العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

التطبيق المقاصدي في المنهج الخلدوني

إنضم
25 يونيو 2008
المشاركات
1,762
الإقامة
ألمانيا
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
ألمانيا
المدينة
مونستر
المذهب الفقهي
لا مذهب بعينه
السلام عليكم...
فهذه مجموعة مقالات اصولية نقلتها من موقع رابطة العلماء المغاربة .


***

التطبيق المقاصدي في المنهج الخلدوني
د. عبد الرحمن العضراوي
أستاذ مقاصد الشريعة والفكر الإسلامي في كلية الآداب ببني ملال


يعتقد الباحث أن ابن خلدون أحدث نقلة منهجية مقاصدية تأسيسية للمعرفة الإسلامية. وقد قارب سؤال التطبيق المقاصدي في المنهج الخلدوني انطلاقا من العناصر التالية: مفهوم التطبيق المقاصدي عند ابن خلدون. منهج نظرية ابن خلدون حول العمران البشري. تجليات التطبيق المقاصدي في المنهج الخلدوني.

المقدمة
حقق الاجتهاد التجديدي الإبداعي في الغرب الإسلامي نقلة معرفية ومنهجية عقلانية ذات صبغة علمية فائقة الجدية والاستكشافية تمثلت في مجهودي أبي إسحاق الشاطبي وعبد الرحمان بن خلدون إبان القرن الثامن الهجري اللذين أبرزا محورية النظر المقاصدي في المعرفة الإسلامية وبالأخص في مجالي الفقه والتاريخ من خلال مقصدين:

الأول: تنقية فقه التدين من البدع التي استشرت في نسيج الأمة فأرخت ظلالا قاتمة على الفعل التكليفي وأركسته في مهاوي التقليد والتعصب والجمود.

الثاني: تطهير العقل المسلم من المعلومات الزائفة التي كبلته عن فقه سنن الله تعالى في الأنفس والآفاق، فكانت النتيجة الوقوع في علل كثيرة أنهكته وأتعبته في متابعة عطائه الحضاري المتألق.

ويدل مفهوم التنقية والتطهير على المسعى البنائي للإصلاح، الذي يقصد تعزيز وحدة الأمة التي لن تتحقق إلا بقيام دولة مركزية منطلقها الشرع وأداتها فقه المصالح وفقه سنن العمران.

وقد تساوى مشروع الشاطبي ومشروع ابن خلدون في افتقاد الآلة المفعلة لهما، الموصلة لتحقيق مقاصدهما، المحركة لسكونية العقل المسلم ودفعه للمسائلة عن موقعه الديني والحضاري، وذلك بسبب الواقع السياسي المريض الذي عاشا فيه وامتدت آثاره في إنضاج عوامل سقوط الأندلس بيد النصارى، واستمرار التآكل الداخلي في غرب المسلمين وشرقهم، الذي هيأ نجاح الهيمنة التوسعية للغرب المسيحي في المغرب الإسلامي ومشرقه طيلة القرنين الميلاديين التاسع عشر والعشرين.

ولم يفكر في دراسة التطبيق المقاصدي عند ابن خلدون من خلال منهجه في تأسيس نظريته حول العمران البشري، لأن مشروعه الفكري لم يكتب له عقب، أو لأنه يمثل المعاصرة في التراث، أو لأنه ابتكر فكرا أصيلا في زمن بداية أفول شمس العلم التي سطعت على فكر المسلمين. وإنما فكر فيها بغية النظر في تجربة تأويلية تنحصر زمانا في القرن الثامن الهجري وتنحو موضوعا نحو البرهنة القطعية بتحكيم البصيرة والسبر بمعيار الحكمة لطبائع العمران البشري أي معرفة قوانين التاريخ والاجتماع البشريين وكيفيات تنزيلها في تاريخ الإنسان عامة وتاريخ المسلمين خاصة، وذلك بقصد استكشاف أهمية الآلية المقاصدية في تنوير العقل المسلم وجعله يستهدف البحث عن سنن الله تعالى، الاجتماعية والكونية، التي تتحرك بها النوازل الإنسانية في ترابطها المعرفي بين الكلي والجزئي، وفي سياقها الحضاري الشامل، وصولا إلى التفاعل الشرعي الحي والعملي مع تلك السنن.

لقد اجتهد ابن خلدون في بناء وعي تاريخي جديد يستمد أصوله المعرفية والمنهجية من الاستنطاق العميق للقرآن الكريم ومن القراءة العلمية للماضي التي تنتقد المنهج الإخباري بناء على التعليل المنطقي ثم التفسير الفلسفي لأحداث التاريخ ليس لاستخلاص العبر فقط، وإنما لصياغة نموذج تحليلي يجمع بين قراءة الواقع البشري والتطورات الفكرية للإنسان. وفي سياق جمعه بين القراءتين عمل على تطبيق الآلية المقاصدية في منهجه التحليلي وإن لم يشر في مقدمته لتعريف المقاصد الشرعية واتصالها أو انفصالها عن أصول الفقه.

وتتم مقاربة هذه الدراسة من خلال ثلاثة محاور:

الأول: مفهوم التطبيق المقاصدي عند ابن خلدون.

الثاني: منهج نظرية ابن خلدون حول العمران البشري.

الثالث: تجليات التطبيق المقاصدي في المنهج الخلدوني.

ومن النتائج المنتظرة لهذه الدراسة تحديد بعض معالم نظرية المقاصد عند ابن خلدون من جهتين:

جهة معرفية: ببيان مرجعية ابن خلدون المقاصدية وعلاقة المقاصد بالتاريخ وإعماله لمفاهيم النظر المصلحي، وتطبيقه لمنظور الرؤية المقاصدية والعقل المصلحي والاستقراء والتعليل وملاحظة علاقة الأسباب بمسبباتها..

جهة منهجية: ببيان التفعيل المنهجي للمقاصد الشرعية في تفسير التاريخ وقوانين الاجتماع البشري وعلاقة المجتمع بالدولة ومفاعيل السياسة، والقدرة التحليلية الاستنباطية التي يمكن للمنهج المقاصدي أن يسهم بها في الدراسات التاريخية وتعلقاتها الاجتماعية والسياسية.

أولاً: مفهوم التطبيق المقاصدي عند ابن خلدون
المراد بالتطبيق المقاصدي عند ابن خلدون الإعمال الجيد للمنهج المقاصدي في تفسير نظريته حول العمران البشري، باعتبار أن المنهج المقاصدي قاعدة علمية تستوعب نظرية الغايات المصلحية التي جاءت الشريعة لتحقيقها في أفعال العباد بالجلب أو الدفع. فالمقاصد الشرعية في هذه النظرية لا يمكن حصرها في كونها مجرد تعليل للأحكام الشرعية فحسب بل مفتاحا للتحكم في عالم الشهادة بما تشكله من مرجعية للاختيارات الحضارية والمجتمعية التي من شأنها تحريك الأمة نحو العلو والتغيير المرشدان بالبلاغ الرباني، فالمنهج المقاصدي "لا يلتمس تكييف الواقعات الجزئية تفصيلا فيحكم على الواقعة قياسا على ما يشابهها من واقعة سالفة، بل يركب مغزى اتجاهات سيرة الشريعة الأولى ويحاول في ضوء ذلك توجيه الحياة الحاضرة" ، وهذا التركيب قياس شمولي مصلحي، "فهو درجة أرقى في البحث عن جوهر مناطات الأحكام، إذ نأخذ جملة من أحكام الدين منسوبة إلى جملة الواقع التي تنزل فيه ونستنبط من ذلك مصالح عامة ونرتب علاقاتها من حيث الأولوية والترتيب، وبذلك التصور لمصالح الدين نهتدي إلى تنظيم حياتنا بما يوافق الدين، بل يتاح لنا -ملتزمين بتلك المقاصد- أن نوسع صور التدين أضعافا مضاعفة" . وبهذا يتبين مفهوم التطبيق المقاصدي عند ابن خلدون بأنه مفهوم عملي يتحدد في التوظيف العلمي والتنزيل السليم للمصالح الشرعية العامة والخاصة، الأصلية والتبعية القطعية والظنية في نظريته حول العمران البشري، وذلك أنه حمل للمجتمع على مقتضى النظرين الشرعي والعقلي في جلبهما للمصالح ودفعهما للمضار.

ويستدعي الحديث عن التطبيق المقاصدي عند ابن خلدون النظر في قضيتين معرفيتين تتحدد الأولى في مرجعية ابن خلدون المقاصدية أما الثانية فتتعلق بعلاقة المقاصد بالتاريخ.

القضية الأولى: مرجعية ابن خلدون المقاصدية
والمراد بالمرجعية المقاصدية المصادر المعرفية التي استمد منها ابن خلدون فكرة المقاصد، فشكلت لديه نسقا مقاصديا ذي ترابط منطقي متكامل يعتمده في كتابته التاريخية، فصار لحمة الكتاب الروحية التي تربط بين أقسامه وتطبعه بسمة مقصدية في ميدان الأخبار غير الشرعية ميدان فن التاريخ. ويمكن تلخيص تلك المصادر المعرفية في أصلين:

الأصل الأول هو الوحي والتفسير الموضوعي: فالتفسير الموضوعي قيام بتدبر قرآني وتبصر حكيم وتفسير علمي "لموضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية فيبين ويبحث ويدرس مثلا عقيدة التوحيد في القرآن أو يبحث عن النبوة في القرآن أو عن المذهب الاقتصادي في القرآن أو عن سنن التاريخ في القرآن أو عن السماوات والأرض في القرآن وهكذا... ويستهدف التفسير التوحيدي الموضوعي من القيام بهذه الدراسات تحديد موقف نظري للقرآن الكريم وبالتالي للرسالة الإسلامية عن ذلك الموضوع من موضوعات الحياة أوالكون" ، وبهذا يعد التفسير الموضوعي أداة موصلة إلى استكشاف آفاق الرؤية المقاصدية الشرعية من حيث إنه "عملية حوار مع القرآن الكريم واستنطاق له، وليست مجرد استجابة سلبية، بل استجابة فعالة وتوظيفا هادفا للنص القرآني في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى" . ويتم هذا العمل الحواري والاستنطاقي بدءا من النظر في واقع الحياة الإنسانية وما تراكم فيه من معطيات بشرية نظرية وعملية، وانتهاء بالنظر في الوحي الإلهي ومقاصده الربانية الدائرة حول حفظ الإنسان وإصلاحه وتزكيته. وتفاعلية النظرين تثمر اكتشاف السنن والقوانين التي يقوم عليها الوجود الكوني والإنساني ومنها القوانين الاجتماعية والتاريخية التي تستوعب نتيجة الفعل الإنساني وسعيه وجهده في تطبيق برنامج الاستخلاف الأرضي.

