سببه عدم وجود الصيغة في قوله: بعت، وقول المشتري: اشتريت، وقد قدمنا الكلام في مسألة بيع المعاطاة، وقلنا: إن الصحيح مذهب الجمهور وهو: أن المعاطاة تصح في الكثير والحقير؛ لعموم الأدلة الدالة على جواز البيع. أما حديث المنابذة فلا يشمل بيع المعاطاة؛ لأن المنابذة أن ينبذ له الثوب وينبذ الآخر الثوب دون فتش [75]
وقد أوجز بعضهم أدلة الذين قالوا بانعقاد البيع بالمعاطاة في أن الاصل في العقود الاباحة ولا تحريم إلا بدليل من كتاب أو سنة أو اجماع ثانيها أن البيع مما تعم به البلوى فلو كان يشترط لفظ الايجاب والقبول لبين ولو بين لنقل نقلا شائعا لأن عدم بيانه يفضي إلى ابطال العقود وأكل الاموال بالباطل وهذا منعدم ثالثها أن البيع أحل ولم تبين كيفيته شرعا ولا لغة فترك للعادة والعرف رابعها أن البيع كان معلوما قبل الشرع ولم تغير حقيقته وإنما غير بعض أحكامه خامسها أن البيع مناط بالرضا فكل ما يدل عليه ينعقد به سادسها أن البيع فيه معنى المبادلة وهي تدل على الاخذ والاعطاء [76]


[1] مختصر خليل (نسخة خاصة. محمد جلال) (ص: 128)

[2] الشامل في الفقه المالكي (نسخة خاصة. محمد جلال) (1/ 403) التصويب من حاشية الدسوقي

[3] سنن ابن ماجه (2/ 740)

[4] أخرجه من طريقه الامام أحمد في المسند وكذلك النسائي إلا أنه معه عيسى بن يونس

[5] منهم : يحيى بن سعيد وعبد الله بن عثمان وعبيد الله بن شميط وعيسى بن يونس كما في الكتب الستة ومسند الامام أحمد

[6] سنن الترمذي تحقيق شاكر (3/ 514)

[7] سنن أبي داود (2/ 120)

[8] مشكاة المصابيح (1/ 579) برقم 1851 -[5] قال الالباني (ضَعِيف)

[9] جامع الأصول لابن الاثير ج 10 ص 156

[10] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 1940)

[11] مسند أحمد (19/ 182) برقم 12134

[12] بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث (1/ 402) برقم307 باب ما جاء في المسالة

[13] الحث على التجارة والصناعة لابي بكر بن الخلال ج 1 ص : 163

[14] المنتقى لابن الجارود 1\147

[15] شرح معاني الآثار 3\ 6

[16] حلية الاولياء وطبقات الاصفياء 3\132

[17] شعب الايمان ج 2\420

[18] السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص : 39 باب لا وقت لما يعطى للفقراء والمساكين

[19] معرفة السنن والاثار ج 9 ص 327

[20] عون المعبود وحاشية ابن القيم (5/ 37)

[21] تحقيق المشكاة (1851)

[22] حاشية سنن أبي داود تحقيق الأرنؤوط (3/ 82)

[23] أخرجه البخاري برقم 958 باب موعظة الامام النساء يوم العيد (2\21)

[24] أخرجه مسلم في كتاب صلاة العيدين برقم 3- 885 (2\603)

[25] أخرجه مسلم في كتاب صلاة العيدين برقم 4 -885 (2\603)

[26] أخرجه أبو داود باب الخطبة يوم العيد برقم 1141 (1\297)

[27] أخرجه النسائي باب قيام الامام في الخطبة متوكئا على انسان برقم 1575 (3\86)

[28] جامع الأصول (6/ 131)

[29] إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/ 293)

[30] شرح النووي على مسلم (6/ 173)

[31] أخرجه البخاري برقم 373 (1\84)

[32] أخرجها مسلم برقم 63- 556 (1\392) باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام

