العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

موافقات الشاطبي والتأليف الأصولي

إنضم
25 يونيو 2008
المشاركات
1,762
الإقامة
ألمانيا
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
ألمانيا
المدينة
مونستر
المذهب الفقهي
لا مذهب بعينه
موافقات الشاطبي والتأليف الأصولي

محمد المنتار
باحث مغربي


تعتبر نشأة علم أصول الفقه من المواضيع التي انتشر الكلام فيها في مراجع هذا العلم، وكذا في المصادر ذات الطابع البحثي التقويمي التي تعالج قضايا المنهج الفكري بصفة عامة1.

ولا ريب أن الاجترار والتكرار لما قيل في موضوع ما سبيل إلى التحجر الفكري، ودليل على عدم البحث عن الجديد المفيد، إلا أن ما قصدته استدعى مني أن أمر على بعض جوانب هذا الموضوع وذلك لإظهار ما أرى أنه زيادة مفيدة، وإن كان الموضوع قد قيل فيه الكثير، فإنما أنا كناقل التمر إلى هجر.

لا شك أن علم أصول الفقه يمثل أصالة الفكر الإسلامي أصدق تمثيل، فهو عماد الاجتهاد وبه قوام منهج الاستنباط، مما جعله موضوعا مشتركا بكل جوانبه بين كل الباحثين عن الفكر السامي الراغبين في الاستقصاء لمعالم الإنتاج الفكري العالي. وقد نما هذا التراث المنهجي الفريد وتكامل على مدى ثلاثة عشر قرنا، وتأثر قوة وضعفا بما تأثرت به الحضارة الإسلامية عبر التاريخ.

ولذلك كان في العصور الأولى قويا يتناول الموضوعات في دقة وتمحيص، ثم غلب عليه في العهود المتأخرة الجدل اللفظي وتشقيق القول في مسائل فرعية، فضلا عن الإيجاز الذي يشبه الألغاز على حد تعبير بعض الكتاب المحدثين2.

والخوض في قضايا لا صلة لها بعلم الأصول مما نأى بهذا العلم عن المقصد الأساسي لدراسته3 .

وقد عرفه العلماء، قديما وحديثا، تعريفات تدور على ما بينها من تفاوت في فلك أن هذا العلم هو: "قواعد يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية".

وإذا تأملت هذه القواعد تجدها تشمل الأدلة الشرعية، والأحكام الشرعية أو لنقل: إنها مجموعة طرق الفقه على سبيل الإجمال، وكيفية الاستدلال بها، وكيفية حال المستدل بها4 .

وقد كانت هذه القواعد موجودة مند عصر الصحابة -رضوان الله عليهم- الذين كانوا على دراية وافية ببعض الضوابط، والقواعد التي أخذوا أنفسهم بها في استنباط الأحكام انطلاقا من القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، لكنهم ما كانوا يطلقون عليها أسماء اصطلاحية أو عناوين فنية مصنوعة يسيرون عليها، وإنما كانت تجري منهم مجرة السجية والطبيعة والملكة الفطرية، تساعدهم في ذلك سليقتهم وصحبتهم لرسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقد أثر عنهم روايات ونصوص تبين بجلاء أنهم قاسوا واستحسنوا وتوخوا المصالح وراعوا الأعراف، وأخذوا بسد الذرائع، وآمنوا بأن الأحكام قد فرضت لعلل تقتضيها ومقاصد تؤدي إليها5، وكل ذلك معروف ومتداول في كثير من المصادر القديمة والحديثة6 .

وبعد الصحابة جاء التابعون، فكان منهجهم على منوال منهج الصحابة، إلا أن المناهج الفقهية ظهرت بينها فروق في طرق الاستدلال في هذا العصر، وبدأت المفاهيم تتحدد وتتبلور، وتأخذ طابع الاصطلاح العلمي في الفكر الأصولي، فوجد بذلك أهل حديث وأهل رأي. أما أهل الحديث، فإنهم يقفون مع الآثار وقلما يفتون برأي، في حين، نجد أهل الرأي يبحثون عن علل الأحكام، وربط المسائل بعضها ببعض.

وقد أسهم النزاع والتنابز بين الفريقين حول بعض القضايا الأصولية: مثل الإجماع والقياس والعرف ومذهب الصحابي، في بلورة هذه القضايا على أسس علمية وإن ظلت غير مدونة7.