ومما يدل على أن ابن خلدون كان مفسرا موضوعيا مهتما بالقوانين الاجتماعية هو "ذلك الحشد من الاستشهادات المستمدة من كتاب الله حينا وسنة رسوله عليه السلام حينا آخر وأقوال ومعطيات صحابته الكرام حينا والتي طالما اعتمدها لتعزيز وجهات نظره وجعل استدلالاته أكثر حجية وصوابا وإقناعا" ، فهو بحكم التدبر في الوحي الإلهي ثم استفادته من الاستقراء للواقع الإنساني الحي، خلص إلى نظرة استقرائية تهدف الوصول إلى قوانين وأحكام ومبادئ في العمران البشري وصياغتها صياغة علمية مبرهن عليها من شأنها تفسير التحولات الإنسانية وفهمها في علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الإنسان بالأشياء والكون وعلاقة الإنسان بالله عز وجل.

وتتأكد نظرته الموضوعية بمميزات أخرى تميزت بها صناعة مقدمته التعبيرية؛ وهي الوحدة السياقية والانسجام التناسبي والترابطية الحاصلة بين فصول مقدمته والمقاطع القرآنية الشريفة التي يختم به الفصول أو تدخل في ثناياها . وهذا البناء التركيبي الدلالي المراعي للمجال التداولي الإسلامي ينفي تهم بعض الدارسين المحدثين الذين لا يحكمون الرؤية الإسلامية في قرائتهم التحليلية لابن خلدون، فينعتونه بالمادي والوضعي تأثرا منهم بالمنهج المادي الوضعي الذي ظهر في أوروبا واعتقادا منهم أن تفسيراته العلمية لا تمت إلى المنهج الإسلامي بصلة ، وهي تُهم لا أساس إبستمولوجي قويم لها، تهم باردة تتكسر أمام معرفة أصول فكره المقاصدية المؤسسة على التعليل العلمي والتفسير الموضوعي البارز في تنويعات فصول مقدمته، ولو فهمت هذه الأصول المعرفية لما استكثر على ابن خلدون اجتهاده في كشف منطق التاريخ وصياغة قوانين للاجتماع الإنساني والعمران البشري، ولَتمَّ اعتبار تجربته التأويلية قبسا بسيطا مما تكشف عنه مقاصد الوحي من الدعوة للتدبر العلمي للظواهر البشرية والكونية واستخلاص قواعد اشتغالها وتفسيرها.

أما الأصل الثاني فهو الحس والتجربة: فمن المعروف في القواعد الشرعية أن الأدلة العقلية مركبة على الأدلة السمعية؛ لأن العقل ليس بشارع، لكنه إن كشف بالاستنباط عن مقصود شرعي لم يشهد له نص جزئي معين وإنما شهد له مجموع نصوص شرعية وكان موافقا للإنسان في جلب المصالح ودفع المفاسد، فهو مأمور شرعا بحفظه والعمل به. وعلى هذا فإن من وسائل الإدراك العقلي للمقاصد الشرعية الحس والتجربة اللذان لا يخالف المستنبط بهما ما يقصده الشرع بشهادة أدلة كلية وجزئية منه، وموافقة استنباطات الحس والتجربة لاستنباطات تصفح أدلة الشريعة الكلية والجزئية هي لب منهج ابن خلدون.

وقد شكل اعتماد الحس والتجربة في التفسير التاريخي قوام منهج ابن خلدون الذي ينقسم حسب عبد الواحد وافي إلى مرحلتين: "تتمثل أولاهما في ملاحظات حسية وتاريخية لظواهر الاجتماع، أو بعبارة أخرى تتمثل في جميع المواد الأولية لموضوع بحثه من المشاهدات ومن بطون التاريخ. وتتمثل الأخرى في عمليات عقلية يجريها على هذه المواد الأولية ويصل بفضلها إلى الغرض الذي قصد إليه من هذا العلم وهو الكشف عما يحكم الظواهر الاجتماعية من قوانين" ، فهاتان المرحلتان تشيران "إلى ما هو ثابت في الموقف المعرفي الخلدوني وهو أن بين الطبيعة المادية والتصورات الذهنية يوجد عالم وسيط، عالم الحوادث الفعلية أو بعبارة أخرى بين الحس والنظر يوجد العقل التجريبي، بحيث يكون المنطق النافع الصحيح هو ما ينتج ويتمخض عن ذلك العقل التجريبي" ، المنطق العلمي الكاشف لوحدة الموجودات المتجلية في الانتظام الموجود في الطبيعة والتناسب بين عناصرها، بحيث يسهل على العقل التجريبي اكتشاف العلل والقوانين الجامعة بينها.

إن وعي ابن خلدون بمقاصد العقل التجريبي جعله باحثا متمرسا عن تطبيقات مقومات الفكر البرهاني بالعمل على استقراء الظواهر الاجتماعية بالملاحظة وبتصفح أحوالها بالمشاهدة وبتمييز خواصها بالتجربة والمقارنة للتوصل إلى قوانين كلية تنظمها، وفي بحثه عن هذه القوانين توصل إلى استنباط مقاصد شرعية عديدة تمثل سننا تاريخية وقواعد اجتماعية متناسقة ومرتبطة كما يقول باقر الصدر: "ارتباطا عضويا شديدا بكتاب الله بوصفه كتاب هدى، وبوصفه إخراجاً للناس من الظلمات إلى النور؛ لأن الجانب العملي من هذه العملية أي الجانب البشري والتطبيقي من جانب هذه العملية يخضع لسنن التاريخ، فلابد إذن من أن يكون للقرآن الكريم تصورات وعطاءات في هذا المجال لتكوين إطار عام للنظرة القرآنية والإسلامية عن سنن التاريخ" . ومن المقاصد السنن قوله: "فصل في أن الدولة العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق" ويشرح هذا بقوله: "وذلك لأن الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة الله من إقامة دينه. قال تعالى: (لو اَنفقت ما في الاَرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) [سورة الاَنفال/الآية: 64 برواية ورش]. وسره أن القلوب إذا تداعت إلى الأهواء والباطل والميل إلى الدنيا حصل التنافس وفشا الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق ورفضت الدنيا والباطل وأقبلت على الله اتحدت وجهتها، فذهب التنافس وقل الخلاف وحسن التعاون والتضاد واتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة" .

ومن تلك المقاصد السنن قوله: "فصل في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم" واستدل بالحديث النبوي "ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه" ، ومقصوده عند ابن خلدون "أن تكون له عصبة وشوكة تمنعه عن أذى الكفار حتى يبلغ رسالة ربه ويتم مراد الله من إكمال دينه وملته" ، ثم يعقب "وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم ألا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية" .

ومنها أيضا قوله: "فصل في أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص"، وهو هنا يشير بتأول لسنة الأجل الواردة في قوله تعالى: (ولكل أمة اَجل فإذا جآءاجلهم لا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون) [سورة الاعراف/الآية: 32]، وفي قوله تعالى: (ما تسبق من أمة اجلها وما يستاخرون) [سورة المومنون/الآية: 43].

ومنها قوله: "فصل في أن الظلم مؤذن بخراب العمران" ويشرح هذا المقصد بكونه هو "الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري وهي الحكمة العامة المراعاة للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فلما كان الظلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع النوع لما أدى من تخريب العمران كانت حكمة الحظر فيه موجودة فكان تحريمه مهما، وأدلته من القرآن والسنة كثير، أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر" .

ومن خلال هذي الأصلين يتكشف تكامل قراءة الوحي واعتماد الحس والتجربة في التطبيق المقاصدي في التفسير التاريخي الخلدوني حيث تتحدد مقاصد شرعية بمثابة سنن تاريخية.

القضية الثانية: المقاصد والتاريخ
حقيقة التاريخ عند ابن خلدون أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم ، ويتميز هذا الخبر بكونه جم الفوائد شريف الغاية يوقف على "أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا، فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبّت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط، لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال من الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق" ، وهذا الوعي العملي لأهمية التاريخ في الحياة الإنسانية لا يمثل إلا الجانب الظاهري في المعرفة التاريخية، أما جانبها الباطني فيتمثل في أن التاريخ "نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها خليق" ، وتؤسس مفاهيم النظر والتحقيق والتعليل وكيفيات الوقائع وأسبابها جهازا تصوريا يخرج التاريخ من حيث هو خبر في الماضي إلى كونه ظاهرة للدرس والبحث والاستنباط، وبهذا يكون التاريخ تجاوزا للتاريخ؛ تجاوزا يؤكد انتماء التاريخ لعلوم الحكمة وما تقتضيه من إعمال عميق لعقل تجريبي ينتج عنه بالضرورة عقلا مصلحيا يقدر بعلم قوانين المنافع والمضار في دورة العمران البشري الدائمة من نشوء ونمو وانحطاط واندثار. ولما كان التاريخ عند ابن خلدون وعيا بتحولات العمران البشري المرتبطة بظهور عقل مصلحي يميز داخل العمران بين ما هو ضروري من الصنائع وما هو حاجي وما هو تحسيني، كان البحث التاريخي عنده مرتبط بالمنهج المقاصدي الذي يتجاوز النظر في ظاهر الشريعة إلى باطنها.

