العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مقدمة في فقه الاستعمار الاستيطاني

د.محمود محمود النجيري

:: مشرف سابق ::
إنضم
19 مارس 2008
المشاركات
1,171
الكنية
أبو مازن
التخصص
الفقه الإسلامي
المدينة
مصر
المذهب الفقهي
الحنبلي
حتى يكون الإفتاء إسلاميًا


مقدمة في


فقه الاستعمار الاستيطاني


الفقه في معناه الأولي، والأعمّ، والأدقّ، هو: الفهم، والوعي..
ولأن الإسلام دين الجماعة، ولأن شريعته- التي هي مرجعية الفقه الإسلامي- هي دين ودنيا، كان الفقه الإسلامي أكثر من وعي بالأحكام، وأكبر من فهم للنصوص والمأثورات الدينية، إذ لابد فيه مع فقه "الأحكام" من فقه "الواقع" الذي تتنزل عليه هذه الأحكام، ومن الوعي بمصالح الجماعة والأمة، ومن عقد القران بين فقه الأحكام وفقه الواقع، أي تنزيل الحكم على الواقع؛ تحقيقًا للمصالح الشرعية المعتبرة لأمة الإسلام وجماعة المسلمين..
وهذا المنهاج الإسلامي في النظر الفقهي، هو الذي يعصم الفقه الإسلامي من الفصام النكِد بين النصوص والمأثورات والتراث، وبين الواقع المعيش والمصالح الشرعية المعتبرة لجماعة المسلمين...
وإذا كان هذا الفصام النكد، قد أثمر في حياتنا الفكرية "فقهاء بالأحكام" لا دراية لهم بفقه الواقع الذي يعيشون فيه، و"خبراء بالواقع" لا دراية لهم بالشريعة التي أنزلها الله، لتدبير وحكم حركة الواقع الذي يعيش فيه المسلمون.. فإن التأليف الخلاق بين "فقه الواقع" و"فقه الأحكام" هو السبيل إلى إخراج حياتنا الفكرية وثقافتنا الإسلامية من هذا الفصام النكد الذي يشكو منه الكثيرون..
بل لا نغالي إذا قلنا: إن منهاج النظر الإسلامي إنما يدعونا إلى البدء بفقه الواقع، حتى نبحث لمشكلاته عن الأحكام والحلول الملائمة في فقه النصوص والمأثورات. فالشريعة الإسلامية، ومطلق الدين إنما جاء هداية إلهيَّة لتحقيق المصالح الشرعية المعتبرة، والسعادة الإنسانية في المعاش والمعاد... ففقه الواقع، والبحث عن ما يحقق مصالح جماعة المسلمين هو نقطة البدء والانطلاق، وفقه الأحكام هو السبيل لضبط المصالح بضابط "الاعتبار الشرعي"، وذلك تمييز لهذه المصالح عن "المنفعة الدنيوية الصرفة"، المنفلتة من ضوابط الدين..

*****

وإذا نحن طبقنا هذا المنهاج في النظر على القضية الفلسطينية، وصراع الأمة العربية والإسلامية مع الصهيونية والإمبريالية حول القدس وفلسطين، لضبط الفتاوى والاجتهادات والسياسات المتعلقة بهذه القضية وهذا الصراع، فلابد أن نبدأ بفقه واقع القضية الفلسطينية، والوعي بالحقائق الواقعية لهذا الصراع، وذلك حتى نبحث لمشكلات هذا الواقع عن إجابات على علامات استفهامه، وعن الأحكام الشرعية المحققة لمصالح الأمة في قضايا هذا الصراع..
ولفقه هذا الواقع، وللوعي بالحقائق التاريخية- الصلبة والعنيدة، والمستعصية على الخلاف والاختلاف- فإننا نسوق عددًا من هذه الحقائق والوقائع الحاكمة في فقه ووعي طبيعة هذا الصراع المفروض على أمتنا:
* فمن الناحية التاريخية- للتاريخ القديم- لا وجود "لحق يهودي تاريخي" في أرض فلسطين على وجه القطع والإطلاق..
