العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مراتب المفتين وأقسامهم، وخصوصية المذهب المالكي في ذلك.

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
مراتب المفتين وأقسامهم ، وخصوصية المذهب المالكي في ذلك.​


أ- مراتب المفتين وأقسامهم:

قبل الحديث عن مراتب المفتين ينبغي أن أقف على تعريف المفتي، فأقول وبالله التوفيــق:
المفـتي: هو المخبر بحكـم الله لمعرفته بدليله، وقيل: هو المخبر عـن الله بحكمــه وقيل : هو المتمكن من معرفة أحكام الوقائـع شرعا بالدليل مع حفظه لأكثر الفقــه[1]، أما علماء الأصـول، فيعتبرون المفتي والعالم والمجتهد والفقيه ألفاظا مترادفة؛ إلاّ أن أبا زهرة جعل الإفتاء أخص من الاجتهاد[2]، كما ذكرت سابقا.

أما مراتب المفتين فتختلف باختلاف نبوغهم في العلم و تفرغهم لـه؛ لذلك قام العلماء بتقسيم المفتين أو المجتهدين إلى مراتب وأقسام أختصر ذكرها فيما يأتي:

أولا – المجتهد المطلق:

وهو الذي حفظ وفهم أكثر الفقه وأصوله وأدلته في مسائله وكانت لـه أهلية تامة، تمكنه من معرفة أحكام الشرع فيها بالدليل، وسائر الوقائع إذا شاء، فإن كثرت إصابته صلح مع بقية الشروط أن يفتي ويقضي[3].

وسمي أيضا بالمجتهد المستقل؛ لأنه ليس تابعا لأحد فهو الـذي يرسم المناهـج لنفسه ويفرع عليها الفروع، وعرفه السيوطي قائلا: « هو الذي استقل بقـواعده لنفسه، يبني عليها الفقه خارجا عن قـواعد الـمذهب المقـررة »[4] .

ويشترط في المجتهد المطلق أن يعرف من الكتاب و السنة ما يتعلق بالأحكام. وحقيقة ذلك ومجازه، وأمره ونهيه، ومجمله ومبينه، ومحكمه ومتشابهه،... وأن تكون لـه معـرفة جيـدة بالسنة النبـوية بحيث يستطيــع المجتهد التمييز بين صحيحـــها وسقيمها، ومـراتب ما روي منها وطـرق الاحتجاج بها، وغير ذلك مما هو ضروري ولازم لمعرفة الحكم الشرعي، واشترطوا فيه أيضا: أن يعرف ما أجمع عليه الفقهاء و ما اختلفوا فيه، وأن يعرف القياس وشروطه، وأن يكون على قدر كاف من المعرفة باللغة العربية، وأساليبها ونحوها وصرفهـا[5].
ولا خـلاف بين العلمـاء في أن المجتهـد المطلـق أهـل للإفتاء، و أنه يصلح أن يكون مفتيا، بل تجب عليه الفتوى بما أداه إليه اجتهـاده، واقتضته الأدلـة دون تقليـد لغيـره[6].

ثانيا – المجتهد في مذهب معين:

وهذا المجتهد له أربعة أحوال، ولكل حالة حكمـــها:
الحالة الأولى: أن يتبع إمام مذهبه في مناهـج البحث والاستـدلال والاستنباط ولكن لا يقلده فيما وصل إليه هذا الإمام باجتهاده من أحكام تفصيلية، فلا يلتزم بفروع إمامه، وإنما يسلك طريقه في الاجتهاد والفتوى ويدعو إلى مذهب إمامه، ويطلق على أصحاب هذه المرتبة اسم "المجتهد المطلق المنتسب" و لمثل هذا المجتهد الحق في أن يكون مفتيا ومن هذا النوع صاحبا أبي حنيفة .

الحالة الثانية: أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه، مستقلا بتقريره بالدليل؛ و لكن لا يخرج على أصول إمامه، و قواعده مع قدرته على التخريج و الاستنباط و إلحاق الفروع بالأصول التي قررها إمامه، ولصاحب هذه الحالة الأهلية لأن يكون مفتيا، ولُقب أصحاب هذه الحالة بـ " أصحاب الوجـوه والطـرق"[7]، و"مجتهد المذهب"[8]، أما السيوطي فأطلق على أصحابها اسم[9] "مجتهد التخريج" [10].