إن التمييز بين المعرفة الظاهرية والباطنية للتاريخ، والجمع بينهما بوسطية علمية تقوم على تفعيل مفاهيم النظر والتحقيق والتعليل والكيفيات وربط الأسباب بالمسببات، يبرز بكل جلاء علاقة الدرس التاريخي بالدرس المقاصدي من جهة المنهج. فنجد الشاطبي يميز في تحديده لما يعرف به ما هو مقصود للشرع مما ليس بمقصود له؟ بين ثلاثة أقسام:

"الأول: أن يقال إن مقصود الشارع غائب عنا حتى يأتينا ما يعرفنا به وليس ذلك إلا بالتصريح الكلامي مجردا عن تتبع المعاني التي يقتضيها الاستقراء ولا تقتضيها الألفاظ بوضعها اللغوي...

الثاني: وهو ضربان: أحدهما أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها، وإنما المقصود أمر آخر وراءه، ويطّرد هذا في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك يمكن أن يلتمس منه معرفة مقاصد الشارع. والثاني أن مقصود الشارع الالتفات إلى معاني الألفاظ بحيث لا تعتبر الظواهر والنصوص إلاٍَّ بها على الإطلاق فإن خالف النص المعنى النظري أطرح وقدم المعنى النظري..

الثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعا على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص ولا بالعكس، لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض. وهذا الذي أمه أكثر العلماء الراسخين فعليه الاعتماد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع" .

"فكل من المعرفة المقاصدية والتاريخية تقوم على أن صحة الباطن تكون وفق الظاهر" المقرر في لسان العرب ويجري على المقاصد العربية وفي قواعد صحة الخبر التاريخي، وعلى أن يكون للقول بالباطن شاهد من النص الشرعي ومن الدليل العقلي. فطريق النظر إلى المقاصد الشرعية وكيفيات الوقائع التاريخية وأسبابها ليس الوقوف على الظواهر والأشكال وإنما البواطن والمعاني التي ترتكز في انضباطها على قواعد علمية تعليلية واضحة لا تناقض الشرع ولا تخالف الحقائق التاريخية ولا تناقض فيها بين المقطوع والمظنون. فكل المعاني اللغوية التي لا ينبني فهم المقاصد والتاريخ إلا عليها فهو الظواهر، وكل المصالح والسنن والقوانين التي يقتضيها الفعل الإنساني الحضاري الاستخلافي فهو الباطن.

وارتباط المقصد بالتاريخ من حيث إن فعل الإنسان في التاريخ فعل مقصدي غائي لا سببي فقط، وذلك أنه يحرك الفعل الإنساني لأداء مهمته في تحمل الأمانة، قال تعالى: (إنَّا عرضنا الاَمانة على السماوات والاَرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الاٍٍٍٍٍٍِِِِِِنسان إنه كان ظلوما جهولا) [سورة الاَحزاب/ الآية: 72]، يقول ابن خلدون: "ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد في أن الزنا مخلط للأنساب مفسد للنوع وأن القتل أيضا مفسد للنوع وأن الظلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النوع وغير ذلك من سائر المقاصد الشرعية في الأحكام فإنها كلها مبنية على المحافظة على العمران" ، ونجد مقصد عمارة الأرض مفسرا في حفظ نظام التعايش واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة ومن صلاح في العقل والعمل، يقول عماد الدين خليل: "حيثما تنقلنا في أرجاء القرآن الفسيحة لمطالعة الآيات والمقاطع الخاصة بخلق الكون وتهيئة الظروف الصالحة للحياة على الأرض وتمعنا فيها وجدناها ترتبط ارتباطا عضويا أصيلا بالدور المنتظر الذي بعث الإنسان لكي يلعبه وبالقصد والجدوى والنظام والإعمار والغاية التي بعث من أجلها وهي كلها قواعد أساسية لأي نشاط حضاري فعال هادف منظم متطور على الأرض" .

ومن خلال ما تقدم في القضيتين السالفتين الذِّكر يبرز البعد التطبيقي للمنهج المقاصدي في التفسير الخلدوني للتاريخ، فقد حرص على إعمال المقاصد في سياقات مختلفة في مقدمته تدل على إدراكه العميق لأهمية المقاصد الشرعية في توسيع العمل الاجتهادي المتعلق بالبحث التاريخي وصناعات العمران البشري، ذلك الإدراك المستمد في بعض جوانبه من فقهه المالكي الذي يعتبر المقاصد الشرعية أصلا من أصوله العقلية التي بني عليها الاجتهاد الفقهي، ولذا عمل على توظيفها في منهجه لدراسة الاجتماع الإنساني فرأى أن من الأسباب الموقعة للمؤرخين في الكذب: "الذهول عن المقاصد، فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب" .

ثانياً: نظرية ابن خلدون حول العمران البشري
ليس المراد إعطاء تفصيل لنظرية ابن خلدون وإنما تقديم عرض يكشف بعض مكوناتها ثم رؤية حول علاقة التأويل بالكتابة التاريخية عند ابن خلدون، على اعتبار أن النظرية "نسق فكري استنباطي متسق حول ظاهرة أو مجموعة من الظاهرات المتجانسة، يحوي -أي النسق- إطارا تصوريا ومفهومات وقضايا نظرية توضح العلاقات بين الوقائع وتنظمها بطريقة دالة وذات معنى، كما أنها ذات بعد إمبريقي بمعنى اعتمادها عل الواقع ومعطياته وذات توجيه تنبئي يساعد على تفهم مستقبل الظاهرة ولو من خلال تعميمات احتمالية" ، فنظرية ابن خلدون نسق فكري متسق حول العمران والإنسان يتكون من قضايا ومفاهيم توضح العلاقات المنظمة والمتحكمة في تفاعلهما وثباتهما وتغيرهما.

ففي سياق نقد ابن خلدون لمناهج المؤرخين السابقين في دراسة التاريخ توصل إلى علم مستقل بنفسه يتميز بأنه "ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد الأخرى. وهذا شأن كل علم من العلوم وضعيا كان أو عقليا" ، فليست دراسة التاريخ هي وصف وقائعه فقط بل هي بحث عن قوانين الظواهر الاجتماعية وحركتها الداخلية واستخلاص مقاصد وسنن متعلقة بها، فالفرق بين المنهج التاريخي الوصفي والمنهج الاجتماعي التحليلي يكمن كما يقول ابن خلدون في أن "القانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضا لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه، وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه وكان ذلك معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه" .

فالعمران البشري هو من جهة أولى عبارة عن قوانين ومبادئ عامة تقصد الوصول إلى طريق اليقين والصدق والصواب في نقل الوقائع والوثائق وسجلات الماضي ثم استخلاص المقاصد منها المساعِدة على التجديد والتغيير في البناء الاجتماعي الإنساني. وهو من جهة ثانية الاجتماع الضروري للإنسان الذي يعبر عنه الحكماء بقولهم: "الإنسان مدني بالطبع، أي لابد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم" ، وهو ما ركب في طباعهم من التعاون على المعاش، وبيان هذا عند ابن خلدون أن "الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء، وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله. إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادة حياته منه. ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلا، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ. وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري. هب أنه يأكله حبا من غير علاج فهو أيضا يحتاج في تحصيله إلى أعمال أخرى أكثر من هذه، من الزراعة والحصاد والدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنبل. ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير. ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد. فلابد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم، فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف، وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضا في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه" ، ولا يتحقق التعمير بهذا الاجتماع إلا بوازع "يدفع بعضهم عن بعض، لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم" ويتمثل هذا الوازع في واحد "منهم يكون له الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان، وهذا هو معنى الملك" . ولما كانت النبوة خاصة طبيعية للإنسان كان لابد للبشر من حكم" يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر وأنه لابد أن يكون متميزا عنهم بما يودعه الله فيه من خواص هدايته ليقع التسليم له والقبول منه حتى يتم الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تزييف" ، لكن هذا لا يمنع من أن الاجتماع الإنساني قد يتم "بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته" وذلك بناء على أن وجوب النبوات عند ابن خلدون "ليس بعقلي وإنما مدركه الشرع كما هو مذهب السلف من الأمة" .

وأصل العمران الانتقال من البداوة إلى الحضارة، "فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة، ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها، وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها، ومتى حصل له على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وعوائده عاج إلى الدعة وأمكن نفسه إلى قيادة المدينة" ، فأحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة وقائمة بالعصبية التي تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه والتي بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع عليه، وبها ينهض التناصر والتعاضد والغلب والرياسة، بل هي ضرورية في كل أمر يحمل الناس عليه من نبوة أو إقامة ملك أو دعوة.

فالحضارة "هي التفنن في الترف واستجادة أحواله والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه من الصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية ولسائر أحوال المنزل. وللتأنق في كل واحد من هذه صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة وعدم التأنق فيها، وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها أما دينها فلاستحكام صيغة العوائد التي يعسر نزعها وأما دينها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد ويعجز الكسب عن الوفاء بها" ولذا كانت الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره ومؤذنة بفساده وتتفاوت بتفاوته فمتى كان أكثر كانت أكمل، وهي في جدليتها معه لها عمر طبيعي كالذي للأشخاص فبعد القوة يأتي الضعف وبعد الازدهار يأتي الانحطاط.