فعرب فلسطين الحاليون هم الامتداد للكنعانيين، الذين هم من أقدم الجماعات البشرية التي وعى التاريخ سكناهم لأرض فلسطين، وأصل الكنعانيين هؤلاء أصل عربي خالص، لأنهم جزء من الهجرات العربية التي خرجت من شبه الجزيرة العربية إلى أرض فلسطين، التي سُميَتْ، لذلك، في فجر تاريخها بـ "أرض كنعان".
ولقد وعت ذاكرة التاريخ هذه الحقيقة قبل 4500 عام من تفجر الصراع العربي الصهيوني، ومن دعاوي الحق التاريخي لليهود في فلسطين.. كما وعت ذاكرة التاريخ أن "اليبوسيين" الذين سكنوا فلسطين قديمًا، هم الآخرون عرب، وهم الذين بنوا مدينة القدس في الألف الرابع قبل الميلاد، أي قبل ثلاثة آلاف عام من الوجود الهامشي لليهود العبرانيين على مقربة من القدس!
* وإذا كان اليهود هم أتباع الشريعة اليهودية، التي جاء بها موسى r، فإن موسى قد ولد، ونشأ، وبعث، ومات، ودفن في مصر، ولم تقم بين اليهودية هذه وبين فلسطين، في ذلك التاريخ، أدنى علاقة.. فلا توراة موسى نزلت بالقدس أو فلسطين- كما هي علاقة الإسلام والقرآن بالحجاز مثلا.. وكما هي علاقة النصرانية والإنجيل بفلسطين- وإنما نزلت توراة موسى بمصر، وبلغتها الهيروغليفية!
ولقد رفض أتباع موسى- اليهود- دعوته لدخول الأرض المقدسة- أرض كنعان- فعاشوا وماتوا في التيه- بمصر- دون أن تكتحل عين أي منهم برؤية القدس وفلسطين..
* أما العلاقة اليهودية ببعض أرض فلسطين، فهي علاقة طارئة ومؤقتة، بدأت في عصر "يوشع بن نون"، الذي غزا بعض أرض فلسطين، بعد 1500 عام من التاريخ العربي المكتوب لفلسطين- والذي ظل وجودًا قلقًا ومتشرذمًا- سوى نحو أربعة قرون- أي نصف عمر الوجود العربي في بلاد الأندلس- ولقد شارك في إزالة واستئصال هذا الوجود اليهودي من أرض فلسطين كل من الآشوريين والفرس والفراعنة والإغريق والرومان، بينما ظل الوجود العربي في فلسطين هو الراسخ والدائم منذ فجر تاريخ هذا البلد وحتى هذه اللحظات.
هذا عن التاريخ القديم... وما يرتب من حقوق.. مع افتراض جواز توزيع خرائط وحدود الأوطان المعاصرة بناء على ذلك التاريخ القديم.. ولو جاز هذا الافتراض لطالب المصريون بإمبراطورية رمسيس الأكبر (1290-1224 ق.م)، وطالبت إيران بمملكة قمبيز (529-521 ق.م)، وطالبت مقدونيا بإمبراطورية الإسكندر المقدوني (356-323 ق.م).. ولتحول العالم إلى صورة عبثية ليس لها نظير!
* أمَّا في العصر الحديث، فلقد بدأت علاقة المشروع "اليهودي- الصهيوني" بأرض فلسطين كثمرة للغزوة الاستعمارية الأوربية الحديثة، التي بدأت بحملة بونابرت (1769- 1821م) الفرنسية على مصر(1213هـ- 1798م) أواخر القرن الثامن عشر الميلادي.. فلقد أعلن بونابرت- وهو في طريقه من "مرسيليا" إلى "الإسكندرية"- عزمه على تجنيد عشرين ألفًا من أبناء الأقليات الدينية في الشرق العربي الإسلامي، ليكونوا مواطئ لأقدامه الاستعمارية، وثغرات اختراق لوطن العروبة وعالم الإسلام، وفي إطار هذا المُخطط، وسعيًا لتحقيق هذا العزم، أصدر "بونابرت" نداءه إلى يهود العالم- الذين ينحدر أكثر من 80% منهم من نسْل "يهود الخزر"، الذين تهَوَّدوا في منتصف القرن الثامن الميلادي، والذين لا علاقة لهم باليهود العبرانيين، ولا ببني إسرائيل.. أصدرَ "بونابرت" نداءه إلى هؤلاء اليهود- الذين نشئوا في آسيا الوسطى، والذين لا علاقة لهم بفلسطين- طالبًا منهم القيام بدور الشريك الأصغر في مشروعه الإمبريالي، لإقامة الإمبراطورية الإغريقية الاستعمارية، التي بناها الإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد، والتي قهرت الحضارات الشرقية عشرة قرون، حتى أزالتها الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي..