الحالة الثالثة: أن لا يصل المجتهد إلى مرتبة أصحاب الحالة الثانية، و إنما يكون فقيه النفس، مع حفظه لفقه مـذهب إمــامه ومعـرفته بأدلته و قدرته على تقرير أقواله ونصرتها والاستدلال لها، كما أنه قادر على الترجيح بين أقوال إمامه المذكورة في المذهب ، ولصاحب هذه الحالة الحق في الإفتاء و أن يصير مفتيا، وتكون فتواه مقبولة، و إن لم تبلغ فتوى أصحاب الحالة الثانية، ويطلق على أصحاب هذه الحالة اسم"مجتهد الترجيح"[11].

الحالة الـرابعة: أن يكـون قادرا على فهـم فقه مـذهبه مـع حفـظه لهذا الفقه، أو لأكثره و فهمه لضـوابطه و تخريجـات أصحابه، و يستطيع الرجـوع إلى مصادر هذا المذهب؛ غير أن عنده ضعفا في تقرير أدلته وتحـرير أقيستـه[12] .

ولصاحب هذه الحالة أن يفتي وأن يصـير مفتيا؛ ولكـن في المسائـل التي بيّن أحكامها أصحـاب الـمذهب والمجتهـدون فيه، وكذلك لـه الإفتاء فيما ينـدرج تحت ضابط مفهـوم وواضح من ضوابط المذهب، ومـن كانت هـذه حالته سمّيَ « مجتهد الفتـوى »[13].

وقد جـرى على هذا التقسيم كثير من أهـل العلم، وإن اختلفت عباراتهـم بعـض الشـيء[14]، وبهذا كانت طبقات المفتين خمسا؛ إلاّ أن ابن حمـدان زاد عليها طبقتين:

ثالثا- المجتهد في نوع من العلم :

وهو الذي عرف القياس وشروطه، فله أن يفتي في مسائل قياسية، وكذلك من عرف الفرائض والمواريث و أصولها و قواعدها له أن يفتي فيها.

وهذا المجتهد لا يصلح أن يُعيَّن مفتيا؛ لأن المفتي لا يفتي فقط في هذا النوع من العلم الذي علمه، ولكن له أن يفتي فيما علمه دون أن يعين مفتيا[15].

رابعاً- المجتهــد في مسألة أو مسائـل معينة :

هـو مـن كان مجتـهـدا فـي مسـألـة معيـنة أو مسـائل مـن الفـقـه ، فلـه أن يفـتي فيهـا دون غيــــــرها، قـال ابـن حمـدان : الأظــهـر جـوازه، ويحتـمـل المنـع؛ لأنه مظــنـة القصـــــور والتقصيــر[16] .

وقد ارتـضى أكثر الحنابلة هذا التقسيـم، ونقلـوه عنــه[17].

ب- خصوصية المذهب المالكي في تقسيم المفتين:

لقد قسم ابن رشد المفتين إلى طوائف ثلاثة، وعلى هذا التقسيم سار القرافي[18] في الفروق؛ أما ابن رشـد فقال: « إن الجماعة التي تنسب إلى العلوم وتتميز عن جملة العوام بالمحفوظ والمفهوم تنقسم إلى ثلاث طوائف»:

أ – طائفة منهم اعتقدت صحة مذهب الإمام مالك تقليدا من غير دليل، فأخذت نفسها بحفظ مجرد أقواله وأقوال أصحابه في مسائل الفقه ، دون أن تتفقه في معانيها فتميز الصحيح منها من السقيم، فهذه لا يصح لها الفتوى بما علمته وحفظته ، إذ لا علم عندها بصحة شيء من ذلك، إذ لا تصح الفتوى بمجرد التقليد من غير علم، ويصح لها في خاصتها، إن لم تجد من يصح لها أن تستفتيه أن تقلد مالكا أو غيره من أصحابه فيما حفظته من أقوالهم، وإن لم يعلم من نزلت به نازلة وحفظت هذه الطائفة فيها من قول مالك وأصحابه، فيجوز للذي نزلت به النازلة أن يقلد أحد هؤلاء الفقهاء فيما حكاه من قول مالك، ويقلد مالكا في الأخـذ بقوله فيها، وذلك أيضا إذا لم يجد في عصره من يستفتيه في نازلته فيقلده فيها.