وللحضارة والعمران اتصال بقوة الدولة وضعفها يتبادلان الفعل والانفعال التأثير والتأثر، فهما يترسخان باتصال الدولة ورسوخها، على اعتبار أن الدولة غاية العصبية وغاية العصبية الملك وذلك أن: "الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض، فلابد أن يكون متغلبا عليهم بتلك العصبية وإلا لم تتم قدرته على ذلك. وهذا التغلب هو الملك وهو أمر زائد على الرياسة لأن الرياسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع وليس له عليهم قهر في أحكامه، وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر. وصاحب العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع ووجد السبيل إلى التغلب والقهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس ولا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعا" ، لكن الدولة إذا استحكمت الرياسة واستقرت وتمهدت قد تستغني عن العصبية وتستبدلها بما يحافظ على عزتها واستمراريتها من الموالين والمصطنعين الذين نشئوا في ظل العصبية وغيرها وإما بالعصائب الخارجين عن نسبها الداخلين في ولايتها.

وإذا كان للحضارة والعمران عمر طبيعي فإن للدولة أطوار مختلفة وحالات متجددة حددها ابن خلدون في خمسة هي :

الطور الأول: طور الظفر بالبغية وغلب المدافع والممانع والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة قبلها. فيكون صاحب الدولة في هذا الطور أسوة قومه في اكتساب المجد و جباية المال والمدافعة عن الحوزة والحماية لا ينفرد دونهم بشيء لأن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب وهي لما زل بعد بحالها.

الطور الثاني: طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة. ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنيا باصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع والاستكثار من ذلك لجدع أنوف أهل عصبيته وعشيرته المقاسمين له في نسبه الضاربين في الملك بسهمه.

الطور الثالث: طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال وتخليد الآثار وبعد الصيت فيستفرغ وسعه في الجباية وضبط الدخل والخرج وإحصاء النفقات والقصد فيها وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتسعة والهياكل المرتفعة...

الطور الرابع: طور القنوع والمسالمة ويكون صاحب الدولة في هذا قانعا بما بنى أولوه سلما لأنظاره من الملوك وأقتاله مقلدا للماضين من سلفه فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل ويقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء.

الطور الخامس: طور الإسراف والتبذير ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفا لما جمع أولوه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته وفي مجالسه واصطناع أخدان السوء وخضراء الدمن وتقليدهم عظيمات الأمور التي لا يستقلون بحملها ولا يعرفون ما يأتون ويذرون منها...

ولم يكتف ابن خلدون بتحديد تحولات الدولة بل حدد عمرها أيضا في ثلاثة أجيال :

الجيل الأول: جيل خلق البداوة وخشونتها وتوحشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد، فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظة في أصحاب الدولة فحدهم مرهف وجانبهم مرهوب والناس لهم مغلوبون.

الجيل الثاني: تحول حال أصحاب الدولة بالملك والترفه من البداوة إلى الحضارة ومن الشظف إلى الترف والخصب ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به وكسل الباقين عن السعي فيه ومن عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء وتؤنس منهم المهابة والخضوع...

الجيل الثالث: نسيان عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايته بما تفنقوه من النعيم وغضارة العيش فيصيرون عيالا على الدولة لا يقدرون على مواجهة ولا مدافعة حتى يتأذن الله بانقراض الدولة وذهابها بما حملت.

والهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع حسب ابن خلدون لأن الهرم يحدث للدولة بالطبع "وإذا كان الهرم طبيعيا في الدولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني، والهرم من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها، لما أنه طبيعي والأمور الطبيعية لا تتبدل" . ومن هذه الأمراض الترف والظلم والخلل في العصبية والمال والتفاوت بين مراتب السيف والقلم.

إن الدولة في جميع أطوارها وأجيالها ضرورية للعمران البشري من حيث إنه لابد له من سياسة ينتظم بها أمره، وذلك أن ضرورة الاجتماع للبشر لابد لها "من وازع حاكم يرجعون إليه، وحكمه فيهم تارة يكون مستندا إلى شرع منزل من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلغه. وتارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم. فالأول يحصل نفعها في الدنيا والآخرة لعلم الشارع بالمصالح في العاقبة ولمراعاته نجاة العباد في الآخرة، والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط " . فسياسة الدولة إما أن تكون ملكا طبيعيا أو عقليا أو شرعيا، "فالملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، والسياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به" . فقد تحقق السياسة العقلية مقصد جلب المصالح ودفع المضار وهو مقصد السياسة الشرعية أيضا، لكنها لا تستوفي جميع مقتضيات تحقيق العدل والصلاح في الاجتماع الإنساني كما تحققه السياسة القائمة على كونها خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به. فمنطق الشرع في تحديد المصالح الحقيقية عند ابن خلدون هو الآلة المميزة لنظم الملك والحكم.

إن علاقة الحضارة بالدولة هي جدلية الصنائع والسياسة، فالحضارة ترسخ بسياسة الدولة ورسوخها، ورسوخ الصنائع في العمران إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها فإنه "إذا زخر بحر العمران وطلبت فيه الكمالات، كان من جمالتها التأنق في الصنائع واستجادتها، فكملت بجميع متمماتها وتزايدات صنائع أخرى معها مما تدعو إليه عوائد الترف وأحواله.." ، فالحضارة تنتج عوائد من الصنائع يعسر نزعها وإن تراجع العمران بقيت آثارها، وذلك لرسوخها بكثرة التكرار وطول الأمد، فتستحكم صبغة ذلك وترسخ في الأجيال.

وعلى مقدار سياسة الدولة وعمرانها تكون جودة الصنائع التي لا يحصرها حد، فمنها صناعة الفلاحة والبناء والتجارة والخياطة والحياكة والتوليد والطب والخط والكتابة والوراقة والغناء والتعليم وأصناف العلوم.. فالصنائع مادية ومعنوية لها ارتباط بالفكر والكسب باعتبارهما قيمة الأعمال البشرية لأن "الصنائع والعلوم إنما هي للإنسان من حيث فكره الذي يتميز به عن الحيوانات، والقوت له من حيث الحيوانية والغذائية، فهو مقدم لضروريته على العلوم والصنائع وهي متأخرة عن الضروري" فكما أن الصنائع تكثر حيث يكثر العمران كذلك العلوم، فعلى نسبة عمران الدول في الكثرة والقلة والحضارة والترف تكون صناعة العلوم في الجودة والكثرة.

أما علاقة التأويل بالكتابة التاريخية عند ابن خلدون والتي تكنى بفلسفة التاريخ أو التاريخ التأملي أو نقد التاريخ أو تفسير التاريخ... فتبرز من خلال ما تقدم من عرض بعض مكونات نظريته التي يستخلص منها البعد التأويلي في الكتابة التاريخية وتأسيس المسائلة الفلسفية لموضوعه ومقاصده ومنهجه عبر مستويين:

الأول: مستوى التنظير العقلي الحضاري والفلسفي والأدبي والثقافي الأنتروبولوجي.

الثاني: مستوى تطور العلوم الإنسانية والطبيعية.

فهذان المستويان يتعاضدان لكي يبقى التاريخ نصا مفتوحا للقراءة التأويلية التي حاول ابن رشد التأصيل لها من خلال بيانه لمفهوم التأويل بقوله: "ومعنى التأويل إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب" ، وإذا كان ابن رشد يكشف بهذا القيد الأخير الذي أضافه إدراكه لأهمية اعتبار مقاصد اللغة في تأويل نصوص الشرع، فإنه فيما سواها مطلوب أيضا باعتماد النظر العقلي والنظر الطبيعي والنظر الشرعي، يقول ابن رشد: "إن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه وهذا هو القياس أو بالقياس، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي" ، فعلى هذا يتبين فعل التأويل في الكتابة التاريخية عند ابن خلدون أنه إخراج لها من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية بشرط المحافظة على المجال التداولي وبشرط الملائمة والمناسبة.

وبهذا يعطي التأويل للتاريخ آفاقا رحبة بحيث يصير كلمة "مرادفة للحرية تسعى في ركاب الصيرورة والتغير لا القرار والاستبعاد، إن ماضي الإنسان لا يلزمه ولا يخضعه، إن تجربة التاريخ لا يمكن أن تكون قالبا معينا أو طائفة محدودة من القوالب إنها على العكس خلاقة قوية دافعة، هذه مهمة التأويل المتفائلة الإنسانية" ، فالكتابة التاريخية مفهوم دقيق "في باب التأويل بهذه المعاني السابقة لا المعاني الأثرية التي ما تزال عالقة ببعض الباحثين، ليس لكلمة طبيعة الإنسان معنى مستقل بمعزل عن التاريخ، هذه النسبية الطيبة هي روح التأويل... التأويل تاريخ بمعنى أنه طائفة لا تنتهي من وجهات نظر إلى العالم..." .

التأويل في الكتابة التاريخية عند ابن خلدون لا ينزاح عن النظر الشرعي والعقلي التجريبي ويخضع لمقولتين حددها أحمد صبحي في:

الأولى: الكلية، ويراد بها أن تكون المقدمات متعلقة بالتاريخ العالمي ثم أن تكون النتائج كلية، أما ما يتعلق بمقدماته أو مادته فلابن خلدون حصيلة واسعة من المعلومات عن أخبار العرب مشرقهم ومغربهم وعن الإمبراطوريات القديمة. وأما النتائج الكلية فالعبرة فيها بمدى انطباق القضايا الكلية التي استخلصها على غير ما درسه من مجتمعات، بل مدى انطباق نظريته على سائر الحضارات.

الثانية: العلية، المستخلصة من كون المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام وربط الأسباب بالمسببات واتصال الأكوان بالأكوان واستحالة بعض الموجودات إلى بعض. وتكاد العناوين التي جعلها لفصوله تتخذ طابع القضايا الكلية القائمة على التعليل.