ولقد قال "بونابرت" في هذا النداء- الذي أصدره إبَّان حصاره لمدينة "عكا" (1799م)، مخاطبًا الجماعات اليهودية:
"أيها الشعب الفريد!.. إن فرنسا تقدم لكم يدها الآن، حاملة إرث إسرائيل.. إن الجيش الذي أرسلتني العناية الإلهية به.. قد اختار القدس مقرًا لقيادته، وخلال بضعة أيام سينتقل إلى دمشق، التي استهانت طويلا بمدينة داود وأذلتها- (؟!)- يا ورثة فلسطين الشرعيين- (؟!)- إن الأمة الفرنسية تدعوكم إلى إرثكم، بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء"[1]!!
ومنذ ذلك التاريخ- على وجه التحديد- بدأت الشراكة بين قطاعات من الجماعات اليهودية وبين المشروع الإمبريالي الغربي ضد استقلال الأمة الإسلامية وتحررها وتقدمها.
* وعندما تراجعت ريادة الاستعمار الفرنسي في هذا المشروع الإمبريالي الغربي، وتسلمت الإمبراطورية البريطانية قيادة هذا المشروع، تحوّل ولاء الجماعات اليهودية إلى الاستعمار الإنجليزي، الذي تبنى مشروع الشراكة هذا.. فسعت إنجلترا، في العقد الرابع من القرن التاسع عشر الميلادي، إلى إقناع السلطان العثماني- سرًا- بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، لإقامة كيان معادٍ لمشروع محمد على باشا (1184- 1265هـ، 1771-1865م) الذي سعى إلى تجديد شباب الشرق العربي الإسلامي، للحيلولة دون سقوط أقاليمه في قبضة الاستعمار الأوربي، الذي كان يحرس أمراض "دولة الرجل المريض"- العثمانية- حتى يحين الحين لاتفاق امبراطورياته الاستعمارية على توزيع ووراثة أقاليمها وولاياتها.. فكتب وزير الخارجية الإنجليزي "اللورد بلمرستون" (1784- 1865م) إلى السفير الإنجليزي في الآستانة" عام 1840م طالبًا منه إقناع السلطان العثماني بالسماح بهذه الهجرات اليهودية إلى فلسطين، "حتى يكونوا حجر عثرة أمام محمد علي باشا ونواياه والأغراض التي قد تخطر بباله، أو بال من يخلفه"[2]!!
فالهدف الثابت من وراء زرع هذا الكيان اليهودي الغريب في أرض فلسطين، هو منذ بداية تفكير الاستعمار الغربي في هذا المشروع: إقامة عازل يهودي، يمثل قاعدة استعمارية غربية، وامتداد للحضارة الأوربية في قلب الشرق العربي الإسلامي، للحيلولة دون الأمة الإسلامية والوحدة والحرية والنهوض.
* وعندما لحقت الإمبراطورية البريطانية بنظيرتها الفرنسية- في التراجع والغروب- وتسلمت الولايات المتحدة الأمريكية زمام القيادة للمشروع الاستعماري الغربي، بعد الحرب العالمية الثانية، تحولت الشراكة وتحول الولاء اليهودي إلى أمريكا، على النحو الذي تجسده الوقائع المأساوية لهذا الصراع منذ قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين (1367هـ/ 1948م) وحتى كتابة هذه السطور!