وبعد عصر التابعين جاء ما يصطلح عليه بعصر الاجتهاد، فظهر الأئمة أصحاب المذاهب وغيرهم من الأئمة الكبار-الذين لم تبق مذاهبهم عمليا اليوم، لأسباب لا يتسع المقام لذكرها- الذين خلفوا الصحابة والتابعين في تمهيد القواعد واستخراج الفوائد، وضبط الأصول.

وتذكر المصادر التاريخية لنشأة المذاهب الفقهية أن هذه الفترة ظهرت فيها تغيرات ذات أشكال تباينت ميادينها، فسجلت محاورات ومناظرات ومراسلات تدل على أنهم كانوا يسيرون وفق مناهج واضحة في الاستنباط والاستدلال، تبلورت معها مفاهيم جديدة ومصطلحات مفيدة.

كما أن الحالة الاجتماعية في حقل التشريع أضحت في حالة من الفوضى8، فغلب الهوى والتعصب للرأي والمذهب، وغدت القلوب عطشى إلى من يرد المسلمين إلى وسطية الإسلام، وينحي الغلو والتشدد اللذين يعتبران عنصرين لا محل لهما في الشريعة الإسلامية9.

في هذه الأجواء المشحونة كتب عبد الرحمان بن مهدي، كتابا إلى الشافعي يلتمس فيه منه أن يضع كتابا يذكر فيه معاني القرآن ويجمع شروط قبول الأخبار، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة10.

استجاب الشافعي، لدعوة ابن مهدي، فأرسل إليه كتابه فسمي لذلك بـ"الرسالة"11.

وقد اتفق أهل العلم من الكاتبين في تاريخ علم أصول الفقه على أن "رسالة الشافعي" أول مصنف في الأصول، ومن ثم عدوه واضع علم الأصول12، وفي ذلك يقول الإمام تقي الدين السبكي: "وكان من أعظمهم -أي الأئمة المجتهدين- على من بعده من طلاب الفوائد الإمام الشافعي، رضي الله عنه، فإنه له أجمل العوائد، لجمعه بين الحديث والفقه13 ، وكان غيره يقتصر منهما على واحد، ولبناية كلامه في الفقه على أصول.." 14.

وأضحت الرسالة المحور المركزي الذي تمحور حوله علم أصول الفقه في القرن الثالث على الخصوص، وانقسم العلماء حولها بين مؤيد ومعارض، فاتخذها البعض قاعدة حجاج عن مذهبه، وفريق رفض معظم ما جاء فيها وانبرى لنقضه.

وبوجه عام فما كتب بعد الرسالة كان إما نقضا أو تأييدا أو شرحا15، يكاد لا يخرج عن ذلك، وبقي الأمر كذلك حتى دخول القرن الرابع الهجري حيث بدأ ما يمكن اعتباره تطورا لهذا العلم بعد وضعه وجمعه16.

ففي هذا القرن نما أصول الفقه نموا نوعيا، واتضحت مباحثه، وتبلورت مسائله، ودخل في مرحلة جديدة مع أعلام أمثال القاضيين محمد الطيب بن جعفر الباقلاني17، وعبد الجبار الهمداني، وأبي حامد الإسفراييني، وابن فورك الأصبهاني، وغيرهم كثير18. وفي هذا يقول الإمام الزركشي (94هـ): "..حتى جاء الإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، فاهتدى بمناره، ومشى إلى ضوء ناره، فشمر عن ساعد الاجتهاد وجاهد في تحصيل هذا الغرض السني حق الجهاد، وأظهر دفائنه وكنوزه، وأوضح إشارته ورموزه، وأبرز مخبآته وكانت مستورة، وأبرزها في أكمل معنى وأجمل صورة، حتى نور بعلم الأصول دجى الآفاق، وأعاد سوقه بعد الكساد إلى نفاق، وجاء من بعده، فبينوا وأوضحوا وبسطوا وشرحوا حتى جاء القاضيان، قاضي السنة أبو بكر بن الطيب، وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوسّعا العبارات، وفكّا الإشارات، وبّينا الإجمال، ورفعا الإشكال، واقتفى الناس بآثارهم، وساروا على لاحِب نارهم، فحرروا وقرروا، وصوروا، فجزاهم الله خير الجزاء ومنحهم بكل مسرة وهناء..."19.