وقد كان خضوع ممارسته التأويلية لمقولتي الكلية والتعليل عاملا في بناء قواعد للمنهج في تفسير العمران البشري حصرها حسن الساعاتي في ست، هي: "الشك والتمحيص، والواقعية الاجتماعية المتشخصة بموادها، وتحكيم أصول العادة وطبيعة العمران، والقياس بالشاهد على الغائب، والسبر والتقسيم، والحيطة عند التعميم" ؛ وهي قواعد منهجية ترسم وعيا تاريخيا يلج بقوة علمية وعمق معرفي عالم الماضي المدون المتعلق بالعمران البشري لفحصه وقراءة مقاصده والنظر في مرجعياته واكتشاف القوانين المستمرة والمنتهية في بلورته، وعيا أدرك به ابن خلدون "أن الحاجة في عصره تدعو لا إلى خطاب في الإمكان العقلي المطلق الذي لا يفرض حدا بين الواقعات، بل إلى خطاب في الإمكان الواقعي الإمكان الذي بحسب المادة التي للشيء" .

وكما تؤكد تلك القواعد تقيد ابن خلدون بالفكر التجريبي المتعلق بالإمكان الواقعي في التاريخ، فإنها لا تمثل إلا عنصرا أولا من هذا الفكر، أما العنصر الثاني فهو قاعدة تحكيم المقاصد المصلحية التي يقوم إثباتها على الاستقراء باعتباره قياسا كليا مبنيا على تفحص جزئيات غالبة في كل محدد لاستخلاص مقاصد مصلحية كلية، وهذا ما جعل منهج ابن خلدون منهجا مصلحيا تجريبيا واستقرائيا واستنباطيا لاستكشاف قوانين عامة لا لتأييد نتائج وضعت أولا، وهو بهذا يخالف المنظومة الأرسطية المؤسسة على منطق شكلي صوري.

إن المنهج المقاصدي الخلدوني رغم ما أحدثه من وثبة علمية في المعرفة الإسلامية أعادت بنائها بيانا ومنهجا، وشكلت تجربة تأويلية فريدة لها قطائع معرفية نسبية مع الماضي، فإنه مشروع نظري وواقع حضاري، إنه الخلدونية التي يتحدث عنها الجابري باعتبارها نظرية في التاريخ العربي وجزء من هذا التاريخ نفسه "لا يمكن أن نحققها نظريا إلا إذا ألغيناها واقعيا، وبعبارة أخرى يجب أن نتجاوز بالتحليل والنقد الخلدونية كواقع حضاري ما زال يكبل مجتمعنا لنحصل على الخلدونية كنظرية مستقبلية تخطط لنهضتنا... إن ما تبقى من الخلدونية هو ما يجب أن ننجزه وليس ما أنجزته" ، وذلك لأنها ليست إلا تجربة تأويلية رائدة ترشد نحو فقه مقاصد الشرع وفقه مكونات الواقع الاجتماعي، نحو فقه اجتهادي شمولي مستنبط من الرؤية الحضارية القرآنية.

ثالثاً: تجليات التطبيق المقاصدي
إن نظرية ابن خلدون في العمران البشري وارتكازها على المنهج المقاصدي هو "نتاج التفكير المنطقي الإسلامي الذي ينشد التوصل إلى اليقين، ذلك لأن ابن خلدون في إنشاء علمه الجديد وصياغة موضوعه وبيان مسائله والكشف عن أسباب ما يحدث فيها من تغيرات قد سار على هدى المنهج التجريبي الذي يعبر عن روح الإسلام" ، ولذا لا يمكن موافقة رأي الجابري في كون إعمال ابن خلدون للمقاصد إنما استمده خاصة من ابن رشد في توظيفه له في مجال العقيدة، وكأن ضرورة اعتبار المقاصد الشرعية إنما برزت مع ابن رشد خاصة، يقول: "ذلك أن فكرة المقاصد التي وظفها ابن رشد في مجال العقيدة و بنى عليها الشاطبي مشروعه الرامي إلى تأصيل أصول علم الشريعة، إن فكرة المقاصد هذه حاضرة أيضا كمفهوم موجه في فكر ابن خلدون" ، هذا مع أن التوظيف المقاصدي عند ابن رشد لا يمثل إلا حلقة من الحلقات المقاصدية المتنامية في المعرفة الإسلامية عامة وفي علم الأصول بالخصوص الذي تأصلت فيه وبقيت لصيقة ببعض مسائله كدليل القياس ومسلك المناسبة في إثبات العلة ودليل الاستحسان وسد الذرائع وفتحها واعتبار المآلات والعرف... حتى جاء الشاطبي فأبان عن إمكانية جعلها علما خاصا مستقلا بموضوعه ومنهجه وقواعده.

ويبين ابن رشد كونه مسبوقا باهتمام العلماء بمقصود الشرع قوله: "وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع إنما هو تعليم الحق والعمل الحق. والعلم الحق هو معرفة الله تبارك وتعالى وسائر الموجودات على ما هي عليه وبخاصة الشريفة منها ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي. والعمل الحق هو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء، والمعرفة بهذه الأفعال هي التي تسمى العلم العملي، وهذه تنقسم قسمين: أحدهما أفعال ظاهرة بدنية، والعلم بهذه هو الذي يسمى الفقه. والقسم الثاني أفعال نفسانية مثل الشكر والصبر وغير ذلك من الأخلاق التي دعا إليها الشرع أو نهى عنها، والعلم بهذه هو الذي يسمى الزهد وعلوم الآخرة، وإلى هذا نحا أبو حامد الغزالي في كتابه. ولما كان الناس قد أضربوا عن هذا الجنس وخاضوا في الجنس الثاني وكان هذا الجنس أملك بالتقوى التي هي سبب السعادة سمى كتابه إحياء علوم الدين" ، وقد عمل الغزالي على تأصيل المقاصد الشرعية وجعلها قاعدة مركزية في فهم الشريعة واستنباط الأحكام منها وذلك في تقريره أن المصلحة "عبارة عن جلب منفعة أو دفع مضرة ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع من الخلق ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة" ، وقد رد المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع لأنه يرى أن "مقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والإجماع وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع فهي باطلة مطرحة ومن صار إليها فقد شرع" .

ولقد كان حق الفقه المقاصدي أن يكون من ضمن العلوم الأولى المؤسسة عند المسلمين، لكنه لأسباب تاريخية ضمر أمام الفقه الظاهري، ومع ذلك عملت المدارس الأصولية على العناية بجوانب معينة منه ترسخ العمل بها منذ أن صار العلم في المجتمع المسلم "ملكة يحتاج إلى التعلم فأصبح من جملة الصنائع والحرف" فتلقفها الشاطبي ليفردها بالتأليف ويعيد بها صياغة علم أصول الفقه، وابن خلدون ليؤسس عليها منهجه في الكتابة التاريخية.

ويمكن الحديث عن تجليات التطبيق المقاصدي عند ابن خلدون من خلال مسلكين: يتعلق الأول بتطبيق بعض مفاهيم النظر المصلحي المقاصدي، ويتعلق الثاني بتطبيق منهج التعليل باعتباره قاعدة الفقه المقاصدي وروحه الناظمة لمسائله.

المسلك الأول: تطبيق بعض مفاهيم النظر المصلحي المقاصدي
بناء على الاستقراء عمل الأصوليون القدامى على تقسيم المناسبات المصلحية إلى ما هي في رتبة الضرورة وما هي في رتبة الحاجة وما هي في رتبة التحسين، وهذا التقسيم الثلاثي إنما كان بالاستقراء ونظرا إلى الوقوع والعلم بانتفاء رتبة خارجة عنهن في العادة مما يفيد أن الأمر اجتهادي يفتح إمكانية التفكير في المراتب وتلازماتها التي حددها الشاطبي في خمسة :

أحدها: أن الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميلي.

والثاني: أن اختلال الضروري يلزم منه اختلال الباقيين بإطلاق.

والثالث: أنه لا يلزم من اختلال الباقيين اختلال الضروري.

والرابع: أنه قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما.

والخامس: أنه ينبغي المحافظة على الحاجي وعلى التحسيني للضروري.

وقد عمل ابن خلدون على تطبيق هذه التلازمات في كثير من القضايا منها:

يقول: "اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروري منه وبسيط قبل الحاجي والكمالي" ثم يقول في فصل أن البدو أقدم من الحضر وسابق عليه: "قد ذكرنا أن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم، العاجزون عما فوقه، وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وحوائجهم. ولا شك أن الضروري أقدم من الحاجي والكمالي وسابق عليه لأن الضروري أصل والكمالي فرع ناشئ عنه، فالبدو أصل للمدن والحضر وسابق عليهما، لأن أول مطالب الإنسان الضروري ولا ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذا كان الضروري حاصلاً" .

يقول في فصل معنى الخلافة والإمامة "لما كانت حقيقة الملك أنه الاجتماع الضروري للبشر ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما من آثار الغضب والحيوانية كانت أحكام صاحبه في الغالب جائرة عن الحق مجحفة بمن تحت يده من الخلق في أحوال دنياهم... فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة وينقادون إلى أحكامها كما كان ذلك للفرس وغيرهم من الأمم. وإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها ولا يتم استيلاؤها (سنة الله في الذين خلوا من قبل) [سورة الاَحزاب/الآية: 62]، فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة عقلية وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة وذلك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط فإنها كلها عبث وباطل إذ غايتها الموت والفناء والله يقول (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) [سورة المومنون/الآية: 116] فالمقصود بهم إنما هو دينهم المفضي بهم إلى السعادة في آخرتهم (صراط الله الذي له ما في السموات وما في الاَرض) [سورة الشورى/الآية: 50] فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة حتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني فأجرته على منهاج الدين ليكون الكل محفوظا بنظر الشارع" لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم وأعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم، "وأحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) [سورة الروم/الآية: 6] ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم وكان هذا الحكم لأهل الشريعة وهم الأنبياء ومن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء" .