[33] جعله بعد حديث الزهري الذي مضى برقم 373

[34] الموطا باب النظر في الصلاة الى ما يشغلك عنها برقم 67

[35] أخرجه أبو داود برقم 914 باب النظر في الصلاة

[36] أخرجه في المجتبى باب الرخصة في الصلاة في خميصة لها أعلام ، برقم 771

[37] الموطا باب النظر في الصلاة الى ما يشغلك عنها برقم 68

[38] أخرجه أبو داود برقم 915 باب النظر في الصلاة

[39] جامع الأصول (5/ 462)

[40] لم أجده في المنتقى شرح الموطأ المطبوع

[41] شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 362)

[42] تبعا للمقولة المنسوبة للامام مالك التي نسبها له النووي- وقد سبقت- ونسبها له ابن الشاط أيضا في حاشية الفروق حيث قال : وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ نُظِرَ إلَى أَنَّ الْمُدْرَكَ هُوَ تَجَدُّدُ الْعَادَةِ [أنوار البروق في أنواء الفروق (1/ 51) ] ويمكن أنه أخذها مما ذكره النووي

[43] أسنى المطالب في شرح روض الطالب (2/ 3)

[44] التوضيح لخليل (776 هـ) مصر (5/ 191)

[45] متن الهداية مع شرحها فتح القدير للكمال ابن الهمام (6/ 252)

[46] فتح القدير للكمال ابن الهمام (6/ 252)

[47] هو أحد أئمة الشيعة المتأخرين باليمن

[48] البدر التمام شرح بلوغ المرام (6/ 9)

[49] المغني لابن قدامة (7/ 80)

[50] الشرح الكبير على متن المقنع (4/ 5)

[51] المبدع في شرح المقنع (4/ 5 - 6)

[52] كأنه يعني أن الاجماع قد انعقد قبل الشافعي والكرخي من الحنفية أو من قال بذلك من أصحاب الشافعي

[53] تبديع القائل بعدم جواز البيع بالمعاطاة فيه نظر

[54] القواعد النورانية (ص: 163)

[55] الشرح الكبير على متن المقنع (4/ 5)

[56] شرح منتهى الإرادات = دقائق أولي النهى لشرح المنتهى (2/ 6)

[57] أخرجه البخاري باب من بنى مسجدا برقم 450 (1\97) ومسلم باب فضل بناء المساجد والحث عليها برقم 25- 533 (1\378) وبرقم 43 و44 – 533) (4\2287 )

[58] القواعد النورانية (ص: 165)

[59] أخرجه البخاري باب من أهدى هدية وعنده جلساؤه فهو أحق برقم 2610 (3\162)

[60] أخرجه أبو داود برقم 1765 باب في الهدي اذا عطب قبل أن يذبح وأخرجه ابن خزيمة باب الرخصة في اقتطاع لحوم الهدي باذن برقم 2917 (4\294 )

[61] القواعد النورانية (ص: 166)

[62] بدائع الفوائد (4/ 74) ، بدائع الفوائد (4/ 19)

[63] شرح زاد المستقنع للشنقيطي (142/ 9)

[64] أخرجه ابن حبان وقد سبق تخريجه في مسألة ينعقد البيع بما يدل على التراضي

[65] ليس هو أول من قال به بل هو في الشرح الكبير على متن المبدع

[66] سبقت الاشارة له

[67] لم أجد فيما نقله ابن تيمية كلاما عن السلف بشكل صريح

[68] شرح زاد المستقنع للشنقيطي (142/ 9)

[69] من يعني ؟

[70] شرح زاد المستقنع للشنقيطي (142/ 9)

[71] مجموع الفتاوى (29/ 227)

[72] الطرق الحكمية (ص: 21)

[73] فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك لعليش المتوفى 1299هـــ (2/ 129)

[74] بدائع الفوائد (4/ 18)

[75] شرح زاد المستقنع للشنقيطي (147/ 2)

[76] المعاملات المالية اصالة ومعاصرة ج 1 ص 343 ) باختصار شديد
 
أعلى