ولئن عني القاضيان الباقلاني (ت 403هـ) وأبو الحسين البصري (ت436هـ) في القرن الرابع الهجري بإحداث تغييرات جذرية في هذا الفكر، فإن علماء القرن الخامس لم يألوا جهدا في توسيع المباحث الأصولية وإعطاء جانب المراجعة، وتنقية المباحث الدخيلة اهتماما أكبر، إضافة إلى الاهتمام بالضبط المنهجي المحكم والتجديد في المحتوى.

وعلى العموم ففي هذا القرن تم تدوين المصادر الأساسية للفكر الأصولي، يقول العلامة ابن خلدون: "..وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون، علماء الخامس الهجري كتاب "البرهان" لإمام الحرمين، و"المستصفى" للغزالي، وكتاب "العمد" لعبد الجبار، وشرحه "المعتمد" لأبي الحسين البصري، وهما من المعتزلة، وكانت الأربعة قواعد الفن وأركانه.." 20.

ويؤكد هذا الأمر الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان في بحثه الإحصائي قائلا: "...حظيت هذه الفترة بعدد كبير من أعلام الأصوليين ومجتهديهم من الذين توافرت جهودهم على التأليف في علم الأصول وإثرائه، فورثوا الأجيال اللاحقة فكرا أصيلا متميزا بالاستقلال والانطلاق، وكان الاختلاف على بعض الموضوعات كحجية الاستحسان... سببا في احتكاك الأفكار، وعاملا فعالا في تنشيط حركة النقد الذي كان عصب هذه الانطلاقة الفكرية في علم الأصول، تركز النقد الأصولي على الألفاظ والمعاني على السواء، خصوصا، بعد أن أصبحت المقاييس المنطقية الوسيلة التي يحتكم إليها في ضبط حقائق هذا العلم، وشرح قضاياه ومصطلحاته، وتنوع التأليف الأصولي في هذا العصر تنوعا لم يكن به سابق عهد، ظهرت فيه نواة التأليف في أصول الفقه المقارن. واتسع التأليف الأصولي لتجريد القضايا الأصولية الخلافية، وقد تضمن علم الأصول، إلى جانب موضوعاته الأساسية كثيرا من الموضوعات اللغوية والجدلية والكلامية، وتأثر تأثرا كبيرا بالمنطق والفلسفة. وتعد هذه هي الفترة الذهبية في تاريخ علم الأصول، فيها أنتجت الموسوعات العلمية الأصولية التي لا تزال المورد والمصدر في هذا العلم"21.

حتى إذا أقبل القرن السادس الهجري، وجد الساحة الفكرية الأصولية تزخر بتراث أصولي ثري وضخم، الأمر الذي كان له الأثر الكبير في انتهاج علماء هذا القرن منهجا مغايرا في التعامل مع تلك المدونات الأصولية الموروثة، مخالف لمنهج علماء القرنين الرابع والخامس الذي تميز بالابتكار والإبداع.

فقد غدوا مستهلكين، في أغلبهم، للفكر الأصولي بدلا من إنتاجه، وتوزعت جهود أكثرهم بين شرح المدونات الأصولية الموروثة حينا، والتعليق على تلك المدونات حينا آخر "فظهرت بذلك أنواع عديدة من المؤلفات، منها ما يتعلق بالمؤلفات المختصرة، وتسمى المتون، ومنها ما يتعلق بالمؤلفات الشارحة وتسمى بالشرح، ومنها ما يتعلق بشروح الشرح، وتسمى الحواشي. ووصل الأمر في هذه الفترة إلى التعليقات على الحواشي، وسميت بالتقريرات. وتركز الاهتمام على العناية بالمناقشات اللفظية دون الاهتمام بالجوهر والمعنى..."22.

وكان قدوم القرنين السابع والثامن الهجريين -بعد رحيل القرن السادس- إيذانا ببروز محاولات جريئة من علماء تسلحوا بمعرفة منهجية قوية، قوامها التفكير في الكليات بدل الانشغال بالجزئيات23، والنظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات، سواء على مستوى فتاواهم أو آراءهم الاجتهادية، فبرر اهتمام منقطع النظير بالقواعد الفقهية والمقاصد الشرعية: "سعيا إلى مواجهة الواقع الفكري الذي غدا مائلا عن الكليات والمبادئ العامة"24.