وفي سياق كلامه عن النسب القرشي باعتباره شرطا في منصب الخلافة "إن الأحكام الشرعية كلها لابد لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها وتشرع لأجلها. ونحن إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النسب القرشي ومقصد الشارع منه، لم يقتصر فيه على التبرك بوصلة النبي صلى الله عليه وسلم كما وفي المشهور، وإن كانت تلك الوصلة موجودة والتبرك بها حاصلا، لكن التبرك ليس من المقاصد الشرعية كما قد علمت، فلابد إذن من المصلحة في اشتراط النسب وهي المقصودة من مشروعيتها، وإذا سبرنا وقسمنا لم نجدها إلا اعتبار العصبية التي تكون بها الحماية والمطالبة، ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب، فتسكن إليه الملة وأهلها، وينتظم حبل الألفة فيها" ، ثم يقول: "فإذا ثبت أن اشتراط القرشية إنما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية والغلب، وعلمنا أن الشارع لا يخص الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمة علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه إليها وطردنا العلة المشتملة على المقصود من القرشية وهي وجود العصبية، فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية قوية على من معها لعصرها ليستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة على حسن الحماية ولا يعلم ذلك في الأقطار والآفاق كما كان في القرشية، إذ الدعوة الإسلامية التي كانت عامة، وعصبية العرب كانت وافية بها فغلبوا سائر الأمم. وإنما يخص لهذا العهد كل قطر بمن تكون له العصبية الغالبة. وإذا نظرت سر الله في الخلافة لم تعد هذا، لأنه سبحانه إنما جعل الخليفة نائبا عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم ويردهم عن مضارهم وهو مخاطب بذلك ولا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه" .

ويقول بخصوص أن الحضارة في الأمصار من قبل الدول وأنها ترسخ باتصال الدولة ورسوخها: "والسبب في ذلك أن الحضارة هي أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال العمران زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتا غير منحصر" ، ثم يقول في أن الحضارة مؤذنة بفساد العمران "ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل والملاذ ويتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواع المناكح من الزنا واللواط فيفضي ذلك إلى فساد النوع... ولذلك كان مذهب مالك رحمه الله في اللواط أظهر من مذهب غيره ودل على أنه أبصر بمقاصد الشريعة واعتبارها للمصالح" .

المسلك الثاني: تطبيق منهج التعليل
لقد أثبت الأصوليون المثبتون للقياس أن الشريعة مملوءة بالتعليل، يقول الشاطبي: "والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي" ولا غيره، فإن الله تعالى يقول في بعثه الرسل وهو الأصل: (رسلا مبشرين ومنذرين ليَلاَّ يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) [سورة النساء/الآية: 164]، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [سورة الاَنبياء/الآية: 106]، وقال في أصل الخلقة (وهو الذي خلق السماوات والاَرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا) [سورة هود/الآية: 7]... وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى كقوله بعد آية الوضوء (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم) [سورة المائدة/الآية:7]... وإذا دل الاستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيدا للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة .

والتعليل عند ابن خلدون تعليل أصولي في كل حيثياته الجزئية والكلية "والواقع أنه إذا كان ابن خلدون قد أفاد من طائفة في الفكر الإسلامي فهم الأصوليون، إنه يستخدم مصطلحاتهم قياس الغائب على الشاهد قياس الأشباه والنظائر تعليل المتفق والمختلف، ما طبقه ابن خلدون على مسار التاريخ يكاد يماثل ما طبقه الأصوليون على قضايا الشرع هؤلاء مادتهم ما يتعرض له الناس من أقضية تقتضي أحكاما شرعية ومادته هو وقائع التاريخ التي تقتضي تعليلات وأحكاما كلية" . وقمة وفاء ابن خلدون لعلم أصول الفقه تبدو في كشفه لأهمية الوعي بالمنهج المقاصدي الأصولي في نقد العلوم الإسلامية نقدا منهجيا متزنا ومتوازنا، وفي استنباط علوم جديدة كعلم العمران البشري وما يتعلق به من علوم عديدة، وذلك لأن الوعي بإعمال المقاصد الشرعية هو وعي بإعمال العقل المصلحي النفعي الذي يتلو بالضرورة تغلغل العقل التجريبي في اكتشاف قوانين الاجتماع الإنساني وسنن الاستقرار فيه والتغيير.

فالتأويل التاريخي عند ابن خلدون فلسفة تعليلية محضة مناقضة للتفكير الأرسطي والمنطق الصوري وقائمة على استنتاج تفسيري منبن على الاستقراء الدقيق المحكوم بقانون العلية وقانون الاطراد ومعرفة طبائع الأحوال في العمران. فلكل ظاهرة من ظواهر العمران البشري علة توجب وقوعها ولكل علة معلول ينشأ عنها قال: "في طبيعة العمران في الخليقة وما يعرض فيها من البدو والحضر والتغلب والكسب والمعاش والصنائع والعلوم ونحوها وما لذلك من العلل والأسباب" ، فلم تعد عنده الظواهر تعزى إلى القضاء والقدر في جبرية مفرطة، وإنما صارت منظورة عنده ضمن شبكة من العلل الفاعلية والغائية التي تتشكل في قوانين صارمة جعلت نظريته "تتصف بالحتمية التاريخية، إنه يؤكد دائما أن ما حدث هو سنة الله في خلقه، إنه -على سبيل المثال- إذا كانت الدولة في دور انحطاطها أو هرمها كان ذلك كالهرم في الإنسان أمرا طبيعيا لا يتبدل، وأنه حتى إذا تدارك بعض أهل الدول ذلك التدهور بالإصلاح، فإن الأمر لن يزيد عن ومضة المصباح قبل انطفائه، توهم أنها اشتعال وهي انطفاء ولكل أجل كتاب" .

ومن الأمثلة التي يتجلى فيها نظره التعليلي "وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سمينا، لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط" ، ولدفع الأوهام والمغالط رأى أن المؤرخ في حاجة إلى: "العلم بقواعد السياسة، وطبائع الموجودات، واختلاف الأمم والبقاع والأعصار، في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب، من الوفاق أو بون ما بينها من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل، ومبادئ ظهورها، وأسباب حدوثها، ودواعي كونها، وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعبا لأسباب كل حادث، واقفا على أصول كل خبر. وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان، وإلا زيفه واستغنى عنه" . وهذا الإلحاح في النظر والتحقيق والتعليل والعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها مراده منه "الإمكان العقلي المطلق فإن نطاقه أوسع شيء فلا يفرض حدا بين الواقعات وإنما مرادنا الإمكان بحسب المادة التي للشيء. فإذا نظرنا أصل الشيء وجنسه وصنفه ومقدار عظمه وقوته أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله وحكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه" .

يؤسس ابن خلدون عمله التعليلي التأويلي للعمران البشري على شروط العلم البرهاني كما استقرأها الشاطبي من مجموع نظام الشريعة وحددها في ثلاثة :

إحداها العموم والاطراد: فلذلك جرت الأحكام الشرعية في أفعال المكلفين على الإطلاق وإن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى، فلا عمل يفرض ولا حركة ولا سكون يدعى إلا والشريعة عليه حاكمة إفرادا وتركيبا.

والثانية الثبوت من غير زوال: فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخا ولا تخصيصا لعمومها ولا تقييدا لإطلاقها ولا رفعا لحكم من أحكامها لا بحسب عموم المكلفين ولا بحسب خصوص بعضهم ولا بحسب زمان دون زمان ولا حال دون حال...

والثالثة كون العلم حاكما لا محكوما: بمعنى كونه مفيدا لعمل يترتب عليه مما يليق به، فلذلك انحصرت علوم الشريعة فيما يفيد العمل أو يصوب نحوه، لا زائدا على ذلك، ولا تجد في العمل أبدا ما هو حاكم على الشريعة، وإلا انقلب كونها حاكمة إلى كونها محكوما عليها.

إن التعليل الخلدوني عمل مقاصدي تأويلي منضبط بضوابط برهانية وبيانية تظهر مراعاتها في مجموع قضايا نظريته العمرانية، ويمكن تلخيص هذه الضوابط في:

أولا: ضابط مراعاة طبائع الأشياء وحقائق الموجودات التي تتمثل في خصائصها الذاتية والجوهرية المشتركة بين أفرادها.

ثانيا: ضابط مراعاة القوانين الاجتماعية والسنن الكونية الملائمة للزمان والمكان.

ثالثا: ضابط مراعاة المقاصد الشرعية الأصلية والتبعية العامة والخاصة.

رابعا: ضابط مراعاة الخصائص العلمية وتطور العلوم.

خامسا: ضابط الخصائص اللغوية وعلوم النص اللغوي.