* وإذا كان فقه الواقع، هو الفيصل في إقامة الحُجَّة على انعدام مشروعية العلاقة بين اليهود وبين فلسطين- في العصر الحديث، كما كان حال هذا الواقع في التاريخ القديم- فيكفي أن نشير إلى منطق الأرقام، الذي يعلن أن لا شرعية، ولا حق لليهود في أرض فلسطين.. والذي يفصح عن أن علاقة اليهود الحديثة والطارئة بأرض فلسطين هي علاقة الاستعمار الاستيطاني، الذي تمَّ في ظل هذه الشراكة بين الحركة الصهيونية وبين الاستعمار الإنجليزي والاستعمار الأمريكي:
- ففي عام 1852م لم يكن الوجود اليهودي بفلسطين يتعدى 000،13 نسمة، أي نسبة 4 % من سكان فلسطين..
- وعند قيام الحرب العالمية الأولى 1914م كان عدد اليهود في فلسطين قد بلغ000،60 نسمة، يحمل منهم الجنسية العثمانية 000،39 نسمة فقط، والباقون إما زوَّار، أو حُجّاج، أو متسللون غير شرعيين... ولقد حدثت هذه الزيادة بفعل الهيمنة الإنجليزية على السياسة العثمانية، وبسبب الضعف والفساد اللذين أصابا الإدارة العثمانية، وبالرغم من وعي السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (1258- 1336هـ، 1842-1918م) بخطر الهجرات اليهودية على فلسطين.
وفي مقابل هذا الوجود الهامشي لليهود في فلسطين 1914م، كان تعداد الفلسطينيين في ذلك الوطن يومئذٍ 000،683 نسمة، منهم 000،602 نسمة من المسلمين، و000،81 نسمة من العرب المسيحيين.
- فلما أعطت انجلترا- التي لا تملك- لليهود الصهاينة- الذين لا يستحقون- "وعد بلفور" في 2نوفمبر 1917م، واحتلت جيوشها فلسطين 1918م، واستأثرت باستعمارها- تحت اسم "الانتداب" وفق اتفاقيات "سان ريمو" في إبريل 1920م، وأعطت "عصبة الأمم" لهذا "الانتداب" و"لوعد بلفور"- شرعية دولية في 1922م فتحت انجلترا أبواب فلسطين للاستعمار الاستيطاني الصهيوني وللهجرات اليهودية ولبناء المستعمرات "الكيبوتزات"، فقفز تعداد اليهود في فلسطين من 000،55 نسمة عام 1918م، إلى 000،646 نسمة في 1948م.. أي من 8 % من إجمالي سكان فلسطين إلى 31% من السكان. وبعد أن كانت ملكية اليهود للأرض في فلسطين لا تتجاوز 2%- أي نصف مليون دونم – بلغت في 1948م: 7،6%- أي 000،008،1 دونم من أرض فلسطين.
- ومع كل هذا الذي صنعه الاستعمار الإنجليزي لليهود، سكانًا وتملكًا للأرض، طوال ثلاثين عامًا من الحكم الاستعماري لفلسطين (1918-1948م) ظل الوجود اليهودي في فلسطين هامشيًا، وظل حتى عام 1948م 69% من سكان فلسطين عربًا، و3،93 % من أرض فلسطين مملوكة لسكانها العرب.
- لكن قرار التقسيم لفلسطين، الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة- القرار 181 في 29 نوفمبر 1947م- قد أعطى لليهود- الذين لم يكونوا يملكون من أرض فلسطين سوى 7،6%، أعطاهم الحق في دولة مساحتها 54% من أرض فلسطين!!.. وقرر للعرب- الذين كانوا يملكون يومئذٍ3،93 % من أرض فلسطين- دولة مساحتها 45% من أرض فلسطين!!.. واستثنى هذا القرار مدينة القدس- 1% من مساحة فلسطين- من هذا التقسيم..
- ولم تكتف الصهيونية- التي ضمنت لها أمريكا التفوق الحربي والحماية في المنظمات الدولية- لم تكتف بهذا "السخاء" الذي جاءها من "الشرعية الدولية" فضمت- بالحرب، وبخرْق الهُدنة- المساحات الجديدة من الأرض والقرى والمدن الفلسطينية، حتى ارتفعت بما تحت أيديها من 54% من مساحة فلسطين إلى 77% من مساحتها.. وفي سبيل ذلك ارتكبت عصاباتها المسلحة 34 مجزرة، وهدمت وأزالت 478 قرية فلسطينية، محتها من الوجود، وسَعَت- بالإعلام والفكر- إلى محوها من ذاكرة التاريخ!