ب– الطائفة الثانية: اعتمدت صحة مذهب مالك بما بان لها من صحة أصوله، فأخذت نفسها بحفظ مجرد أقواله وأقوال أصحابه في الفقه، وتفقهت في معانيها، فعلمت الصحيح منها الجاري على أصوله من السقيم الخارج عنها، إلا أنها لم تبلغ درجة التحقيق بمعرفة قياس الفروع على الأصول.

وهذه يصح لها أن تفتي إذا اُستُفتِيَت بما علمته من قول مالك وقول غيره من أصحابه، إذا كانت قد بانت لها صحته، كما يجوز لها في خاصتها الأخذ بقوله إذا بانت لها صحته، ولا يصح لها أن تفتي بالاجتهاد فيما لا تعلم فيه نصاً من قول مالك وقول غيره من أصحابه، وإن كانت بانت لها صحته؛ إذ ليست ممن كمل لها آلات الاجتهاد التي يصح لها بها قياس الفروع على الأصول.

ج– الطائفة الثالثة: اعتقدت صحة مذهبه بما بان لها أيضا من صحة أصوله، فأخذت نفسها بحفظ أقواله وأقوال أصحابه في مسائل الفقه، ثم تفقهت في معانيها فعلمت الصحيح منها الجاري على أصوله من السقيم الخارج عنها، وبلغت درجة التحقيق بمعرفة قياس الفروع على الأصول، لكونها عالمة بأحكام القرآن، عارفة بالناسخ والمنسوخ، والمفصل من المجمل، والخاص من العام، عالمة بالسنن الواردة في الأحكام، مميزة بين صحيحها من معلولها، عالمة بأقوال العلماء من الصحابة والتابعين، وبعدهم من فقهاء الأمصار، وبما اتفقوا عليه واختلفوا فيه، عالمة من علم اللسان بما يفهم به من معاني الكـلام، عالمة بوضـع الأدلـة في مـواضعـها؛ وهـذه هـي التي يصـح لهـا الفتـوى عمـوما[19].

ويلاحظ على تقسيم ابن رشد لمراتب الفقهاء أنه اقتصر على ذكر ثلاث مراتب فقط، ولم يُشر إلى المجتهد المطلق المستقل، والمطلق المنتسب؛ ذلك لأن المرتبة الأولى لم تكن موجودة إذ لم يبق في عصره اجتهاد في الأصول، ومناهج الاستدلال والاستنباط، وإنما الذي بقي هو التفريع، أما مرتبة "المجتهد المطلق المنتسب" فلم يذكرها؛ إلاّ أن هناك من أدرج فيها ابن القاسم، وأشهب، وابن وهب[20]، ويلاحظ أن ابن رشد قد استرسل في شرح هذه المراتب نظرا لخطورة منصب الإفتاء وأهميته.

وقد نقل ابن فرحـون عن المـازري: أن الـذي يتصـدى للفتوى، أقـل مراتبه أن يكــون قد استبحر في الاطــلاع على روايات الــمذهب، وتأويل الأشياخ لــها، وتوجيههم لما وقـع من الاختـلاف فيهـا وتشبيههـم مسائــل بمسائل سبق إلى الذهن تباعدها، وتفريـعهم بين مسائــل يقــع فـي النـفـس تقــاربهــا [21].

المصدر : مقتطف من رسالة ماجستير موسومة بـ "منهجية الفتوى في المدرسة المالكية الأندلسية الإمام الشاطبي نموذجا" لدريد الزواوي


---------------------------------------------

[1] - صفة الفتوى، ص4.

[2] - أبو زهرة، أصول الفقه، ص349.

[3] - السيوطي، الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أنّ الاجتهاد في كل عصر فرض، ت: خليل الميس، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983، ص112، 113.

[4] - المصدر نفسه، ص113.

[5]- صفة الفتوى، ص15، 16؛ انظر: عبد الكريم زيدان، نظام الإفتاء، ص49 .