ولعل اجتهادات ابن تيمية (728هـ)، وتلميذه ابن قيم الجوزية (751هـ)، واختياراتهما الفقهية خير شاهد على هذا الاتجاه، كما أن جملة من الأفكار الإصلاحية التي تبناها سلطان العلماء، الإمام العز بن عبد السلام تنص هي الأخرى، في هذا الاتجاه، ونفس الأمر بالنسبة لتقي الدين السبكي، في طروحاته النيرة والجريئة في هذا المجال.

أما الإمام أبو إسحاق الشاطبي، فقد كان النقطة التي أفاضت الكأس، فقد قدم، رحمه الله، في "نتيجة عمره ويتيمة دهره"25؛ أعني كتاب الموافقات مشروعا علميا، أضحت معه نظرية المقاصد روحا ساريا في كل المصطلحات الأصولية على اختلاف مجالاتها من أحكام وأدلة واجتهاد وما يتفرع عن كل منها26.

وللأسف كان أفول شمس القرن الثامن الهجري إيذانا بانتهاء عهد الابتكار والإبداع، وشروق فجر جديد لقرون استثنائية في تاريخ خير أمة أخرجت للناس، قرون الانتكاس والارتكاس والبكاء الدائم والمرير على الماضي الذي لم يبنوه ولم يحافظوا عليه.

وقد كان حظ علم أصول الفقه في هذا الواقع المرير كبيرا، فلم يشهد هذا العلم أي تجدد ولا مراجعة جذرية لمباحثه وقضاياه الأساسية27.

وإن يكن من تغيير أو تطور يمكن للمرء أن يلحظه في هذا الفكر بعد القرن الثامن فلا يعدو أن يكون على مستوى الشرح، والتلخيص، والتعليق، والتغليق، ولم تتجاوز جهود أعلامه دائرة حسن الصياغة والترجيح بين الآراء وتحقيق القول فيما اختلف فيه الأولون، دونما محاولة ربط ذلك بالواقع المعيش، ولعل مؤلفات الإمام السيوطي(911هـ) في (الأصول) والشوكاني(1250هـ) في (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول) تمثل هذا الاتجاه في تناول موضوعات ومباحث الفكر الأصولي بوجه عام، ومسائل النظر الاجتهادي بوجه خاص28.

الهوامش:

----------

1. للاطلاع أكثر على ظروف نشأة على أصول الفقه انظر:
دراسات تاريخية للفقه وأصوله، لمصطفى سعيد الخن، والفكر السامي في تاريخ الفكر الإسلامي، للحجوي، وأصول الفقه الإسلامي لمصطفى شلبي، وأصول الفقه لوهبة الزحيلي، وأصول الفقه لأبي زهرة، وأصول الفقه للشيخ محمد الخضري، وأصول الفقه الإسلامي منهج بحث ومعرفة لطه جابر العلواني.
2. زكي الدين شعبان، أصول الفقه الإسلامي ص6.
3. نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه، مقال لمحمد الدسوقي بمجلة إسلامية المعرفة، العدد4 /1996. ص،:113.
4. انظر المحصول في علم أصول الفقه، لفخر الدين الرازي، تحقيق: الدكتور طه جابر العلواني 1/94.
5. نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه، محمد الدسوقي ص:115.
6. في مقدمتها إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية وتعليل الأحكام لمصطفى شلبي.
7. نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه الإسلامي، ص:115.
8. ففي الحجاز مدرسة الحديث، وفي العراق مدرسة الرأي، وتوجد أيضا مدرسة الاعتزال بألوانها المختلفة، والكل يدافع عن رأيه ويجادل عن مذهبه، فكثرت المحن واشتد العداء بين المسلمين حتى وقع الاختلاف، وكثرت النحل، فوقع الناس في حيرة من أمرهم.
9. وفي ذلك يقول الشاطبي رحمه الله: "إذا نظرت في كلية الشريعة فتأملها تجدها حاملة على التوسط" 2/128.
10. انظر الرسالة للشافعي، مقدمة المحقق ص11، بتصرف.
11. هناك بعض النصوص للإمام الشافعي ينعت مؤلفه هذا باسم الكتاب، هذا الأمر دفع الأستاذ الجابري إلى القول: إن تأثير منهج اللغويين والنحاة في الرسالة شكلا ومضمونا لا يمكن إغفاله، بدعوى أن الشافعي يسمي رسالته بالكتاب، وأن هناك ترابطا بين ما ألفه "سيبويه" والخليل والشافعي بالتكامل، قلت هذا غير بعيد، إلا أن إطلاق الشافعي كلمة كتاب على رسالته ليس فيه ما يدل على تقليده لسيبويه في تسمية مؤلفه في النحو بالكتاب. وقد عقد الإمام عبد القاهر الجرجاني(ت471هـ) فصلا لتوضيح هذا الموضوع، وقال: "فصل في الاتفاق والأخذ والسرقة، والاستمداد والاستعانة" في أسرار البلاغة ص:293. انظر تكوين العقل العربي للجابري ص:103، ومنهج الأصوليين في بحث الدلالة اللفظية الوضعية لمولود السريري ص:32.
12. ذهب بعض الحنفية إلى أن أئمتهم هم أول من وضع علم أصول الفقه فجعلوا أبا حنيفة أول من ألف هذا العلم إلا أن ما ألفه قد ضاع، وادعى الشيعة الإمامية أن أول من ألف في علم أصول الفقه هو الإمام الباقر بن علي زين العابدين (ت114هـ) وتابعه ابنه الإمام أبو عبد الله جعفر الصادق (ت148هـ)، لكن الذي عليه الكثيرون من العلماء أن الشافعي هو أول من جعل علم أصول الفقه قانونا كليا، وأول من ألف فيه على التحقيق. بل إن أساطين الفكر الاعتزالي والفكر الأشعري وسعوا كثيرا من المباحث الأصولية جانب التأصيل والتحديث ومزجوها بمباحث الكلام والمنطق، وغدا الفكر الأصولي منذئذ فكرين متداخلين ومترابطين. راجع أدوات النظر الاجتهادي المنشود في ضوء الواقع المعاصر، قطب سانو، ص:40.
13. قلت: هذا الكلام غير مسلم، لأن الإمام مالك قد ألف كتابه "الموطأ" قبل ذلك الوقت وهم جامع للفقه والحديث.
14. انظر الإبهاج في شرح المنهاج، للإمام تقي الدين السبكي 1/4.
15. انظر أصول الفقه الإسلامي، د. طه جابر العلواني ص:23.
والشروح المعروفة لرسالة الشافعي رحمه الله خمسة:
الأول: شرح أبي بكر الصيرفي، محمد بن عبد الله المتوفي سنة 330هـ، والثاني: شرح أبي الوليد النيسابوري، حسان بن محمد المتوفى سنة 349هـ، والثالث: شرح القفال الكبير الشاشي، محمد بن علي بن إسماعيل المتوفي سنة 365هـ، والرابع: شرح أبي بكر الجوزقي، محمد بن عبد الله الشيباني المتوفى سنة 388هـ، والخامس شرح أبي محمد الجويني، عبد الله بن يوسف والد إمام الحرمين المتوفي سنة 438هـ.
فهؤلاء الأئمة الخمسة هم الذين شرحوا هذا المرجع الأصولي الهام المعروف، وقد أورد السيد مصطفى بن عبد الله المعروف بحاجي خليفة أسماء لأعلام آخرين ذكر أنهم شرحوا رسالة الشافعي هذه، وهم:
أبو زيد عبد الرحمان الجزولي، المتوفي (سنة741هـ) وجمال الدين الأقفهسي عبد الله بن مقداد المتوفي (سنة823هـ) ويوسف بن عمر الأنفاسي المتوفي (سنة761)، والفاكهاني عمر بن علي بن سالم المتوفي (سنة 734هـ).
قلت: وهذا سهو وغلط، فهؤلاء جميعا إنما شرحوا رسالة ابن أبي زيد القيرواني، عبد الله بن عبد الرحمان المتوفي (سنة386هـ)، وهو كتاب في فقه المالكية، لا رسالة الشافعي رحمه الله ولعل سبب هذا الوهم هو أن كلا الكتابين يسمى الرسالة وجل من لا يسهو. انظر: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة 1/873، وحاشية على العدوى على شرح أبي الحسن على رسالة القيرواني 1/5، ومنهج الأصوليين، في بحث الدلالة اللفظية الوضعة، مولود السريري ص:32-33.
16. أقبل القرن الرابع الهجري والصراع الفكري على أشده بين المعتزلة والأشاعرة، وكان كل من الفريقين يلوذ بالفكر الأصولي آنذاك للمساندة والتأييد، مما نتج عنه معايشة الفكر الأصولي للتطور النوعي والتجديد الجذري، وامتدت يد في التغيير والتطور إلى جميع مباحثه في هذا القرن.
17. يعتبر الإمام الباقلاني شيخ الأصوليين، بعد الشافعي، أحد علماء القرن 4هـ الذي خلف لنا أثرا مهما في هذا المجال وهو كتابه: "التقريب والإرشاد إلى ترتيب طرق الاجتهاد" وقد تم تحقيق هذا الكتاب مؤخرا بعد فقدانه برهة من الزمن، وقد قام بتحقيقه الدكتور عبد الحميد أبو زيد الأستاذ المشارك بكلية الشريعة بالقصيم، وصدر الكتاب عن مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1993م.
18. اعتمدت في هذه الرسالة النظر في القرن الذي عاش فيه العالم معظم حياته، واعتباره بناء على ذلك من علماء ذلك القرن.
19. انظر البحر المحيط في أصول الفقه، الزركشي 1/6.
20. انظر المقدمة لابن خلدون3/1065، انظر: أليس الصبح بقريب، الطاهر بن عاشور ص:204.
21. انظر الفكر الأصولي دراسة تحليلية نقدية، عبد الوهاب أبو سليمان ص:443-444 بتصرف.
22. انظر تاريخ القوانين ومراحل التشريع الإسلامي، علي محمد جعفر، ص:180-181، نقلا عن أدوات النظر الاجتهادي المنشود، قطب سانو ص:71.
23. دافعها الأساسي العمل على اجتثاث الأزمات والنوازل الفكرية والسياسية والاجتماعية التي أصابت المجتمع الإسلامي سواء في الشرق أو في الغرب، نتيجة الغزوات والتحديات الكبرى التي كانت تهدد وجوده وتهدف إلى القضاء عليه جملة وتفصيلا.
24. أدوات النظر الاجتهاد المنشود ، قطب سانو ص:82.
25. انظر الموافقات، الشاطبي 1/18.
26. انظر المصطلح الأصولي عند الشاطبي، الدكتور فريد الأنصاري ص148. بفضل ذلك المشروع نقى الشاطبي أهم علوم الشريعة فميز بين الأصيل والدخيل فيها، فأوجد البديل الشرعي بنظرة تجديدية، ولم يكن أمر التجديد بالأمر السهل إذ يتطلب إتمام ذلك صبرا وجلدا وفكرا ثاقبا، وفوق ذلك جرأة في الحق، لأن الفطام عن المألوف شديد، فجاءت يتيمة دهره بعد سهر طول الليالي والأيام أنموذجا يحتدى به في تجديد علم أصول تافقه في جميع مباحثه بدءا بالمقدمات التمهيدية وانتهاء بكتاب الاجتهاد. انظر الاجتهاد عند الإمام الشاطبي، دراسة مقارنة لآراء الأصوليين ناصح علوان، بحث مرفوق نال به صاحبه رسالة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية كلية الآداب الرباط، 2003. ص:5.
27. تجدر الإشارة إلى المحاولة اليتيمة التي قام بها الشوكاني، رحمة الله عليه في القرن الثاني عشر الهجري في كتابه إرشادات الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، انحصرت فيما أورده من ملاحظات قيمة حول أحاديث سابقيه عن آيات وأحاديث الأحكام الواجب معرفتها قبل التصدي للاجتهاد، والحال أن تلك الآيات والأحكام غير خاضعة للحصر، ينظر في هذا الصدد إرشاد الفحول للشوكاني تحقيق، د: شعبان محمد إسماعيل 2/297-302 وأدوات النظر الاجتهاد، د.قطب سانو ص:91.
28. أدوات النظر الاجتهادي قطب سانو ص:90-91 بتصرف.
 
أعلى