- ورغم أن العرب داخل حدود الكيان الصهيوني- الذي قام عام 1948م – يمثلون خمس السكان- مليون من خمسة ملايين- فلقد جردهم الصهاينة من أرضهم، حتى أصبح خُمس السكان هؤلاء لا يملكون سوى 3% من الأرض، بينما يملك اليهود 97% من الأرض التي احتلت عام 1948م!!
- أما القدس، التي ظلت عربية، ثم إسلامية منذ تأسيسها على يد العرب اليبوسيين في الألف الرابعة قبل الميلاد- أي قبل ثلاثة آلاف عام من الوجود العبري الطارئ والمؤقت على مشارفها.. والتي لم يكن بها من اليهود في العصر الحديث سوى عدد ضئيل من العائلات- لم تتعد ملكيتهم في القدس قبل عام 1948م من 18% من مساحتها، فلقد سيطر اليهود- وخاصة بعد عام 1967م، على 86 % من مساحتها، وقفزوا بالوجود السكاني اليهودي فيها إلى 000،450 نسمة في مقابل 000،200 نسمة من العرب يعيشون تحت الحصار! وامتدت المصادرات الصهيونية إلى القدس الشرقية، لتشمل "حائط البراق"، و"حي المغاربة"، وأربعة أنفاق تحت الحرم القدسي، تهدد وجوده.. وذلك غير ما صودر من الأرض الفلسطينية حول القدس، والتي تحولت إلى حزام من المستعمرات التي ضمت إلى "القدس الكبرى"، والى عازل بين القدس وبين الضفة الغربية التي احتلت عام 1967م، وفوق ذلك تشكلت التنظيمات الإرهابية الصهيونية- 25تنظيمًا- التي تعمل بالدعم والإمكانات اليهودية والأمريكية- لهدم الحرم القدسي، وإقامة "الهيكل" المزعوم على أنقاضه!!
- وغدا المشهد المأساوي لواقع هذا الاستعمار الاستيطاني "الصهيوني- الإمبريالي" على أرض فلسطين، على النحو الذي تجسده هذه الأرقام:
§ فاليهود، الذين كان تعدادهم في فلسطين عام 1852م 000،13 نسمة، أصبح تعدادهم في فلسطين اليوم أربعة ملايين!! وبعد أن كانوا لا يملكون من أرض فلسطين عام 1918م سوى 2% أصبحوا يملكون ويسيطرون الآن على كل أرض فلسطين!!
ولقد أدَّى هذا الاستعمار الاستيطاني، والاحتلال اليهودي لأرض فلسطين، إلى طرد وتهجير ستة ملايين فلسطيني- منهم خمسة ملايين طرد آباؤهم عام 1948م، ومليون طرد آباؤهم فيما بعد عام 1948م، يعيشون جميعًا في المنافي والمخيمات والمستنقعات، على الصدقات! ويكونون أكبر كتلة من اللاجئين وأقدم مأساة على النطاق العالمي!.. وأكبر ضحية لأبشع وآخر نماذج الاستعمار الاستيطاني عبر تاريخ هذا اللون من ألوان الاستعمار والاقتراع والإحلال والاحتلال.. أما الأربعة ملايين يهودي الذين حلوا محل هذه الملايين العربية الفلسطينية،فإن 96% منهم قد جئ بآبائهم وأجدادهم من مختلف بلاد الدنيا؛ ليغتصبوا الأراضي والمنازل والسيادة والأمن والماء والهواء على أرض فلسطين[3].