-[6]الشاطبي، الفتاوى، مقدمة المحقق: محمد أبو الأجفان، ص 73، و انظر: نظام الإفتاء، ص50.

[7]- ابن القيّم، إعلام الموقعين، 4/23.(ط:دار الجيل)؛ ابن الصلاح، أدب الفتوى، ص42، 43.

[8]- أبو زهرة، أصول الفقه، ص344.

[9] - الرد على من أخلد إلى الأرض، ص116.

[10]- التخريج: هو بناء فرع على أصل بجامع مشترك، وله طريقان: الأول يكون من القواعد الكلية التي جمعها القرافي في فروقه، والثاني: يسمى التخريج بالنقل، بأن يجعل نص الإمام أصلا، ويقاس= =عليه.انظـر: السنوسي، بغية المقاصـد وخـلاصة الـمراصد، مصـر، مطبعة المعاهـد، ط:1344، ص26، 27؛ ابن بدران الدمشقي، المدخل إلى مذهب الإمام أحمدبن حنبل، مصر، الطباعة المنيرية، ص190، نوار بن الشلي، التخريج المذهبي أصـوله ومناهجـه، الرباط،1997، ص52.

-[11]انظر: يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين، التخريج عند الفقهاء والأصوليين، الرياض، مكتبة الرشاد،1414هـ، ص313.

[12]-ابن الصلاح، أدب الفتوى، ص47.

[13] - الرد عـلى من أخلد إلى الأرض، ص116.

[14]- وقد قسم المتأخرون المفتي إلى : مستقل، وغير مستقل. انظر تفصيل هذا التقسيم وغيره : جمال الدين القاسمي، الفتوى في الإسلام، ص 63-69. وانظر: إبراهيم الحفناوي، تبصير النجباء، ص38-41 ؛ إذ قسّم المجتهدين إلى أربع مراتب: مجتهد مستقل، ومجتهد منتسب، ومجتهد المذهب، ومجتهد الفتوى.

وانظر أيضا: إعلام الموقعين، 1/212-216؛ أبو زهرة، أصول الفقه، ص 365؛ المجموع شرح المهذب، 1/43؛ الرد على من أخلد إلى الأرض، ص113، 114؛ ابن النجار، شرح الكوكب= =المنير، 4/47؛ الشيرازي، شرح اللمع، ت: عبد المجيد التركي، بيروت، دار الغرب، ط1، 1988، 2/ 47 ؛ عباس الزروي، نظرية الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، جدة، دار الشروق، ط1، 1938، ص 47.

[15]- نظام الإفتاء، ص 51، 52، 53؛ راجـع: صفــة الفتوى، ص 23، 24.

- [16] صفة الفتوى، ص 23، 24.

[17] - علاء الدين المرداوي، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، ت: محمد حامد الفقّي، القاهرة، دار السنة المحمدية، 12/258 وما بعدها.



[18] - البقوري، ترتيب الفروق واختصارها .ت: عمر بن عباد، المغرب ، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1994، 1/349وما بعدها؛ القرافي، الفروق، 2/107.(ذكرها في الفـرق الثامن والسبعين قاعدة: "من يجوز له أن يفتي ومن لا يجوز له ذلك " ).

[19]- الونشريسي، المعيار 10/32 وما بعدها؛ والسنوسي، بغية المقاصد وخلاصة المراصد، ص 34،35.

[20] - انظر: أبو زهرة، أصول الفقه، ص342 وانظر: مالك، له، ص353 ؛ عبد السلام العسري، نظرية الأخذ بما جرى العمل به في المغرب في إطار المذهب المالكي، المغرب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1996، ص359.

[21] - ابن فرحون، تبصرة الحكام، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، ط:1، 1986، 1/76.
 
إنضم
26 فبراير 2010
المشاركات
596
الكنية
أبو الفضل
التخصص
الفقه المقارن
المدينة
الخليل
المذهب الفقهي
فقه مقارن
رد: مراتب المفتين وأقسامهم، وخصوصية المذهب المالكي في ذلك.

ولمزيد من الفائدة انظر هذا الموضوع:
مراتب المجتهدين في الدين
http://www.mmf-4.com/vb/showthread.php?t=8123
 
أعلى