فهذه الضوابط تجعل الممارسة التعليلية التأويلية أكثر دافعية على البحث في الكتابة التاريخية لاستخراج المجهول من المعلوم بآليات مصلحية مراعية لمقتضيات الطبيعة البشرية في الأزمنة والأمكنة. وليست هذه الممارسة التعليلية التأويلية إلا اجتهادا في بيان التأويل الاستخلافي المبني على قواعد مستنبطة من الرؤية الحضارية القرآنية باعتبارها "كل فعل تمتزج فيه إرادة الله وروحه وكلمته بالمادة فتصوغها كتلا كونية أو نظما طبيعية أو خلائق تحمل بصمات الحياة الأولى من نبات أو حيوان... أو تخلقها بشرا سويا. ويجيء الإنسان -من ثم- خليفة لله كما يؤكد القرآن في أكثر من موضع لإعمار الأرض التي أنزل إليها وهو يحمل العدة لهذا العمل، ويمتلك الشروط الأساسية لمجابهة العالم وتحويله وتغييره وتطويره سواء ما ركب الله في ذاته من عقل وروح وإرادة وتكييف جسدي فذ ليس المشي على القدمين، وتحرر اليدين ومطاوعة الأصابع بأقلها خطورة... أو بما هيأه الله في الأرض وما حولها من إمكانيات التعامل الحيوي معها والاستمرار في أطرافها والتحاور المبدع الخلاق بينها وبين الإنسان الذي جعل بهذا التمهيد المزدوج لأداء مهمته الحضارية: سيدا للعالمين وفضل على كثير من خلقه تفضيلا" ، إن التأويل الاستخلافي اجتهاد في تفسير التاريخ الحضاري الذي ليس إلا إبداعا ومجابهة لكتلة العالم الطبيعية واستجابة للتحديات الدائمة وتهيئة وإعمارا وتمهيدا وتطورا، إنه تحكم في قراءة مكونات نظام العلاقة الثلاثية بين الله والطبيعة والإنسان.

فالتأويل التعليلي الخلدوني فاتحة للعمل الاجتهادي المقاصدي الذي يجمع بين مقاصد الشارع ومقاصد الإنسان بواسطة قوانين وسنن هي من خلق الله تعالى ومن معالمها الجبرية والقياسية والغائية، (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الاَرض فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين) [سورة اَل عمران/الآية: 137].

إن الذي لم ينجزه ابن خلدون في مقدمته هو وضع مقدمة مقاصدية تكشف منهجه المقاصدي وأهميته في بناء نظريته حول العمران البشري، وهو الأمر الذي كان من شأنه أن يغلق الباب أمام كثير من التفسيرات التأويلية التي تناولت مقدمته ابتداء من المستشرقين وانتهاء بمستعملي المناهج الغربية وتطبيقها على مقدمته دون مراعاة للمجال التداولي الحضاري، فأخرجته منه قسرا وذهبت تطوح بمقدمته في تصورات هي أبعد عن مرجعيته الإسلامية ومقاصدها الداعية إلى الاجتهاد والتجديد والتأمل والتدبر في قراءة الوحي والكون، فلم يكن ابن خلدون "إلا نبتة إسلامية تجاوزت الواقع السياسي المريض واتصلت أوثق الاتصال بالقرآن الكريم والسيرة النبوية وعصور الازدهار الإسلامية راشدية وأموية وعباسية (ومغربية)... فربطت بين الحركة الداخلية والمحرك والأسباب ومسببها العظيم سبحانه وتعالى" ، ربطا علميا محكما أبان عن عقلانية إسلامية تقوم على آليات البحث العلمي التجريبي من استقراء وتعليل وكيفيات وأسباب وقياس كلي وجزئي... إنها الآليات المنهجية التي لم يرعها المسلمون في عهود وهنهم حق رعايتها فأصابهم ما أصابهم من ضعف نظر في الشرع والعقل ثم ضعف في التدبير السياسي والاجتماعي، فلذا كان إلزاميا على الأمة تفعيل تلك الآليات للنظر والتفكر والتدبر في عوالم النص الشرعي وعوالم الإنسان وعوالم الكون، إن أرادت إصلاح أمرها وأخذها بزمام الاجتهاد والتجديد وصياغة مشروع حضاري مستقبلي استخلافي عمراني يبرز التكريم الحق للإنسان في زمن عقلانية العدمية واللامعنى المرتكزة على تأليه العقل والمادة.

خاتمة
إن المنهج المقاصدي وتطبيقاته أوسع من كونه مصلحة مرسلة أو تعليلا مصلحيا للأحكام الشرعية، وذلك لأنه منهج بحث في المعرفة التكاملية المستمدة من الوحي الإلهي، يعتمد التعليل الكلي لظواهرها، بحيث يتم النظر العلمي والنقدي في أية ظاهرة فكرية أو كونية بناء على دراسة قوانينها الداخلية التي تحكم منطق نظامها على قاعدة تحقيق المصلحة الشرعية الثابتة والمتغيرة.

ويشكل هذا المنهج البحثي لب نظرية المقاصد عند ابن خلدون التي أقام عليها نظريته حول العمران البشري والتي أثبتت استقلاليته في الاجتهاد وأنه ليس متكلما أشعريا وفقيها مالكيا ومفسرا تاريخيا فحسب، بل فيلسوفا مقاصديا يعتمد منهجا برهانيا واستقرائيا. وبتفعيله لهذا المنهج نقل الدرس التاريخي من الارتكاز على الإسناد إلى الارتكاز على التأويل التعليلي المصلحي، فخرج التاريخ على يديه فلسفة استكشافية لقوانين العمران باعتبارها منهجا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه بعدما كان علم الجرح والتعديل هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية لأن معظمها تكاليف إنشائية أوجب الشارع العمل بها متى حصل الظن بصدقها.

لقد أحدث ابن خلدون نقلة منهجية مقاصدية تأسيسية للمعرفة الإسلامية عامة ودراسة المعرفة التاريخية خاصة لاستخراج مجهولها من معلومها، وكانت نقلته تفسيرا موضوعيا للنص الشرعي، فقد حدد موضوع معرفة الاجتماع البشري ومعرفة طبائعه وقوانينه ونظر إليها في الوحي من خلال مدخل مقاصده الشرعية التي لم ينجز في مقدمته تنظيرا لها وتعريفا بمنهجها كما فعل أبو إسحاق الشاطبي في كتابه الموافقات، وإن كان لكل منهما أغراضه من التأليف وإكراهاته السياسية والمجتمعية الداعية للإصلاح في زمان أفول شمس المسلمين.

لم يكن عمل ابن خلدون في تطبيقه للمنهج المقاصدي في نظريته العمرانية إلا اجتهادا تأويليا تعليليا جزئيا أمام الدفعة الحضارية القرآنية للعقل المسلم كي يتدبر ويتبصر ويتفكر وينظر في السنن الكونية التي جعلها الله تعالى عللا تنشأ عنها الظواهر، بحيث تتشكل لديه قوة الملاحظة للعلاقات الرابطة بين الظواهر الطبيعية ومكوناتها الداخلية ليستخلص أن لكل ظاهرة علة تدور معها وجودا وعدما طردا وعكسا اتفاقا واختلافا، وأن أساس البحث في هذه العلية هو الاستقراء الكلي أو الأغلبي أو الجزئي... بمقصد إرادة البناء الحضاري الاستخلافي، هذه الدفعة المستمرة استمرار حفظ الوحي الإلهي تقتضي يقظة اجتهادية تجديدية متطورة للعقل المسلم مسايرة لما يختزنه الوحي من عطاءات معرفية لا تنقضي لرفع لإنسان إلى أحسن تقويم في فعله الحضاري.

إن النقلة المنهجية التي فتقها ابن خلدون تنتظر من المسلمين رعاية علمية تستلهم الأسئلة المعرفية التي أثارها ابن خلدون وتؤسس لمعاصرة فاعلة للعقل المسلم تحرره من أسر الظاهر وطغيان الباطن ليصوغ آلية علمية وسطية قادرة على الحفر والغوص في فقه النص وفقه الواقع وجدليتهما، والغوص في استكشاف عوالم الشهادة بما يقتضيه منطق الشرع ومصالحه، إنها الآلية المنهجية العلمية التي تتطلبها مقتضيات بناء المجتمع الإسلامي وإصلاح السياسة الإسلامية في مواجهة تحديات عولمة العولمة والحداثة الغربية القاهرة الطاغية التي تصنع التاريخ المعاصر وتوجهه نحو ما تشتهيه مصالحها قاصية كل الخصوصيات الحضارية للآخر الذي يعمل على مناوئتها ومعارضتها، هذه التحديات المحفزات للعقل المسلم مدخلها لإدارة التدافع أو الحوار معها، هو المنهج المقاصدي الذي كشف ابن خلدون جانبا مهما من قدرته -أي هذا المنهج- الاستكشافية وكفائته الإنجازية في تحليل ظواهر الاجتماع البشري وقوانينها واستخلاص العبر منها، وترك لعلماء المسلمين متابعة واستئناف ما بدأ لتأسيس علوم حقيقية تراعي مصالح استقرار الاجتماع الإنساني كعلم العمران البشري.

إن السؤال المعرفي الذي يثيره هذا البحث هو البحث الجاد في المنهج المقاصدي لصياغة قوالب جديدة له في غير مجال الأحكام الشرعية الفقهية الجزئية، ترفع المصالح الشرعية الضرورية والحاجية والتحسينية إلى ميزان كمي وكيفي تدرك أبعاده الحضارية الإنسانية كلها عبر مجهود العقل المسلم، ثم التفكير في صياغة عقل تعليلي مقاصدي يرتبط بالإشكالات المعرفية الواقعية لإيجاد الحلول الحضارية الناجعة المؤدية فعلا لخروج الأمة من أزماتها التي صارت تشكل معادلات مركبة صعبة الاختراق بما كسبت سكونية العقل المسلم وبعده عن الإرادة الحقيقية للتجاوز.