§ إذن، فكل اليهود على أرض فلسطين هم "لصوص.. ومغتصبون.. ومحاربون"، حتى ولو لم يَلبَسوا "الكاكي"، أو يدخلوا "الجيش"، أو يَحْملوا "السلاح". فالتمييز هنا، والقسمة في هذا المقام هي بين "محارب"، و"مسالم". وليست بين "عسكري" و"مدني"، فالمستوطنون المغتصبون للأرض والمنازل والديار والأمن والماء والهواء هم "المحاربون"، رجالا كانوا أم نساء، وبصرف النظر عن الزي يرتديه هؤلاء المغتصِبون، وعلى نوع السلاح الذي "يحاربون" به: طائرات، أو دبابات، أو مدافع كان هذا السلاح، أم جرافات ومحاريث وأفكارًا، فجميعها أسلحة فتَّاكة، يدعم بعضها البعض الآخر، وتتكامل جميعًا في الاغتصاب والاستعمار الاستيطاني لأرض فلسطين.
§ كما أن قدم تاريخ السرقة والاغتصاب- في الاستعمار الاستيطاني- لا يرتب شرعية ولا مشروعية ولا حقوقًا للصوص المغتصبين، وإلا لجاز "الإفتاء" بأن لأسبانيا حقوقًا مشروعة في أرض "سبتة" و"مليلة" العربيتين المسلمتين المغربيتين- على الساحل الأطلسي للمغرب- وهما محتلتان ومستعمرتان استعمارًا استيطانيًا منذ 1415م، و1497م، أي قبل أربعة قرون ونصف القرن من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لأرض فلسطين.
§ وإذا كان زنوج جنوب أفريقيا قد رفضوا الاستعمار الاستيطاني الأوربي لبلادهم، والذي بدأته "شركة الهند الشرقية الهولندية" 1652م، وظلوا يجاهدون قرابة أربعة قرون حتى أزالوا هذا الاستعمار الاستيطاني في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، وذلك دونَ أن يَظهر بين هؤلاء الزنوج من "يُفتي" بأن للمستعمرين البيض تاريخًا في أرض جنوب أفريقيا، أو أن هؤلاء المستعمرين هم "مدنيون أبرياء"، وليسوا "محاربين"؛ لأنهم لا يَلبَسون "الكاكي، ولا يحملون "الرُّتب العسكرية"! فغير معقول، ولا مقبول أن يظهر بين أمَّة الإسلام، التي جعل رسولها r الجهاد ذروة سنام الإسلام، وجعل رهبانية هذه الأمة هي الجهاد، وجعل هذا الجهاد- بما فيه القتال- فرْض عين على كل مسلم ومسلمة- إذا احتل العدو شبرًا من أرض المسلمين- وفلسطين ليست شبرًا، وإنما مساحتها 900،27 من الكيلومترات المربعة، وهي ليست مجرد "أرض" ، وإنما هي "أرض مقدسة".
غير معقول، ولا مقبول، أن يَظهر في أمَّة الإسلام مَن "يُفتي" بأن للصوص الاستعمار الاستيطاني حقا في أولى القبلتين وثالث الحرمين، والأرض التي بارك الله فيها عندما جعلها مسرى الرسول الخاتم r، ومعراجه إلى السموات العلى.
فالإفتاء- الذي يستحق صاحبه حمل أمانة "التبليغ عن رسول الله r"، لابد أن يبدأ بفقه الواقع، واقع الاستعمار الاستيطاني، القائم على اغتصاب أرض القدس وفلسطين، ذلك الذي تحالفت فيه الشراكة "الإمبريالية- الصهيونية" على اغتصاب المنازل والديار والأرض والأمن والماء والهواء من أصحابها الشرعيين، فلا حُرْمة للصٍّ مغتصِب.
وإذا كانت "اتفاقيات جنيف" التي أقرتها الأمم المتحدة عام 1949م، قد جعلت إقامة المحتل للمستوطنات على الأرض المحتلة، وتغيير طبيعة هذه الأرض المحتلة "جريمة حرب ضد الإنسانية"، فإن الكيان الصهيوني بكامله هو "جريمة حرب كبرى ضد الإنسانية"، لأنه ليس أكثر من استعمار استيطاني، منذ أول مستعمرة أقامها الصهاينة على أرض فلسطين، إلى أحدث المستعمرات التي أقاموها هناك.
إننا- بِلُغَة الفقه الإسلامي- أمام "جريمة حرابة مركبة"، مستكملة لأبشع جرائم الحرابة التي عرفها التاريخ:]إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ.إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[ (المائدة: 33-34).
§ وإذا كانت الصراعات ذات العمق التاريخي، والتي تختلط وتجتمع فيها الأبعاد والعوامل الوطنية والقومية والدينية، والتي تتداخل فيها المصالح المحلية والإقليمية بالأطماع الدولية- وفي المقدمة منها، وكنموذج لها الصراع العربي- الصهيوني- فإن حل مثل هذا الصراع نادرًا ما يتم دفعة واحدة، وخاصة في الفترات التي تشهد اختلالات في موازين القوى بين أصحاب الحق وبين قوى الهيمنة والاغتصاب- كما هو حادث الآن بين أطراف هذا الصراع.
وإذا كان السلام الحق لا يمكن أن يقوم إلا بتحقيق كامل العدل، الذي يعيد كامل الحقوق إلى أصحابها الحقيقيين، فلابد وأن تميز الفتاوى والاجتهادات والسياسات بين "التسوية المرحلية"، التي تحقق خطوة أو خطوات نحو السلام العادل الدائم، وبين السلام الحق، الذي يعني المصالحة التي تكرّس ما ينتهي إليه الحل العادل للصراع، "فالتسوية المرحلية" هي أقرب إلى "الهدنة" منها إلى "حقيقة السلام"، فلا سلام مع بقاء الاغتصاب لأي حق من الحقوق، حتى ولو أطلقت لغة "الدبلوماسية" على هذه "الهدنة" مصطلحات "الصلح.. والسلام"، وقديمًا أطلق المسلمون- في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي- على "معاهدة الحديبية" التي عقدها رسول الله r مع مشركي قريش عام 6هـ - اسم "صلح الحديبية"، مع أنه كان "هدنة" موقوتة بعشرة أعوام بين المسلمين الذين ظُلموا، وبين المشركين الذين ظَلموهم بإخراجهم من ديارهم، وبفتنتهم في دينهم. فلقد كان هذا "الصلح" هدنة مرحلية في إطار الصراع الممتد بين المسلمين المظلومين، وبين الظلم القائم الذي أوقعه بهم المشركون، ولم يكن "سلامًا" يكرّس المظالم القائمة بحال من الأحوال.
وإبان الحروب والحملات الصليبية (489-690هـ،1069- 1291م) التي شنَّها الغرب الأوربي على الشرق الإسلامي على امتداد قرنين من الزمان، تداولت أطراف هذا الصراع "القتال" و"الهدنة" عدة مرات، حتى كان الاقتلاع الكامل، والإزالة التامة لكل آثار الاستعمار الاستيطاني، الذي أقامه الصليبيون على أرض فلسطين والشام.
ولقد وعى العقل المسلم- في الفتاوى والاجتهادات والسياسات- هذه المعايير الموضوعية والدقيقة في التعامل مع الأعداء في هذه الصراعات، ولهذا الوعي يحتاج العقل المسلم المعاصر وهو يتعامل مع الصراع "العربي- الصهيوني"، الذي هو في الجوهر والأساس "استعمار استيطاني"، تُستخدم فيه الأساطير و"الأيديولوجيات"، والدعاوى التاريخية للتبرير؛ ولإخفاء الوجه القبيح لهذا الاستعمار.
ذلك هو منهاج النظر في الإفتاء، كما عَرَفه الفقه الإسلامي. أشرنا إلى معالمه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،،

دكتور محمد عمارة


[1] محمد حسنين هيكل: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل- الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية، الكتاب الأول، ص31، 32، طبعة القاهرة، 1996م.

[2] د.محمد عمارة: إسرائيل- هل هي ساميّة؟، ص124، طبعة القاهرة،1967م.

[3]فيليب فارج، يوسف كرباج، المسيحيون واليهود في التاريخ الإسلامي العربي والتركي، ترجمة: بشير السباعي، ص232 وما بعدها، طبعة القاهرة، 1994م. ود.محسن محمد سليمان صالح: فلسطين بلادنا الحبيبة، ص17-33 طبعة القاهرة، 2001م. ود.عبد الوهاب الكيالي- محرر- موسوعة السياسة، مادة "فلسطين"، طبعة بيروت،1986م.
 
أعلى