الهوامش
يستخلص مفهوم الدولة في هذا السياق من تطور الفعل السياسي الإسلامي والجهود التنظيرية له في السياسة الشرعية ومنها الأدب السياسي السلطاني، وذلك لتأكيد أن المفاهيم لا تنشأ في فراغ وإنما لها ارتباط جذري بمجالها الحضاري التداولي الذي تحكمه سياقات حضارية ووقائع وأحداث خاصة.
تجديد الفكر الإسلامي لحسن الترابي ص: 42، الطبعة الأولى، دار القرافي للنشر والتوزيع-المغرب.
نفسه، ص: 42.
التفسير الموضوعي والفلسفة الاجتماعية في المدرسة القرآنية لمحمد باقر الصدر، ص: 21، تقديم جلال الدين علي الصغير، الطبعة الأولى 1409هـ-1989م، الدار العالمية بيروت.
نفسه، ص: 27.
ابن خلدون إسلاميا لعماد الدين خليل، ص: 50، الطبعة الثانية 1405هـ-1985م، المكتب الإسلامي بيروت. وانظر فيه أيضا أمثلة لتلك الاستشهادات القرآنية التي استعرضها عماد الدين مشيرا إلى المواضيع المرتبطة بها... ص: 50-57.
نفسه، ص: 56-57-58. وانظر أيضا كتابه التفسير الإسلامي للتاريخ في دراسته للواقعة التاريخية والمسألة الحضارية وسقوط الدول والحضارات.
انظر الخلدونية في مرآة فلسفة التاريخ لسالم حميش، ص: 114 مجلة الاجتهاد، ع: 22، س: 6، 1414هـ-1994م، يقول:
"أما إذا أعدنا الخطاب التاريخي الخلدوني إلى مادته العلمية، وخلصناه من حلقاته الوثوقية البارزة، فإنه قد يكتسي في العمق مع وجود فوارق، خاصيات ثلاث: المادية والوضعية والدائرية"، إن بحث ابن خلدون طبائع الأمور وأسبابها وعللها وقوانينها الداخلية، ثم تحليله للظواهر المجتمعية والمؤسسات من حيث الطبيعة والعمران البشري، لا يجعل منه مفكرا ماديا ووضعيا بالمرجعية الغربية للتفكير المادي والوضعي، وذلك لأن بحثه في العلل والظواهر غير مستقل مطلقا عن توظيفه لتكامل النظر الشرعي والعقلي للموجودات وفلسفتها.
تمهيد لتحقيق مقدمة ابن خلدون، 1/203.
مفهوم العقل لعبد الله العروي، ص: 199، الطبعة الأولى 1996م، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء.
التفسير الموضوعي لباقر الصدر، ص: 47.
مقدمة ابن خلدون، 2/526 تحقيق علي عبد الواحد وافي، الطبعة الثالثة دار نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، دون تاريخ.
المقدمة، 2/528، الحديث أخرج معناه الإمام أحمد في مسنده (مسند أبي هريرة) والطبراني في معجمه الكبير (كعب بن مالك).
المقدمة، 1/401.
المقدمة، 2/528.
المقدمة، 2/744.
نفسه، 1/328.
نفسه، 1/291.
نفسه، 1/282.
الموافقات في أصول الشريعة، 2/391-393، تعليقات عبد الله دراز، دار المعرفة، دون تاريخ.
ما يستخلص من قول الشاطبي أن اعتبار ظاهر الشرع ليس أمرا مرسلا لا علاقة له بقواعد العلم، وإنما يقوم على اعتماد مجموع من القواعد العلمية في فهم النص الشرعي وفي نقل الأخبار الشرعية والتاريخية، ولكن هذا المجموع ليس كافيا للاجتهاد في إدراك مقاصد الوحي الإلهي ومعرفة سنن الواقع واستكشاف قوانين الطبيعة التي جعلها الله تعالى حاكمة لسيرورتها وتبدلاتها وتسخيرها للإنسان، ولذا دعا الناس للسير في الأرض للبحث عنها من أجل بناء حضارة الاستخلاف. إن ابن خلدون لم ينقل التاريخ من ظاهر تاريخي أدبي لا يحكمه منطق علمي صارم إلى باطن تاريخي علمي مؤسس على قوانين برهانية وقواعد استدلالية متينة، بل عمل على كشف أن التاريخ في حقيقته بحث في الكليات الجامعة بين منطق القول والفعل فلا تنفع فيه الدراسات العلمية الجزئية الظاهرية التي تعتمد منطق القول فقط، وبهذا يبرز ربط ابن خلدون للتاريخ بالمجتمع الإنساني وتغيراته بدل ربطه بالأخبار فقط، ثم تبرز المفارقة بين منطق ظاهرية ابن حزم ومالكية ابن خلدون.
المقدمة، 1/333.
التفسير الإسلامي للتاريخ، ص: 176، الطبعة الخامسة مارس 1991م، دار العلم للملايين، بيروت.
المقدمة، 1/328.
اتجاهات نظرية في علم الاجتماع لعبد الباسط عبد المعطي، ص: 13، سلسلة عالم المعرفة، ع: 44، سنة 1401هـ- 1981م.
المقدمة، 1/331.
نفسه، 1/331.
نفسه، 1/337.
نفسه، 1/337.
نفسه، 1/339.
نفسه، 1/339.
نفسه، 1/339.
نفسه، 1/339.
نفسه، 1/473.
نفسه، 2/828.
نفسه، 2/499.
نفسه، 2/553.
المقدمة، 2/546. والجيل عند ابن خلدون "هو عمر شخص واحد من العمر الوسط فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته" 2/545.
نفسه، 2/754.
نفسه، 2/773.
نفسه، 2/579.
نفسه، 2/937
نفسه، 2/936.
فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، ص: 35، قدم له ألبير نصري نادر، الطبعة السادسة، دار المشرق، بيروت.
نفسه، ص: 28.
نظرية التأويل لمصطفى ناصف، ص: 70، الطبعة الأولى، 1420هـ- 2000م، جدة السعودية.
نفسه، ص: 70.
في فلسفة التاريخ، ص: 137-138، طبعة 1994م، دار النهضة العربية بيروت.
علم الاجتماع الخلدوني، لحسن الساعاتي، ص: 42، الطبعة الأولى، 1972، دار النهضة العربية بيروت.
المقدمة، 2/566.
نحن والتراث قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، ص: 329، الطبعة الرابعة، 1985، دار التنوير للطباعة والنشر بيروت.
علم الاجتماع الخلدوني: قواعد المنهج، لحسن الساعاتي، ص: 41.
بنية العقل العربي، ص: 551، الطبعة الثانية، 1991، المركز الثقافي العربي بيروت.
فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، ص: 50.
المستصفى، 1/286، بهامشه فواتح الرحموت، الطبعة الأولى، 1392هـ، المطبعة الأميرية مصر.
نفسه، 1/310.
مقدمة ابن خلدون، 1/323.
الموافقات، 2/16.
المقدمة، 2/467.
نفسه، 2/473.
المقدمة، 2/576.
المقدمة، 2/578.
نفسه، 2/585.
نفسه، 2/586.
نفسه، 2/885.
المقدمة، 2/891.
إن أشعرية ابن خلدون لم تمنعه من نفي التعليل في علم أصول الفقه، فإذا كان المشهور عن الأشاعرة نفي التعليل في علم الكلام، فإن الأصوليين منهم أثبتوه في علم أصول الفقه ومنهم الفخر الرازي الذي أثبت في كتابه المحصول حين كلامه عن إقامة الدلالة على أن المناسبة تفيد ظن العلية والظن واجب العمل به، فأكد "أن الله تعالى شرع الأحكام لمصلحة العباد، وهذه مصلحة، فيحصل ظن أن الله تعالى إنما شرعه لهذه المصلحة" المحصول، 2/328، الطبعة الأولى، 1406هـ-1988م، بيروت. وكان الأجدر بالشاطبي أن يتوجه بمنازعة التعليل لابن حزم الذي نفى التعليل الشرعي جملة وتفصيلا وليس للرازي.
الموافقات، 2/6.
في فلسفة التاريخ لأحمد محمود صبحي، ص: 139.
لقد كانت مناقضة ابن خلدون للمنطق الأرسطي واضحة في نقده صراحة لما آلت إليه دراسة المسند الأرسطي عند علماء الإسلام، فرفض إجراءه في الإلهيات وفي بحثه عن العمران البشري، وأبان أن القياس الأرسطي صوري لا ينتج معرفة ولا يستنبط مجهولا من معلوم. فقد عول في نظره التاريخي على إعمال العقل التجريبي والاستقراء المنتج لاكتشاف القوانين والسنن والمقاصد، وهذا الإعمال مستخلص من تفسيره الموضوعي للوحي الإلهي، بحيث فهم جيدا مقصد الشرع من التعقل والتدبر والتفكر والسير في الأرض والنظر فيها... ولذا لم يتصور ابن خلدون منذ البداية مشروعا أرسطيا ولم ينته إليه بعد تحقيقه (على عكس عبد الله العروي الذي يرى أنه انتهى إليه بعد تحقيقه، مفهوم العقل، ص: 221). فمشروعه الذي كان بالأساس حقا البحث في عوامل الاستقرار المجتمعي الذي يمكن الإنسان من الاكتمال وبلوغ الغاية بالانتقال من البداوة إلى الحضارة، كان قسطا مما يدعو إليه الوحي من إعمال للعقل الاستنباطي والتجريبي والمصلحي في فقه النص وفقه الكون. وكل هذا لا يعني أن ابن خلدون لم يستفد من المنطق الأرسطي الصوري، فقد ميز في معارضته له بين مرحلتين في تطور صناعته، الأولى حيث كان مجرد آلة والثانية حيث أصبح هدفا لذاته، فكان يدعو إلى اعتماد المنطق باعتباره آلة يهذب الفكر ويهيئه ليمتلك العقل التجريبي الذي هو أصل الصنائع، واستبعاده لدراسة المنطق لذاته كاستبعاده لدراسة علم الكلام لذاته ناتج عن إعماله للمنطق الإسلامي الذي يقوم على أن كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي.
المقدمة، 1/328.
في فلسفة التاريخ، ص: 139.
المقدمة، 1/291.
نفسه، 1/320.
نفسه، 2/566.
الموافقات، 1/78.
التفسير الإسلامي للتاريخ، ص: 175.
التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون، لعبد الحليم عويس، ص: 91. ما بين قوسين من إضافتي. كتاب الأمة العدد: 50، ذو القعدة 1416هـ، السنة 15.
 
أعلى